تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 24 للأنبا غريغوريوس

الفصل الرابع والعشرون

لو24: 1-12 قيامة السيد المسيح وظهوره لبعض تلاميذه:

وبعد إنقضاء يوم السبت، جاءت النسوة إلى القبر مبكرات عند مطلع فجر يوم الأحد أول أيام الأسبوع، حاملات العطور التي أعددنها، وجاءت معهن نسوة أخريات من المؤمنات بفادينا، فوجدن الحجر الضخم الذي كان موضوعاً على باب القبر دحرج، ودخلن فلم يجدن جسد الرب يسوع. وفيما كن متحيرات في ذلك، إذا بملاكين ظهرا لهما في هيئة رجلين قد وقفا بهن في ثياب براقة. وإذ انتابهن الخـوف ونكسن وجوههن إلى الأرض، قالا لهن “لماذا تطلبن الحى بين الأمـوات؟ إنه ليس هنا، وإنما قـد قـام. أذكـرن مـا كلمكن به وهو بعـد في الجليل، قائلا إن ابن الإنسان ينبغي أن يسلم إلى أيدي أناس خطاة ويصلب، وفي اليوم الثالث يقوم» . وعندئذ تذكرن كلام معلمهن، وعدن من القبر وأخبرن تلاميذه الأحد عشر والباقين جميعاً من أتباع الرب يسوع. وقد كانوا مختبئين معاً خوفاً من اليهود. وكانت مريم المجدلية ويوانا ومريم أم يعقوب ومن كن معهن من النسوة الأخريات من اللاتي قلن ذلك الرسل، الذين طالما قال لهم المخلص أثناء وجوده معهم إن اليهود سيقتلونه، وإنه سيمكث في القبر ثلاثة أيام ثم يقوم حيا من بين الأموات، ومع ذلك نسوا هذا كله، وحين سمعوا من النسوة أنه قام بدا لهم كلامهن هذا كالهذيان ولم يصدقوهن. ثم قام بطرس وركض إلى القبر ليتأكد بنفسه من صحة ما سمعه منهن، وهناك انحنى فرأى بداخله الأكفان وحدها موضوعة جانباً، فانصرف إلى حيث كان، متعجباً في نفسه مما حدث، وقد تملكته الحيرة كما تملكت التلاميذ جميعاً، إذ أن وجود الأكفان موضوعة وحدها دليل على أن المسيح له المجـد قد قام فعلا. فالأكفان تكون عادة لاصقة بالجثة. ولو كان تلاميذ المسيح هم الذين سرقوه كما زعم قادة اليهود ورؤساء كهنتهم وكما لقنوا الحراس ليقولوا ذلك (مت 28: 13) لكانوا قد أخذوا الجثة بأكفانها، ولا سيما أن الذي يسرق يسارع بالهرب، ولا يكون لديه الوقت الكافي لأن يفصل الأكفان عن الجثة في تسرعه وفزعه من إكتشاف أمره. 

لو24: 13-35 ظهور المسيح لتلميذي عماوس

وكان إثنان من تلاميذ مخلصنا منطلقين في ذلك اليوم إلى قرية تبعد عن أورشليم نحو ستين غلوة، أي نحو سبعة أميال، اسمها عماوس، في شمال غربي أورشليم، وكان اسم أحد هذين التلميذين كليوباس كما وارد في هذه البشارة، وأما التلميذ الآخر فيبدو أنه هو القديس لوقا نفسه كاتب هذه البشارة، وقد امتنع عن ذكر اسمه تواضعاً وتأدباً. وكان هذان التلميذان يتحدثان معاً عن هذه الأحداث كلها المنطقة بالرب يسوع. وفيما هما يتطارحان الكلام ويتناقشان، اقترب الرب يسوع نفسه منهما، وسار معهما، ولكنهما كان قد أخفي عن أعينهما لكي لا يعرفاه . ويبدو أنه قصد أن يظهر لهما في هيئة تختلف عن هيئته التي يعرفانها لكي يصارحاه بأفكارهما بصدده دون حرج، ولكي يوضح لهما الحقيقة في شأن قيامته بالتدريج قبل أن يكشف لهما عن شخصيته، لئلا تفزعهما رؤيته إذا ظهر لهما فجأة بغير هذا التمهيد بعد أن رأياه يموت على الصليب، وكانا يعتقدان أنه مازال مدفونا في القبر. وقد اقترب منهما وقال لهما هما هذا الكلام الذي تتطارحانه ؟.. فوقفا مكتئبين، ثم أجاب أحدهما وهو كليوباس قائلاً «أنت المتغرب الوحيد في أورشليم الذي لا يعلم بالأمور التي حدثت هناك في هذه الأيام؟»، إذ كانت أحداث محاكمة المخلص وقتله على الصليب موضوع حديث أورشليم كلها يومذاك ، فلم يعد أحد من أهلها أو من الغرباء الذين فيها لا يعلم بهذه الأحداث. بيد أن المسيح له المجد أراد أن يستدرجهما إلى الكلام فسألهما قائلاً «أي أمور؟» . فقالا له وتلك المختصة بيسوع الناصري الذي كان نبياً مقتدراً في الفـعـل والقـول لدى الله وكل الشعب، وكيف أن رؤساء الكهنة وحكامنا قـضـوا عـلـيـه بالموت وصلبوه ، وقد كنا نرجو أن يكون هو المزمع أن يخلص إسرائيل. ولكن مع : ذلك كله فإن هذا هو اليوم الثالث منذ أن حدث ذلك، غير أن بعض النسوة من جماعتنا قد أدهشتنا إذ ذهبن باكراً إلى القبر فلم يجدن جسده ، وقد جئن قائلات إنهن رأين منظر ملائكة قالوا إنه حي. وقد مضى بعض الذين كانوا معنا إلى القبر فوجدوا كما قالت النسوة. أما هو فلم يروها . ويدل هذا القول على أن تلاميذ مخلصنا كانت فكرتهم عن حقيقة شخصية معلمهم لا تزال غامضة، ولا تدل دلالة صريحة على أنهم أدركوا تماماً أن هذا هو المسيح الذي تنبأ بمجيئه الأنبياء ليقدم نفسه فدية لخلاص البشر، وإنما كان كل ما أدركوه أنه نبي ذو قدرة عظيمة فيما يفعل ويقول، وأنهم كانوا يراودهم الأمل في جلوسه على عرش الأمة اليهودية ليخلص اليهود من عبودية الرومان ويعيد إليهم مجد مملكة داود، ولكنهم خاب أملهم إذ رأوا رؤساء كهنتهم وحكامهم يقضون عليه بالموت ويصلبونه . ومع أنه طالما صرح لتلاميذه حين كان معهم بأنه بعد موته سيقوم في اليوم الثالث من بين الأموات، لم يصدقوا الأنباء التي سمعوها بأنه قام بالفعل، وقد استولت عليهم الحيرة في هذا الأمر وامتلأت عقولهم وقلوبهم بالبنبلة الناشئة من عدم إيمانهم الإيمان الصحيح. ومن ثم وبخ السيد المسيح هذين التلميذين اللذين ظهر لهما قائلاً «أيها الغبيان والبطيئا القلب في الإيمان بكل ما نطقت به الأنبياء، أما كان ينبغي أن يكابد المسيح هذه الآلام ثم يدخل إلى حيث مجده ؟. ثم أخذ يفسر لهما مبتدئاً من موسى ومن جميع الأنبياء الأمور المخلصة به في كل الأسفار المقدسة. حتى إذا اقتربوا من القرية التي كانا يقصدان إليها، بدا كما لو كان متجها إلى مكان أبعد، فتشبثا به في قوة قائلين «أمكث معنا، لأنه حان المساء وقد إنقضى النهار،، فدخل دارهما ليمكث معهما. ولما جلس معهما لتناول الطعام أخذ الخبز وباركه وقسمه وناولهما بنفس الطريقة التي كان يفعل بها معلمهما ذلك قبل موته، ولا سيما في ليلة العشاء الرباني، فانفتحت أعينهما وعرفاه ، وعندئذ اختفى عنهما. فقال أحدهما للآخر أما كان القلب مضطر ما فينا وهو يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الأسفار المقدسة؟، وقاما على الفور ورجعا إلى أورشليم فـوجـدا الأحد عشر تلميذا والذين معهم مجتمعين وهم يقولون إن الرب قد قام حقاً وقد ظهر لسمعان، . فأخبراهم بما حدث في الطريق، وكيف عرفا الرب عندما قسم الخبز.

لو24: 36-49 المسيح يظهر لتلاميذه مجتمعين :

وفيما كان التلاميذ يتكلمون بهذا، وقف الرب يسوع نفسه في وسطهم وقال لهم «السلام لكم، ففزعوا وارتعبوا، وقد ظنوا أنهم يرون روحاً، فقال لهم اما بالكم مضطربين، ولماذا تثور شكوك في قلوبكم ؟ انظروا إلى يدي وإلى قدمي إني أنا هو بنفسي، جسوني وتحققوا فإنه ليس للروح لحم ولا عظام كما ترون لي، وفيما كان يقول هذا أراهم يديه وقدميه، وإذ كانوا لا يزالون غير مصدقين أنفسهم من فرط الفرح والدهشة قال لهم أعندكم هنا ما يؤكل ؟ ، فقدموا له بعضاً السمك المشوي وشهد عسل، فأخذ وأكل أمامهم، مما يدل على أنه قام من بين الأموات بجسد حقيقي، وأنه الجسد عينه الذي كان له قبل موته، بدليل أنه أحتفظ فيه بثقوب المسامير في يديه وقدميه، ويأثر طعنة الحرية في جلبه. فكان بذلك باكورة الراقدين الذين يقومون في اليوم الأخير بأجسادهم نفسها التي كانت لهم أثناء حياتهم على الأرض، وإن كان لابد من تغير في الصورة والشكل ( 1كو 15 : 20 و 23و 51 و52) . فالجسد الفاسد يصير غير قابل للفساد، والجسد القابل للموت يصير غير قابل للموت (1کو 15: 53 و54) . وقد كانت قيامة السيد المسيح هي أبلغ برهان على صحة عقيدة القيامة التي كان يذكرها الكثيرون من فقهاء اليهود ولا سيما الصدوقيين.

وبعد أن أقنع الرب تلاميذه بأنه هو مطلعهم وقد عاد إلى الحياة كما سبق أن أنبأهم مراراً، قال لهم وهذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم، إذ قلت لكم إنه لابد أن يتم ما هو مكتوب عني في شريعة موسى ونبوءات الأنبياء والمزاميره . حينئذ فتح أذهانهم ليفهموا الأسفار المقدسة، وقال لهم ، هكذا هو مكتوب، وهكذا كان ينبغي أن يتألم المسيح ثم يقوم من بين الأموات في اليوم الثالث، وينبغي أن يبشر باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا بين كل الأمم إبتداء من أورشليم، وأنتم شهود لذلك. وها أناذا أرسل إليكم ذلك الذي وعـد بـه أبي. فامكثوا في مدينة أورشليم إلى أن توشحوا بقوة من الأعالي، . وقد كان له المجد يعني أنه سيرسل إلى تلاميذه الروح القدس، الذي سيحل عليهم فيمنحهم نعمة إلهية يستمدون منها القوة والقدرة على صنع المعجزات والنطق بالتعاليم السماوية التي تجذب الناس في كل أنحاء الأرض إلى حظيرة رب المجد، والثبات أمام كل ما سيلاقونه في سبيل التبشير به من ألوان الاضطهاد والعنت والعسف والتشريد والتعذيب إلى حد الاستشهاد . ولقد سبق له المجد فوعدهم أكثر من مرة بحلول الروح القدس عليهم، إذ قال لهم ، وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي، فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم، (يو 14: 26) وقال لهم ومـنـي جـاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من لدن الآب، روح الحق المنبثق من الآب، (يو 15: 7 و26).

لو24: 50-53 صعود السيد المسيح إلى السماء :

ثـم خـرج لـه المـجـد بتلاميذه إلى بيت عنيا إحدى ضواحي أورشليم، وهي تلك القرية التي شهدت كثيراً من الأحداث، فقد بات الرب يسوع فيها كثيراً، ومر بها في طريقه إلى أورشليم يوم أحد الشعانين (مر 11: 1؛ 19: 29)، وفيها قبل دعوة سمعان الأبرص ودخل بيته وجـلس إلى مائدته، وهناك سكبت مريم أخت لعازر قارورة طيب كثير الثمن على رأسه (مت 26: 6)؛ (مر 14: 3)؛ (يو 11: 2) كما أن فيها صنع الرب معجزة إقامة لعازر من بين الأموات، إذ كان لعازر وأختاه مريم ومرثا من هذه القرية (يو 11: 1).

وإذ بلغ الـرب مـع تـلامـيـذه بيست عليا رفع يديه وباركهم. وقد سبق له كما ورد في الإنجـيـل للقديس مـرض أنه وضع يده على الأطفال وباركهم (مر 16:10) وبذلك نجد في الإنجـيـل تـكـنـة لمـنـح الـبـركـة بـوضـع الـيـد. ونجـد تـأيـيـدا لهـذا فـي العـهـد القـديم من الكتاب المقدس إذ قال عن يشوع بن نون إنه أمتلأ روح حكمة إذ وضع موسى عليه يديه، (تث 34: 9)؛ (عد 27: 18 و 23).

وفيما كان الرب يبارك تلاميذه افترق عنهم وصعد إلى السماء. فكان هو الوحيد الذي صعد إلى السماء بقوة لاهوته. فلم يرد عن أحد آخر من البشر أنه صعد إلى السماء بذاته، مصداقاً لقول السيد المسيح لنيقوديموس «ما من أحـد صعد إلى السماء إلا ذلك الذي نزل من السماء. ابن الإنسان الذي هو في السماء، (يو 13:3) – وانظر (أم 4:30)؛ (مر 16: 19)؛ (لو 9: 51)؛ (يو 6: 62؛ 16: 28)؛ (أع 1: 2 و 9 و 11)؛ (أف 4: 8 -10)؛ (1تي 3: 16)؛ (1بط 3: 22). حقا لقد جاء في الكتاب المقدس أن إيليا صعد في العاصفة إلى السماء، ولكن إيليا لم يصعد بقوة ذاته بل حملته مركبة من نار وخيل من نار (2مل 2: 11). كما أن جسد السيدة العذراء مريم سعد إلى السماء، ولكن محمولاً على أيدي الملائكة. وأما الرب يسوع فـهـو وحـده الذي صعد إلى السماء بقوة لاهوته . وقد كـان صعوده هذا إلى السماء هـو الختام الظافر لعمل الفداء، وقـد عبـر عـن ذلـك بولس الرسول قائلاً بالوحي الإلهي إن الرب يسوع ليس بـدم نـيـوس وعـجـول، بـل بـدمـه هـو نفسـه دخل الأقداس مرة ، فوجد فداء أبدياً، (عب 9: 12؛ 4: 14؛ 7: 26 ؛ 8: 1) .

وأما التلاميذ فحين رأوا معلمهم يسعد أمام أعينهم إلى السماء سجدوا له سجود العبادة كإنه، ثم رجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم، ولم يعودوا حزاني كما كانوا بعد موته، إذ عرفوا حقيقته وآمنوا بألوهيته، فتحقق بذلك قوله لهم الحق الحق أقول لكم إنكم أنتم ستبكون وتتوحون والعالم يفرح. أنتم ستحزنون ولكن حزنكم سيتبدل فرحاً.. أنتم تحزنون الآن، ولكني سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم، (يو 16: 20- 22).

وكـان التـلامـيـذ بـعـد ذلك كل حين في الهيكل يسبحون الله ويباركونه. والهيكل هذا هو الهيكل اليهودي الذي كانوا يترددون عليه كما كان يفعل معلمهم (أع 3: 1؛ 21: 26 و 27 ؛ 24: 18 ؛ 26 : 21). ولو كان اليهود قد آمنوا بالمسيح وقبلوا ديانته لظل الهيكل هو بيت الرب بعد تطويره وتغييره ليسير موافقاً ومناسباً للتعليم المسيحي، ولتحول إلى كنيسة مسيحية. ولذلك فإن علية صهيون لم تلبث أن صارت هي البديل للهيكل بالنسبة لتلاميذ المسيح، وقد أصبحت أول كنيسة مسيحية، وهي التي سبق للسيد المسيح أن أكل فيها الفصح مع تلاميذه، وسلّم فيها لهم العشاء الرباني، ومن ثم أصبحوا يجتمعون فيها بعد صعوده (أع 1: 13) وحل عليهم فيها الروح القدس في يوم الخمسين (الأعمال 2). آمين. 

تفسير إنجيل لوقا – 23 إنجيل لوقا – 24 تفسير إنجيل لوقا تفسير العهد الجديد فهرس
الأنبا غريغوريوس
تفاسير إنجيل لوقا – 24 تفاسير إنجيل لوقا تفاسير العهد الجديد

 

زر الذهاب إلى الأعلى