تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 6 للأنبا غريغوريوس
الفصل السادس
6: 1- 5 السيد المسيح هو رب السبت :
ولم يخجل أعداء فادينا من كثرة ما أحبط من مؤامراتهم، وأسقط من حججهم، وفضح من دلائل ريائهم وجهلهم وتحاملهم عليه، وإنما راحوا يطاردونه أينما ذهب، ملاحقين إياه بالسلام والاتهام في كل ما يفعل هو أو يفعل تلاميذه . إذ حدث في السبت الثاني بعد الذي مضى أن كان يسير بين الحقول. وإذ جاع تلاميذه راحوا يقطفون سنابل القمح ويفركونها في أيديهم ويأكلون . فقال لهم قوم من الفريسيين «لماذا تفعون مالا يحل فعله في السبوت؟،، لأن الفريسيين وسائر علماء الدين اليهودي كانوا يتزمتون تزمتاً شديداً في تطبيق وصية تكريس يوم السبت للراحة وعدم القيام فيه بأي عمل، ومن ثم اعتبروا قطف السنابل في ذلك اليوم عملاً يخالف هذه الوصية، حتى بالنسبة لمن كان جائعاً وأراد أن يسد رمقه ببعض حبات القمح. فأجاب مخلصنا وقال لهم ،أما قرأتم ما فعل داود حين جاع هو والذين كانوا معه، كيف دخل بيت الله وأخذ خبز التقدمة الذي لا يحل أكله إلا للكهنة وهدهم، وأكل منه وأعطى كذلك الذين كانوا معه ؟، فلان كان الفريسيون قد تظاهروا بالغيرة على الوصية التي جاءت في شريعتهم، إن في شريعتهم ذاتها ما يدل على أن الضرورات تبيح المحظورات. حتى إن داود أعظم ملوكهم، ومن خير أنبيائهم حين جاع في يوم السبت، ولم يجد ما يأكله لم يجد غضاضة في أن يأكل خبز التقدمة، وهو القربان المقدس الذي لا يحل في الشريعة لأحد أن يأكل منه إلا للكهنة وحدهم، ولم يأكل من ذلك القربان وحده إنما أعطى منه كذلك المرافقين له الذين كانوا جانعين مثله. فإن كان داود الذي كانوا يرتلون مزاميره كل حين في هيكلهم، متعبدين بها لربهم، قد استحل وهو ليس كاهناً أن يأكل ما لم تسمح الشريعة بأكله إلا للكهنة، فهل يستكثر الفريسيون على تلاميذ السيد المسيح وقد جاعوا أن يأكلوا، لا خبز التقدمة الذي كان في الهيكل، وإنما حفنة من حبات القمح الذي كان في الحقل؟ وهكذا أراد الفريسيون أن يتذرعوا بأحكام الشريعة ليتهموا تلاميذ مخلصنا بأنهم فعلوا ما يخالف هذه الأحكام، وليتهموه هو بالذات بأنه سمح لهم بأن يغطوا ذلك، فأصبح شريكاً لهم فيما فعلوا، فأثبت لهم من تلك الشريعة ذاتها خطأهم في فهمها، وخمليلتهم في أنهم أدانوا تلاميذه ظلماً وبهتاناً. ثم قال لهم إن ابن الإنسان هو رب السبت.. أي أنه بطبيعته الإلهية هو الذي وضع وصية السبت فهو صاحبها وهو القادر وحده على إدراك حكمتها. كما أنه هو القادر وحده على تفسيرها. على أن الله في حكمته لم يضع شريعة السبت للتضييق على الإنسان، وإنما جعله لخير الإنسان، يستريح فيه جسده ، وتنمو فيه روحه، بتعبده لله، والتمتع بلعمة اقترابه منه وتوجيه كل أفكاره ومشاعره إليه.
6: 6- 11 معجزة شفاء ذي اليد اليابسة :
ثم في سبت آخر دخل فادينا المجمع كعادته وأخذ يعلم. وكان هناك رجل يده اليمنى يابسة متصلبة لا يستطيع أن يؤدي بها أي عمل. وقد كان الكتبة والفريسيون لا يفتأون يتعقبون فادينا أينما ذهب، فتبعوه ودخلوا المجمع الذي دخله وإذ رأوا ضمن الحاضرين فيه ذلك الرجل الذي كانت علته ظاهرة، راحوا يراقبون فادينا ليروا هل سيشفيه في السبت، حتى يجدوا شكاية ضده ، يدينونه بها بيد أن الرب يسوع علم أفكارهم. وعلى الرغم من أن الرجل ذا اليد اليابسة لم يطلب منه شفاءه، وإنما جاء ليستمع إلى تعليمه فحسب، أراد مخلصنا أن يفضح خبث أولئك الذين يترصدون له ويكشف رياءهم وغباءهم وجهلهم بالحكمة التي تنطوي عليها شريعتهم، فقال للرجل رقم وقف هناك في الوسط، ليراه الجميع، فقام الرجل ووقف، ثم قال مخلصنا لهم وإنني أسألكم، أيحل في السبوت فعل الخير أم الشر؟ تخليص نفس أم إهلاكها؟، وإذ كان واضحاً أن الذي يحل في يوم السبت وفي كل يوم هو فعل الخير لا الشر، وتخليص نفوس الناس لا إهلاكها، صمتوا منهزمين أمام تلك الحقيقة التي لا يستطيعون أن يماروا فيها. وقد كان ممنهم دليلاً على شرهم ومكرهم وغلظة قلوبهم، لأنهم لو كانوا يريدون فعل الخير أو تخليص النفوس لأجابوه معترفين بذلك، ومن ثم أدار مخلصنا نظره فيهم جميعاً في ألم ومرارة من انحطاط نفوسهم وانحدارها إلى هذا المدى السحيق من الوضاعة والبشاعة، ثم أثبت لهم أنه في سبيل تخفيف أوجاع المتوجعين لا يأبه بحقد الحاقدين ولا مؤمرات المتآمرين. إذ قال للرجل امدد يدك،، ففعل ذلك، فعادت يده على الفور سليمة كالأخرى. وقد كان الأحرى بالكاتبة والفريسيين حين رأوا ذلك الشخص الإلهي يشفى ذلك المرض العضال بمجرد كلمة منه، أن يؤمنوا به، أو على الأقل أن يخافوا تلك القوة السماوية التي تكمن فيه، فيكفوا عن مقاومته ، بيد أنهم لم يفعلوا هذا ولا ذاك، وإنما أعمى الحقد أبصارهم وبصائرهم، فجن جنونهم، وراحوا يتشاورون فيما بينهم ماذا يفعلون بذلك الذي بمعجزاته ينتزع سلطانهم ويزعزع مكانتهم لدى الشعب، متعللين بتلك الحجة السخيفة السمجة التي يتهمونه فيها بأنه يخالف الشريعة لأنه يصنع معجزاته تلك في يوم السبت، ليتخذوا من ذلك ذريعة لقتله والتخلص منه.
16-12:6 السيد المسيح يختار تلاميذه الإثني عشر :
وفي تلك الأيام التي اشتدت فيها حرب أعداء مخلصنا ضده وكثرت مكايدهم ومؤامراتهم عليه، صعد إلى الجبل ليصلي، وفقا لنبوءة داود النبي القائلة بلسانه وبدل محبتي يخاصمونني. أما أنا فصلاة، (المزمور 109 : 4). وقد قضى هناك في الصلاة الليل كله مناجيا – في وحدته بين شعاب الجبل المقفر – أباه السماوي، لأنه إن كان بلاهوته واحداً معه، فإنه بإنسانيته كان حريصاً على أن يكون دائم الاتصال به، ليكون ذلك درساً للبشر يحتذونه، فلا تطغى اهتمامات الجسد الأرضية على اهتمامات الروح السماوية ، وقد كان مخلصنا يطيل الصلاة على الخصوص كلما كان مقدماً على عمل يعتبره هاماً وجوهرياً في أداء رسالته، وكان هذا العمل في هذه المرة هو اختيار عدد من المؤمنين به ليكونوا تلاميذه الملازمين ملازمة تامة له. إذ أنه لما طلع النهار دعا إليه تلاميذه واختار منهم اثنى عشر سماهم رسلاً، وهم : سمعان الذي سماه كذلك بطرس، وأندراوس أخـوه ، ويعقوب ويوحنا، وفيلبس وبرثلماوس، ومتى الذي كان يدعى كذلك لأوى، وتوما ويعقوب بن حلفى، وسمعان الذي كان يدعى الغيور، كما كان يدعى القانوى، ويهوذا أخو يعقوب الذي كان يدعى كذلك لبـارس أو تداوس، ويهوذا الاسخريوطي الذي خانه فيما بعد وأسلمه إلى أعدائه .
وقد شاءت حكمة مخلصنا أن يختار من بين اليهود الذين آمنوا به هذا العدد القليل ممن توسم فيهم الإستعداد ليجعل منهم الطليعة الأولى من المؤمنين الذين يؤلفون رعيته في ملكوت السماوات، فيكونون بمثابة البذرة الصغيرة التي يغرسها الزارع ويتعهدها فتنبت وتنمو ولا تفنأ يزداد نموها حتى تغدو شجرة عظيمة، ويكونون بمثابة الخميرة التي توضع في العجين فلا تفنأ تفعل فعلها فيه حتى يختمر الكل (مت 13: 31- 33)، ولم يشأ مخلصنا أن يختار تلاميذه من العلماء المتضلعين في الشريعة أو الفلسفة أو أى علم من العلوم، لئلا يظنوا أن التعليم تعليمهم، أو أن المبادئ السامية التي غرسها فيهم هي من نتاج علمهم أو من ثمرة اجتهادهم وعبقريتهم. ولئلا يظن الناس ذلك فيهم. لأن التعليم في الحقيقة هو تعليم الله ولأن كل موهبة رآها الناس بعد ذلك فيهم إنما هي منحة من الله لهم ليمنحوها هم بدورهم لغيرهم – فلئن كانوا قد استطاعوا التعليم فيما بعد، فإنما كان الله يعلم فيهم وبهم . ولكن كانوا قد استطاعوا أن يأتوا أي عمل من أعمال القدرة فإنما هي قدرة الله وحده أظهرها بواسطتهم. كما أنه لم يشأ أن يختارهم من ذوى المناصب والسلطان، أو الثروة والجاه ، لئلا يعتقدوا أو يعتقد غيرهم أن قوة تأثيرهم ناشئة عن رفعة مكانتهم أو كثرة ما يملكون من أعراض هذه الدنيا، في حين أنهم ليسوا إلا أدوات في يد الله ذي القوة والرفعة والمالك وحده لكل شيء. ومن ثم اختار مخلصنا تلاميذه الأوائل القلائل من بسطاء الناس الذين إن كانوا غير جهلاء جهلاً مطبقاً، فإنهم ليسوا ممن تواضع الناس على تلقيبهم بالعلماء، والذين إن كانوا غير فقراء فقراً مدقعا فإنهم ليسوا من الأغنياء للمترفين، أو من ذوى المكانة الإجتماعية الرفيعة بين الناس، إذ كان أغلبهم من صيادي السمك. وكان الوحيد الذي يشغل منصباً حكومياً منهم، كاتباً بسيطاً ممن يتولون تحصيل الضرائب. ولم يكن يميزهم جميعاً عن سائر الفقراء المتواضعين من الناس إلا ما توسمه مخلصنا فيهم من إستعداد طيب للإيمان به والإخلاص له، على الرغم مما كانوا به من نواحي الضعف التي يتصف بها سائر البشر، ومع ذلك لم يكن إستعدادهم للإيمان به والإخلاص له قوياً في البداية بالدرجة التي جعلتهم يختارون الإنضمام إليه من تلقاء أنفسهم، لأنهم لم يكونوا هم الذين اختاروه ، وإنما هو الذي اختارهم قبل أن يتبينوا هم هذا الاستعداد في أنفسهم. وقد صارحهم هو بذلك فيما بعد، إذ قال لهم وليس أنتم اخترتموني، بل أنا أخترتكم وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بثمر ويدوم تمركم، (يو 15 : 16). وقد كان اختيار مخلصنا لتلاميذه مستنداً إلى أنه كان عارفاً طبائع الناس جميعاً، وقادرا على التمييز بين الصالحين منهم لأن يأتمنهم على أسراره المقدسة، وبين غير الصالحين لذلك المهمة الجليلة والخطيرة مهما بدا لأول وهلة من إيمانهم وغيرتهم وإستعدادهم. فقد جاء في إنجيل القديس يوحنا أن فادينا ولما كان في أورشليم في عيد الفصح آمن كثيرون باسمه، إذ رأوا الآيات التي صنع . لكن يسوع لم يأتمنهم على نفسه لأنه كان يعرف الجميع، ولأنه لم يكن محتاجاً أن يشهد أحد عن الإنسان، لأنه علم ما كان في الإنسان، (يو 2: 23 – 25).
وما من شك في أنه كلما قل عدد تلاميذ المعلم صاحب الدعوة، كان تعليمه لهم أسرع وأنفع وأدق وأعمق، وكان اعتماده عليهم في نشر دعوته أشد وأعظم وأقوى وأصدق. إذ يكونون بمثابة أسرته الحميمة التي يبادله أفرادها الحب والحدب والألفة والوفاء. ويخضعون له، لا عن إجبار وفهر، وإنما عن اختيار وإكبار ومودة وولاء، فهم إذ يرونه يحبهم يحبونه. وإذ يرونه يخلص لهم يخلصون له، وإذ يرونه يحرس على اكتساب ثقتهم يحرصون على اكتساب ثقته. وإذ يرونه يتفاني في خدمتهم ولو إلى درجة التضحية بنفسه من أجلهم، يتفانون هم في خدمته ويضحون بأنفسهم لو اقتضى الأمر من أجله. ولذلك اختار فادينا من بين المؤمنين به اثنی عشر رجلاً فقط يلازمونه في كل وقت ويتبعونه أينما ذهب، ويسمعون أقواله ويرون أعماله ويخالطونه في مأكله ومشريه، ويقظته ونومه، وصلاته وسومه، وفرحه وحزنه، ورضاه وغضبه، حتى يكونوا له كالأبناء بالنسبة لأبيهم، يخضعون لتأديبه وتهذيبه، وينتفعون بحكمته وحنكته ويستمعون إلى توجيهه ونصيحته، ويتدربون على التخلق بأخلاقه، والتمثل به في كل صفاته وتصرفاته، بحيث يصبح أولئك التلاميذ القلائل – بعد تعليمهم وتقويمهم وتهذيبهم وتدريبهم – صالحين للمهمة العظيمة التي أزمع أن يلقيها على عاتقهم، ومستعدين لإنجاز تلك المهمة في الوقت المحدد لها كل الإستعداد. وإذ كانت الحكمة الإلهية قد جعلت آباء المؤمنين في العهد القديم اثني عشر، هم رؤوس أسباط إسرائيل الاثني عشر، شاءت حكمة مخلصنا أن يكون عدد تلاميذه أثنى عشر كذلك، ليكونوا هم آباء المؤمنين في العهد الجديد، بعد أن يكون اليهود بنو إسرائيل قد رفضوا دعوة مخلصنا الإلهي، فرفضهم الله وغضب عليهم وقضى بهلاكهم. إذ جاء في إنجيل القديس متى أن مخلصنا قال لتلاميذه والحق أقول لكم إنكم أنتم يا من تبعتموني، متى جلس ابن الإنسان على عرش مجله عند تجديد كل شئ، ستجلسون أنتم أيضاً على اثني عشر كرسيا وتدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر، (مت 19: 28). وقـد كـان أولئك الاثنا عشر الذين اختارهم مخلصنا ليكونوا تلاميذه الأقربين من بيئة واحدة ، إذ كانوا جميعاً من قانا الجليل أو كفر ناحوم أو بيت صيدا. وكان أغلبهم أقارب، فكان بطرس واندراوس أخوين، وكان يعقوب بن زيدي ويوحنا أخوين . وكان يعقوب بن حلفي ويهوذا الملقب ليس الإسخريوطي، أو تباوس أو تدارس أخوين أيضاً. وما من شك في أن انتساب التلاميذ جميعاً إلى بيئة واحدة، يجعل منهم جماعة متألفة متفاهمة متكاتفة متضامنة، لا تنافر بين أفرادها في التفكير أو الشعور، ولا تعارض بينهم في الصفات أو التصرفات، مما يوفر أسباب النجاح لأى مهمة يضطلعون بها، أو أي دعوة يناضلون في سبيلها، ولا سيما إذا كانت تجمع بينهم النزاهة ويسودهم الإخلاص. على أنه كانت لكل منهم شخصيته وصفاته التي يتميز بها عن غيره، ولعله كان يمثل عينة من عينات البشر. وبهذا جمع المسيح له المجد بين تلاميذه اثنی عشر رجلا يمثلون في شخصياتهم خصائص المجموعات البشرية.
6 : 17 و 19 الجموع تتبعه أينما يمضي :
وبعد أن اختار فادينا تلاميذه الاثني عشر وهو على الجبل، نزل معهم ووقف في منبسط من الأرض هو وأولئك التلاميذ، وجماعة من تلاميذه الآخرين ، وكان جمهور عظيم من الشعب ينتظره هناك، وقد جاءوا من كل اليهودية وأورشليم، متكبدين مشقة السفر عشرات الأميال، كما جاءوا من ساحل صور وصيدا المتاخمتين للشعوب الوثنية في أقصى الشمال من فلسطين، ليسمعوا تعاليم ذلك المعلم السماوي، وليبرتهم من أمراضهم بقدرته الإلهية، فأخذ يعلمهم ويشفى مرضاهم ويطرد الأرواح النجسة ممن كانت تقيم في أجسادهم وتعذبهم. وقـد كـان الجميع يتهافتون عليه ليلمسوه، لأن قوة كانت تخرج منه فتبرتهم جميعاً. فأي قوة تلك التي بذاتها وبغير تدخل أي عنصر سواها تقدر أن تمنح الشفاء لكل مريض مهما كانت خطورة مرضه أو استعصاء شفائه، إن لم تكن هي قوة الله وحده القادر على كل شيء، والذي لا يستحيل عليه شيء؟
6: 20- 23 من هم السعداء الحقيقيون :
وقد رفع مخلصنا عينيه نحو تلاميذه وأخذ يعلمهم، ناصحاً إياهم. موضحا لهم الحقائق الخفية عنهم، شارحاً أسرار ملكوت السماوات الذي جاء ليبذر مبادئه في الأرض بواسطتهم، معزياً أولئك التلاميذ عما سيلقون في سبيل المهمة التي سيلقيها على عاتقهم من متاعب ومصاعب، واضطهادات وريلات، تبلغ آخر الأمر حد القتل بأشنع الوسائل وأبشع الأساليب. إذ قال لهم سعداء أنتم أيها المساكين، فإن لكم ملكوت الله. سعداء أنتم أيها الجياع الآن فإنكم ستشبعون. سعداء أنتم أيها الباكون الآن فإنكم ستضحكون. سعداء أنتم إذا أبغضكم الناس ونبتوكم وعيروكم وأهانوا أسمكم، مفترين الشر عليكم من أجل ابن الإنسان. فالفرحوا في ذلك اليـوم وتهللوا، فإن أجركم عظيم في السماء، لأنه هكذا فعل آباؤهم بالأنبياء،، وقد كان تلاميذ مخلصنا مساكين لأنهم فقراء، ولأنهم حتى القليل الذي كانوا يملكونه تركوه ليتبعوا معلمهم الإلهي ويكرسـوا حياتهم لخدمته والتبشير برسالته، وكانوا مساكين أيضاً لأنهم متواضعون بسطاء أبرياء، غير متكبرين ولا ماكرين ولا خبثاء. بيد أنهم إن أعوزتهم السعادة لهذا السبب في مملكة الناس، فإنهم سيكونون لهذا السبب نفسه سعداء في ملكوت الله. وقد كانوا جياعاً في ذلك الحين لا يكادون يجدون ما يسد الرمق بسبب عوزهم ويسبب انشغالهم بتأدية رسالتهم. ولكن حاجتهم في الأرض إلى الطعام ستتحول في السماء إلى شبع، لا من أكل وشرب مادي مآله إلى نفاذ وفناء، وإنما من نعمة وبركة روحية خالدة القداسة أبدية البقاء. وقد كانوا في ذلك الحين يذرفون الدمع باكين توجعاً من الناس أو تفجعاً عليهم وعلى ما يعانون من مظالم وآلام، أو ما يقترفون من خطايا وآثام. ولكن بكاءهم هذا الذي يصدر عن براءة نفوسهم وسمو مشاعرهم ونبل مقاصدهم، سـيـتـحـول في ملكوت الله إلى فرح، ومسرة وسعادة وتهلل، شأن الأبرار الصالحين والأطهار القديسين . وقد كانوا معرضين لسخط الأشرار من الناس عليهم وكراهيتهم لهم ونبذهم إياهم، وتعبيرهم وإهانتهم بسبب انتسابهم إلى المسيح وتسميتهم بالمسيحيين، وافترائهم الشر عليهم من أجل انتمائهم إلى مخلصنا وندائهم في كل مكان بالدعوة إلى الإيمان به، واستماتتهم في التبشير به إلى حـد الموت من أجله. بيد أن هذا كله لا ينبغي أن يحزنهم أو يحز في نفوسهم، وإنما فليفرحوا وليتهللوا في ذلك اليوم الذي يكابدونه فيه، لأن أجرهم سيكون عظيماً في السماء، حيث تنتظرهم محبة الله واحتضانه لهم وتكريمه إياهم وإسباغه المجـد الأبدى عليهم. ولأن هذه الشرور والأحقاد التي سيبديها اليهود وغيرهم نحوهم، والإساءات والاضطهادات التي سيلحقونها بهم، ليست أمراً جديداً على اليهود، وإنما ورثوها عن آبائهم الذين ظلوا طوال تاريخهم يبـدون الشر والحقد نحو ر أنبيائهم الأبرار الأطهار، ويلحقون بهم أبشع ألوان الإساءة والاضطهاد، وقد قتلوا الغالبية العظمى منهم.
6 : 24و 26 مظاهر السعادة ليست هي الغني والشبع والضحك :
ثم نادى مخلصنا قائلاً ، ولكن الويل لكم أيها الأغنياء فإنكم قد أخذتم عزاءكم. الويل لكم أيها الشباعي الآن فإنكم ستجوعون. الويل لكم أيها الضاحكون الآن فإنكم ستحزنون وتبكون. الويل لكم إذا امتدحكم جميع الناس، فإنه هكذا فعل آباؤهم بالأنبياء الكذبة، فلا ينبغي للتلاميذ أن تخدعهم سعادة الأغنياء، لأن أولئك قد اتكلوا على أموالهم، وتوهموا أن فيها سعادتهم، ولم يتكلوا على الله، جاهلين أو متجاهلين ما في الاتكال على الله من سعادة حقيقية خالدة. بيد أن المال مهما سعدوا به فسيفني، ومن ثم ستفنى معه سعادتهم الزائفة به، ولا يبقى لهم إلا غضب الله عليهم، لأنهم إذ تجاهلوه فسيتجاهلهم، وفي تجاهله الويل كل الويل لهم، ولا ينبغي للتلاميذ أن يخدعهم شبع الذين جعلوا كل همهم في بطونهم، وفي الاستمتاع بكل ما تتلذذ به أجسادهم من مأكل أو مشرب مادی، تاركين أرواحهم تعاني الجوع من جراء ابتعادهم عن الغذاء الإلهي، الذي هو تقوى الله ومراعاة وصاياه وتوثيق الصلة به، ومن ثم فإنهم بعد فناء أجسادهم ستظل أرواحهم فريسة ذلك الجـوع الذي يؤدي إلى شقائهم وعذابهم الأبدى. ولا ينبغي للتلاميذ أن يخدعهم ضحك الضاحكين الذين يجدون متعتهم ومسرتهم في مباهج هذا العالم ومفاتنه الجسدية، لاهين عما تؤدي إليه حياة القداسة والطهارة الروحية من متعة في السماء لا تفوقها متعة، ومن مسرة لا تضاهيها مسرة. ومن ثم فإنهم على قدر ما يبتهجون ويضحكون في الأرض، سيحزنون ويبكون في السماء. ولا ينبغي للتلاميذ أن يخدعهم نفاق أولئك الذين يبذلون جهدهم في إرضاء جميع الناس، متملقين إياهم غير منددين بشرورهم، ليـمـنـدحـهم الناس ويبجلوهم، غير مهتمين بما هو أهم من ذلك وهو إرضاء الله بسلوكهم سبله، ومصارحتهم الأشرار من الناس بما فيهم من شر، وتوجيههم إلى ما ينبغي أن يتصفوا به من خير. ومن ثم سيغضب الله على أولئك المنافقين، وإن رضي جميع الناس عنهم. وفي غضب الله تعاستهم وهلاكهم، وقد كان هذا شأن الأنبياء الكذبة الذين سبق لهم أن امتدحوا آباء اليهود ولم يوبخوهم على شرورهم، فامتدحهم أباء اليهود وبجلوهم، في حين أنهم نكلوا بالأنبياء الصالحين الصادقين وقتلوهم.
6: 27- 36 التبشير بالمحبة والتسامح :
ثم أسدى السيد المسيح إلى تلاميذه بعض نصائحه التي تتضمن أسس العهد الجديد الذي جاء به، قائلا لهم ولكنني أقول لكم أيها السامعون : أحبوا أعداءكم. أحسنوا إلى مبغضيكم ، باركوا لاعنيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم. من لطمك على أحد خديك، فاترك له الآخر أيضاً. ومن أخذ رداءك فلا تقلعه ثوبك أيضاً. من سألك فأعطه، ومن أخذ مالك فلا تطالبه به. وكما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضاً بهم. فإنكم إن أحببتم الذين يحبونكم، فأي فضل لكم، فإن الخطاة أيضاً يحبون من يحبونهم ؟ . وإن أحسنتم إلى الذين يحسنون إليكم فأي فصل لكم، فإن الخطاة أيضاً يفعلون ذلك، وإن أقرضهم الذين ترجون أن تستردوا منهم، فأي فصل لكم، فإن الخطاة أيضاً يقرضون الخطاة ليستردوا منهم المثل. ولكن أحبوا أعدائكم وأحسنوا إليهم، وأعطوا ولا تخيبوا رجاء أحـد، غير طامعين في استرداد شيء، فسيكون أجركم عظيماً وتكونون أبناء العلي، فإنه صالح مع الجاحدين والأشرار. فكونوا أنتم رحماء كما أن أباكم أيضاً رحيم”.
وقد كانت هذه التعاليم جديدة على أسماع التلاميذ وغيرهم ممن كانوا يستمعون إلى السيد المسيح مخلصنا عندئذ. كما كانت غريبة لم يألفوها، عالية على مداركهم، يحتاجون إلى شوط طويل من التعمق في الروح المسيحية ليفهموها ويفطنوا إلى ما فيها من حكمة سامية، ومن سمو حكيم. فقد اعتاد التلاميذ واعتاد سائر الناس في جميع الأجيال من قبلهم أن يحبوا من يحبونهم ويبغضوا من يبغضونهم، متوهمين أن هذا هو الأمر الطبيعي والمنطقي، وأن هذا هو العقل والعدل. ولكن معلمنا الإلهي بدد هذا الوهم وهدم هذا المنطق، إذ طلب إلى تلاميذه والمؤمنين به أن يحبوا أعداءهم، لأن الحب هو الأساس الذي تقوم عليه شريعة الكون كلها، فهو القاعدة التي تكفل التماسك والتـوازن للكون، والتي بغـيـرهـا يتفكك وينهار، وهو الرابطة التي تؤلف بين الكائنات وبغيرها تنتثر وتندثر. ولأن الحب لا يثمر إلا حباً، والبغضاء لا تثمر إلا بغضاء. فإذا أحب الناس أعداءهم أطفلُوا نار البغضاء في قلوبهم ودفعوهم دفعاً إلى أن يبادلوهم حباً بحب. وأما إذا أبغضوهم أجـجـوا تلك النار في قلوبهم فازدادت اشتعالاً، وامتدت البغضاء من قلب إلى قلب، كما تمتد النار في الهشيم حتى تعم المجتمع كله، فتفتك به وتهلكه وعلى هذا الأساس إذا استشعر الإنسان البغضاء من أخ له فلا ينبغي أن يسيء إليه فيزيد من بغضائه له، وإنما ينبغي أن يحسن إليه فيقضى على تلك البغضاء في قلبه . وإذا لعنه فلا يبادله لعنة بلعنة، فيضاعف من عداوته له، وإنما فليباركه، فيخجله بذلك ويجعله يراجع نفسه ويتراجع عما يطوى عليه جوانحه من حقد عليه ، وإذا أساء إليه فلا يقابل إساءته بإساءة مثلها. وإلا فلن تنتهي الشحناء بينهما، ولن يتقطع العداء ولا العدوان الذي لا يفتان يتبادلانه ولا يفتان يزيدان من شدته وحدته حتى يهلك أحدهما الآخر، أو قد ينتهي الأمر بهلاكهما كليهما. وإنما فليعمل على مصالحته، حتى إذا فشل في ذلك فليلجأ إلى الله بالصلاة ضارعاً إليه أن يصلح من أمر ذلك المسيء إليه ويقتلع جذور البغضاء من قلبه، فلا يعود يسيء إليه أو إلى أحد غيره وحتى إذا تمادي في الاعتداء عليه ولطمه على أحـد خـديه، فلا يندفع إلى الانتقام لنفسه، لأن الانتقام لا يؤدى إلا إلى الرد عليه بمثله، فلا يقف تبادل الانتقام عند حد، ولا تكون نتيجة ذلك كله إلا استمرار الحرب والضرب بين الطرفين، وإلى دمارهما معاً، وإنما فليقابل الإنسان اعتداء ذلك الذي لطمه على أحد خـديه بالسماحة والتسامح ولو أدى هذا بذلك المعتدي إلى مزيد من الاجتراء والاعتداء فضربه على خده الآخر، لأنه بمسالمته لا يدلل بذلك على ضعفه إزاءه ، وإنما على العكس يدلل على قوته الكامنة في قدرته على ضبط النفس، كما يدلل على أنه ـ على الرغم من أن في استطاعته مجاراة المعتدى عليه في عدوانه – غير حاقد عليه، وغير راغب في ضربه، فيكسر بذلك من حدة غضبه، ويخفف من شـدة عـداوته له التي أدت إلى عدوانه عليه، ومن ثم يتوقف عن عداوته ويكف عن عدوانه . وتكون النتيجة خيرا للضارب والمضروب، ومن ثم تعم المحبة بين الناس ويعم السلام . فلا يعود ثمة بينهم ضارب ولا مضروب. وبذلك كذلك يسود بين الناس التسامح، كما تسود الرحمة : فإذا أخذ أحد من آخر رداءه عن رغبة في اغتصابه، أو عن حاجة إليه، فلا يحاول استرداده منه إن كان مغتصباً، وإنما فيبرهن له على أنه ـ بدافع من الحب – مستعد أن يتركه له، بل مستعد أن يترك له ثوبه الذي يرتديه تحت الرداء أيضاً، تسامحاً منه وزهداً في مقاومة عدوانه . كما لا يحاول استرداده منه إن كان محتاجاً، وإنما قليبرهن له على أنه ـ بدافع من الرحمة ـ مستعد أن يتنازل له عنه، بل مـسـتـعـد أن يتنازل له عن ثوبه أيضاً. وبدافع من الرحـمـة كذلك إذا سأله أي محتاج فليحطه ما يحتاج إليـه . وإذا أخذ مـالـه، فلا يطالبه به، فقد يكون عاجزاً عن رده إليه. لأنـه قـد تنعكس الآيـة فيصبح هو المحتاج، فإذا كان هذا هو مسلكـه مـع النـاس، عاملـه النـاس بمثل ما سبق له أن عاملهـم بـه، فأعطـوه ما يحتاج إليه، ولم يطالبوه بالمـال الـذي أخذه منهم. فتلك هي القـاعـدة الأساسيـة فـي معاملـة الإنسان لغيره من الناس، وهي أن ما يريد الإنسان أن يفعـل الـنـاس بـه، فليفعل هو أيضـا بهـم، وذلك أن مخلصنا القدوس الكامـل لـم يـرتـض للمؤمنين بـه أقـل من مرتبة الكمـال. ولمـا كـان الكمـال يـسـتـوجـب الحـب الذي لا تشـوبـه كـراهيـة أبـدأ من إنسـان نـحـو إنسان، ولـو عاداه أو اعتدى عليه، أراد مخلصنـا أن يحب المؤمنـون بـه كـل الـنـاس على العـواء . لأنهم إن أحـبـوا الـذيـن يـحـبـونـهـم فقط فأى فضل لهم على الخطاة الذين يحبـون هم أيضـاً مـن يـحـبـونـهـم ؟ وإن أحسنوا إلى الذين يـحـسـنون إليهم فقط، فأي فضل لهم على الخطاة الذين يحسنون هم أيضاً إلى الذين يحسنون إليهم؟ وإن أقرضوا الذين يرجون أن يستردوا منهم القرض فأي فضل لهم على الخطاة الذين يقرضون هم أيضاً أمثالهم من الأشرار ليستردوا منهم المثل؟ لا فضل لهم على الخطاة وليس ثمة ما يميزهم عنهم إن هم فعلوا شيئاً من ذلك . فليكونوا هم أفضل من الخطاة في تصرفاتهم، وليكونوا مميزين عنهم في معاملاتهم وفي كل شنون حياتهم. ومن ثم فليحبوا أعداءهم، وليحسنوا إليهم، وليعطوا ولا يخيبوا رجاء أحد، غير طامعين في استرداد شيء. لأنهم بذلك يقتنون لأنفسهم رصيداً من الفضائل والأفضال يسبغ عليهم النعمة والبركة في حياتهم الحاضرة على الأرض، ويؤهلهم لأن ينالوا الأجر العظيم في حياتهم المقبلة في السماء، حيث ينعمون بما ينعم به هناك الأبرار والقديسون، ويجعلهم خليقين بأن يكونوا أبناء الله العلى، إذ يتمثلون به فيما يفطون، لأنه صالح لا مع البررة والصالحين فحسب، وإنما مع الجاحدين والأشرار أيضاً، ويتمثلون بأبيهم السماوى كذلك. فيكونون رحماء مع الجميع على السواء، لأنه رحيم مع الجميع على السواء. إن شريعة الكمال التي نادي بها مخلصنا ومعلمنا تسمو على كل الشرائع في القديم التي تبيح للناس أن يكرهوا الذين يكرهونهم، وأن يمتنعوا عن الإحسان إلى الذين لا يحسنون إليهم، وعن إقراض الذين لا يرجون أن يستردوا منهم، لأن في ذلك منقصة لهم، وشرا يشوب نفوسهم التي ينبغي أن تتنزه عن كل نقيصة، وأن تتبرأ من كل شر، لتكون كاملة كما أن مخلصهم ومعلمهم نفسه كامل.
6: 37- 45 تعليم السيد المسيح بعدم الإدانة :
ثم قال فادينا لتلاميذه ولسائر الذين كانوا يستمعون إليه : «لا تدينوا فلا تدانوا. ولا تحكموا ضد أحد فلا يحكم ضدكم. اغفروا ليغفر لكم. أعطوا تعطوا، كيلاً مضغوطاً مهزوزا فائضاً سيعطونكم في أحضانكم. لأنه بالكيل الذي به تكيلون يكال لكم. وضرب لهم كذلك مثلا قائلاً : أيستطيع أعمى أن يقود أعمى ؟ أما يسقطان كلاهما في حفرة ؟ ليس تلميذ أرفع من معلمه، ولكن كل من صار كاملاً يصبح كمعلمه، ولماذا تنظر إلى القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك أنت فلا تفطن لها؟ وكيف تقدر أن تقول لأخيك دعنى أخرج القذي الذي في عينك، في حين أنك أنت نفسك لا ترى الخشبة التي في عينك أنت؟ يا مرائي. أخرج أولاً الخشبة من عينك أنت، وعندئذ تبصر جيدا لتخرج القذى من عين أخيك. لأنه ما من شجرة طيبة تعطى ثمراً رديئاً، وما من شجرة رديئة تعطى ثمراً طيباً. فكل شجرة تعرف من ثمرها. لأنهم لا يجنون من الشوك تيناً، ولا يقطفون من العليق عنباً. فالإنسان الصالح من الكنز الصالح في قلبه يخرج الصالحات والإنسان الشرير من الكنز الشرير في قلبه يخرج الشرور، لأنه من فيض القلب يتكلم الفم .
وبهذه العبارات السامية السماوية علم فادينا تلاميذه وكل المؤمنين به أن يتجنبوا إدانة أحد أو يحكموا على أحد، لأن من يدين الناس ويحكم عليهم، يعاملونه هم بالمثل فيدينونه ويحكمون عليه، ولأن الديان هو الله وحده الذي يعرف سرائر النفوس ويكشف أسرارها. فلا يمكن لإنسان أن يغوص في سريرة إنسان آخـر ويعـرف مـا بهـا من فصيلة أو رذيلة، ولا يمكن لإنسان أن يستشف سر إنسان آخـر ويكشف ما ينطوي عليه من خير أو شر. فكل ما يمكن ومـا ينبغي للإنسان إذن نحو غيره من الناس، أن يغفر لهم إن خطئوا، أو ظن أنهم خطئوا. لأنه عندئذ ينال هو المغفرة من الله والناس عن خطاياه . كما ينبغي أن يملأ قلبه بحب الناس، فيعطى المحتاجين منهم، لأنه عندئذ يعطيه الله ويعطيه الناس قدر ما يعطى، بل أكثر مما يعطى، فإن هذا منطق العدل الطبيعي. وهذا هو بالتالي منطق العدل الإلهي، أنه بالكيل الذي يكيل به الإنسان للناس يكال له من الله ومن الناس.
فلا ينبغي إذن إدانة الآخرين أو الحكم عليهم. لأنه كما أن الأعمى لا يستطيع أن يقود أعمى، وإلا سقطا كلاهما في أول حفرة تصادفهما : هكذا الشرير لا يمكن أن يدين شريراً مثله، أو يحكم عليه، أو يوبخه، أو ينتهره ، أو يندد به . كما لا يمكن أن يوصيه أو ينصحه أو يقف منه موقف المعلم أو المفتي أو المؤدب أو المربي، وإلا أصله بصلاله، وقاده إلى السقوط في هوة الهلاك التي يتجه هو نفسه إليها برذائله وشروره ودميم خصاله وذميم فعاله. فلكي يكون المعلم صالحاً للتعليم والتقويم، وإدانة الأشرار على شرورهم، والحكم على خطاياهم وأثامهم، ينبغي أن يكون هو نفسه كاملاً. ولما كان الكامل هو معلمنا الإلهي وحده، فقد حض تلاميذه على أن يتعلموا منه حتى يكونوا كاملين مثله، ليواصلوا رسالته التعليمية بعده ، وليس من الكمال في شيء أن يرى الإنسان نقائص الآخرين الصغيرة ويلومهم عليها، في حين أن نقائصه هو أكبر وأخطر ولا يلوم نفسه عليها، بل إنه ـ لغبائه أو كبريائه أو تغلغل الشر في نفسه – يجهلها أو يتجاهلها، كمن ينظر إلى القذى الذي لا يتجاوز في حجمه ذرة التراب في عين أخيه. وأما الخشبة الكبيرة الضخمة التي في عينه هو فلا يفطن لها. كما أنه لا يستطيع ولا ينبغي له أن يدعي لنفسه ـ وهذه حاله – صفة المصلح لغيره والناصح له والعامل على إنقاذه من نقيصته، كأنما يقول له دعني أخرج القذى الذي في عينك، في حين أنه نفسه لا يرى الخشبة التي في عينه هو ولا يفطن لها. وإنما ينبغي لذلك المرائي أن يخرج الخشبة التي في عينه هو، أي يتخلص من كل نقائصه هو، ومن كل ألوان الشر التي تعمى بصره وبصيرته معاً، حتى يغدو من نقاء الضمير وصفاء الشعور والتفكير بحيث يستطيع أن يتبين حقيقة ما في غيره من نقائص وشرور، وعندئذ يحق له أن يتصدى لإصلاح غيره وإسداء النصح إليه والعمل على إنقاذه من نقيصته، لأن الذي يريد إصلاح الناس عليه أن يصلح نفسه أولاً، والذي يتصدى لنصحهم عليه أن ينصح نفسه أولا. والذي يعمل على إنقاذهم من نقائصهم عليه أن يبدأ بنفسه أولا، فلينقذ نفسه أولا ليتمكن بعد ذلك من إنقاذ الآخرين. لأن الصالح لا يمكن أن يصدر عنه شر في سيرته هو وفي مسلكه مع الناس، وأما الشرير فلا يمكن أن يصدر عنه صلاح في سيرته هو وفي مسلكه مع الناس. فإنه ما من شجرة طيبة تعطى ثمراً ردينة، وما من شجرة رديئة تعطى ثمراً طيباً، فلا يمكن للشوك أن يثمر عنبـاً، ولا يمكن للعليق أن يثمر تينا. وعلى هذا القياس يمكن الحكم على الناس ممن يتصدون للتعليم فإن كانت أعمالهم التي هي ثمارهم صالحة كانوا صالحين وجديرين بأن يكونوا معلمين للآخرين. وإن كانت أعمالهم التي هي ثمارهم شريرة كانوا أشراراً وغير جديرين بذلك العمل التعليمي الجليل النبيل. وإنما كانوا في حقيقتهم مرائين مضللين، لا ينبغي الاستماع إليهم أو الانصياع لتعاليمهم، والفارق بين الصالح والشرير من الناس يكمن في قلبه. لأن القلب هو المستودع الذي تتجمع فيه صفاته، والكنز الذي يستخرج منه الصلاح إن كان صالحاً، أو يستخرج منه الشر إن كان شريراً ، فالإنسان الصالح من الكنز الصالح في قلبه يخرج الصالحات ويتكلم بها، والإنسان الشرير من الكنز الشرير في قلبه يخرج الشرور ويتكلم بها، لأنه من فيض القلب يتكلم الفم. وعلى هذا الأساس فليميز الناس بين المعلم الصالح والمتكلم بالصالحات فيتبعوه، وبين المعلم الشرير الذي يتكلم بالشر فيتجنبوه ويبتعدوا عنه ، على أن كلام فادينا هنا ينسحب على المعاملات ولا ينسحب على المحاكمات فللقاضي أن يدين المجرم، وللمعلم أن يدين تلميذه إذا أخطأ، وللوالد أن يدين ابنه ويعـاقـبـه إذا أساء، وللحاكم أن يدين الشرير من رعـيـتـه، وإلا استشري الشر في الناس، واستحالت الحياة على الوادعين والضعفاء، وتفاقم الظلم بين الناس، وذلك أن القاضي والمعلم والوالد والحاكم بحكم صفاتهم ومناصبهم مسئولون عن إدانة المخطئ وهم لا يدينون بدافع من الحقد أو التعالي، بل ليضعوا حداً لتجبر العتاة، ومنعاً من تفاقم الشر.
6: 46- 49 التبشير بالرحمة وانتهاج سبيل الكمال :
وبعد أن أعلن مخلصنا لتلاميذه وسامعيه تعاليمه وأسدي إليهم وصاياه ، طلب منهم ألا يكتفوا بمجرد سماع هذه التعاليم والوصايا منه، أو يكتفوا بمجرد التظاهر أو التفاخر بطاعته والخضوع له والخشوع في مخاطبته والتعهد بالعمل بتعاليمه ووصاياه ، ثم إذا دهمتهم الضيقات والبلايا بعد ذلك خافوا وارتجفوا وسعفوا، وفزعوا وتضعضعوا وتزعزعوا وانهاروا فسقطوا أشنع سقوط، وإنما ينبغي أن يطيعوه فعلا، وأن يعملوا فعلاً تعاليمه ووصاياه ، وأن يغرسوها غرساً في نفوسهم حتى تتغلغل إلى أعمق أعماقهم، ويجعلوها أساساً راسخاً صلباً يقيمون عليه كل أفكارهم وكل أفعالهم وكل اهتماماتهم وكل شلون حياتهم، بحيث إذا هبت عليهم أعاصير المتاعب والمصاعب والمحن والآلام، واجهوها في قوة، وصدوها في ثبات، وصمدوا لها صعود الطود الشامخ أمام الزوابع والأعاصير التي لا تفتأ تزمجر من حوله تدهمه وتهاجمه، ولكنها تعجز عن أن تهدمه أو نهزمه أو تهز أى ركن فيه، ومن ثم يظلون أقوياء ثابتين في صلابة الصخر السند واستقرار الجبل الراسخ . إذ قال مخلصنا لتلاميذه «لماذا تدعونني يارب يارب ولا تعملون بما أقول لكم؟ إن كل من يأتى إلى ويسمع كلامي ويعمل به أريكم من يشبه : إنه يشبه رجلا بنى بيتاً فحفر وعمق الحفر ووضع الأساس على الصخر، حتى إذا انهـمـر السيل، لطم النهر ذلك البيت بعنف فلم يستطع أن يزعزعه لأنه كان مؤسساً على الصخر. وأما الذي يسمع كلامي ولا يعمل به فيشبه رجلا بنى بينا على الرمل بغير أساس فلطمه النهر بعنف فسقط على الفور، وكان خراب ذلك البيت عظيماً .