العظات الخمسون للقديس أنبا مقار

الروح القدس واهب الإفراز

‏العظة الرابعة من العظات الخمسون

[في أنه يجب على المسيحيين أن يكمَّلوا سعيهم في هذا العالم بانتباه وتدقيق ، حتى ينالوا المديح السماوي من الله والملائكة]

[أ] الإفراز عين للنفس

1 – إن الذين يريدون أن يُكمّلوا حياتهم المسيحية بتدقيق كثير ، يلزمها – قبل كل شيء – أن يعتنوا بكل قوتهم بملكتي البصيرة[انظر 1يو5: 20] والإفراز اللتين للنفس. لأنه إذا اقتنينا التمييز المُرهف بين الخير والشر[انظر عب5: 14] وميزنا في كل حين الأهواء التي قد أدخلت – على خلاف الطبيعة – إلى طبيعتنا النقية، أمكننا أن ندبر أنفسنا بلياقة وبلا عثرة . وهكذا حينما نقتني الإفراز بمثابة عين نميز بها[1] ، يتسنى لنا أن نلبث بلا اتحاد بإيحاءات الشر أو ارتباط بها، فنستحق بذلك الموهبة الإلهية ونصير جديرين بالرب . ولنأخذ مثالاً من الأمور المنظورة ، لأن الجسد يشابه النفس ، وأمور الجسد تشابه أمور النفس ، والأشياء الظاهرة تشابه الخفية.

2 – فكما أن الجسد له العين مرشداً، وحين تنظر فإنها تقود الجسد كله باستقامة ، فلتتصور معي امرأً يسلك وسط أدغال موحلة مملوءة أشواگاً ، قد شبت فيها النيران ، وثُبتت في أرضها سيوف ، وحوت جرفاً تهوي إلى مياه عميقة ، فإن كان ذلك الإنسان نشيطاً مجتهداً رشيقاً ، له عينه قائداً له ، فإنه يجتاز مثل هذه المواضع الخطرة بيقظة شديدة ، فيضم إليه ثوبه من كل جهة بيديه وقدميه لئلا يتمزق من الأدغال والأشواك ، أو يتسخ من الأوحال ، أو يتقطع من السيوف . ولأن عينه نور لجسده ، فإنها تقود الجسد كله حتى لا يسقط في الجرف أو يغرق في المياه أو يلحقه ضرر من أي خطر آخر . وهكذا إذ يسلك ذلك الإنسان المتشدد الحكيم بكل يقظة ، ويجمع إليه ثوبه ، وتقوده عينه في طريقه باستقامة ، فإنه يقي نفسه أي ضرر وكذا يحافظ على ردائه الذي يلبسه دون أن يحترق أو يتمزق . أما إن كان المسافر المجتاز لمثل هذه المواضع متراخياً كسولاً مستهتراً أخرق متوانياً، فإنه يترك ثوبه هذا مُتهدلاً هنا وهناك ، وهكذا فإما يتمزق من الأدغال والأشواك ، أو يحترق من النيران ، أو يتقطع من السيوف المثبتة في الأرض ، أو يتسخ من الأوحال ، لأنه لم يجمعه إليه من كل جهة برجولة . وبالإجمال فإن هذا الإنسان يفسد ثوبه الجميل الجديد بأكثر سرعة بسبب إهماله ورخاوته وکسله ، بل وإن لم ينتبه بناظريه جيداً وسريعاً، فإنه هو نفسه سوف يسقط في هوة أو يغرق في المياه.

3- هكذا بنفس الطريقة النفس أيضاً ، التي تلبس رداء الجسد كمثل ثوب جميل ، وتسلك خلال أدغال الحياة وأشواكها ، ووسط أوحال ونيران وجُرف ، أي الشهوات والمسرات وبقية أمور هذا الدهر الرديئة ، هذه النفس تُقاد هي والجسد معاً باستقامة بواسطة ملكة الإفراز. لذلك وجب عليها أن تشد وتحرس ذاتها وثوبها ، أي الجسد ، من كل جانب بكل يقظة ورجولة واجتهاد وانتباه ، لئلا يتمزق بفعل أدغال العالم وأشواكه من هموم وانشغالات وملاهٍ أرضية ، أو يحترق بفعل نار الشهوة . فطالما أنها لابسة ثوباً، فإنها تصرف عينها عن نظر الشرور ، وكذلك أذنها عن سماع النميمة ، ولسانها عن التكلم بالأباطيل، ويديها وقدميها عن اقتراف السيئات. فإن النفس لها الإرادة أن تكبح أعضاء الجسد وتحولها بعيداً عن النظرات الشريرة وعن سماع الأمور الرديئة القبيحة وعن الكلام الذي لا يليق وعن التصرفات العالمية الذميمة.

4 – والنفس أيضا تصرف ذاتها عن الجولان ، حارسة قلبها حتى لا تطيش أفكارها في العالم. وهكذا إذا ما صارعت واجتهدت وضبطت أعضاء جسدها عن الأمور الشريرة ، من كل جهة بحرص شديد ، فإنها تحافظ على الرداء الحسن الذي للجسد بلا تمزق أو احتراق أو اتساخ ، وهي ذاتها تُصان بواسطة مشيئتها التي تعرف وتعقل وتمیز ، غير أن كل شيء يتم بقدرة الرب. وهي حين تشد ذاتها بکل قدرتها وتتحول عن كل شهوة عالمية ، فإنها تنال هكذا معونة من الرب لكي تُصان بالحق من الشرور السابق ذكرها . لأن الرب حين يرى إنساناً يبتعد بنبل عن مسرات الحياة والملاهي والاهتمامات المادية والرباطات الأرضية وطيش الأفكار الباطلة ، فإنه يهبه معونته الخاصة بالنعمة ، ويحافظ على تلك النفس التي تجتاز حسناً هذا العالم الحاضر الشرير – يحافظ عليها من السقوط . وهكذا تؤهل النفس للمديح السماوي من الله والملائكة ، لأنها صانت ثوبها ، أي الجسد ، وكذلك ذاتها حسناً، مُعرضة بكل قدرها عن كل شهوة عالمية ، وبمعونته أكملت سعيها حسناً في ميدان هذا العالم .

5- ولكن إن كان أحد يسلك في هذه الحياة برخاوة وبدون اكتراث ولا حرص ، ولا ينأى عن كل شهوات العالم بإرادته الخاصة ، وإن كان لا يطلب الرب وحده بكل شوقه، فإنه يُطعن بأشواك هذا العالم وأدغاله ويحترق ثوبه ، أي جسده ، من نار الشهوة ويتلوث من وحل المسرات. وهكذا لا يكون للنفس ثقة في يوم الدينونة[انظر 1يو4: 17]، لأنها لم تستطع أن تحفظ ثوبها بلا دنس بل أفسدته بأباطيل هذا الدهر، ومن أجل هذا فقد وُجدت مطروحة خارج الملكوت . فماذا عساه يعمل الله لإنسان قد سلم نفسه بمحض إرادته للعالم وانخدع بمسراته وضل في متاهاته المادية؟ فالله يهب معونته لمن يعرض عن المسيرات المادية وعن عاداته السالفة ، ويجتذب عقله بعزم كل حين نحو الرب ، منكراً نفسه وطالباً الرب وحده . مثل هذا الإنسان يحفظه الرب، كونه يحرس نفسه من كل جهة من مصاید هذا العالم المادي وأحابيله ، ويتم خلاصه « بخوف ورعدة »[في2: 12] ، ويسلك بكل انتباه إزاء فخاخ هذا الدهر وأشراكه وشهواته ، ويطلب معونة الرب ، وبرحمته يرجو أن يخلص ” بالنعمة “[2]

[ب] الروح القدس يهبنا الإفراز

6 – فلننظر العذارى الخمس الحكيمات[انظر مت25: 1-13] الساهرات المتيقظات اللائي أخذن في أوعية قلوبهنّ ما هو غريب عن طبيعتهنّ ، أي الزيت الذي هو نعمة الروح القدس التي من فوق ، وهكذا فإنهن تمكن من الدخول مع العريس إلى الخدر السماوي ؛ أما الأخريات الجاهلات القانعات بطبيعتهن الخاصة فما تيقظن ولا اجتهدن لنيل ” زيت البهجة”[3] في آنيتهن وهنَّ بعد في الجسد ، بل نمن بسبب الإهمال والتراخي واللامبالاة والجهالة أو بسبب ظنهن البر في ذواتهنّ . من أجل هذا فلقد حُرمن من دخول خدر الملكوت ، إذ لم يستطعن أن يُرضين العريس السماوي لأنهن كُنَّ ممسوكات برباط العالم وحب الأرضيات ، ولم يعطين حُبهن وعشقهن بالتمام للعريس السماوي ، ولم ينلن الزيت . أما النفوس التي تطلب « تقدیس الروح »[2تس2: 13 ، 1بط1: 2] الذي هو فائق لطبيعتها ، فإنها تُعلق كل حبها بالرب ، وهناك تعيش وهناك تضع أشواقها وهناك تفكر ، مُعرضة عن كل الأمور الأخرى . من أجل هذا فإنها تُحسب أهلا لنيل زيت النعمة السماوية ، وهكذا تستطيع أن تعبر دون سقوط وقد أرضت العريس الروحاني إلى التمام. على النقيض من هذا ، النفوس التي تقبع في طبيعتها ، فإنها تزحف بفكرها على الأرض ، فتفتكر في الأرضيات وتهتم بما على الأرض ، ورغم هذا تظن أنها من خاصة العريس لكونها متزينة بالفرائض الجسدية ، بينما هي في حقيقتها لم تولد من فوق ، من الروح القدس ، ولم تقبل زيت البهجة.

7 – فإن الحواس الخمس العقلية(=روحية، غير مادية) التي للنفس ، إن تقبلت النعمة الفوقانية وتقديس الروح ، فإنها تصبح بالحق خمس عذاری حکیمات قد نلن الحكمة العلوية التي للنعمة . أما إن لبثت قانعة بطبيعتها فحسب ، فإنها تصير جاهلة ، ويتبين أنها من خاصة العالم ، إذ لم تخلع عنها « رُوح العالم »[1كو2: 12] . ورغم هذا ، وبسبب بعض الأقوال الحسنة الظاهرية وبعض المظاهر الخارجية، تظن في ذواتها أنها عرائس للختن . فكما أن النفوس التي تلتصق بالرب [انظر 1كو6: 17 ، مز72: 28 س] تماماً وبالكلية تكون هناك بفكرها وهناك تضع أشواقها وهناك تعيش وهناك تتوق إلى محبة الرب ، فعلى النقيض من هذا ، تلك النفوس التي تُكبل بمحبة العالم وتشتهي أن تكون سيرتها في الأرض فإنما هناك تعيش وهناك تفكر وهناك ينشغل عقلها ، ولهذا فلا يمكنها طلب الاهتمام الصالح الذي للروح [انظر رو8: 6] . فهناك ما هو غريب عن طبيعتنا، أعني النعمة السماوية، يلزم أن يتحد بطبيعتنا ويلتحم بها حتى نستطيع أن ندخل مع الرب إلى الخدر السماوي الذي للملكوت ونال الخلاص الأبدي .

8- فإننا تقبلنا في ذواتنا – بمعصية الإنسان الأول[انظر رو5: 19] – ما هو غريب عن طبيعتنا ، أعني شر الأهواء ، والذي بات – من فرط اعتیادنا عليه وميلنا نحوه – بمثابة طبيعة لنا. فهذا ينبغي أن يُطرد ثانية بواسطة عطية الروح القدس السماوية ، التي هي أيضاً غريبة عن طبيعتنا ، وذلك حتی نستعيد النقاوة الأولى مرة أخرى. أما إذا لم نقبل الآن تلك المحبة السماوية التي للروح القدس بالسؤال الكثير والتضرع والإيمان والصلاة والإعراض عن العالم ، وإذا كانت طبيعتنا الملوثة بالشر لا تلتصق بالمحبة التي هي الرب ، ولا تتقدس بواسطة تلك المحبة التي للروح القدس ، وإذا لم نثبت إلى النهاية بلا سقوط ، سالكين في كل وصاياه بتدقيق ، فلن يمكننا نيل الملكوت السماوي .

ج ) تجسد الرب واستعلانه لنا 

9- والآن أريد أن أتكلم ، قدر استطاعتي ، عن أمر دقيق وعميق ، فانصتوا بانتباه ! فإن الله غير المحدود الذي لا يُدنى منه[انظر 1تي6: 6] غير المخلوق ، من أجل صلاحه الذي لا يُحد ولا يُدرك ، اتخذ لنفسه جسداً، وصغَّر نفسه(أي أخلى نفسه) – إن جاز القول – من مجده غير المُقترب إليه ، وذلك لكي يتسنى له أن يتحد بخلائقه غير المنظورة أي أنفس القديسين والملائكة[4]، حتى تستطيع هي بدورها أن تشترك في حياة اللاهوت[انظر 2بط1: 4]. فإن كلاً من هذه الخلائق،  سواء كانت ملاكاً أو نفساً أو شيطاناً، هو جسم بحسب طبيعته الخاصة. هي ، وإن تكن رقيقة في جوهرها وشكلها وصورها بحسب رقة طبيعتها، فأجسامها رقيقة كذلك . فكما أن هذا الجسد هو كثيف في جوهره ، كذلك النفس هي رقيقة ، وهي تجمع إليها العين التي ترى بها والأذن التي تسمع بها واللسان الذي تتكلم به وكذلك اليد ؛ وبالإجمال فإن النفس تجمع إليها جسمها كله ، بما فيه من أعضاء ، فيصير متحداً بها ، وهي تعمل بواسطته كل أعمال الحياة .

10- هكذا أيضا بنفس الطريقة ، الله غير المحدود وغير المدرك ، بصلاحه قد صغَّر نفسه ، وليس أعضاء هذا الجسد ، وأنزل نفسه من مجده غير المُدنى منه . وهو ، لأجل لطفه ومحبته للبشر ، يجد نفسه مُغيرا هيئته ، ويأخذ إليه النفوس المقدسة الأمينة التي أرضته ويتحد بها ويُصيرها – كقول بولس الرسول – روحاً واحداً معه[انظر 1كو6: 17] ، ويغدو نفسا للنفس – إن جاز القول – وكيانا للكيان ، لكي تستطيع التنفس أن تحيا في اللاهوتية وتتذوق الحياة الخالدة وتشترك في المجد غير الفاسد ، ذلك إن كانت هذه النفس مستحقة ومرضيه عند الله . فإن كان الله قد خلق ما لم يكن[انظر عب11: 3] هذه الخليقة المنظورة بهذا النوع والاختلاف الكثير ، وهي قبل أن تُخلق لم تكن موجودة ، فشاء هو وخلق بسهولة مما لم يكن موجودات كثيفة وصلبة كالأرض والجبال والأشجار ، وها أنت ترى كم هي ذات طبيعة صلبة . وبعد ذلك خلق خلائق متوسطة في كثافتها كالمياه والطيور التي أمر أن تُخلق منها[انظر تك1: 20 ، 21] ، وبعد ذلك خلق أيضاً أشياء أكثر رقة كالنار والرياح ، بل وما تبلغ رقته حداً لا يُرى معه بعين الجسد

11 – فإن كان الإبداع غير المحدود ولا المنطوق به الذي لحكمة الله المتنوعة[انظر أف3: 10] قد خلق – بحسب مشيئته – مما لم يكن أجساماً طبيعية أكثر كثافة وأخرى أكثر رقة وثالثة أكثر رهافة ، فكم بالأحرى ذاك الكائن كما يريد وأي ما يريد ، من أجل لطفه غير الموصوف وصلاحه غير المدرك – كم بالأحرى يستطيع أن يغير هيئته ويُصغر نفسه ويشابهها بنا ، ويتجسم للنفوس المقدسة المستحقة الأمينة ، على قدر طاقتها ، حتى يصير وهو غير المرئي مرئيا لها ، ويصير وهو غير الملموس ملموساً للفس بقدر رقة طبيعتها . وهكذا تتذوق هذه النفوس حلاوته[انظر 1بط2: 3] ، وتتمع – في خبرة حقيقية – بلطف نور راحته التي لا توصف . فمتى أراد يصير للنفس ناراً تحرق كل هؤى شرير وغريب فيها ، إذ إنه مكتوب : « إلهنا نار آكلة » ( تث4: 24؛ عب12: 29) ؛ ومتى أراد يصير لها راحة تفوق الوصف والتعبير فتستريح النفس براحة اللاهوتية ؛ ومتى أراد يصير لها فرحاً وسلاماً يُدفئها ويعانقها .

12- فإن كان الله يريد أن يجعل نفسه مشابهاً لإحدی خلائقه من أجل ابتهاج خلائقه العاقلة وفرحها ، أي أورشليم السماوية ، مدينة النور وجبل صهيون السماوي – كما هو مكتوب : « بل قد أتيتم إلى جبل صهيون ، وإلى مدينة الله الحي أورشلیم » ( عب12: 22) – فكل ما يريده مستطاع عنده ، إذ إن كل شيء سهل وميسور لديه ، فهو يتشكل بأي شكل يريده لنفع النفوس الأمينة المستحقة له . فقط ليجاهد الإنسان كي يصير حبيباً له ، ومرضياً عنده ، وحينئذ سوف يختبر بالحق ويحسّ بل ويرى الخيرات السماوية ، واللذة التي لا توصف ، وغنى اللاهوت غير المحدود ، أي بالحق « ما لم تر عين ، ولم تسمع أذن ، ولم يخطر على قلب إنسان »[1كو2: 9] ، ويصير روح الرب نفسه راحة وتهليلاً ولذة وحياة أبدية للنفوس المستحقة . فإن الرب يجد نفسه ليصير مأكلاً ومشرباً: مأكلا ، كما هو مكتوب في الإنجيل : « من يأكل هذا الخبر ، فإنه يحيا إلى الأبد » ( یو6: 58) ، وذلك لكي يريح النفس براحة لا يُنطق بها ويملأها بالفرح الروحاني ، وهو يقول أيضاً: « أنا هو خبز الحياة » ( یو6: 35) ؛ وبالمثل فإنه يصير ” مشرباً” ينبع من ينبوع سماوي ، كما قال هو : « من يشرب من الماء الذي أُعطيه أنا ، يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية » ( يو4: 14 ) ، وكما قال الرسول : « وجميعنا سُقينا شراباً واحداً» (1کو 12: 13؛ 10: 4 ) .

13- هكذا فإن الله قد ظهر لكل واحد من الآباء القديسين كما أراد هو ، وبالطريقة التي فيها منفعة لكل منهم[انظر عب1: 1]. فلقد ظهر لإبراهيم بطريقة و بأخرى لإسحق ، وبثالثة ليعقوب ، وبأخرى لنوح ، وكذلك لدانيال وداود وسليمان وإشعياء ، ولكل من الأنبياء القديسين . وأنا أرى أن موسى على مدى الساعات قضاها على الجبل أربعين يوما صائماً[انظر خر24: 18] ، كان يدخل إلى تلك المائدة الروحانية ويتلذذ ويتمتع بها . وهكذا فإن الله ظهر لكل واحد من القديسين حسبما أراد هو ، ليريحهم ويخلصهم ويقودهم إلى معرفته . فإن كل ما يريده الله هو سهل لديه ، وحينما يشاء فإنه يُصغر نفسه ويجسدها ويغير هيئته ويصير مرئيا لأحبائه في مجد نوره الذي لا يُدني منه . وهكذا فإنه بحسب محبته الكثيرة الفائقة الوصف وقدرته ، يصير ظاهرا لأولئك الذين يستحقونه . فإن النفس التي – بشوقها الكثير وانتظارها ، وبإيمانها وحبها – تُحسب أهلاً لقبول تلك القوة من الأعالي[انظر لو24: 49]، أي محبة الروح القدس السماوية ، والتي تنال النار السماوية التي للحياة الخالدة ، هذه النفس تنحل بالحق من كل محبة عالمية ، وتتحرر من كل ربط الشر . 

[ د ] الانحلال من الكل والالتصاق بالرب

14 – فكما أنه حينما يُلقى حديد أو رصاص أو ذهب أو فضة في النار ، فإنه ينحل من طبيعته الصلبة ويتحول إلى الليونة ، وبدوام تواجده في النار ينحل ويتغير من صلابته الطبيعية بفعل شدة حرارة النار ؛ هكذا أيضا بنفس الطريقة النفس التي قد أنكرت العالم ، وصارت تتحرق شوقاً إلى الرب وحده في طلب كثير وكد وجهاد ، واقتنت انتظاراً له لا ينقطع في رجاء وإيمان ، وقبلت تلك النار السماوية التي للاهوتية والتي لمحبة الروح القدس ، فإنها حينذاك تنحل بالحقيقة من كل محبة عالمية ، وتتحرر من كل أهواء الشر ، وتحسب كل شيء خارجا عنها ، وتتحول عن عادات طبيعتها وعن قساوة الخطيئة ، وتنظر إلى كل الأشياء أنها زائدة لا ضرورة لها إذا ما قورنت بالعريس السماوي الوحيد الذي قبلته ، متنعمة بمحبته المتقدة الفائقة الوصف[5].

15 – بل إني لأقول لك إنه حتى الإخوة المحبوبون لهذه النفس جدا الكائنون أمام ناظريها، إن هم أعاقوها عن تلك المحبة، فإنها تتحول عنهم، ذلك لأن حياتها وراحتها إنما هما في شركتها السرية التي لا يعبر عنها مع الملك السماوي. لأنه إن كانت الشركة والمحبة الجسدية بين زوجين تفصل الإنسان عن أبيه وأمه وإخوته وتصبح سائر الأشياء بالبنسبة للزوجين خارجة عنهما، حتى وإن استمر الإنسان يحب الآخرين فإنه يحبهم من الخارج فقط أما كل هواه فإنما خصصه لشريكته، فإنه مكتوب: «من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمة ويلتصق بامرأته، ويكون الاثنان جسداً واحداً» (تك2: 24؛ مت5:19 أف5: 31)، فإن كانت المحبة الجسدية هكذا تحل الإنسان من كل محبة أخرى، فكم بالأحرى جدا تلك النفوس التي تؤهل بالحق لشركة الروح القدس[انظر 2كو13: 13]، ذلك الروح السماوي المحبوب، فإنها تنحل من كل محنة عالمية، وتبدو لها جميع الأشياء زائدة لا ضرورة لها، لأنها غُلبت من الشوق الشماوي واتحدت بالله بجُرح هذا الشوق ، فإلى هناك يكون اشتياقها وهناك تفكر وهناك تحيا ، وهناك تجوب أفكارها وهناك يمكث عقلها على الدوام ، إذ قد غُلبت من العشق الإلهي السماوي ومن الشوق الروحاني.

[هـ] الرب لا يبرح ينتظر رجوعنا إليه

16 – والآن ، أيها الإخوة الأحباء ، وقد وُضعت أمامنا مثل هذه الخيرات ووعدنا الرب بمواعيد هكذا عظيمة ، فلنطرح عنا كل العقبات ، ولنعرض عن كل محبات العالم ، ولنكرس ذواتنا لذلك الخير الأوحد بالسؤال والشوق ، حتى نستطيع أن ننال تلك المحبة الفائقة الوصف التي للروح القدس ، والتي يحضنا الطوباوي بولس الرسول أن نجد في أثرها قائلا : « اتبعوا المحبة » ( 1کو14 :1) ، وذلك حتى يمكننا أن نؤهل للتغيير من قساوتنا بيمين العلي ، ونأتي إلى الوداعة والراحة الروحانية مجروحين بعشق الروح الإلهي ، لأن الرب يحب البشر حباً جماً ويتحنن علينا إلى أن نرجع إليه بالكلية ، رافعين ذواتنا فوق كل الأمور المضادة . لأنه إن كنا نحن بجهالتنا وغرارتنا وميلنا نحو الشر نُعرض عن الحياة ونضع عوائق كثيرة لأنفسنا ، غير راغبين بالحق في التوبة ، إلا أن الله يتحن علينا كثيراً مطيلاً أناته ، عسانا نرجع ونعود إليه فيستنير إنسانا الداخلي ، حتى لا تخزى وجوهنا في يوم الدينونة .

17- وإن كان الأمر يبدو شاقا بسبب صعوبة ممارسة الفضيلة ، أو بالأحرى بسبب مشورات العدو الماكرة ، فها هو الرب يتحنن علينا ويطيل أناته منتظراً رجوعنا . حتى وإن أخطأنا ، فإنه يحتمل ويحتمل ويترقب توبتنا . فإن كنا نحن نسقط ، فهو من جانبه لا يستحي من أن يقبلنا إليه مرة أخرى ، كما قال النبي : « هل يسقط أحد ولا يقوم ، أو يرتد ولا يرجع ؟ » (إر 8: 4 ) . فقط لنصح مقتنين نية صالحة ، ولنرجع إليه بسرعة واستقامة ، طالبين المعونة منه وهو مستعد أن يخلصنا ، لأنه يرقب انحياز إرادتنا الحار نحوه بأقصى قدرتنا ، وكذا أمانتنا وشوقنا النابعين من نیتنا الصالحة ، أما النجاح فهو الذي يحققه فينا بكامله . إذا فلنجتهد ، أيها الأحباء ، كأولاد الله[انظر يو1: 12 ، 1يو3: 1] ، ولنخلغ عنا كل هؤى وكل كسل ورخاوة ، ولنتشجع ونتأهب لأن نتبعه ، ولا نسوفن أيامنا يوما بعد يوم مسروقین من الشر ، لأننا لا نعرف متى يكون خروجنا من الجسد . فإن المواعيد الموضوعة للمسيحيين هي أعظم من أن توصف ، حتى إن كل مجد السماء والأرض وبهائهما وباقي نظم الخليقة ، بل وكل تنوع الأمور المنظورة وجمالها وغناها ولذتها ، كل هذا لا يقارن بإيمان نفس واحدة وغناها ! 

18- فكيف إذا إزاء مثل هذه الدعوات والمواعيد التي أعطانا الرب ، لا نشاء نحن أن نأتي إليه بالكلية ونکرس ذواتنا له وننكر كل الأشياء حتى نفوسنا أيضا ، بحسب قول الإنجيل[انظر لو14: 26] ، فنحبه هو وحده ولا شيء آخر معه ؟! ولكن رغم كل هذا ، ورغم كل المجد الذي أعطي لنا ، وكل تدابير الرب التي قد صارت منذ عهد الآباء والأنبياء ؛ كم من وعود وجدت لنا ! وكم من دعوات وجهت إلينا ! وأية شفقة أظهرها لنا السيد منذ البدء ! وأخيرا ، وبواسطة مجيئه بنفسه ، أظهر لطفه الفائق الوصف من نحونا بصليبه ، وذلك حتى ينقلنا ويأتي بنا إلى الحياة . أقول : رغم كل هذا ، فإنا ما تركنا بعد مشيئاتنا ومحبتنا للعالم وميولنا وعاداتنا الشريرة ! وهكذا نُظهر وهن إيماننا أو انعدامه . ومع كل ذلك فإنه يرفق بنا ، وبصورة غير منظورة يحرسنا ويحتضنا ولا يسلمنا للشر إلى النهاية بحسب ما تقتضيه خطايانا ولا يتركنا نهلك بغرور العالم ، لكن بلطفه العظيم ، وطول أناته يرقب من فوق عسانا نؤوب إليه .

 [و] لطف الله وصرامته

19 – لكني أخاف لئلا يكمل قول الرسول علينا ، نحن الذين نتعايش مع أفكارنا المخزية ونقاد بميولنا ، حينما يقول : « أم تستهين بغنی لطفه وإمهاله وطول أناته ، غير عالم أن لطف الله إنما يفتادك إلى التوبة ؟ » ( رو2: 4 ) . فإن كنا ، إزاء طول أناته هذه ولطفه وإمهاله نزيد خطايا أكثر على خطايان[انظر إش30: 1] ، وبإهمالنا واستهانتنا نبتاع لأنفسنا دينونة أعظم ، فسوف يكمل علينا بقيه قول الرسول : « ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب ، تذخر لنفسك غضباً في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العاډلة » ( رو2: 5 ) . فإن الله قد أظهر لجنس البشر صلاحاً لا يعبر عنه وطول أناةٍ لا يوصف ، فقط لتكن لنا إرادة أن نستفيق ، ولنجتهد أن نرجع إليه بالتمام ، حتى نستطيع أن نحظى بالخلاص.

۲۰ – فإن كنت تريد أن تعرف طول أناة الله وعظيم لطفه ، فلنتعلم هذا من الكتب الموحی بها من الله ؛ فانظر إلى شعب إسرائيل الذين منهم الأباء ولهم تعينت المواعيد ومنهم المسيح حسب الجسد ولهم العبادة والعهود [انظر رو9: 4 ، 5] . كم من مرة أخطأوا ! وكم من مرة حادوا عن جادة الطريق ! ورغم هذا فإن الله لم يتركهم إلى الانقضاء ، فكان يُسلمهم – لزمان محدود ، ولمنفعتهم – إلى التأديب ، مريدا بذلك أن يلين قساوة قلوبكم بالشدائد ، ثم يعود بعد ذلك ويردهم إليه ويشجعهم ويرسل إليهم أنبياءه . فكم من المرات كانوا هم فيها يخطئون ويعثرون ، وهو كان يطيل أناته عليهم ، ولما كانوا يرجعون إليه كان بفرح يقبلهم ، بل وإن هم حادوا مرة أخرى عن الطريق ، ما كان ليتخلی عنهم ، بل كان – بواسطة أنبيائه – يدعوهم للرجوع . وحينما كانوا يضلون دفعات كثيرة ثم يرجعون ، كان بسرور يحتملهم وبمحبته للبشر يقبلهم إليه . إلى أن وجدوا أخيراً مقترفين ذنبهم الأعظم ، وذلك لما وضعوا أيديهم على سيدهم نفسه ، ذاك الذي كانوا ينتظرونه[انظر مت11: 3] – عبر تقاليد الآباء والأنبياء القديسين – فادياً ومخلصاً وملگاً ونبياً؛ فإنه لما أتى لم يقبلوه[انظر يو1: 11] ، بل على العكس ، بعد أن اشتكوا عليه بأشياء كثيرة مستوجبة الازدراء ، عاقبوه أخيراً بصليب الموت . وهكذا بعثرتهم العظمى هذه وبزلتهم التي فاقت الحدود ، فاضت خطاياهم جداً وامتلأ مكيالها ، فتركوا أخيرا إلى النهاية وفارق الروح القدس ذلك الموضع لما انشق حجاب الهيكل[انظر مر15: 38] ، وهكذا أُسلم هيكلهم للأمم فنُقض وصار يباباً، بحسب تصريح الرب : « لا يترك ههنا حجر على حجر لا يُنقض » ( مت24 :2) . وهكذا أُسلموا للأمم إلى المنتهی ، وتشتتوا في كل الأرض ، ولم يسمح لهم الملوك الذين سبوهم بالرجوع مرة أخرى إلى مواضعهم.

21- فهكذا الآن أيضاً ما ينفك الله ، في جوده وصلاحه ، يطيل أناته على كل واحد منَّا . فرغم أنه يرى كم يعثر كل منَّا ، إلا أنه يسكت متمهلاً على الإنسان لعله يستفيق ويرجع ، فلا يسقط مرة أخرى. لأنه بمحبة وفرح عظيمين يقبل إليه من ينأى عن الخطيئة ، إذ يقول : هكذا يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطي واحد يتوب » ( لو15: 10) ، وأيضا : « إنها ليست مشيئة أبي أن يهلك أحد هؤلاء الأصاغر » (مت18: 14 – حسب النص ) . ولكن إن كان أحد – بعد أن صار تحت لطف الله وطول أناته العظيمين ، هذا الذي لا يجازي على آثام الخطايا واحدة فواحدة سواء الخفية أو الظاهرة ، بل ينظر ويسكت منتظرا التوبة – أقول : إن كان مثل هذا الإنسان يظهر الاستهانة بأن يضيف خطايا على خطاياه ، ويجمع كسلاً على كسله ، ويگدس آثاما على آثامه ، فإنه يملأ مكيال خطاياه ، ويأتي أخيراً إلى إثم هذا مقداره ، حتى إنه لا يستطيع أن ينهض منه مرة أخرى بل ينكسر ويًسلم للشير إلى المنتهى فيهلك.

22- وهذا هو ما حدث مع أهل سدوم ، فإنهم لما أخطأوا مرات كثيرة ولم يتوبوا ، عثروا أخيراً هكذا بقصدهم الشرير نحو الملائكة راغبين في اقتراف الإثم معهم ، وهكذا ما عادت لهم توبة بعد ، بل رفضوا نهائيا إذ قد أكملوا حدَّ خطاياهم بل وتخطؤه ، ولذلك فقد احترقوا بنار النقمة الإلهية . وهكذا حدث أيضا في أيام نوح[انظر تك 6، 7] ، فبعد أن عثر الناس مرات كثيرة ولم يتوبوا ، بلغوا إلى اقتراف خطايا هكذا شنيعة ، حتى إنه في النهاية بادت الأرض كلها . كذلك أيضا كان الحال مع المصريين ، فرغم أنهم أخطأوا مراراً كثيرة وأساءوا إلى شعب الله ، إلا أن الله عاملهم باللطف ولم يوقع عليهم جلدات لكي يُفنيهم بالكلية ، بل إنه – من أجل تأديبهم ورجوعهم وتوبتهم – أوقع عليهم ضربات جلداته الصغيرة تلك ، مُطيلا أناته ومنتظراً توبتهم . ولكنهم ، لما أخطأوا أيضا مرارا كثيرة إلى شعب الله ثم تابوا ، ثم عادوا فندموا (على توبتهم ) ولبثوا في عدم إيمانهم الأول الذي لمأربهم الخبيث ، وضيقوا على شعب الله مرة أخرى ، ثم لما أخرج الله الشعب من مصر بعجائب شتی بواسطة موسی ، ، أخطأوا خطيئة عظيمة بملاحقتهم شعب الله – لما صنعوا هذا أبادتهم النقمة الإلهية وأهلگتهم تماماً وأغرقتهم في المياه ، إذ قد حكمت عليهم بعدم استحقاقهم حتى ولا لهذه الحياة المنظورة .

23- بالمثل أيضا بنو إسرائيل ، كما قيل آنفا ، فرغم أنهم عثروا وأخطأوا مرات كثيرة ، وقتلوا أنبياء الله وارتكبوا شروراً أخرى كثيرة ، إلا أن الله كان يطيل أناته عليهم . ساكتا ومنتظرا توبتهم ، إلى أن عثروا أخيرا فانكسروا ولم يقوموا بعد ، وذلك حينما ألقوا أيديهم على جلال السيد . من أجل هذا تركوا وطرحوا إلى النهاية[انظر 1تس2: 16]، ونُزعت منهم النبؤة والكهنوت والعبادة وأعطيت للأمم التي آمنت ، كما قال الرب : « إن الملكوت ينزع منكم ويُعطى لأمة تعمل أثماره » ( مت23: 43 – حسب النص ) ، لأنه حتى ذلك الزمان كان الله محتملاً إياهم ومطيلا أناته عليهم فما هجرهم بل كان مترفقا بكم ، لكن لما أكملوا حد خطاياهم بل تجاوزوه بإلقائهم أيديهم على جلال السيد ، تركوا من قبل الله إلى النهاية .

[ز] حذار حذار من اليأس

24- لقد تناولنا ، أيها الأحباء ، هذه الأمور بإسهاب من شهادات الكتب المقدسة ، حتى تبين أنه يتعين علينا أن نرجع عاجلاً ونهرع إلى الرب ، ذاك الذي يترفق بنا وينتظر إعراضنا بالتمام عن كل شر وميل خبيث ، فإننا إذا ما رجعنا إليه ، يقبلنا بفرح عظيم . وذلك حتى لا تزداد استهاننا يوماً بعد يوم ، وتتراكم علينا معاثرنا ، فنجلب على أنفسنا غضب الله . فلنجتهد إذا أن نتقدم إليه راجعين بقلب صادق ، غير يائسين من خلاصنا ، لأنه لأجل إسقاطنا في هذا اليأس تكون مكيدة الشر التي تقود الإنسان إلى قطع الرجاء والرخاوة والاستهانة والإهمال ، بواسطة تذكار خطاياه السالفة ، حتى لا يعود ويتقدم إلى الرب فينال الخلاص ، مع أن للرب تعطفاً جزيلاً مذخراً لجنس البشر . 

25- فإن كان يبدو لنا وكأنه عسير ومتعذر أن نعود من كثرة خطايانا ، وكأننا قد صرنا مستعبدين لها – وهذا كما سبق وقلنا هو إيحاء الشر وحائل دون خلاصنا – فلنتذكر إذا ولنعتبر الرب حال إقامته بيننا بصلاحه ، كيف أنه جعل العمي يستعيدون بصرهم وشفى المفلوجين وداوی جميع الأمراض ، بل وحتى الموتى الذين دب فيهم الفساد والتغيير أقامهم[انظر يو 11] وجعل الصم يسمعون ، وأخرج من إنسان واحد حشداً من الشياطين وأعاده إلى عقله بعد أن وصل إلى جنوني هذا مقداره[انظر مر5: 1]. فكم بالأحرى جدا النفس الراجعة إليه والطالبة الرحمة من لدنه والملتمسة معونته ، ألا يردها إليه ؟ بلى ، إنه يحضرها إلى سرور انعدام الأوجاع وإلى ثبات كل فضيلة وإلى تجديد الذهن [انظر رو12: 2]، وينقلها إلى الصحة واستنارة الذهن وأفكار السلام ، من بعد العمي والصمم وموت عدم الإيمان والجهل وعدم الخشية ، محضراً إياها إلى تعقل الفضيلة ونقاوة القلب . لأن ذاك الذي خلق الجسد ، هو أيضا الذي خلق النفس ، وكما أنه – حال إقامته في أرضنا – كان بصلاحه يعطي بلا شُح أولئك الذين كانوا يتقدمون إليه ويلتمسون منه المعونة والشفاء ، حسبما كانوا يحتاجون ، كطبيب صالح أوحد ؛ هكذا أيضا في الأمور الروحية .

26- لأنه إن كان هكذا يشفق هو على الأجساد التي تنحل وتموت أيضاً، وكل من كان يسأله شيئا كان يصنعه له بشوق ولطف ؛ فكم بالأحرى جداً النفس التي لا تموت ولا تنحل ولا تفسد ، التي ترزح تحت مرض الجهالة وشر عدم الإيمان وعدم الخشية وبقية أهواء الخطيئة ، والتي رغم ذلك تأتي إلى الرب وتطلب المعونة من لدنه وتتطلع إلى رحمته وتتوق إلى نيل نعمة الروح القدس منه لأجل فدائها وخلاصها وعتقها من كل شر ومن جميع الأهواء ، ألا يهبها – بأكثر سرعة و بأوفر رغبة – النجاة والشفاء ؟! كما قال هو نفسه : « فكم بالحري الآب السماوي يُنصف الصارخين إليه نهاراً وليلاً» ، ويضيف قائلا : « نعم أقول لكم : إنه ينصفهم سريعاً» ( لو18: 7 ، 8 ) . وفي موضع آخر أيضا ينصحنا قائلا : اسألوا تُعطواء أطلبوا تجدوا ؛ إقرعوا يُفتح لكم . لأن كل من يسأل يأخذ، ومن يطلب يجد ، ومن يقرع يُفتح له» ( مت7: 7 ، 8 ) . ثم في الختام يضيف : « فكم بالحري أبوكم السماوي يهب الروح القدس للذين يسألونه » ( لو11: 13 ) . « الحق أقول لكم : إن لم يُعطه گونه صديقه ، فإنه من أجل لجاجته يقوم ويعطيه قدر ما يحتاج» ( لو11: 8 ) .

27- فها هو إذا ، بواسطة جميع هذه الأقوال ، يحضنا أن نطلب منه – بلجاجة وبلا انقطاع ولا گلل – معاضدة النعمة . لأنه من أجل الخطأة قد أتی[انظر مت9: 13] ، لكي يرجعهم إليه ويشفي الذين يؤمنون به . فقط ، لنُبعد ذواتنا عن الميول الشريرة بكل ما فينا من قوة ، ولنبغض الأعمال الرديئة وكذا غوايات هذا العالم ، ولنطرد عنا الأفكار الشريرة الباطلة ، وفي كل حين وبكل قوتنا نلتصق به[انظر 1كو6: 17] ، وهو على استعداد أن يهبنا معونته . لأنه لأجل هذا الغرض يرحم ويُحيي ويشفي الآلام المستعصية ويصنع فداء للذين يدعونه ويرجعون إليه ، ويعرضون بكل قدرهم وبارادتهم ونيتهم عن كل محبة عالمية ، ويجتذبون فكرهم من الأرض ، وبه يتشبثون بالسؤال والاشتياق . مثل هذه النفس تحسب أهلاً لمعونته ، وتصير لها كل الأشياء زائدة لا ضرورة لها ، ولا تجد راحتها في أي شيء من هذا العالم ، إنما في راحة لطفه هو ، ترجو أن تستريح وتبتهج . وهكذا ، بمثل هذا الإيمان ، إذا ما نالت النفس الموهبة السماوية [انظر عب6: 4] ، وتمتعت – في يقين النعمة وبواسطتها  – بما كانت تتوق إليه ، وخدمت أخيرا الروح القدس في تناغم وخضوع ، وتقدمت يوماً بعد يوم في العمل الصالح ، وثبتت في طريق البر ، ولبثت إلى النهاية بلا ميل لجانب الشر ولا ارتباط به ، ولم تحزن النعمة في شيء ، فإنها تحسب جديرة بالخلاص الأبدي مع جميع القديسين ، أولئك الذين صارت لهم بالفعل شريكة ورفيقة بتمثلها بهم وهي بعد في العالم ، آمين .

  1.  شبه أنبا أنطونيوس أيضا الإفرار بالعين في قوله الشهير عن الإفراز ( بستان الرهبان – قول 32) . 
  2. أف2: 5 . فلنلاحظ جيداً مبدأ الانسجام والتوافق synergy بين الجهاد والنعمة ، والذي يبرزه القديس على مدى هذه العظة ، في بساطة وإقناع. 
  3. مز45: 7 . وهذا نجده أيضاً في القطعة الثانية من قطع الخدمة الأولى لصلاة نصف الليل، تعقيباً كذلك على إنجيل العذارى العشر : أضيئي ( يا نفسي ) مصباح بزيت البهجة . 
  4. توضيح لاهوتي:
    طبعاً لا يقصد أنبا مقار أن الله اتحد بالملائكة بمثل ما تجسد في طبيعة البشر ( انظر عب2: 16) ، ولكن
    أولاً: التجسد صار له أثر غير مباشر على كل الخليقة بما فيها الملائكة بصفتهم جزءاً من الخليقة ، إذ إنه في التجسد قد اتحد الخالق بالخليقة. أنظر المثل الذي يسوقه القديس أثناسيوس في كتابه ” تجسد الكلمة “( 9 : 3 ، 4 ) : ” إذا سگن ملك في أحد بيوت مدينة ما ، فإن المدينة كلها تصير لها كرامة بسبب ذلك ؛ وهكذا إذا سگن الله في أحد أجساد بني البشر، صار لجميع بني البشر كرامة عظمى بسبب ذلك “. فيمكننا تكميل هذا المثل والامتداد به بأن يصير لبقية مدن هذه المقاطعة كرامة غير مباشرة ، ذلك لأن الملك سكن في إحدى مدن المقاطعة ، وهكذا صار للملائكة بسبب التجسد
    ثانيا ً: ( أف1: 10) : « تدبير ملء الأزمنة : أن يجمع گل شيء ( تحت رأس واحد )  في المسيح ، ما في السماوات وما على الأرض » ، « ما في السماوات » أي أن الملائكة سوف يكون لهم نصيب ما في ذلك الانجماع الكلي تحت رأس واحد في المسيح . ( عن أحد آباء الدير (ابو مقار))
  5. يوجد قول للأنبا مقار في بستان الرهبان يسوق فيه نفس هذا الشبيه : ” كمثل الحديد الذي إذا طرحته في النار يصير أبيض ويتنقى من الشوائب، كذلك النفس إذا ما حل فيها الروح القديس المعزي وسكن فيها فإنها تصير نقية كالملح متلالئة ببياض الفضيلة، فتنسي الارضات وتشتاق إلى السمائيات وتوجد في كل وقت سکرانة بالإلهيات شغوفة بالعلويات، وذلك من أجل نقاوتها و طهارتها، حتى يظن الإنسان أنه قد انتقل من هذا العالم إلى الحياة الأبدية بربنا يسوع المسيح -،، “” بستان الرهبان – قول رقم 205)

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى