يو12: 31 الآن دينونة هذا العالم، الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجًا
“اَلآنَ دَيْنُونَةُ هذَا الْعَالَمِ. اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هذَا الْعَالَمِ خَارِجًا.” (يو12: 31)
+++
تفسير القمص أنطونيوس فكري
آية (31): “الآن دينونة هذا العالم الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجًا.”
قال دينونة ولم يقل الدينونة. فالدينونة مُعَرَّفَةْ بالـ هي في نهاية العالم. دينونة= يسقط بعنف نتيجة ضربة قوية ويخرج خارج دائرة المصارعة إذ إنهزم، هذا معنى الكلمة. والانتصار ليس أن الله انتصر على إبليس بل المسيح الإنسان انتصر لحسابنا عليه ليجذبنا بصليبه للسماء والغلبة هي لمن يؤمن (1يو4:5). ولكن هناك دينونات كثيرة كلٌ في ميعادها. فمحاكمة المسيح الظالمة سيقع ذنبها على من حكموا عليه، ولذلك خربت أورشليم. ولأن من حكموا على المسيح ظلمًا يحركهم الشيطان فلا بُد أن يسقط الشيطان بعد أن ساد العالم بظلمته طويلًا (لو18:10-19). ولقد انكشف إبليس أمام الكل وصارت حيله معروفة مدانة لأولاد الله. المسيح ببره أظهر شر العالم والشيطان الذي يحرك العالم حين صلب العالم المسيح. فلا عذر لإنسان يسير وراء العالم. لقد كان الصليب دليل إدانة العالم على كل شروره، فالعالم عوضًا عن أن يفرح بالمسيح قام عليه وصلبه (يو19:3+ 39:9+ 11:16). ومعروف أن الشيطان رئيس هذا العالم (يو30:14). ولقد تحوَّل الصليب إلى مجد للمسيح وحياة للمؤمنين وقوة يهزمون بها الشيطان، وصار الصليب عار ودينونة وإدانة لمن صلبه ولمن لا يؤمن به. بالصليب سلب الله كل سلطان لإبليس على البشر (مت29:12). وجرده من كل نفوذ له كان يذلهم به ويجعلهم عبيدًا له (كو14:2-15). ومن ثم خلعه من عرشه وطرحه خارج العالم ليصير مجرد مخلوق حقير شرير متمرد على الله ينتظر في سجنه ساعة الدينونة (2بط4:2) مقيدًا بسلاسل بعد الصليب (رؤ1:20-3). ينتظر أن يلقى في النار الأبدية في نهاية الأيام (مت41:25+ مر24:1). ولكن طرحه بدأ بالصليب= الآن يُطرح لم يعد للشيطان سلطان على أولاد الله. هو خارج دائرة من هم للمسيح. هو يحاربهم لكن لا سلطان له عليهم. وقوله دينونة العالم أي كشف وجه العالم الغادر والمقصود بالعالم هو المادية المعادية لروح الله. ونلاحظ أنه بالمعمودية يخرج الشيطان تمامًا من حياة المؤمنين ولكن يظل يحاربهم من خارج (لو21:11-22). والمسيح أعطانا القوة أن نطرده وأعطانا سلطانًا أن ندوس عليه بعد أن حررنا منه. ولكن هناك من يذهب له وبالتالي يفقد حريته لذلك ينبه المسيح أن لا نفعل ذلك (يو36:8). بالصليب أدينت الخطية فينا أي ماتت وأصبحت بلا سلطان علينا (رو3:8).
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
“الآن دينونة هذا العالم،
الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجًا”. (31)
إنه صوت الآب الذي يعرفه الابن ويدرك أعماقه، فقد جاء الصوت ليعلن دينونة هذا العالم الشرير، وهزيمة الشيطان “رئيس هذا العالم”، وطرده خارجًا بلا سلطان. يفقد إبليس دائرة نفوذه حيث يعلن المؤمنون غلبتهم في حلبة المصارعة، ويخرج إبليس في ضعفٍ شديدٍ وهزيمةٍ منكرة، بعد كسب جولات كثيرة سابقة. هكذا يخسر إبليس جولته مع السيد المسيح، وتستمر هذه الهزيمة في صراعه مع المؤمنين، أعضاء جسد المسيح الغالب.
في يقين الإيمان يوجه الإنجيلي يوحنا حديثه للأحداث قائلاً: “كتبت إليكم أيها الأحداث لأنكم أقوياء وكلمة الله ثابتة فيكم، وقد غلبتم الشرير” (١ يو ٢: ١٤). كما كتب: “لأنه كل من وُلد من الله يغلب العالم، وهذه الغلبة التي تغلب العالم، إيماننا” (١يو ٥: ٤). كما يترنم المتمتعون بعمل الله الخلاصي قائلين: “الآن صار خلاص إلهنا وقوته وملكه وسلطان مسيحه. لأنه قد طُرح المشتكي على اخوتنا، الذي كان يشتكي عليهم أمام إلهنا نهارًا وليلاً. وهم غلبوه بدم الخروف، وبكلمة شهادتهم، ولم يحبوا حياتهم حتى الموت” (رؤ ١٢: ١٠-١١).
ماَ يخططه البشر من قتل للسيد المسيح، وما يمارسه إبليس من محاولة الخلاص من السيد، هذا كله يؤول إلى هزيمة الشر وتحطيم سلطان إبليس بالصليب، إذ لا يستطيع رئيس هذا العالم الشرير أن يقف أمام رئيس الحياة. وكما يقول الرسول: “أنتم أنكرتم القدوس البار، وطلبتم أن يُوهب لكم رجل قاتل، ورئيس الحياة قتلتموه، الذي أقامه الله من الأموات، ونحن شهود لذلك” (أع ٣: ١٤، ١٥). كما يقول الرسول بولس عن السيد المسيح: “لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس” (عب ٢: ١٤).
يتحدث السيد الَمسيح بيقين النصرة حيث بموته يرد نفوس كثيرة إلى المعرفة ويحررهم من قيود إبليس.
لم تذكر كلمة “دينونة” بأداة تعريف، فهو لا يشير هنا إلى الدينونة النهائية، بل هي دينونة تبدأ بعمل المسيح الخلاصي، وذلك كقول سليمان الشيخ بروح النبوة: “ها إنه قد وُضع لسقوط كثيرين في إسرائيل، ولعلامة تُقاوم” (لو ٢: ٣٤).
v إن سألت ما هو معني هذا المجد؟ أجبتك: هو قول السيد المسيح: “الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجًا”.
v ما هي “دينونة العالم“؟ إنها كما يقول: “ستكون محاكمة ونقمة”. كيف وبأية وسيلة؟ ذبح إبليس الإنسان الأول، إذ جعله مجرمًا بالخطية، أما فيّ فلا يوجد ذلك. فلماذا أسلمني الموت؟ لماذا وضع في نفس يهوذا أن يحطمني؟… كيف إذن يُدان العالم فيّ؟ سيقال كما في محكمة العدالة المقاومة للشيطان: “حسنًا، لقد قتلت كل البشر، إذ وجدتهم جميعًا مسئولين عن الخطية، ولكن لماذا قتلت المسيح؟ أليس من أجل أنك قد أخطأت في ذلك؟ لذلك فيه يًنتقم للعالم كله.
v لمثل تلك الدينونات ينطق الرب هنا: “الآن دينونة هذا العالم“، بينما تبقى الدينونة النهائية محفوظة، عندما يُدان الأحياء والأموات.
لذلك فإن الشيطان قد اقتنى الجنس البشري، وأمسك به بالصك المكتوب بخطاياهم كمجرمين مذعنين للعقوبة. إنه يملك على قلوب غير المؤمنين، يخدعهم ويستعبدهم، يغويهم كي يتركوا الخالق ويعبدوا المخلوق. ولكن بالإيمان بالمسيح الذي تثبت بموته وقيامته، وبدمه الذي سفكه لغفران الخطايا ألوف من المؤمنين قد خلصوا من سلطان الشيطان، واتحدوا في جسد المسيح، وقد صاروا تحت قيادة الرأس.
هذا ما عناه عندما دعاه “دينونة“، هذا الفصل الصادق، هذا الترحيل للذين له، الذين خلصوا من الشيطان.
v الآن يخبرنا الرب مقدمًا ما يعرفه أنه بعد آلامه وتمجيده سيصير كثير من الأمم في العالم كله الذين يسكن الشيطان في قلوبهم مؤمنين، ويطرد منها الشيطان الذي يجحدونه بالإيمان.
تفسير القمص متى المسكين
31:12 «اَلآنَ دَيْنُونَةُ هَذَا الْعَالَمِ. اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هَذَا الْعَالَمِ خَارِجاً»
يلاحظ أن المسيح لم يقل «الدينونة» بصورتها النهائية، بل «دينونة» بدون تعريف، كدينونة أولى بالنسبة لدينونات قادمة, كل في ميعادها. ولكن هنا دينونة حاسمة أيضاً وذات مفعول خطير، لأن آلام المسيح التي بدأ يدخلها، يقع وزرها على نظام العالم القضائي من جهة العدالة المذبوحة, والتي يمسك زمامها الشيطان، ويحركها ضد الأتقياء والضعفاء، لذلك تعتبر هذه الدينونة الأولى للعالم جزاء جرم القضاة والرؤساء، وتحريماً لروحهم التي يمتلكها الحقد والكراهية لكل ما هو حق وعدل. وهذه هي الدينونة التي ألمح إليها الروح القدس على فم سمعان الشيخ, الرجل البار الذي تكلم بروح النبوة للقديسة مريم، والمسيح كان ما زال رضيعاً في حضنها: «وباركهما سمعان، وقال لمريم أمه: ها إن هذا قد وُضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل, ولعلاهة تقاوم» (لو34:2), حيث بدأ هنا السقوط الفعلي لرأس الحية المدبرة لهلاك الإنسان منذ البدء.
«هذا العالم»: لم يفرق المسيح بين عالم اليهود أو اليونانيين، فهو عالم الشر المستحوز على الرؤوس والرؤساء بلا تفريق، فشر اليونانيين، وان كان قد بلغ حد السف والمجون، فهو لا يزيد بأي حال عن شر اليهود الذين قاوموا الله والروح القدس وذبحوا ابن صاحب الكرم، لتؤول الكرامة لهم من دون الله.
«الآن دينونة … الآن يُطرح»: تكرار كلمة «الآن» يوضح الحد الحاسم بين المد والجزر، مد العالم الكاذب اللاهي عن الله والحق، ومد الشيطان في استغلال النفوس الخاضعة له، وجذر القوة الإلهية الرادعة للاثنين.
وهنا يقف الزمن عند كلمة الآن, وهي التي عرفها المسيح هكذا: «قد أتت الساعة», وهي الفاصلة بين مرحلة الظلمة القاتمة التي ختمت على العالم بتضامن الشيطان، وبين مرحلة انبساق النور العتيد أن يسطع على العالم وشيكاً، بقيامة المسيح.
«الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجاً»: «رئيس هذا العالم» هو الآن في مواجهة علنية أمام «رئيس الحياة» صاحب الموت رفع قرنه على حامل جوهر الحياة!
«أنتم أنكرتم القدوس البار, وطلبتم أن يوهب لكم رجل قاتل, ورئيس الحياة قتلتموه, الذي أقامه الله من الأموات ونحن شهود لذلك.» (أع14:3-15)
وهكذا لم يقو سلطان الموت في يد الشيطان على سلطان الحياة في جسد المسيح.
«فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضأ كذلك فيهما، لكى يبيد, بالموت, ذاك الذي له سلطان الموت, أي إبليس.» (عب14:2)
«يُطرح خارجاً»: وقد جاءت في اليونانية بصيغة المستقبل «سيطرح». الطرح هو السقوط أو الإسقاط إلى أسفل بعنف نتيجة لطمة قاضية، أخرجت الشيطان من دائرة نفوذه وخارج حلقة مصارعيه، والتي كسب فيها سابقاً كل الجولات ضد الإنسان، ولكن هنا: «رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء» (يو30:14)، وهكذا خسر كل جولاته مع المسيح.
ومعروف من الكتاب أن «العالم كله قد وُضع في الشرير» (ايو19:5), فكانت دائرة نفوذ الشيطان تشمل العالم كله، ولكن بصورة مستورة. كلما طرح رئيس هذا العالم في معركة ضد المسيح ، تعرى القائمون بتنفيذ مشوراته, ووقعوا تحت نور المسيح الكاشف، ودينت كل أعمالهم. وها الآن قد عُرف لدى كل المسكونة، بكل شعوبها وأجيالها، فضيحة رؤساء إسرائيل وقضاته، في مدى تزييفهم للحق والعدل والإيمان في معاملة المسيح ، كما تعرى قضاة روما أمام ضمير العالم فيما صنعه بيلاطس بالمسيح ضد المنطق والعدل والقانون. وهكذا لم يعد الشيطان ولا أعوانه مخفيين: «لأننا لا نجهل أفكاره.» (2كو11:2)
وهكذا, ومنذ صلب المسيح وقيامته, قد نُصبت على الأرض محكمة الله العليا من داخل ضمير الإنسان المستنير بنور المسيح, أي كل المؤمنين, لمحاكمة كل أعمال الشيطان وأعوانه، «كتبت إليكم أيها الأحداث لأنكم أقوياء، وكلمة الله ثابتة فيكم، وقد غلبتم الشرير» (ايو14:2)، «لأن كل من وٌلد من الله يغلب العالم, وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم, إيماننا.» (1يو5:4)
«الآن صار خلاص إلهنا وقدرته وملكه وسلطان مسيحه. لأنه قد طرح المشتكي على إخوتنا، الذي كان يشتكي عليهم أمام إلهنا نهاراً وليلاً. وهم غلبوه بدم الخروف، وبكلمة شهادتهم، ولم يحبوا حياتهم حتى الموت.» (رؤ10:12-11)
وهكذا فقد العالم وجوده وإغراءه بالنسية للمؤمنين بالمسيح, وفقد الشيطان سلطانه على أولاد الله, كما فقد الموت فاعليته على حياة الذين وُلدوا جديداً من الله؛ وهذا هو المفهوم الواقعي والجوهري لمعنى دينونة العالم وطرح رئيسه خارجاُ, تمهيداً لانحلال هيئة هذا العالم انحلالاً نهائياً من دائرة حياة المؤمنين, بالانتقال إلى ملكوت الله وتلاشي الشيطان تلاشياً كليا من الوجود, بالنسبة لحياة المؤمنين، وذلك بدخولهم تحت سلطان المسيح والله، بل وتلاشي الموت من كيان المفديين, بدخولهم نهائياً في دائرة الحياة الأبدية مع الله.