البابا يؤنس (يوحنا) الثامن

البابا رقم 80

رسامته

ومن نعمة الله أن اتفقت كلمة الأساقفة والأراخنة هذه المرة إذ قد أجمعوا على انتخاب الراهب يونس بن قدیس رئیس دیر شهران  الذي كان كامل الرأي صائب الفكر حسن التدبير محبوبة معظما . ولقد نشأ هذا الراهب في منية خصيب  بالمنيا ثم ترك بيت أبيه وهو بعد يافع ليعيش في الدير . وهناك قضى أيامه في نسك ودعة مكرس نفسه لخدمة اخوته الرهبان . فأحبوه وانتخبوه رئيسا لهم . فضاعف هذا الانتخاب حبه لهم ورعايته إياهم . فلما شغرت السدة المرقسية زكوه للناخبين واتحدت أصوات الجميع ، ومن ثم أصبح البابا الثمانين في سلسلة خلفاء مار مرقس الرسول باسم يؤنس الثامن وتمت رسامته في ١٤ فبراير سنة ١٢٩٢ .

انفصال ثم اتحاد

وفي هذه الفترة أرسل لينادنجل امبراطور الحبشة إلى ايمانويل الثاني ملك البرتغال يستنجد به ضد الإمام أحمد إبراهيم صاحب اليمن الذي كان قد ثار هو وقومه على الأحباش ، وتقدمت جيوش اليمنيين إلى حد أن الامبراطور إضطر إلى الهرب والتنقل من بلد إلى آخر في أطراف امبراطوريته . وقد تعهد لینادنجل الملك البرتغال أن ينضم إلى الكنيسة الكاثوليكية ويقطع علاقته بمصر إن هو أسعفه . فقبل ايمانويل الثاني استغاثة الإمبراطور الحبشي الذي طرد المطران المصرى تمهيداً للانضمام إلى مذهب الملك البرتغالی . على أن الشعب الحبشی غضب غضبة جامحة بأزاء تصرف امبراطوره ورفض أن ينفصل عن كنيسة مارمرقس التي يعدها الكنيسة الأم . وكان من نتائج هذه الثورة الشعبية أن الامبراطور جلاودیوس این لینادنجل طرد بعثة الرهبان الكاثوليك حالما أعتلى العرش وبعث برسول عاجل إلى البابا الإسكندرى يستعطفه ليرسم لهم مطراناً ويعيد العلاقات إلى ما كانت عليه من قبل. وقد فرح الأنبا يؤنس الثامن بهذا الطلب وبادر بإرسال الأنبا سلامة الثاني إلى الحبشة ، فبدأ عصر انتعاش أدبي لا يزال الأحباش يستمتعون بثماره حتى الآن.

إضطهاد وزلزال وفيضان ناقص

وحدث في السنة الأولى لبابوية الأنبا يؤنس الثامن أن مر مغربی بمصر في طريقه إلى أداء فريضة الحج . وفيما هو سائر في أحد شوارع القاهرة رأي رجلاً وجيهاً مرتدياً الحرير المزركش وممتطياً صهوة جواد رشيق فسأل عمن يكون ، ولما علم أنه قبطی غضب غضبة حمقاء أدت إلى استثارة الدهماء ليحرقوا الكنائس . وقد بلغ بهم الهياج مبلغاً جعلهم يتجهون نحو بابليون بقصد اضطهاد القبط المقيمين هناك فأصبح من المجازفة لأي قبطي أن يظهر في الشوارع بل إن التعرض للخطر بلغ البابا نفسه فاضطر إلى البقاء داخل مقره . ولقد استمر هذا الغليان الشعبي عدة سنتين بلا انقطاع لأن الأمراء أنفسهم عجزوا عن قمعه مع أن المغربي الذي استثاره كان قد غادر مصر. ولما وجد القبط أن العزاء والطمأنينة لايمكن الحصول عليهما من الناس اتجهوا نحو مصدر العزاء والطمأنينة راجين إياه تعالى أن يتداركهم بمراحمة . وفي تلك الفترة ورغم الخطر سعي بعض القبط لدى الأمراء ليضمنوا لهم الوصول الى الكنائس للصلاة فيها لأن الغوغاء كانوا يسدون عليهم الطرق إليها فأصبحت مغلقة. ونتيجة لهذه الوساطة قبل الأمراء فتح کنیسة واحدة . على أنهم لم يستطيعوا حراسة الشعب الذاهب إلى الكنيسة مما أضطرهم إلى اعادة اغلاقها.  فظلت الكنائس مغلقة خلال السنتين اللتين استمر فيهما الغليان الشعبي .

ووصلت أنباء هذه الضائقة إلى مسامع امبراطور القسطنطينية كما بلغت ملك أراجون ( بأسبانيا ) وكانت مصر إذ ذاك تتبادل التجارة مع هاتين الدولتين وغيرهما من الدول المسيحية . وكانت تجارتها رائجة وفيرة الربح.

فرأى الامبراطور القسطنطيني والملك الأرجواني أن يتوسطا في الأمر ولو أن وساطتهما كانت منصبة على رعاياهم المقيمين في مصر . ولقد أرسل ملك أرجوان الهدايا النفسية للسلطان وللأمراء الا أن الاستجابة للهدايا وللوساطة كانت هزيلة للغاية إذ لم يصدر الأمر إلابفتح  كنيستين : إحداهما كنيسة القديس نيقولا للروم وثانيتهما كنيسة السيدة العذراء بحارة زويلة للقبط . ذلك لأن المسئولين في البلاد رأوا أنه من عدم اللياقة أن يؤمنوا الروم للذهاب إلى الكنيسة ولا يمنحوا هذا الأمان للقبط الذين هم من رعاياهم  . ولهذا السبب أصبحت كنيسة العذراء بحارة زويلة المقر الباباوی ، واستمرت كذلك نحو قرن من الزمان .

ولم يكتف السلطان بهذه القسوة بل فرض دیناراً على كل قبطی بالاضافة إلى الجزية المفروضة وإلى ما كان يؤخذ منهم والمسلمين سواء بسواء. كذلك استمع الى تحريض الجاشنكير بيبرس فعمل بقوله وهو ابعاد القبط من دواوين الحكومة واضطرارهم إلى لبس العمائم الزرقاء ومنعهم من ركوب الخيل وغيرها من الدواب . بل لقد غالي السلطان في اصدار أوامره المستقاه من تحريض بيبرس فقال بأن من قتل قبطياً فله ماله ، وعلى الرغم من هذا كله فإن العامة ظلت ساخطة على بيبرس وتعالت صيحاتهم في الشوارع والأزقة وهم يصرخون « لا نريد المظفر ، وخلال هذه الفترة الحالكة اضطر القبط الى الانزواء داخل بيوتهم وعدم الخروج الا للضرورة القصوى.

ولقد حدث زلزال عظيم في تلك الآونة – فكأنما شاءت الطبيعة أن تعبر عن مشاركتها القبط بهذه الحركة المزعجة على أن الواقع أن بيبرس لم يكن وحده في تحريض السلطان على القبط بل كان معه جمهرة من المماليك الذين خشوا على نفوذهم من تأثير القبط إذ رأوه يبغی انصافهم ويحميهم من بطش الغوغاء. وترجع رغبته في انصافهم أنه كان يقدر مهارتهم الفنيه وولا هم له ، كما أنه كان واثقا بأنه لن يكون منهم من يناقضه في الحكم.

ترابط البابا والأساقفة والشعب

وامتلأ قلب الأنبا يؤنس الثامن حسرة ، ولم يسعه إلا أن ينتقل للسکنی بجوار كنيسة السيدة العذراء بحارة زويلة ليسهل عليه تأدية الشعائر الدينية دون اعتراض ولا مقاومة . وعلى الرغم من الوجوم الذي خيم على النفوس فإن البابا الإسكندرى ظل محتفظاً بالصلة المتينة بينه وبين أساقفته وشعبه ، ثم وجد أن الكنائس في حاجة إلى الميرون فبادر إلى دعوة الأساقفة للاشتراك معه في تأدية الشعائر المقدسة الخاصة بتكريسة . وقد لبى دعوته ثمانيه عشر أسقفاً وذهبوا معه إلى دير الأنبا مکاری الكبير حيث كرسوا الميرون في يوم الاثنين من أسبوع البسخة المقدسة سنة ١٠١٣ش.

الحصاد الشحيح يُلين القلوب

 ثم انشغل الأمراء في حروب خارجية عديدة وانشغل معهم الشعب . وكان لهذا الانشغال أثره في تخفيف حدة الهياج الذي كان قد أشعلة المغربي فتناسي الشعب ما حدث وتشاغل بأحداث أخرى مما أدى إلى أن تنفتح الكنائس تدريجياً وفي هدوء فسعد القبط من جديد باقامة شعائرهم المقدسة داخلها. ثم حدث أيضا أن سلسلة من الفيضانات المنخفضة والحصاد الشحيح كان لها أثر واضح في تليين القلوب فعاد الأنبا يؤنس إلى كنيسة السيدة العذراء ( المعلقة ) ببابليون وهو مطمئن النفس . وعاود الاستقرار قلوب القبط فكانوا يزحمون الكنائس شكراً وتسبيحاً لله .

ومن الشيق أن البابا الإسكندرى وجد نفسه مضطراً إلى تكريس الميرون مرة أخرى – لأن مثل هذه الحاجة ليست سوى دليل على تزايد عدد الذين ينالون بركة هذا السر المقدس . وقد رأى الأنبا يؤنس الثامن أن يؤدی الشعائر المقدسة الخاصة به في كنيسة السيدة العذراء ( المعلقة ). وقد اشترك معه هذه المرة خمسة وعشرون أسقنا أحدهم أسقف كولما بالنوبة الذي كان قد رسمه هذا البابا بنفسه.

نياحته

وكان تكريس الميرون للمرة الثانية آخر خدمة أداها الأنبا يؤنس الثامن إذ قد انتقل بعدها إلى مساكن النور . وكان مدة بابويته عشرين سنة وثلاثة أشهر وخمسة عشر يوماً.


من كتاب قصة الكنيسة القبطية ج3 – إيريس حبيب المصري

فاصل

البابا ثيودسيوس الثاني القرن الرابع عشر العصور الوسطى البابا يوحنا التاسع
تاريخ البطاركة
تاريخ الكنيسة القبطية

 

زر الذهاب إلى الأعلى