تفسير رسالة رومية اصحاح 10 للقديس يوحنا ذهبي الفم

تفسير رسالة رومية – الإصحاح العاشر

العظة الثامنة عشر: رو10: 1-13

” أيها الإخوة إن مسرة قلبي وطلبتي إلى الله لأجل إسرائيل هي للخلاص” (رو1:10).

1 ـ مرة أخرى ينشغل الرسول بولس بهؤلاء اليهود بشكل أقوى من ذي قبل. ولهذا نجده يزيل الشكوك التي توحي بوجود بغضة أو نفور، ويمهد كثيرا لما يريد قوله لكي يتفادى سوء ظن المتلقي لرسالته. هكذا يقول لهم ، ينبغي ألا تتخوفوا من كلامي ولا من شكواي، بل إن ما أقوله ليس نابعا من شعور عدائي. لأنه لا يمكن لشخص واحد ، أن تكون لديه رغبة في خلاص هؤلاء اليهود، بل ويصلي من أجل هذا الخلاص، ثم في نفس الوقت يبغضهم وينفر منهم. بالإضافة إلى أن مسرته هنا كما يقول، هي رغبته الشديدة ، والطلبة التي يرفعها إلى الله من أجل خلاص إسرائيل. ليس فقط من أجل أن ينجوا من الجحيم، بل لأجل خلاص هؤلاء، وهو مهتم بذلك ويصلي كثيرا لأجله. وهو يظهر محبة تجاه هؤلاء اليهود، ليس فقط في هذا الجزء، بل وي الآيات التي تلي ذلك أيضا. لأنه من خلال الأمور ذاتها ، قد جاهد وناضل على قدر ما يستطيع، أن يجد لهم منفذا ولو بقدر بسيط ليدافع عنهم. لكنه لم يستطع، لأن طبيعة الأمور قد أعجزته عن فعل هذا.

” لأني أشهد لهم أن لهم غيرة لله ولكن ليس حسب المعرفة ” (رو2:10).

بالطبع هذه الأمور تستحق المغفرة، وليس الإدانة. إذا فإن كانوا متميزين لا من الناحية الإنسانية، بل من جهة الغيرة لله، فمن العدل أن يرحموا ، بدلاً من أن يدانوا.

لكن لاحظ كيف أنه بحكمة قد صنع لهم خدمة بكلمته، وأظهر شجارهم غير الملائم. لأنه يقول:

” لأنهم إذ كانوا يجهلون بر الله ” (رو3:10).

أيضا هذا الكلام يظهر غفرانا، لكن الكلام اللاحق يظهر إدانة شديدة جدا، وينقض أي مبرر من الممكن أن يقال. ” ويطلبون أن يثبتوا بر أنفسهم، (لذلك) لم يخضعوا لبر الله “. وقد قال هذا الكلام لكي يبين أنهم إنخدعوا بالأكثر بتأثير الرغبة في النزاع، وفي السلطة، وكذلك الجهل الشديد، إذ أنهم لم يثبتوا ولا حتى في هذا البر، الذي يأتي من تنفيذ وصايا الناموس. لأنه بقوله: “ويطلبون أن يثبتوا” يظهر ذلك بالتحديد. وهذا ما لم يشر إليه بوضوح، لأنه لم يقل إنهم فقدوا كل بر، لكنه ألمح إلى هذا برؤية كاشفة أو بنظرة ثاقبة، وبحكمة لائقة به. لأنهم إن كانوا يطلبون أن يثبتوا بر أنفسهم، فمن الواضح جدا أنهم لن ينجحوا في ذلك، إن لم يخضعوا لبر الله الذي فقدوه. وقد أطلق الرسول بولس على هذا البر الذي يريدون تثبيته، بر أنفسهم، إما لأن الناموس لم يعد صالحاً، أو لأنهم اعتمدوا على جهدهم وأتعابهم، بينما دعى البر الذي يأتي بالإيمان، بر الله، لأنه يعتمد على نعمة الله بالكامل، ولا يمكن نواله بالجهد، بل بعطية الله. أما أولئك الذين يقاومون الروح القدس بصفة دائمة، ويجاهدون لأجل التبرير بالناموس، فلن ينالوا الإيمان. ولأنهم لم يقبلوا الإيمان، فإنهم لم يحصلوا على البر الذي بالإيمان، ولأنهم أيضا لم يستطيعوا أن يتبرروا بالناموس، يكونوا قد فقدوا البر من كل جهة.

۲ـ ” لأن غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن ” (رو4:10).

هل رأيت كم هي عظيمة رؤية الرسول بولس؟ ليتك تلحظ ما فعل، فإنه تكلم عن البر الذي بالناموس، والبر الذي بالإيمان، حتى لا يعتقد أولئك الذين آمنوا من اليهود، أنهم امتلكوا برا وفقدوا الآخر، وأنهم أدينوا بالمخالفة (إذ أنه ما كان ينبغي لهم أن يتهاونوا ، طالما أنهم كانوا معمدين حديثا، ولا أيضا اليهود الذين لم يؤمنوا لهم رجاء في تحقيق هذا البر، وليس بإمكانهم أن يقولوا أننا سنحققه فيما بعد، حتى إن كنا لم نحققه الآن، لاحظ ماذا يفعل، يوضح أن البر واحد (وليس اثنين)، وأن بر الناموس، قد إنضم للبر الذي بالإيمان، ومن أعطى الأولوية لبر الإيمان يكون قد تمم البر الذي بالناموس أيضا، أما الذي احتقر بر الإيمان، فقد صار فاقدا لبر الناموس مع فقدانه لبر الإيمان. لأنه إن كان المسيح هو كمال الناموس، فمن لا يقبل المسيح، لن يكون له في الواقع بر الناموس، حتى وإن كان يعتقد أنه يتمتع به، بينما من له المسيح، يكون قد حصل على كل شيء، حتى وإن كان لم يحقق بر الناموس.

هكذا أيضا فإن هدف العلاج هو استعادة الصحة الجيدة. تماما مثل ذاك الذي يستطيع أن يعالج آخر ويجعله في صحة جيدة، وإن كان ليس لديه بعد ترخيص لممارسة الطب، فإنه يملك كل شيء يقود للعلاج، بينما من لا يعرف أن يعالج، حتى إن كان يمارس العمل الطبي، يكون قد فقد كل شيء يقود للعلاج. هكذا فيما يتعلق بالناموس والإيمان، فإن من يوجد خارج حظيرة الإيمان، يعتبر غريبا عن الناموس وعن الإيمان. إذا ما هو الأمر الذي كان يريده الناموس؟ كان يريد أن يبرر الإنسان، لكنه لم ينجح، لأنه لا يوجد أحد قد تمم الناموس. لأن ما كان يصبو إليه الناموس هو تبرير الإنسان، وكانت جميع الممارسات تدور حول تحقيق ذلك الهدف ـ أي تبرير الإنسان ـ مثل الاحتفالات، والوصايا، والذبائح، وكل الأمور الباقية، لكن هذا التبرير قد حققه المسيح بأعلى درجاته، بالإيمان. إذا لا تخاف من الناموس، لأنك أتيت إلى الإيمان، إذ كنت تخاف الناموس أنذاك، حين كنت بسبب هذا الناموس، لا تؤمن بالمسيح . فإن كنت قد آمنت بالمسيح، وتممت الناموس، وأكثر جدا مما يأمر به، فهذا لأنك أخذت برا أكبر بكثير من بر الناموس.

3 . ولأن هذا كله كان أمرا محسوما، فإنه يؤكد عليه بعد ذلك خلال الكتب. إذ يقول:

” لأن موسى يكتب في البر الذي بالناموس ” (رو5:10).

ما يقوله يعني الآتي: إن موسى يبين لنا ما هو البر الذي بالناموس، وما منطقه، ومما يتكون أو يتشكل؟ إنه يقوم على أساس تتميم الوصايا. يقول ” إن الإنسان الذي يفعلها سيحيا بها “. إذ أنه من غير الممكن أن يصير المرء بارا بالناموس، إلا فقط من خلال تتميم كل الوصايا ، بيد أن هذا لم يكن ممكنا لأي أحد، وبناء على ذلك، فقد فشل هذا البر ، ولكن أخبرني يا بولس عن هذا البر الذي يأتي من النعمة، وما الأساس الذي يقوم عليه؟ اسمع الرسول بولس الذي يصف هذا البر بوضوح. إذا لأنه أدان البر الذي يأتي بالناموس، نجده يذهب فيما بعد إلى بر الإيمان، قائلاً:

” وأما البر الذي بالإيمان فيقول هكذا لا تقل في قلبك من يصعد إلى السماء أي ليحدر المسيح. أو من يهبط إلى الهاوية أى ليصعد المسيح من الأموات. لكن ماذا يقول. الكلمة قريبة منك في فمك وفي قلبك أى كلمة الإيمان التي نكرز بها لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله أقامة من الأموات خلصت لأن القلب يؤمن به للبرر والفم يعترف به للخلاص” (رو6:10-10).

إذن لكي لا يقول اليهود ، كيف لهؤلاء الذين لم يجدوا البر الأصغر أن يحصلوا على البر الأكبر، فإنه يذكر الرؤية العكسية، إن طريق البر بالإيمان يعتبر أسهل من الطريق الآخر (أي طريق البر بالناموس). لأن طريق البر بالناموس يتطلب تتميم كل الوصايا ، وحين ثتممها كلها، ستحيا. لكن البر الذي بالإيمان لا يتطلب هذا، فماذا يطلب؟ ” إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت “. عليك أن تنتبه كيف يكثر الرسول بولس من الحديث عن بر الإيمان بعد ذلك، لكي لا يظهر أيضا أنه يجعله بلا قيمة، إذ يظهره سهلاً وبسيطا، لأنه لم يأت مباشرة إلى ما قلناه، فماذا قال؟ ” وأما من جهة البر الذي بالإيمان فيقول . ” لا تقل في قلبك من يصعد إلى السماء أي ليحدر المسيح. أو من يهبط إلى الهاوية أى ليصعد المسيح من الأموات “. لأنه كما في حالة الفضيلة التي تستعلن بالأعمال، فإن الإيمان يقاوم الخمول، وتراخي القدرات، ويحث النفس على أن تكون متيقظة جدا، حتى لا تتقهقر، هكذا أيضا عندما نؤمن كما ينبغي، نجد أن هناك أفكارا تثير حالة من الخلط والشكوك، وتؤذي أذهان الكثيرين، وتحتاج إلى نفس قوية، تتصدى لها.

ولهذا تحديدا يذكر هذه الأفكار، وما سبق أن ذكره في حالة إبراهيم، هذا يذكره هنا أيضا، فهو يسمو بحقيقة الإيمان، بعدما أظهر كيف أن إبراهيم تبرر بالإيمان، حتى لا يظهر أنه قد أخذ إكليلا عظيما بهذا القدر باطلاً، كما لو كان هذا الأمر لا قيمة له، فيقول: “فهو على خلاف الرجاء آمن على الرجاء لكي يصير أبا لأمم كثيرة كما قيل هكذا يكون نسلك. وإذ لم يكن ضعيفا في الإيمان لم يعتبر جسده وهو قد صار مماثا إذ كان ابن نحو مائة سنة ولا مماتية مستودع سارة. ولا بعدم إيمان إرتاب في وعد الله. بل تقوى بالإيمان معطيا مجدا لله وتيقن أن ما وعد به هو قادر أن يفعله أيضا “344. وأظهر أن الأمر يحتاج إلى قوة وإلى نفس سامية حتى تستقبل تلك العطايا التي تتجاوز مجرد الرجاء، وألا تتعثر بسبب ما تراه. وهذا هو ما يفعله هنا أيضا، حيث يظهر أن الأمر يحتاج إلى فكر حكيم، وإرادة عظيمة تسمو حتى إلى السماء، وهو لم يقل فقط، لا تقل، بل ” لا تقل في قلبك ” أي ولا حتى أن تفكر بالشك وتقول في نفسك، كيف يكون هذا ممكنًا؟

أرأيت كيف أن ملمح الإيمان يتضح في أن نطلب الحياة الأبدية، بعدما نترك كل تطور طبيعي للأمور، وبعدما نرفض الأفكار المريضة، ونؤمن أن كل الأشياء تأتي بقوة الله؟ وإن كان من المؤكد أن اليهود لم يقولوا هذا فقط، بل أضافوا إنه من غير الممكن أن يتبرروا بالإيمان. أما الرسول بولس فيقود من اتخذ اتجاها آخر، إلى الطريق الصحيح حتى يبرهن على أن البرهو عظيم بهذا القدر، وحين يتحقق فإنه يحتاج إلى الإيمان، وحينئذ يتضح كيف أنه أمر عادل وحق أن ينسج إكليلاً لهؤلاء الذين يتبررون بالإيمان، ويستشهد بما جاء في العهد القديم، مع توخي الحذر دائما في توجيه الإتهامات أو الإدانات، والصدام مع البر الذي بالناموس . ولهذا فإن ما يقوله هنا عن الإيمان، يقوله لهؤلاء من حيث وصية موسى، لكي يظهر أنهم تمتعوا بإحسانات كثيرة من الله. لأنه من غير الممكن أن يقول إنه يجب أن يصعد إلى السماء وأن يعبر بحرا كبيرا، حتى يأخذ الوصايا ، بل إن الأشياء العظيمة والهائلة قد جعلها الله سهلة بالنسبة لنا.

لكن ما معنى “الكلمة قريبة منك”؟ تعني أنها سهلة، لأن الخلاص يوجد في فكرك، وفي فمك، دون أن نسافر مسافات طويلة، ولا أن نبحر كثيرا ، ولا أن نتسلق جبالاً، هكذا يجب أن تخلص. لكن إن كنت لا تريد أن تسير حتى في هذا الطريق، فمن الممكن أن تخلص وأنت ماكث في بيتك، لأن بداية خلاصك هي في فمك وفي قلبك . بعد ذلك جعل كلامه عن الإيمان سهلاً، بقوله إن ” الله أقامه من الأموات “. فكر إذا في مكانة وقيمة ذاك الذي أقامه، ولن تر أي صعوبة في ذلك، وبناء عليه، حيث إنه هو الرب، فمكانته تتضح من القيامة، الأمر الذي ذكره في بداية الرسالة: ” وتعين ابن الله .. بالقيامة من الأموات ، ومن حيث أن القيامة سهلة التحقيق، فهذا ما تبرهن من خلال قوة ذاك الذي جعلها تتحقق أيضا ، أناس كان من الصعب جدا أن يؤمنوا. إذا عندما يكون البر عظيما ويسيرا، وسهل القبول، وعندما يكون من غير الممكن أن نتبرر إلا بهذه الطريقة، ألا يعتبر سعيهم لتحقيق المستحيلات نموذجا لأسوأ أنواع الجهاد؟ فهم قد تركوا الأمور السهلة والهينة، ولذلك لن يستطيعوا أن يقولوا إنهم قد تركوا التفكيري بر الإيمان بسبب أنه كان ثقيلا.

أرأيت كيف أنه ينزع عنهم كل صفح أو مسامحة؟ فأي دفاع يمكن أن يقدموه، بعدما فضلوا ما هو ثقيل وصعب التحقيق، واستهانوا بما هو سهل، كما احتقروا أيضا من استطاع أن يصنع لهم الخلاص، وأعطاهم ما لم يستطع الناموس أن يعطيه؟ إن هذا كله لا يتعدى كونه دليلا على رغبة في النزاع أو الجدال ومقاومة الله. خاصة وأن الناموس ثقيل ومرهق، بينما النعمة سهلة. ولا يقدر الناموس أن يخلص حتى وإن حاولوا تنفيذ وصاياه بإجتهاد كبير، بينما النعمة تمنح البر الذي لها، وبر الناموس أيضا. أي كلام إذا يمكن أن يخلصهم، حين يتصرفون برغبة عدائية تجاه النعمة، بينما هم يتطلعون إلى الناموس، لكن بلا هدف، ويتجهون نحو الأمور التي لا فائدة من ورائها؟

4 . ولأنه قال شيئا عظيما، فهو يؤكد عليه بعد ذلك أيضا من الكتب المقدسة، إذ يقول:

“لأن الكتاب يقول كل من يؤمن به لا يخزى. لأنه لا فرق بين اليهودى واليوناني لأن ربا واحدا للجميع غنيا لجميع الذين يدعون به لأن كل من يدعو باسم الرب يخلص” (رو11:10-13).

أرأيت كيف أنه يقدم شهوداً للإيمان، وللإعتراف أيضا (باسم الرب)؟ لأنه حين يقول ” كل من يؤمن”، يشير إلى الإيمان، وحين يقول “كل من يدعو”، يظهر الاعتراف باسم الرب، ثم يكرز أيضا بعد ذلك بالنعمة التي هي للجميع، ويكبح إفتخار أولئك اليهود بتلك الأمور التي أظهرها سابقا من خلال أشياء كثيرة، هذه الأشياء ذاتها يذكرها في إيجاز، لكي يبين مرة أخرى، أنه لا يوجد أي فرق بين اليهودي وغير المختتن. ” لأنه لا فرق بين اليهودي واليوناني “.

فيما يتعلق بكلامه عن الآب، وإثبات أن أبوته للجميع، هذا يقوله أيضا عن الابن. لأن هذا ما حدث سابقا، إذ بين ذلك قائلاً: “أم الله لليهود فقط. أليس للأمم أيضا. بلى للأمم أيضا، لأن الله واحد “. هكذا هنا أيضا يقول: “لأن ربا واحدا للجميع غنيا لجميع الذين يدعون باسمه”. أرأيت أنه يظهر أن الابن يرغب بشدة في خلاصنا، طالما أن الرسول بولس يعتبر أن هذا الخلاص هو من فيض غناه؟ وبناء على ذلك، ينبغي على هؤلاء اليهود الآن، ألا ييأسوا، وألا يعتقدوا بالطبع أنهم غير مستحقين للغفران، إن كانوا يرغبون حقاً في التوبة، لأن الابن الذي يعتبر أن غناه يتمثل في كونه يخلصنا ، لن يتوقف عن أن يكون غنيا، وهو يظهر غناه أيضا عندما يرسل العطية للجميع بوفرة. ولأن ما يغضبه بشكل خاص هو أن الأولوية في الاختيار كانت لهم، وكانوا يتفوقون على كل المسكونة، إلا أنهم نزلوا من هذه العروش، لأن الإيمان الآن هو بالمسيح (وليس بالناموس)، ولا يوجد الآن ما يميزهم على غيرهم، لذا فالرسول بولس يقدم لهم دائما ما قاله الأنبياء وكرروه عن هذه المساواة ” كل من آمن به لا يخزى.” ويكون أن كل من يدعو باسم الرب ينجو. وفي كل موضع يشير إلى عبارة “كل من”، لكي لا يعترضوا.

5. لا يوجد شيء أكثر سوءاً من الزهو أو الكبرياء، لأن هذا الكبرياء قد أهلكهم أكثر من أي شيء،. ولهذا قال لهم المسيح له المجد ” كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجدا بعضكم من بعض. والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه . هذا الكبرياء والذي يحمل معه الهلاك، يستحق أيضا كثيرا من السخرية، حتى قبل الدينونة الأخيرة، وفي طياته الكثير من الشرور في هذه الحياة الحاضرة، وإن شئت، فلابد أن تفهم هذا جيدا، وخاصة بعدما تركنا أولاً الفردوس الذي طردنا منه بسبب هذا الكبرياء، ليتنا ننتبه إلى كل هذا. فهل هناك ما يكبدنا خسائر أكثر من هذا الكبرياء؟ وماذا يمكن أن يوجد أكثر قبحا وأكثر صعوبة من هذا التباهي؟ لأنه من المؤكد أن مرض المجد الباطل يكلف الإنسان الكثير، وهذا صار واضحا من سلوك الذين ينفقون أموالهم في أمور لا فائدة منها، ولا هدف لها، في المسارح، وسباقات الخيل، وفي إسراف غير لائق، وصار واضحا أيضا من سلوك الذين يشيدون بيوتا فخمة باهظة التكاليف، والذين يسعون بكل الوسائل لتكوين ثروة بلا نفع أو فائدة.

وكون أن المصاب بهذا المرض هو كثير الاسراف، ومضطر أن يصير خاطفا وطماعا، فهذا بالطبع أمر واضح لكل أحد. لأنه لكي يستطيع أن يقدم طعاما لهذا الوحش (شهوة المجد الباطل)، فهو يمد يده إلى ثروات الآخرين، وماذا أقول عن الثروات؟ فليس الأموال فقط، بل أيضا نفوساً كثيرة تلتهمها هذه النار هنا، وهو يؤدي إلى الموت ليس فقط في الحاضر، بل وفي المستقبل أيضا، لأن المجد الباطل يقود إلى جهنم، وهو الذي يشعل نار جهنم بقوة، وبسببه أيضا ستصير هذه النفوس غذاء للحشرات السامة.

وبالطبع يمكن للمرء أن يرى أن هذا المجد الباطل يسود بين الأموات، وماذا يمكن أن يوجد أسوأ من هذا؟ لأن كل الشهوات تبطل بعد الموت، ولكن شهوة المجد الباطل فإنها تصارع بعد الموت أيضا، وتحاول أن تظهر طبيعتها في الجسد الميت. لأنهم حين يتركون وصية أن تشيد لهم قبورا فخمة عند موتهم، وينفقون كل ثروتهم، بل ويحرصون على جمع أموال كثيرة قبل أن يموتوا ، وذلك من أجل نفقات الدفن، بينما وهم بعد أحياء، تجدهم يحتقرون الفقراء الذين يقتربون منهم من أجل فلس واحد ، وقطعة خبز، إلا أنهم بمجرد أن يموتوا، يصيرون مائدة غنية للديدان. ماذا يمكن أن تقول عن هذا الطغيان المستبد، وعن هذا المرض (المجد الباطل). إن هذا الشر يفرز ولع فاسد وغير مقبول، إذ أن شهوة المجد الباطل ألقت بالكثيرين في الزنا، لا من حيث جمال الوجه، ولا الشهوة الجسدية، بل لأنهم يريدون أن يفتخروا بأن فلانة قد أوقعوا بها ، وزنوا معها.

ولماذا ينبغي أن أتكلم عن الأمور الأخرى، فإن قدر كبير من الشرور نبتت من هذه الشهوة؟ لأنني أفضل أن أصير عبدا لعدد كبير من البربر، على أن أستعبد مرة واحدة، للمجد الباطل، خاصة وأن هؤلاء البربر لا يأمرون الأسرى بالخضوع لهذه الشهوة، بينما هذه الشهوة تأمر رعاياها بالخضوع لها. إذا بحسب ما تأمر به هذه الشهوة: أنت مضطر أن تكون عبدا للجميع، سواء كانوا أعلى منك أو أقل.

إنها تقول لك: احتقر النفس، لا تعتني بالفضيلة، اسخر من الحرية ، ضحي بخلاصك . وإن صنعت صلاحا ما، لا تصنعه لكي تكون مرضيا أمام الله، بل لكي تظهر أمام الجميع أنك صالح، حتى تفقد المكافأة هذا كله، وعندما تمارس أعمال رحمة أو تصوم، فلتعاني من المتاعب، بل واحرص على أن تخسر الربح.

ماذا يمكن أن يوجد أقسى من هذه الأوامر؟ فمن هذه الشهوة (أي المجد الباطل) يأتي الحسد، ويأتي اليأس، ومنها تبدأ الشرور والبخل، لأن جموع الخدم والبربر المزينين بالذهب، والطفيليين والمنافقين، والعربات المطلية بالفضة، والأمور الأخرى والتي هي مثيرة بالأكثر للسخرية، لا تحدث بسبب اللذة، ولا بسبب إحتياج ما ، بل فقط بسبب المجد الباطل.

6-  بيد أنه من حيث إن هذه الشهوة تعتبر شهوة رديئة، فهذا واضح لكل أحد. لكن كيف يمكننا أن نتجنبها، هذا ما يجب أن يقوله لنا القديس بولس. سنبدأ بداية رائعة من أجل التغيير أو التصحيح، لو أنك أقنعت نفسك جيدا ، أن هذا الداء ـ أي شهوة المجد الباطل ـ هو داء مفزع، لأن المريض أيضا سيطلب الطبيب على وجه السرعة، إن علم أنه مريض. أما إن كنت تطلب أو تبحث عن طريقة أخرى لتجنب هذه الشهوة، فيجب عليك أن تتطلع دوما نحو الله، وأن تكتفي بالمجد الإلهي، وحتى وإن كنت ترى بعد أن الشهوة تُداعبك أو تدغدغ إرادتك، وتحركك للتحدث بفخر عن إنجازاتك لمن هم شركائك ي الإنسانية، وطالما أنك تفكر مرة أخرى، في كيف يمكن أن تستعرض ذلك، وأنه لا ينتج من ورائها أي ربح، فعليك أن تمحو هذه الرغبة الفاسدة ، وقل لنفسك ها إنك تعبت كل هذا الزمان حتى لا تبوح بإنجازاتك، وأنت لم تحتملي أن تحتفظي بها سرا، بل ها هي أعلنت للجميع، فماذا تحقق لك، أكثر مما أنت عليه هنا؟ بالطبع لا شيء، بل خسارة وأكثر من خسارة، إذ أنك تفرغ كل ما جمع بجهد وتعب كثير .

لكن مع كل هذا، فكر في أن قرار الكثيرين وحكمهم هو قرار وحكم خاطئ، وليس فقط خاطئا، بل إنه سريعا ما يزول. لأنه وإن كانوا قد أعجبوا بك للحظة، فعندما يعبر الوقت، فإنهم ينسون كل شيء، وهكذا يكونوا قد خطفوا الإكليل الذي أعطاه الله لك، ولم يستطيعوا أن يحتفظوا لك بالإكليل الخاص بهم. وإن افترضنا أن هذا الإكليل باق، فسيكون من يبدل إكليله بإكليلهم، هو شخص تعس جدا، أما عندما يتحطم هذا الإكليل، فأي مبرر سنعطي، طالما إننا تسلم الذي يبقى من أجل الزائل، ومن أجل أن ننال مديح القليلين، نفقد كل هذه الخيرات الكثيرة؟ وحتى وإن كان الذين يمتدحوننا هم كثيرون، فإننا هكذا سنكون مستحقين للعذاب، وبالأكثر في الوقت الذي يمدحوننا فيه. ولكن إن كنت تشك فيما قيل، فاسمع المسيح له المجد حين يدين هذا. ” ويل لكم إذا قال فيكم جميع الناس حسنا ” وهذا كلام له ما يبرره. لأنه لو كان يجب على الصناع أن يطلبوا مقيمين أو قضاة لكل عمل، فكيف تسمح للناس أن يراقبوا الفضيلة، ولا تسمح لله الذي يعرف قبل الجميع وأكثر من الجميع، والذي يمكنه أن يدين، وأن يكلل؟ لنكتب هذه العبارة إذا على الجدران، وعلى الأبواب، ولنرددها في آذاننا، ونكررها في أنفسنا دائما : ويل لنا إذا قال فينا جميع الناس حسنا.

وهؤلاء الذين يمتدحونك، هم بالحقيقة الذين يذمونك فيما بعد ويقولون عنك إنك محب للمجد الباطل والعظمة، وإنك تشتهي مديحهم بشكل مبالغ فيه. أما الله فلا يفعل هذا، بل عندما يراك تشتهي مجده، فهو يمتدحك في ذلك الوقت ويصنع معك معجزات، ويكللك. وعلى العكس من ذلك فإن الإنسان لا يفعل هكذا، بل يعتبرك عبدا بدلاً من حرا ، وكثيرا ما يمتدحك مدحا كاذبا فقط وبكلام ساذج، ويكون قد إختطف منك الأجر الحقيقي واشتراك، بل وبالأكثر جعلك عبدا. لأن العبيد يخضعون لسادتهم بعد أن يصدروا لهم أوامرهم، أما أنت فتصبح عبدا بدون أوامر، لأنك لا تنتظر أن تسمع شيئا من الذين يمدحونك، بل بدون أن يصدروا لك أوامرهم، فأنت تفعل كل شيء يسعدهم. إذا ألا نكون مستحقين لهذا القدر من الجحيم، حين تفرح الأشرار، ونخضع لهم حتى قبل أن يأمروننا، بينما الله الذي يحثنا وينصحنا كل يوم، لا نسمع له؟

ولكن إذا كنت تشتهى المجد والمديح إشتهاء شديدا، فعليك أن تتجنب مديح الناس، وعندئذ ستنال المجد. احتقر الكلام المنمق، حينئذ ستتمتع بمديح كثير من الله ومن الناس أيضا. لأن من يحتقر ويزدري المجد الباطل عادةً الذي نمجده ونمتدحه وتعجب به. فإذا نحن احتقرنا المجد الباطل، فبالحرى جدا سيمجدنا إله الكل، وعندما يمجدك الله ويمتدحك، فمن هو ذاك الذي يمكن أن يكون أكثر سعادة منك؟ وبالحقيقة فإنه بقدر إتساع المسافة بين المجد والإزدراء، هكذا يكون الفرق بين المجد الإلهي، والمجد الإنساني الباطل، شاسعا جدا ولا نهاية له. فإذا كان المجد الإنساني الباطل سيئا ورديئا حتى عندما لا يقارن بشيء، أو عندما نفحصه بالمقارنة مع شيء آخر، ففكر إذا في مدى القبح الذي سيظهر منه. فهو مثل المرأة الزانية تماما، حتى ولو كانت تقيم في منزل، إلا أنها تعرض نفسها للآخرين، هكذا أيضا عبيد المجد الباطل. وربما هم أسوأ من هذه المرأة الزانية، لأن مثل هؤلاء النساء كثيرا ما يحتقرن شخصا يكون قد اشتهاهم، بينما أنت قد عرضت نفسك للجميع، لمجرمين ولصوص، ولسارقي الأموال. لأن هؤلاء وأشباههم يمثلون المتفرجين الذين يمتدحونك. وهؤلاء الذين عندما يكونون متفرقين بعيدا، لا تعتبرهم مستحقين شيئا على الاطلاق، لكنهم عندما يجتمعون معا، تفضلهم على خلاصك، وتقدم نفسك مجردا من المجد أكثر من كل هؤلاء.

بالحقيقة كيف لا تكون مجردا من المجد، أنت يا من تحتاج للمديح من الآخرين، وهل تعتقد إنك لو أخذت المجد من آخرين سيكون هذا مفيدا لك؟ أخبرني، ألم تفكر، بالإضافة إلى كل ما قيل، كيف أنهم عندما ينظروا إليك من كل جانب، حين تصبح معروفا للجميع، أنه سيكون أمامك عددا لا يحصى ممن يدينونك إذا ما أخطأت، بينما حين تكون غير معروف، ستبقى في أمان؟ نعم هكذا يقول، وحين أحقق إنجازات، سيكون لديّ معجبين لا حصر لهم. إنه لأمر مخيف حقا، ليس فقط حين تُخطئ، لكن أيضا حين تحقق إنجازات، فإن مرض المجد الباطل سيؤذيك. لقد طرح الكثيرين أرضا من قبل، والآن ينزع عنك كل أجرك.

7 ـ إذن، فاشتهاؤك بشدة للمجد في الأمور العالمية يعد أمرا مخيفا ومخزيا للغاية، لكن حين تُصاب بنفس المرض في الأمور الروحية، فكيف تتوقع أن يغفر لك، إذا كنت لا تريد أن تقدم لله قدرا من الكرامة التي تنالها أنت ذاتك من الخدم؟ لأن العبد يتطلع إلى عيني سيده، والعامل إلى عيني صاحب ذلك؟ العمل، الذي سيدفع الأجر، والتلميذ إلى معلمه، بينما أنت تفعل العكس تماما ، عندما تترك الرب الذي أسند إليك عمله مقابل أجر، وتتطلع إلى بشر مثلك، على الرغم من أنك تعلم أن الله لا ينسى لك في الدهر الآتي ما قد حققته، بينما الإنسان يذكره لك هنا في الحاضر، وبالرغم من أن لك شهودا يجلسون في السماء، فإنك تجمع حولك شهودا أرضيين. إن الشخص الرياضي يكون متميزا عندما يدخل في منافسة، بينما أنت وإن كنت تجاهد، إلا أنك تحاول أن تتوج في الأرض. وهل هناك غباء أسوأ من ذلك؟

والآن لنر إن كنت تريد هذه الأكاليل. واحد منها هو من الغباء، والآخر من حسد الغير، وبعضها من السخرية والتملق، وآخر من المال، وغيره من الخدمة الدنيئة. وكما أن الأولاد عندما يلعبون يضعون تاجا من العشب، فوق رأس واحد منهم، دون أن يدري، ثم يسخروا منه من الخلف، هكذا الآن أيضا، فإن الذين يمتدحونك، كثيرا ما يهزأون بك في داخلهم، واضعين عليك تاجا من عشب. وليت تاج العشب فقط، بل يكون مملوء بالأضرار، ويدمر كل ما حققناه من إنجازات. إذا طالما أنك تفكر في مدى تفاهة هذا التاج، فلتتجنب الخسارة، أو الضياع. كم عدد من ترغب في أن يمتدحونك؟ هل مائة أم مائتان، أم ثلثمائة أم أربعمائة؟ وإن أردت، احسب عشرة أضعاف هؤلاء، أو عشرين ضعفا، وليكونوا ألفين أو أربعة آلاف بل ليكونوا عشرة آلاف إن شئت، ممن يصفقون لك، لكن هؤلاء لا يختلفون كثيرا عن الطيور التي تصيح من أعلا، أو من الأفضل أن نقول، لو تأملت مسرح الملائكة ، سيظهر هؤلاء أنهم لا يمثلون أي شيء، وأنهم أقل من الحشرات، ومديحهم أضعف بكثير من العنكبوت، والدخان، والأحلام. اسمع القديس بولس، الذي فكر في هذه الأمور باهتمام، فهو لا يتوقف عند رفض هذه الأمور فقط، بل لا يتمناها مطلقا، قائلاً: ” وأما من جهتي فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح.

إذن فلتتمثل أنت أيضا بهذا الافتخار، لكي لا تغضب الرب. لأنه حين تسعى نحو المجد الباطل، فإنك تزدري بالله، وليس بنفسك فقط. فإن كنت رساما وتتلمذت على يد آخر، وحدث فيما بعد أنه أهمل أن يوضح لك فنه، ووضع اللوحة في الخارج للعابرين فقط، فإنك ستعاني من هذا الأمر في هدوء. فإن كان هذا الأمر يعد بالنسبة للبشر الذين هم مثلك، إهانة، فبالأكثر جدا يكون للرب، وإن أردت أن تتعلم احتقار المجد الباطل بطريقة أخرى، فلتصر أسمى في الفكر: احتقر الأمور المرئية، اجعل حبك أكبر للمجد الحقيقي، وامتلئ بالفكر الروحي، قل لنفسك كما قال الرسول بولس: ” ألستم تعلمون أننا ستُدين ملائكة “. وبعدما تسمو هكذا، وبخ نفسك بعد ذلك، وقل لها، أنت يا من ستدينين ملائكة، هل تريدين أن ثدانين ممن لا قيمة لهم، وأن تمتدحي مع راقصين، وممثلين، ومصارعي وحوش، وقائدي العربات التي تجرها الخيول؟ لأن هؤلاء يسعون نحو هذا المديح.

لكن أنت فلتسم فوق صيحاتهم، ولتحاك ساكن الصحراء (يوحنا المعمدان)، وتعلم كيف أنه ازدرى بذلك الجمع، وعندما تملقوه لم يتغير، بل على النقيض عندما نظر كل سكان فلسطين قد جاءوا إليه وأعجبوا به وبقوا في دهشة منه، لم يقبل هذه الكرامة العظيمة جدا، بل غضب في مواجهتهم، وتحدث مع هذا العدد الكبير، كما لو كان يتكلم مع طفل صغير، هكذا وبخهم قائلاً: ” يا أولاد الأفاعي “353. وإن كان من المؤكد أنهم تجمعوا وتركوا مدنهم من أجله، لكي يروا هذه القامة الروحية المقدسة، لكن لا شيء من كل هذا قد فتنه، لأنه كان بعيدا عن المجد الباطل، وحرا من كل تباهي أو افتخار. وهكذا أيضا اسطفانوس، وهو ينظر لنفس الشعب، الذي لم يكن يكرمه، بل كان في حالة هياج شديد ضده، ويصر بأسنانه، وبعدما سما فوق هياجهم وغضبهم قال: ” يا قساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب . وهكذا إيليا أيضا، فبينما كانت تلك القوات حاضرة”، وأيضا الملك، وكل الشعب قال: ” حتى متى تعرجون بين الفرقتين “. لكن نحن نتملق الجميع، نخدمهم ونحن نستغل حبهم للكرامة. ولهذا تداخلت كل الأمور وتشوشت، وابتعد المسيحيون عن احتقار المجد الباطل، وكل شيء أهمل من أجل مديح الكثيرين.

إذن فلنقتلع شهوة المجد الباطل من الجذور، وعندئذ سنعرف جيدا معنى الحرية، وسنصل إلى الميناء، حيث التمتع بالهدوء. لأن محب المجد الباطل يشبه أولئك الذين هم في وسط الأمواج والعواصف، فهو يرتعب على الدوام ويخاف ويخدم سادة كثيرين، بينما من هو موجود خارج هذا القهر، فإنه يشبه الذين يجلسون في المواني ويتمتعون بحرية واضحة. أما من يسعى للمجد الباطل فليس كذلك، بل يضطر أن يصير عبدا لهذا الحشد الكبير من السادة الذين أصبح معروفا لديهم. إذا كيف سنتحرر من هذه العبودية المخيفة؟ نتحرر منها، حين نسعى نحو التمتع بمجد آخر، نحو المجد الحقيقي. لأنه كما أن أولئك الذين يشتهون الوجوه البشرية، عندما يظهر وجه آخر أكثر إشراقا ، فإنه يبعدهم عن الوجه السابق، هكذا بالضبط أولئك الذين يشتهون المجد البشري، عندما يشرق عليهم المجد السمائي فإن هذا المجد يستطيع أن يبعدهم عن ذلك المجد البشري.

فلنحذر ونحترس من المجد الباطل، ولنختبر بهاء المجد السمائي، حتى أننا بعدما نتمتع بجماله، نتجنب قبح المجد الباطل، مختبرين على الدوام متعة ولذة هذا المجد السمائي. وليتنا ننال جميعا هذا المجد بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة إلى أبد الدهور آمين.

فاصل

العظة التاسعة عشر: رو10: 14-21

” فكيف يدعون بمن لم يؤمنوا به. وكيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به وكيف يسمعون بلا كارز وكيف يكرزون إن لم يرسلوا كما هو مكتوب ما أجمل أقدام المبشرين بالسلام المبشرين بالخيرات ” (رو14:10-15).

‏ 1ـ مرة أخرى ينزع عنهم الصفح. لأنه قال: “لأني أشهد لهم أن لهم غيرة الله ولكن ليس حسب المعرفة. لأنهم إذ كانوا يجهلون بر الله … لم يخضعوا لبر الله” ويظهر بعد ذلك أنهم من أجل هذا الجهل، يدينهم الله. وهو لم يقل هذا بالطبع، لكنه يمهد لهذا الأمر، مستمرا في تقديم عدة تساؤلات، وهذا ما يعرض له في هذا الجزء، بتساؤلات وشروحات. لكن لاحظ من البداية ، كيف قال إن النبي: ” كل من يدعو باسم الرب يخلص . وربما يستطيع المرء أن يسأل، وكيف يمكنهم المناداة باسم الرب الذي لم يؤمنوا به؟ ثم يتساءل الرسول بولس بعد هذا التعارض: ولماذا لم يؤمنوا؟ ومرة أخرى يمكن للمرء أن يقول إن هناك تعارض، وكيف يمكن أن يؤمنوا بدون أن يسمعوا؟ ولكنهم سمعوا. وبعد ذلك يظهر تباينا آخر. وكيف يمكنهم أن يسمعوا بلا كارز؟ ثم يقدم بعد ذلك أيضا شرحا. ولكن كثيرين كرزوا وأرسيلوا لهذا الأمر تحديدا. ومن أين يتضح أن هؤلاء هم الذين أرسلوا. حينئذ يستشهد بالنبي الذي يقول: ” ما أجمل أقدام المبشرين بالسلام المبشرين بالخيرات.

أرأيت كيف أنه من خلال طريقة التبشير، يظهر المبشرين؟ لأن المبشرين الذين ذهبوا إلى كل مكان، لم يتحدثوا إلا عن تلك الخيرات المحفوظة لنا ، وعن سلام الله الذي صار لكل البشر. وبناء على ذلك فقد قال الرسول بولس للذين بشرهم إنكم حين لا تصدقوا فإن عدم التصديق لا ينصرف إلينا، بل أنتم لا تصدقون إشعياء الذي قال من سنوات بعيدة، إننا سنرسل وستبشير، وسنتكلم بتلك الأمور التي تكلمنا عنها. إذا خلاصهم يعتمد على دعوتهم باسم الرب، وأن يدعوا بما يؤمنون به، وأن يؤمنوا بما سمعوه، وأن يسمعوا لتلك الكرازة التي بشروا بها وما أرسل لأجله المرسلون. هكذا أرسيل المبشرين وكرزوا ، وقد أشار النبي إليهم قائلاً: كيف أن هؤلاء هم الذين قد أعلنت عنهم بنعمة الله منذ سنوات عديدة، والذين قصدتهم وتكلمت عن أقدامهم. ومن حيث طريقة البشارة، فهي واضحة جدا، ولأنهم لم يؤمنوا ، فقد صاروا مدانين. لأن كل شيء ارتبط بالله، قد ثمم من جانب الله.

٢ ـ ” لكن ليس الجميع قد أطاعوا الإنجيل. لأن إشعياء يقول يا رب من صدق خبرنا. إذا الإيمان بالخبر والخبر بكلمة الله ” (رو16:10-17).

وقد أضافوا أيضا اعتراضا آخرا قائلين، لو أن هؤلاء كانوا مرسلين وأرسلوا من الله، فكان ينبغي على الجميع أن يطيعوهم. لاحظ حكمة الرسول بولس، كيف أن هذا الأمر ذاته الذي أثار صخبا، يقدمه على أنه مناقض للصخب والإزعاج، إذا ما الذي يعثرك أيها اليهودي ـ هكذا يقول الرسول بولس ـ بعد كل هذا ، وبعد مثل هذه الشهادة ودلائل الأمور؟ هل لأن “ليس الجميع قد أطاعوا الإنجيل”؟ إن هذا تحديدا، بالإضافة لأمور أخرى كان يكفي أن يجعلك تؤمن بكل ما قيل، بشأن “أن ليس الجميع قد أطاعوا”، لأن هذا هو ما سبق وتكلم عنه النبي من البداية ، وانتبه إلى حكمة القديس بولس غير الموصوفة، كيف أنه يظهر هذا الأمر بالأكثر من خلال تلك الأشياء التي وضع هؤلاء رجائهم وأملهم فيها. إذا ماذا تدعون؟ هكذا يقول الرسول بولس، هل لأن “ليس الجميع قد أطاعوا الإنجيل”؟ لكن هذا ما قاله إشعياء من البداية، أو من الأفضل أن نقول ليس هذا فقط، بل وأكثر من هذا. فأنتم تشتكون أن “ليس الجميع قد أطاعوا”، بينما إشعياء يقول شيئا أكثر من ذلك . إذا ماذا قال؟ ” يا رب من صدق خبرنا “.

لقد رجع الرسول بولس إلى السياق السابق بعد أن أوقف ذلك الصخب بواسطة استدعاء قول النبي، إذا لأنه قال، إنه كان ينبغي أن يدعوا باسم الرب، وأنه يجب على الذين يدعون أن يؤمنوا، وأولئك الذين يؤمنون أن يسمعون أولا، وأولئك الذين يسمعون أن يكون هناك من يكرز لهم، ولابد للكارزين أن يرسلوا، فقد أوضح أنهم أرسلوا وكرزوا. ولأنه أيضا كان ينوي أن يقدم مفارقة أخرى، أتخذ أولا دافعا من خلال شهادة أخرى للنبي (إشعياء)، هكذا ينسج هذه الشهادة ويربطها بالسابقة. لأنه استشهد بالنبي القائل: “يا رب من صدق خبرنا”، مستفيدا من الشهادة في اللحظة المناسبة ، ويقول “إذا الإيمان بالخبر”. لكنه لم يشر إلى هذا مصادفة، بل لأن اليهود في كل عصر كانوا يطلبون معجزات، وأن يتحققوا من مشهد القيامة ، وكانت لديهم شكوكا تجاه كل هذا، يقول إن النبي لم يقدم وعودا لهذه الأمور، ولكن كان ينبغي علينا أن نؤمن بسماعنا للكرازة. من أجل هذا ، قدم هذا القول أولا، وقال “إذا الإيمان بالخبر ” أي بسماع الخبر.

وبعد ذلك ولأن عدم أهمية هذا الأمر ظهرت، لاحظ كيف يعرضه، لأنه لم يقل سماع فقط، ولا أنه ينبغي أن نسمع كلام بشري ثم نؤمن، بل أن نسمع كلاما عظيما. لأن السمع صار لكلمة الله. لأنهم لم يتكلموا بكلامهم، لكنهم أخبروا بتلك الأمور التي تعلموها من الله، الأمر الذي يعد أسمى من المعجزات. لأنه عندما يتكلم الله وعندما يصنع معجزات، يجب أن تؤمن وأن تخضع، لأن الأعمال والمعجزات تتم بكلمته، لأنه بالحقيقة السماء وكل الأشياء الأخرى قد تثبتت بكلمته.

3 . بعدما أظهر أنه ينبغي أن يؤمنوا بالأنبياء، الذين يتكلمون دائما بكلمة الله، وألا يطلبوا شيئا أكثر من السمع، يضيف بعد ذلك التباين الذي أشار إليه، ويقول:

” لكنني أقول العلهم لم يسمعوا ” (رو18:10).

ماذا إذا، فإن كان المبشرون قد أرسلوا ، وبشروا بتلك الأمور التي أمروا بها، ألم يسمع هؤلاء؟ ثم يتبع هذا الكلام بحل قاطع لهذا التباين إذ يقول: “بلى. إلى جميع الأرض خرج صوتهم وإلى أقاصي المسكونة أقوالهم “، يقول لهم، ماذا تقول ألم يسمعوا؟ إن المسكونة وأقاصي الأرض قد سمعت، وأنتم كنتم بالقرب من المبشرين الذين انتظروا كل هذه السنين، والذين هم من جنسكم، ألم تسمعوا؟ وكيف يكون هناك مبررا لذلك؟ فلو أن أقاصي الأرض قد سمعت ، فبالأولى كثيرا أنتم . . بعد ذلك يظهر تعارضا آخر “لكني أقول ألعل إسرائيل لم يعلم ” فمن المؤكد أنهم قد سمعوا، لكن ألم يعرفوا ما قيل، ولم يفهموا أن أولئك الكارزين كانوا مرسلين؟ وهل يكونون مستحقين للغفران لأجل جهلهم هذا؟ كلا على الإطلاق، لأن إشعياء وصف هؤلاء قائلا: ” ما أجمل قدمي المبشر المخبر بالسلام”60″. وقبل إشعياء كان المشرع ذاته قد أشار إلى ذلك أيضا. ولهذا فقد أضاف الرسول بولس:

أولا موسى يقول: ” أنا أغيركم بما ليس أمة بأمة غبيه أغيظكم ” (رو19:10).

لأجل هذا كان ينبغي أن يعرفوا المبشرين، وليس لأنهم لم يؤمنوا فقط، ولا لأن المبشرين بشروا بالسلام، ولا لأنهم بشروا بتلك الخيرات، ولا لأن الكلمة انتشرت في كل المسكونة، بل لأنهم رأوا أن الأقل منهم، أي الذين أتوا من الأمم، وجدوا كرامة أكثر. لأن تلك الأمور التي لم يسمع بها الأمم، ولم يسمع بها أجدادهم، قد آمنوا بها فجأة، الأمر الذي يمثل ملمح لكرامة فائقة، والذي استثار اليهود جدا، وقادهم إلى الغيرة وإلى تذكر نبوة موسى الذي قال “أنا أغيركم بما ليس أمة “. لأنه ليس فقط الكرامة الفائقة التي نالها الأمم كانت كافية أن تؤدي بهم إلى الغيرة، بل بالحرى لأن الأمة تمتعت بهذه الأمور كانت لا قيمة لها، حتى أنها لم تكن مستحقة أن تُدعى أمة. ” أنا أغيركم بما ليس أمة. بأمة غبية أغيظكم “. لأن من هم الذين التي كانوا أكثر غباء من عبدة الأوثان؟ وأكثر تفاهة منهم؟

أرأيت كيف أن الله قد أعطاهم مع الجميع، ومنذ البداية ملامح وعلامات واضحة عن هذه الأوقات، حتى يبين لهم فقدانهم التام للشعور؟ لأن هذا الذي حدث، لم يحدث في زاوية صغيرة، بل في كل الأرض، والبحر، وفي كل أرجاء المسكونة، ورأوا أن أولئك الذين أحتقروا من اليهود ، قد تمتعوا بخيرات لا حصر لها. كان ينبغي إذا أن يفهموا أن هذه هي بالتحديد الأمة التي تكلم عنها موسى أنا أغيركم بما ليس أمة بأمة غبية أغيظكم.

هل يا تُرى موسى وحده هو الذي قال هذا؟ إطلاقا، بل وإشعياء قال هذا بعده. ولهذا قال الرسول بولس “أولا موسى يقول “، لكي يبين أن شخصا ثانيا سيأتي ويقول نفس الكلام وبصورة أكثر قوة وأكثر وضوحا. تماما كما قال ” وإشعياء يصرخ ” ، هكذا هنا أيضا يقول:

” ثم إشعياء يتجاسر ويقول وجدت من الذين لم يطلبوني وصرت ظاهراً للذين لم يسألوا عني ” (رو20:10).

ما يقوله يعني الآتي: أنه جاهد وحاول ألا يقول شيئا غامضا، لكنه حاول أن يضع الأشياء مجردة أمام عيوننا، مفضلاً بالحرى أن يتعرض للخطر من حيث كونه قد تكلم صراحة، على أن يترك جحودكم خلفه، وينظر نحو خلاصه. على الرغم من أنه لم يكن من ملامح النبوة أن يتكلم هكذا بوضوح وصراحة. لكنه لكي يغلق أفواهكم بقوة، سبق فقال كل هذا بوضوح شديد ودون تراجع. وما هو كل هذا؟ هو ذلك الأمر الخاص بسقوطهم، ودخول آخرين، قائلاً هكذا : ” وجدت من الذين لم يطلبوني وصرت ظاهرا للذين لم يسألوا عني؟ من الواضح جدا أنه لا يقصد اليهود ، بل أولئك الذين أتوا من الأمم، أولئك الذين لم يكونوا قد عرفوا الله أبدا ، تماما مثلما وصفهم موسى قائلا: ” بما ليس أمه ” و ” بأمة غبية”، وهكذا هنا أيضا يعلن لهم الجهل التام من خلال نفس السبب، الأمر الذي كان يمثل إتهاما كبيرا ضد اليهود، لأن الذين لم يطلبوه قد وجدوه، وأولئك الذين كانوا معه سابقا فقدوه.

4 ـ ” أما من جهة إسرائيل فيقول طول النهار بسطت يدي إلى شعب معاند ومقاوم” (رو21:10).

أرأيت أن تلك التساؤلات التي طرحها الكثيرين، قد وجدت لها حلاً في الكلمات النبوية منذ البداية؟ ماذا يعني هذا الكلام؟ لقد سمعت الرسول بولس سابقا وهو يقول: ” فماذا نقول؟ إن الأمم الذين لم يسعوا في أثر البر أدركوا البر الذي بالإيمان ولكن إسرائيل وهو يسعى في أثر ناموس البرلم يدرك ناموس البر. هذا ما يقوله إشعياء هنا. لأن بقوله ” وجدت من الذين لم يطلبوني وصرت ظاهرا للذين لم يسألوا عني”، وهذا عينه ما يقوله الرسول بولس، إن الأمم الذين لم يسعوا في أثر البر أدركوا البر. ثم بعد ذلك لكي يظهر أن ما حدث لا يرتبط فقط بنعمة الله، بل وبإرادة أولئك الذين قبلوا النعمة، تماما مثلما في حالة سقوطهم أيضا، كان نتيجة لمقاومة كل من لم يخضع، اسمع ماذا أضاف “أما من جهة إسرائيل فيقول طول النهار بسطت يدي إلى شعب معاند ومقاوم”، وهو يعني بعبارة “طول النهار” هنا، كل الزمن السابق. وبعبارة “بسطت يدي” أى أنني دعوته، بشرته، ورجوته. ثم بعد ذلك لكي يبين أنهم مدانون كلية، يقول ” إلى شعب معاند ومقاوم”.

أرأيت أيضا حجم هذه الإدانة؟ لأن هؤلاء، اليهود، حينما ترجاهم لم يطيعوه، بل دافعوا عن مواقفهم المخالفة. وهذا حدث ليس مرة أو مرتين أو ثلاثة مرات، بل كل الوقت. وبرغم أنهم قد رأوا أنه قد فعل كل هذا ، بينما آخرون ـ أي الذين لم يعرفوه سابقا . قد استطاعوا أن يؤمنوا به. لكنه لم يقل إن أولئك الأمم استطاعوا أن يجتذبوه، بل لكي يضبط أفكار أولئك الذين أتوا من الأمم، ويبين أن كل شيء قد صنعته نعمته، يقول “صرت ظاهرا”، و “وجدت”.

يقول إن أولئك الأمم لم يكن لديهم أي شيء، لكن مسألة أن يقبلوه عندما وجد، وأن يعرفوه حين صار ظاهرا ، فهذا قد قدموه من تلقاء أنفسهم فيما بعد، وحتى لا يقول هؤلاء اليهود، لماذا لم يستعلن لنا أيضا؟ هو يشير إلى أكثر من ذلك، أنه لم يستعلن فقط، بل لا يزال يبسط يديه، ويدعو، مظهرا عناية الأب وحنو الأم التي تحب أولادها. لاحظ كيف أنه قد أضاف وبوضوح الحل لكل التساؤلات السابقة، موضحا أن الهلاك حدث بإرادتهم، وأنهم من كل وجه هم غير مستحقين للعفو، لأنه بالرغم من أنهم سمعوا وفهموا ما قيل، إلا أنهم لم يريدوا أن يقبلوا النعمة.

وبالأكثر جدا، أنه ليس فقط قد جعلهم يسمعون لهذه الأمور التي قيلت، وليس فقط أنهم قد فهموا ، بل إن ذلك الذي يملك قوة كبيرة قد بشرهم به، وجذبهم نحوه، على الرغم من أنهم عاندوا وقاوموا. وهذا هو الأمر الذي أضافه، وما هو هذا الأمر؟ هو أن يستحثهم ويحركهم بالغيرة، لأنكم تعرفون ألم الشهوة، ومقدار القوة التي لطبيعة الغيرة في فض المنازعات، وفي إقامة أولئك الذين سقطوا. وهل هناك احتياج لأن أقول هذا للبشر، في اللحظة التي فيها تظهر قوة الغيرة عند الحيوانات وعند الأطفال الصغار؟ لأنه بالحقيقة في مرات كثيرة، عندما يكون هناك طفل لا يتراجع أمام ترجي أبيه، بل ويبقى في عناده، إلا أنه حين يرى طفل آخر قد تصالح مع أبيه، وعاد إلى الأحضان الأبوية دون أن يدعى لذلك، حينئذ فإن ما لم يحققه بالرجاء، يكون قد حققته الغيرة. وهذا ما فعله الله. لأنه لم يترج فقط ولم يبسط يديه فقط، بل وأثار الغيرة عند هؤلاء اليهود، وأدخل في نعمته الأمة الأقل جدا منهم، الأمر الذي يثير الغيرة بقوة، ليس بشأن تلك الخيرات، بل بما هو أكبر من هذا جدا، أنه جعل الشهوة أكثر تأثيرا في الأمور التي هي أعظم بكثير، بل وأكثر أهمية، والتي لم يتخيلوها ولا في أحلامهم، لكنهم ولا بهذا قد أطاعوا. إذا كيف يمكن أن يكونوا مستحقين للعفو، بعدما أظهروا عنادا شديدا؟ إنهم غير مستحقين لأي صفح.

وهذا بالطبع لا يقوله الرسول صراحة، لكنه يتركه لفطنة المستمع كنتيجة لكل ما قيل، وأيضا فإنه يظهره بما له من حكمة معتادة. من خلال الكلام اللاحق .

تفسير رومية 9 تفسير رسالة رومية تفسير العهد الجديد تفسير رومية 11
 القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير رسالة رومية تفاسير العهد الجديد

 

زر الذهاب إلى الأعلى