تفسير سفر الرؤيا اصحاح 18 لابن كاتب قيصر
الأصحاح الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
رؤ18: 1-3
90- (1) وبعد هؤلاء نظرت ملاكا آخر نزل من السماء ومعه سلطان عظيم فأضاءت الأرض من وجهه ومجده (2) وهتف بصوت عظیم قائلا سقطت بابل العظمى وصارت مرقدا للشياطين ومسكنا لكل روح نجس ومأوى لكل الطائر النجس والمبغض (3) لأنه غضب زناها سقطت الأمم جميعها وملوك الأرض الذين زنوا معها وتجار الأرض من لهوها استغنوا من خمر
هذا الفص في سقوط بابل يلي في اللفظ الفص الذي تقدمه لأنه معطوف عليه ، ويتلو في معناه معنى الفص السابع والستين
قوله : « وبعد هؤلاء نظرت ملاكا آخر نزل من السماء» ، أي بعد أن رأيت المرأة راكبة الوحش ورؤوسه وقرونه ، وجلوس المرأة على المياه ، وسكرها من دماء القديسين وما اتصل بذلك ، نظرت هذا الملاك الآخر ، ونزوله من السماء إنذار بسقوط بابل
قوله : «ومعه سلطان عظيم فأضاءت الأرض من وجهه ومجده » يريد بهذا السلطان العظيم ثلاثة أشياء على الملاك ، الأول : جلاله وشرفه في صورته وزيه. الثاني : ما عليه من الأنوار والمجد الثالث : شدة حركته وسلطته ، ويظهر من هذه الأوصاف أنه طغمة السلاطين ، وهي الخامسة.
قوله : « وهتف بصوت عظیم قائلا سقطت بابل العظمى» ، هذا هو الإنذار الثاني بسقوط هذه المدينة ، لأنه قال عنها في الفص السابع والستين إنه رأى ملاكا قائلا : «سقطت سقطت بابل الحظمي التي سقت جميع الأمم من خمر غضب زناها » ، فأعطى هناك علة سقوطها البعيدة ، وهي كفر أهلها وخطأهم . وأعطى هنا علة سقوطها القريبة ، وهي خرابها ونهبها وحريقها كما تقدم ذكره . والسقوط هنا من ثلاثة أمور ، أولها : السقوط من العمار إلى الخراب والثاني : من السكن إلى الخلو والثالث : من العز إلى الضعة وقد قلنا غير مرة أن مراده ببابل مدينة القدس . وفي قوله بابل العظمى إشعار بأنها أعظم من بابل الحقيقية لعدة وجوه ، أحدها : كون كل منهما أعظم مدائن المسكونة في وقتها وثانيها : كونها كرسى مملكة ملك المسكونة . وثالثها : لا يعبد فيها ملكها . والمراد بالسقوط قد مضى بيانه. وقد تنبأ أرميا النبي على بابل وفتح ملك ماه لها بما يناسب هذا ، وهو قوله : « سقطت بابل وانتهبت »
قوله : « وصارت مرقدا للشياطين ومسكنا لكل روح نجس ومأوى لكل الطائر النجس والمبغض» ، إن من الشياطين والجان طوائف مأواها القفار والخراب لظهور آثارها فيها ، وعليه شواهد ، أولها : قول الإنجيل المقدس عن سيد الكل : « وحمله روح إلى البرية ليجرب من الشيطان». وثانيها : قوله : «إن الروح النجس إذا خرج من الإنسان يقصد أماكن لا ماء فيها » ، فإن هذا مثل على ظاهره وإن قصد لممثوله غير ذلك ، وإلا لصار المثل هو الممثول ، فتنبه لذلك وثالثها : لجئون، قد ذكر عنه الإنجيل أنه استقر في المجنون الذي كان يسكن المقابر والقفار. ورابعها : أن السواح والمتوحدين في المغائر والجبال والقفار كثيرا ما تظهر لهم أرواح وتجاهدهم . وهذا دليل على أن هذه المدينة مع خرابها لا يكون حولها أيضا معمور. ويتجه أنه يريد بالروح النجس الجان ، ويكونون نوعا غير نوع الشياطين كما قال الفلاسفة في معنى اسم الجن إنه حيوان هوائي ناطق مشف الجرم ، من شأنه أن يتشكل بأشكال مختلفة . وأما الطائر النجس والمبغض فهو جوارح الطير وخسائسها كالحداء والرخم والبوم ، والمبغض وصف لهذه معطوف عليها أي أنها نجسة ، وهي بعينها مبغضة لنجاستها وخستها . ومثل هذا ما قاله الأنبياء كثيرا عن أورشليم وبابل ونينوى وصور وصيدا وغيرها من المدائن التي أنزل بها الغضب والانتقام . فإن أشعياء يقول على بابل : ترقص فيها الشياطين وتعمر بالغيلان . ويقول كذلك في خراب الموصل : وتلقى فيها الشياطين بعضها بعضا هنالك استراحت الغول . وقال فيها أيضا : هنالك اجتمعت الحداء والصداء . والمراد بجميعها أنها تخريب وتندثر وتعود قفارا منقطعة عن السالك وكذلك ما حولها.
قوله : «لأنه من خمر غضب زناها سقطت الأمم جميعها وملوك الأرض الذين زنوا معها » ، أعطى العلة البعيدة في سقوط الأمم ، وهي إقبالهم على فعل الرذائل المشهورة في هذه المدينة ، وسهوهم عن التيقظ للحق والخير كما يسهو الممتلىء خمرا عن الصواب وينهمك في الرذائل غير مفكر في غيرها وكنا قد فسرنا الخمر بأنها رمز على النفس النزوعية الجامعة لقوتي الغضب والشهوة ، وها هو الآن قد بين ذلك هنا وصححه بإضافته الخمر إلى الغضب. ثم أنه أضاف الغضب إلى الزنا ، وقد كان يمكنه أن يقول : خمرة غضبها وزناها وقد زاد هذا المعنى هنا بأنهذا الغضب كان سببا لعبادة غير الله المرموز عليها بالزنا ، فكأنه خصص هذا الغضب بإضافته إلى الزنا . وإذا وجد الخاص وجد العام فقد طابق التأويل المتقدم وصح المقصد . وسقوط الأمم والملوك يريد به هلاكهم دنيا وآخرة بما اجترفوه من رذائلها
قوله : «وتجار الأرض من لهوها استغنوا» ، أي أن المتاجر في كل صنف تكون في ذلك الوقت نافقة فيها لغنى أهلها وتفسحهم وبطرهم فلذلك كثر جلب الأصناف إليها ، فاستغنى تجارها وتمولوا.
رؤ18: 4-7
91- (4) وسمعت صوتا من السماء قائلا اخرجوا یا شعبى منها لئلا تشتركوا في خطاياها ولئلا تشتركوا في قتلها (5) لأن خطاياها بلغت إلى السماء وذكر الله ظلمها.
السماع إدراك عقلي ، وهذا الصوت صوت خطاب من الضرب الأول من الاعتبار الأول كما بينا في تفسير الفص الثامن . والدليل أنه صادر عن الله تعالى ، قوله : يا شعبي ، والمراد بشعبه المؤمنين الأبرار ، والهاء في لفظة منها عائدة على المدينة . وقد أعطى علة خروجهم ، وهي لئلا يشتركوا في قتل أهلها بخطاياهم ، وقد يلزم الخطايا القتل ، فذكر الملزوم وهو خطاياها واللازم وهو القتل ، ونظير هذا قول أرميا النبي : «اهربوا من خوف بابل ولينجو الرجل بنفسه کی لا تبتلوا بخطاياها »، وقال أيضا «اخرجوا من وسطها يا شعبي وليفلت الرجل من رجز الرب».
قوله : «لأن خطاياها بلغت إلى السماء» ، ظاهر هذا القول يدل على أن خطاياها كانت خفية ثم ظهرت بعد ذلك وبلغت إلى السماء ، كما يكون بعض القضايا خفى عن ملك من الملوك ثم يصل إلى علمه . وليس المراد هنا هذا المعنى ، بل المراد كثرتها والتظاهر بها حتى فشت وصارت غير خفية عن أحد بالجملة ، لا سيما عن عالم السرائر[1]. وإنما قال بلغت السماء مبالغة لما تقرر في النفوس من بعد السماء عن الأرض وارتفاعها ، أي ما بلغت إلى ذلك البعد العظيم إلا بعد كثرة عظيمة وظهور بين مستحكم ، فحق عليها الانتقام . ومثل هذا قال أرميا النبي عن بابل : «لأنه قد دنا قضاؤها من السماء وارتفع خطأها حتى السحاب ».
قوله : « وذكر الله ظلمها » ، ليس أنه تعالى كان غير ذاكر لظلمها ثم ذكره ، بل أنه أمهلها مدة تفعل فيها بمحض اختيارها ، ففعلت ، وأشبهت هذه المهلة حال الناسي . فلما انتبهت وأراد مجازاتها عن فعلها ، أشبهت هذه حال الذاكر . فعبر عن ذلك بأنه ذكر ظلمها.
92- (6) أعطها كما جازت به وضاعف لها كمثل أعمالها في كأسها كما ردته مضاعفا منها (7) والمجد الذي كانت فيه أعطه لها ألم قلب وحزن
لفظة أعطها ، وإن كانت بصيغة الأمر ، فإن معناها الدعاء والتضرع ، لأنها سؤال من الأدنى ، وهو الملاك المتقدم ذكره ، إلى الأعلى عز وجل قوله كما جازت به ، أي كما كانت مجازاتها لغيرها بالشرور ، كذلك جازها یا رب.
قوله : « وضاعف لها كمثل أعمالها في كأسها كما ردته مضاعفا منها » ، قد سلف أن الكأس رمز على الانتقام . والمضاعفة معلومة ، لكنها تنافي المماثلة ، فيلزم من هذا أن تكون هي ضاعفت المجازاة لغيرها ، والقصاص منه ، بدليل قوله : «كما ردته مضاعفا منها » ، وكذلك يضاعف الله المجازاة لها والقصاص منها ، وحينئذ تجتمع المضاعفة والمماثلة . وقد كان يتجه أن يقول : وضاعف لها مجازاتها . ولكنه ألغى المجازاة لتقدم ذكرها ولظهور معناها . والهاء في ردته عائدة على الكأس المرمـوز بها على الانتقام والمجازاة . وتقدير القول : : ضاعف لها الجزاء كما ضاعفته هی لغيرها.
قوله : « والمجد الذي كانت فيه أعطه لها ألم قلب وحزن» ، لما سأل الملاك مجازاتها عن ظلمها ، أعقب ذلك بطلب مجازاتها عما كانت فيه . فأما المجد فإشارة إلى استعمال القوة الغضبية في ملاذها كالأنفة والغشم والعسف والرياء والنفاق واغتصاب الأموال وما يجرى مجرى ذلك . وأما اللهو فاستعمال الشهوانية في ملاذها كالأكل والشرب والبذخ والفسق وما يشبه ذلك . فتجازي عن استعمال الغضبية بألم القلب ، وهو الخوف ، لأنه انقباض الروح الحيواني إلى داخل دفعة لتوقع شر وعن استعمال الشهوانية بالحزن ، وهو انقباض الروح الحيواني إلى داخل قليلا أسفا على فائت .
رؤ18: 8-14
93- (بقية عدد 7) بينما هي تقول في قلبها إننى أجلس ملكة ولست أنا أرملة ولا أرى حزنا (8) من أجل هذا فی يوم واحد تأتى ضرباتها موت وحزن وجوع وتحترق بالنار لأن الرب الإله الذي حكم عليها قوى (9) وتبكي وتنوح عليها كل ملوك الأرض الذين زنوا جميعا معها ولهوا وإذا رأوا دخان حريقها (10) يقفون من بعيد من أجل خوف عذابها قائلين الويل لها الويل لها المدينة العظيمة بابل المدينة الإلهية لأنه في ساعة أتى حكمها (11) وتجار الأرض يبكون عليها ويحزنون عليها لأنه ليس أحد يشتري بضائعهم منهم (12) وصنف الذهب وصنف الفضة والحجر الكريم والجوهر والحرير والبرفير والقرمز وكل الأواني العاج وكل الأواني التي من الأخشاب المكرمة وكل الأخشاب الأبنوس والنحاس والحديد والمرمر (13) والعنبر والبخور والطيب واللبان وخمر ودهن وسميذ القمح وبهائم وكباش وخيل وأجساد ونفوس الناس (14) وفاكهة شهوة النفس خرجوا عنك وشحومك جميعها وأدويتك هلكت منك ولم يجدها تجارك .
قوله : « بينما هي تقول في قلبها إنني أجلس ملكة ولست أنا أرملة ولا أرى حزنا » ، الإشارة إلى المدينة وأهلها كأنها تنطق بلسان حالها ، أي في حال أمنها وسكونها ، وظنا أنها تبقى بحالها . يومئذ يدركها الانتقام وقد بينا الوجه في أنها ملكة . وقولها « ولست أنا «أرملة ، المدينة الأرملة التي بغير ملك ، وكونها لا ترى حزنا ، أي لا تحل بها نقمة فتحزن من أجلها.
قوله : «من أجل هذا في يوم واحد تأتى ضرباتها موت وحزن وجوع وتحترق بالنار» ، يريد أن القضاء ينزل بها في ذلك اليوم . وضرباتها ست ذكر منها أربع : جوع وحزن وموت بالسيف ؛ وأما النهب فلما فيها من الأمتعة والخراب لبنائها ، والحريق للمجموع .
قوله : «لأن الرب الإله الذي حكم عليها قوى» ، هذا القول واضح.
قوله : «وتبكي وتنوح عليها كل ملوك الأرض الذين زنوا جميعا معها ولهوا » ، هذا وصف حال الملوك الذين تلوثوا برذائلها . وتعجب : كيف قال الملاك المفسر المرسل سابقا إن الملوك العشرة يبغضونها ؛ بينما قال هنا إن ملوك الأرض ينوحون عليها . والجمع بين القولين إنهم عندما ينهبونها ويخربونها يكونون غاضبين عليها كما قال الأول . وعندما يرون ما يؤول إليه حالها ومن بها ، يرحمونها ويرقون لها وينوحون عليها
قوله : «وإذا رأوا دخان حريقها يقفون من بعيد من أجل خوف عذابها قائلين الويل لها الويل لها المدينة العظيمة بابل المدينة الإلهية لأنه في ساعة أتى حكمها » يريد أن الملوك إذا أحرقوا هذه المدينة تباعدوا عنها من هول حريقها ، لأنها مدينة عظيمة ، فحريقها عظيم اللهب جدا ، وحرارته تنبسط إلى مسافة بعيدة ، فلهذا يقفون من بعيد خوفا أن تمسهم حرارتها . وتكريرهم قول الويل لها الويل لها ترديد الندب والرثاء ووصفها بالعظمة واللهو وذكر اسمها ، لا للتعريف وذكر غير معلوم ، بل هو ندب عليها : وهذه طريقة الندب أن يذكر المندوب باسمه وصفاته ، ويرثى له ويعطى الويل لفرط ما أصابه ، لا سيما من خسر دنياه وآخرته . فنعوذ بعفو الله من العذاب وسوء المنقلب والمآب .
وأما قوله : في ساعة أتى حكمها بينما قال سابقا في يوم واحد تأتى ضرباتها ، فالجمع بين القولين له ثلاثة احتمالات أحدها : أن حكمه إذا أتى فلابد أن يكون في ساعة ما ثم يمتد العقاب إلى نهايته . والثاني : أن يكون قد أراد حكما خاصا هو الحريق . والثالث : أن يكون أراد بقوله في ساعة ، أي بغتة ، وهو الأقرب.
قوله : «وتجار الأرض يبكون عليها ويحزنون عليها» ، لما أنذر بما تفعله الملوك وتقوله ، شرع في الإنباء بأحوال تجار المدينة الجالبين إليها بضائعهم ، لأن بكاءهم وحزنهم لمعان ثلاثة ، أولها : فوات ما يحصلونه من فوائد متاجرهم الرائجة فيها بخلاف غيرها ، وهذا المعنى هو المقصود بالأكثر وسيصرح به . وثانيها : لذهاب ما لعله كان لهم فيها إما من بضاعة مخزونة أو ثمن متأخر عند معامليهم وثالثها : قوله لأنه ليس أحد يشترى بضائعهم منهم قد أعطى العلة القوية في بكائهم وحزنهم كما قلنا . ويلوح من هذا أيضا أن هؤلاء التجار استصحبوا بضائع كثيرة على عادتهم ، ووصلوا إليها فوجدوا هذه حالها ، فوقفوا على بعد يبكون ويحزنون عليها وعلى بوار جلبوه إليها ، لأنه لا يروج في غيرها رواجه فيها.
قوله : « وصنف الذهب وصنف الفضة والحجر الكريم والجوهر» ، مقصوده أن يشير إلى أصناف بضائعهم التي يجلبونها ، فذكر هذه الأربعة.
قوله : « والحرير والبرفير والقرمز» ، وهذه ثلاثة من صنف آخر فيما يجلبونه من الحرير الخام ، سماه باسم نوعه ، والملون سماه بألوانه : فالبرفير يصبغ بدم الحلزون البحرى ، ويختص بملابس الملوك . والقرمز ناصع الحمرة قوله : « وكل الأواني العاج» ، أي كل ما يعمل من هذا العظم مثل أسرة وخلافها ، وهو كثير ، فعبر عنها بالأواني
قوله : « وكل الأواني التي من الأخشاب المكرمة» ، الأخشاب المكرمة كالعود والصندل والعرعر والأبنوس والعناب والساسم والبقش وما يشبه ذلك وكلها منجورة أو مخروطة آلات وآنية .
قوله : « وكل الأخشاب الأبنوس» ، الأبنوس من الأخشاب المكرمة كما تقدم ، وإنما لكونه يجلب خشبا غير مصنوع ، أفرده عن الأخشاب المكرمة .
قوله : « والنحاس والحديد والمرمر» ، يجوز إنه يريد بهذه الأصناف الثلاثة أنها تجلب معمولة وغير معمولة . والمرمر من جنس الرخام ، يوجد في جوف جبال الرخام قطعا كبارا مكونة كالقلوب ، على طريق ما يوجد الزمرد في حجر بأزهر المعدني.
قوله : «والعنبر والبخور والطيب واللبان» ، هذه أربعة أصناف هندية : فالعنبر واللبان معروفان . وأما البخور فعبر به عن أصناف يبخر بها كالعود والظفر واللادن ، وإن كان غير هندى . وأما الطيب فعبر به عن أصنافه كالمسك وقصب الذريرة والسنبل والقرنفل وما يشبه ذلك.
قوله : «وخمر ودهن وسميذ القمح» هذه في الأكثر تجلب من قرى المدينة وأماكن ريفها القريبة منها.
قوله : « وبهائم وكباش وخيل» ، البهائم يريد بها الماعز والبقر والحمير وأما الكباش والخيل فمعروفة
قوله : « وأجساد ونفوس الناس» ، هذا القول يحتمل ثلاثة معان ، أولها : ما يجلب إليها من الرقيق والعبيد والجواري. وثانيها : من يأتيها ويتردد إليها من الناس في متاجرهم وأشغالهم وثالثها : المجموع ، وهو الأولى لعمومه . وأما ذكره الأجساب والنفوس فمما لابد منه احترازا عن أجساد يؤتى بها ميتة.
قوله : « وفاكهة شهوة النفس خرجوا عنك» ، أما الفاكهة فتقسم إلى ثلاثة أقسام ، قسم يشم ولا يؤكل : كالريحان والأس وثمر الحناء والياسمين والبهار والسوسن وغير ذلك . وقسم يؤكل ولا يشم : كالرطب والرمان والعنب والتين والقراصيا وأمثال ذلك . وقسم يشم ويؤكل معا : كالتفاح والأجاص والسفرجل والخوخ . وأما قوله خرجوا عنك فليست الإشارة بذلك إلى الفاكهة فقط ، بل إليها وإلى سائر الأصناف المتقدم ذكرها أي لا يعود يجلب إليها شيء منها.
قوله : « وشحومك جميعها وأدويتك هلكت منك» ، أما الشحوم فيبخر بها للأوثان . وأما الأدوية فهي التي يعالج بها السحر ويبخر بها ويقرب كالعود واللبان والمر والميعة والصندروس والاصطرك والقنة وما يجرى هذا المجرى
قوله : « ولم يجدها تجارك» ، إن كان هؤلاء التجار هم المتقدم ذكرهم ، فكيف لم يجدوها وهم الذين يجلبونها ؟ ليس كذلك . بل هؤلاء التجار هم الذين يجلبون إلى أماكن أخرى هذه الأصناف وغيرها كما سيرد ، فيصح على هذا التقدير أنهم بعد هلاكها وانقطاع الجالبين إليها لا يجدون الأصناف المذكورة .
رؤ18: 15-19
94- (15) لأن هؤلاء هم الذين استغنوا إلى الغاية منك يقفون من بعيد من أجل خوف عذابها يبكون ويحزنون وينوحون (16) قائلين الويل لها الويل لها المدينة العظيمة اللابسة الحرير والبرفير والقرمز وحلى الذهب والحجر الكثير الثمن والجوهر (17) لأنها في ساعة واحدة خربت هذه العظيمة الغنى وكل رؤساء البحر يقفون من بعيد (18) ويصرخون إذ ينظرون إلى دخان حريقها ويقولون من يشبه هذه المدينة العظيمة (19) ويحملون التراب على رؤوسهم ويصرخون باكين حزانی قائلين الويل للمدينة العظيمة التي استغنى منها جميع الذين يخرجون سفنا في البحر واستغنوا من نفائسها لأنها في ساعة واحدة خربت
وصف هؤلاء التجار بما وصف أولئك الأولين من استغنائهم من متاجر هذه المدينة ، وإلا لكان القول مكررا لغير فائدة.
قوله : « يقفون من بعيد من أجل خوف عذابها » ، وقوف هؤلاء أيضا من بعيد كالملوك خوفا من أن يقعوا في العذاب الحال بأهل المدينة
قوله : « يبكون ويحزنون وينوحون قائلين الويل لها الويل لها المدينة العظيمة» ، قد مضى تفسير مثل هذا فيما تقوله الملوك
قوله : «اللابسة الحرير والبرفير والقرمز» ، أولا وصفها بأنها اللاهية بقول مجمل ، وهنا ذكر من لهوها أشياء من جملتها الملابس الملوكية كالبرفير والثياب الفاخرة كالحرير والقرمز
قوله : « وحلى الذهب والحجر الكثير الثمن والجوهر» ، أي أن ملوكها ونساءها يتزينون بالذهب المفصص بالياقوت والزمرد والزبرجد والنجادی و غیر ذلك من الأحجار المثمنة والمرصعة بالجواهر النفيسة.
قوله : «لأنها في ساعة واحدة خربت هذه العظيمة الغنى» علة إعطائها الويل المتقدم هي ما ذكره هنا من أنها خربت مع كثرة غناها الذي يصعب فناؤه سريعا
قوله : « وكل رؤساء البحر يقفون من بعيد ويصرخون إذ ينظرون إلى دخان حريقها ويقولون من يشبه هذه المدينة العظيمة» ، هؤلاء هم أرباب السفن الذين يحملون إليها الناس والبضائع في سفنهم ، ويترددون في معائشهم وأشغالهم ، وإذ أدركوها بعد محترقة ، وقفوا وصرخوا متأسفين قائلين : من يشبه هذه المدينة العظيمة .
قوله : « ويحملون التراب على رؤوسهم ويصرخون باكين حزاني قائلين » هذا لفرط تلهفهم وإشفاقهم عليها وعلى أهلها فإنهم يحثون(يضعون) التراب على رؤوسهم ويصرخون ويبكون.
قوله : «الويل للمدينة العظيمة التي استغنى منها جميع الذين يخرجون سفنا في البحر واستغنوا من نفائسها » ، الذين يخرجون سفنا في البحر هم رؤساء السفم ومصرفوها ومدبروها ، واستغناؤهم من طريقتين ، إحداهما : كثرة من يستأجرهم من المترددين إليها في السفن المذكورة والأخرى : ترددهم بما لعلهم يجلبونه من بضائع تختص بهم ، فنفائس هذه المدينة سبب لورود الخلق والبضائع إليها . والوارد إليها سبب لاستغناء أرباب السفن ، فنفائسها سبب لاستغناء أرباب السفن كما ذكر.
قوله : «لأنها في ساعة واحدة خربت » ، قد مضى تفسير مثل هذا في تفسير الفص السالف
95- (20) فلك الفرح أيتها السماء بها وجميع القديسون والرسل والأنبياء لأن الرب صنع حكمهم بها .
فرح السماء فيه وجهان ، الأول : أن يكون قد أراد به المبالغة المجازية كما أشهد موسى السماء والأرض على شعب إسرائيل ، فقال : «أشهد عليكم اليوم السماء والأرض» والآخر : أن يكون أراد به أهلها فحذف المضاف ، ويصبح تقدير القول : فلكم الفرح يا أهل السماء وسبب هذا الفرح زوال ما حل بأهل الأرض من فتنة الدجال ، وزوال حزن أهل السماء عليهم لرحمتهم لهم.
قوله : « وجميع القديسون والرسل والأنبياء» ، في هذا القول مسألتان أولاهما : كيف قدم القديسين على الرسل والأنبياء ؟ والجواب : إن الرسل والأنبياء اء من جملة القديسين بلا شك ، وإنما ذكرهم معهم للتخصيص ، وبدأ بالقديسين لتقديم العام على الخاص والثانية : كيف يفرح القديسون بهلاك أحد وسقطته ، وطريقهم خلاف ذلك ؟ لا يجوز أن يقال إن الرؤيا لم تذكر أنهم فرحوا ، بل قال الملاك لكم الفرح ، لأننا نقول إن قول الملاك لكم الفرح في قوة قوله افرحوا ، ولا يجوز أن يأمرهم بما لا يجوز شرعا إلا لعلة كما سلف بیانه . بل الجواب أن فرحهم ليس لنفس سقوط المدينة أو سقوط أهلها وهلاكهم ، بل إن الله تعالى التفت إلى قديسيه واهتم بهم وذكر مظلمتهم ففرحهم إنما هو بنظر الإله سبحانه إليهم على الخصوص ، تعلق ذلك بالانتقام هذه المدينة أو لم يتعلق به ؛ وقد أعطى هذه العلة عينها صريحا فقال : «لأن الرب صنع حكمهم بها ».
رؤ18: 21-24
96- (21) وملاك شديد صرخ بصوت وحمل حجر طاحون عظيم وطرحه في البحر قائلا هكذا سقوطا تسقط بابل أسفل البحيرة العظمى والمدينة العظيمة لا توجد بعد (22) ولا صوت مغن بنور وبوق لن يسمع فيك بعد وكل الصناع لن يوجدون فيك بعد وصوت رحى لن يسمع فيك بعد (23) ولا ضوء سراج يضىء فيك بعد ولا صوت عريس وعروس يسمعه تجارك وملوك الأرض فيك بعد لأن بأدويتك ضل الأمم جميعا (24) ووجد دم الأنبياء والقديسين فيها وكل الذين قتلوا على الأرض.
يظهر أن هذا الملاك من ظغمة القوات لكونه شديدا كما قال . والصوت مدرك عقلي ، وشدة الصوت رمز على قوة الأمر ونفاذه.
قوله : « وحمل حجر طاحون عظيم وطرحه في البحر قائلا هكذا سقوطا تسقط بابل أسفل البحيرة العظمي» ، لم يقل إنه حمل صخرة ولا حجرا كيف اتفق ، بل حجر طاحون ، فلابد لهذا التخصيص الإضافي من مزية . وذاك أن الصخرة حجر غشيم ، وحجر الطاحون منظم بالآلات والصناعة ، ففيه الاستدارة والتسطيح وحلقه مشرف أجوف . فلذلك حسن أن يجعله مثلا للمدينة ، لأنها مستديرة مسطحة وبناؤها مرتفع وشوارعها وما بين جدرانها أجوف . ولأن سقوط المستدير أسرع لتناسب أجزائه في الجهات ، لا سيما إن كان عظيما كما قال ، فلذلك مثل سقوطه بسقوطها . وأما طرحه في البحر فإنه غير سقوطه ، لأن سقوطه مثل لخراب المدينة . وأما طرحه في البحر فمثل لإلقاء أهلها في البحيرة العظمى المملوءة نارا وكبريتا التي يعاقب فيها الخطاة بعد هلاكهم . فلذلك قال الملاك هكذا سقوطا تسقط بابل أسفل البحيرة العظمى ؛ لفظة هكذا للتشبيه ، وأراد بالمصدر مه فعله للتأكيد.
قوله : « والمدينة العظيمة لا توجد بعد» ، هذا إخبار موجه نحو الندب مع التقريع . ثم أخذ يعدد ما عدم منها وهلك فيها ، وقسم أهلها خمسة أقسام : ملهيين ، وأرباب صناعات ، وأرباب أعمال ، وتجار ، وملوك .
قوله : «ولا صوت مغن بنور وبوق لن يسمع فيك بعد» ، هذا هو القسم الأول ، والباء في لفظة بنور للمصاحبة ، وإنما يكون هذا في جلوة العروس في الأفراح والولائم ، والإشارة بذلك إلى أن هذا جميعه يذهب بخراب المدينة وهلاك أهلها
قوله : « وكل الصناع لن يوجدون فيك بعد » ، هذا على ظاهره ، وهو القسم الثاني . فمن الصناع سكان الحوانيت كالصائغ والحداد والنحاس والنجار والخياط ، ومنهم سكان الدور كالحائك والقزاز والبناء ومن يجرى مجراهم.
قوله : « وصوت رحى لن يسمع فيك بعد »، هذا هو القسم الثالث والرحى قد تكون رحى اليد ، والعمل بها من أعمال النساء في الأكثر ؛ وقد تكون رحى الطاحون الدائرة بالدواب أو بالماء أو بالهواء ، وهذا من أعمال الرجال في الأكثر
قوله : «ولا ضوء سراج يضىء فيك بعد » لما ذكر الصناع والأعمال جمع القول ، فقال : ولا ضوء سراج يضىء فيك بعد ، والإشارة بذلك إلى الدثور بحيث لا يلوح فيها ساكن ولا نافخ نار كما يقال ، والنور الأول الذي ذكره غير هذا ، فإن هذا عام وذاك يختص بالأعراس والتهاني لمصاحبة الأغاني.
قوله : «ولا صوت عريس وعروس يسمعه تجارك وملوك الأرض فيك هذا مختص بالملوك والتجار ، وهما القسمين الرابع والخامس ، لأن هاتين الطائفتين قد تقدم أنهما وقفا على بُعد ينظران حريق المدينة وخرابها فلهذا خاطب المدينة كالنادب قائلا : لا تسمع هاتان الطائفتان فيك صوت فرح بعد »
قوله : «لأن بأدويتك ضل الأمم جميعا » ، قد أعطى هذا الملاك أيضا العلة في هلاك هذه المدينة ومن بها ، وهي انعكاف أهلها على عبادة الأوثان واستعباد سائر الأمم لها مع السحر وبقية الضلالات والأدوية يريد بها العقاقير التي تقرب ويبخر بها للأوثان ويعالج بها السحر ، وقد تقدم بيان ذلك.
قوله : « ووجد دم الأنبياء والقديسين فيها وكل الذين قتلوا على الأرض» ، يجب أن نقدر هذا القول أولا ثم نبحثه ، فنقول إن العطف فيه يحتمل وجهين أحدهما : إنه عطف لفظتى القديسين وكل على لفظة دم ، فيكون التقدير : ووجد دم الأنبياء ودم القديسين فيها ودم كل الذين قتلوا على الأرض والثاني : إنه عطف اللفظتين المذكورتين على لفظة الأنبياء ، فيكون التقدير : ووجد دم الأنبياء والقديسين فيها وكل الذين قتلوا على الأرض . والتقدير الأول أولى لقربه من مقصد القول ومناسبته ما سوف يتبين من التفسير وله ظاهر وتأويل وإطلاق وتقييد فإن كان المراد به الظاهر المطلق ، وهو أن دماء هذه الطوائف وجدت فيها ، فدم الأنبياء الأمر فيه كذلك كما بيناه . وأما دم الطائفتين الأخريين فمشكل بأن أكثرهم قتلوا في سائر الأقطار من الأشرار والفجار من القبط واليونان والروم والسريان والفرنج والأرمن وغيرهم من أهل المسكونة . وكيف انتقلت دماء هؤلاء جميعا إلى مدينة القدس ورتبت ذنوبهم على أهلها ، إذ جعل ذلك علة لخرابها وهلاكها ، مع أن ذوي هذه الدماء قتلوا في أماكن غيرها بيد قوم غير أهلها ، وفي أزمنة غير أزمنتهم ؟ فهذا هو الإشكال على الظاهر المطلق ؛ فلم يبق إلا التأويل والتقييد المخصص . فلنمعن النظر في ذلك ، ونتبصر حقيقة المسكن ، ونلخص سره الغامض لنكشفه ، فنقول : إن في هذا القول وجهين أحدهما : التخصيص ، وهو أن اللفظ عام وأريد به الخصوص ، وعند ذلك تصيرالألف واللام التي في القديسين ليست تخص العموم بل التعريف ؛ كما نقول لطائفة الناس . : قام الناس ، وقعد الناس ، وأكل الناس ، وهم في الحقيقة بعض الناس . وتصير الأرض أيضا أرضا مخصوصة ، وهي أرض القدس ، فيعود تقدير القول : ووجد دم الأنبياء والقديسين الذين بها فيها.
وكل الذين قتلوا على أرضها . والوجه الآخر : التأويل المعتمد عليه، وهو أن الذي تقدمته جماعة أخطأوا خطايا مستفحلة وعوقبوا عليها أشد العقاب ، وتوعدوا بأعظم منه ، ثم ارتكب هو تلك الخطايا بالنوع ، فحقيق بأن يعاقب بأضعاف عقوبة جميع من سبقه ، لأنه لم يتعظ بكل من سلف ، ولم يتأدب بهم ، ولم يرتدع بما نالهم ، ولكنه تواقح وتجاسر على علم وبصيرة كذلك الحال في أهل هذه المدينة ، فإنهم فعلوا خطايا كل من سبقهم ، فيلزمهم ما لزم أولئك . بل يضاعف عذابهم لما ذكرناه.
وإذ بان هذا ، فالمراد هنا بالمدينة أهلها ، وبوجود دم الطوائف الثلاث فيها [الأنبياء والقديسين وكل الذين قتلوا على الأرض) وجود لازمه ، وهو الذنب الذي يترتب عليه الحكم بهلاك أهل المدينة ، ولم يرد أن ذنوب أولئك القتلة المتقدمين تلزم أهل هذه المدينة ، بل أن ذنوب أهلها هي تلك بالنوع وموازنة لها في المقدار.
أما قتلهم الأنبياء فأخنوخ وإيليا . وأما قتلهم القديسين وبقية الأبرار فظاهر ، ومراده بقوله : وكل الذين قتلوا على الأرض هو من الأبرار خاصة ، لأن كلامه فيهم ، ودماؤهم هي التي تطلب ، ونظير هذا قول الإنجيل مخاطبا للكتبة ، ومراده جماعة اليهود : «من أجل هذا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة فتقتلون منهم وتصلبون وتجلدونهم في مجامعكم وتطردونهم من مدينة إلى مدينة لكي يأتى عليكم كل دماء الصديقين التي سفكت على الأرض من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح ، الحق أقول لكم أن هذا كله يأتي على هذا الجيل » فمقصد هذا الفص وكقصد الرؤيا لا يختلفان ، فإن هؤلاء أيضا يلزمهم الدماء السالفة بأشخاصها ، بل بنوعها ، لكونهم فعلوا ذلك ولم يرتدعوا ويتعظوا بمن مضى.
- حاشية أصلية : هذا القول ، وإن كان متسقا على ما تقدمه ، فإنه ليس بصادر عن الصوت المسموع من السماء ، بدليل قوله : «وذكر الله ظلمها » ، ولو كان عن الصوت لقال : وقد ذكرت ظلمها . والداعي غير المدعو إليه ، فقد بان . وإنما صدر القول عن هذا الملاك الذي ذكر الرسول في الفص التسعين أنه نظر إليه وقد نزل من السماء ومعه سلطان عظيم ، وأنذر بسقوط بابل . فاعلم ذلك
تفسير سفر الرؤيا – 17 | سفر الرؤيا – 18 | تفسير سفر الرؤيا | تفسير العهد الجديد | تفسير سفر الرؤيا – 19 |
ابن كاتب قيصر | ||||
تفاسير سفر الرؤيا – 18 | تفاسير سفر الرؤيا | تفاسير العهد الجديد |