من مقالات الأنبا غريغوريوس أسقف عام البحث العلمي

ماذا نصنع إزاء أعدائنا

هذه الكلمات الروحانية السامية هي جزء من الموعظة على الجبل، نطق بها رب المجد يسوع المسيح ليرفع بها سامعيه عن مستوى الحقد والكراهية الشخصية إلى مستوى الحب والتسامح بالحقوق الخاصة في سبيل صيانة السلام بين الإنسان وأخيه الإنسان. فالإنسان الطبيعي المادي المتعلق بشهوات الدنيا ورغبات الجسد من مأكل ومشرب وملبس يفزع أن يرى من ينازعه في مطامع الحياة، فيندفع كالوحش عندما يهاجمه أحد لينتزع الفريسة من بين أنيابه، نحو الغضب والإيذاء والقتل أحياناً. والمتأمل في خصومات البشر والمنازعات الخاصة بين الناس يجدها في أكثرها خصومات مادية، ومنازعات على مطامع الدنيا وأباطيلها، تتفاقم فتهدد المحبة الطبيعية بين الأب وأبنائه، والأم وبناتها، وبين الإنسان عموماً وأقربائه وأصهاره وأصدقائه وكل ما يلوذ به من ذوى القرابة اللحمية أو الإعتبارية. وكم أدت هذه الخصومات على الماديات إلى فقدان السلام والمحبة بين الأفراد والعائلات، وإلى توليد الشقاق والشر في المجتمع بأسره.

من أجل هذا النوع من الخصومات علم المسيح الرب تلاميذه والجموع أن يتساموا فوق الشهوات والمطامع، ويرتفعوا على حب المال الذي هو «أصل كل شر، وهو الذي إبتغاه قوم فضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة» (1تي6: 10).

لهذا قال رب المجد: «أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، باركوا لاعنيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم. من لطمك على أحد خديك، فاترك له الآخر أيضاً. ومن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك أيضاً. وكل من سألك فأعطه. ومن أخذ مالك فلا تطالبه به. وكما تريدون أن يفعل الناس بكم، افعلوه أنتم أيضاً بهم. فإنكم إن أحببتم الذين يحبونكم، فأي فضل لكم. فإن الخطاة أيضاً يحبون من يحبونهم. وإن أحسنتم إلى الذين يحسنون إليكم، فأي فضل لكم. فإن الخطاة أيضاً يفعلون ذلك. وإن أقرضتم الذين ترجون أن تستردوا منهم فأي فضل لكم، فإن الخطاة يقرضون الخطاة ليستردوا منهم المثل. ولكن أحبوا أعداءكم وأحسنوا إليهم وأعطوا ولا تخيبوا رجاء أحد، غير طامعين في استرداد شيء فسيكون أجركم عظيماً، وتكونون أبناء العلى. فإنه صالح مع الجاحدين والأشرار. فكونوا أنتم رحماء، كما أن أباكم أيضاً رحيم. لا تدينوا فلا تدانوا. ولا تحكموا ضد أحد فلا يحكم ضدكم. اغفروا يغفر لكم. اعطوا تعطوا. كيلاً جيداً مضغوطاً مهزوزاً فائضاً سيعطونكم . في أحضانكم. لأنكم بالكيل الذي به تكيلون يكال لكم» (لو6: 27- 38).

من هنا نفهم من هم الأعداء الذين يتكلم عنهم مخلصنا في موعظته على الجبل. إنهم أعداؤنا في المطامع والشهوات، وهم الذين ينازعوننا من أجل الطعام والشراب واللباس، ومن أجل رغبات الجسد، ومن أجل المال والمادة.

على أن لنا نوعاً آخر من الأعداء. وهؤلاء هم الأعداء الروحيون. والأعداء الروحيون هم الشياطين، وهم أيضاً أقرباؤنا وأصدقاؤنا الذين يصدوننا عن طريق الحق، والذين يمنعوننا أو يعيقوننا عن طاعة الله والخضوع لدعوته وإرادته.

ألم يقل فادينا يسوع المسيح: «ويكون خصوم المرء من أهل بيته»؟ (مت10: 36) وذلك حينما يقف الأب أو الأم، الأخ أو الأخت أو القريب عموماً، عثرة وعقبة في سبيل الإنسان ليعوقه عن عمل الصالحات أو الطاعة لوصايا الله.

وأعداؤنا الروحيون أيضاً هم كل بشر يحاول بالقهر أو بالحيلة أن يدعونا لعبادة إله غير إلهنا، أو إلزامنا بدين غير ديننا، أو تحويلنا إلى عقيدة غير عقيدتنا.

هؤلاء وأولئك أيضاً هم أعداء الروح لا أعداء الجسد، أعداء الفكر والعقيدة والمبدأ، وهم أعداؤنا الحقيقيون، بل هم أعداء الله، وهم «أعداء صليب المسيح» (فی3: 18).

وأعداؤنا أيضاً هم أعداء الوطن، أعداء بلادنا وتراثنا الحضاري. نعدهم أعداء لنا لأنهم يرملون نساءنا، وييتمون أطفالنا، ويقتلون شبابنا، ويهينون مقدساتنا ويسلبون حقوق شعبنا وأمتنا.

فماذا نصنع إزاء هذا النوع من الأعداء الروحيين؟

هل نحب الشياطين؟! بالطبع لا. فقد قال الوحي الإلهي: «قاوموا إبليس»، «اصحوا واسهروا، فإن إبليس خصمكم كالأسد الزائر يجول ملتمساً أن يبتلع واحداً، فقاوموه راسخين في الإيمان» (ي4: 7).

وأما أعداؤنا الروحيين من بني الناس أيضاً فلا نحبهم، وإن كنا لا نلعنهم. لا نحبهم، وإن كنا لا نكرههم. لا نحبهم بل نقاومهم ونحاربهم. فمخلصنا مع إنه رب السلام الذي يقول «أحبوا أعداءكم» (مت5: 44) اسمعوه يقول بالنسبة لأعداء الروح والمبدأ والعقيدة «لا تظنوا أني جئت لأحمل سلاماً إلى الأرض. ما جئت لأحمل سلاماً، بل سيفاً. جئت لأجعل الابن يختلف مع أبيه، والابنة مع أمها، وزوجة الابن مع حماتها، فيكون خصوم المرء من أهل بيته» (مت10: 34- 36).

ومعنى ذلك أنه لا من أجل السلام ندوس مبادئنا ومقدساتنا.

وزاد السيد المسيح على ذلك بقوله «من يأتى إلى ولا يبغض أباه وأمه وزوجته وأبناءه وإخوته وأخواته، بل نفسه أيضاً، لا يستطيع أن يكون لي تلميذا» (لو14: 36). وهذا معناه أننا في سبيل مبادئنا ومقدساتنا نتنازل عن محبتنا الحسية لأقربائنا وإخوتنا ولأنفسنا. نضحي بكل ذلك في سبيل محبتنا الله، وللحق، وللمبادىء السامية.

إن الذين يظنون أن المسيحية ديانة ضعف لأنها تدعو إلى المحبة والسلام بين الناس يخطئون ويضلون. إن المسيحية التي صيّرت أتباعها حملاناً لا يؤذون أحداً ويسعون للسلام، هي بعينها المسيحية التي جعلت أتباعها أسودا أقوياء، في معركة الحق، ويستشهدون من أجل الحق والعدل والحرية، لأنها علمتهم أن يفرقوا بين الحق الخاص والحق العام.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى