تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 19 للقمص متى المسكين

الأصحاح التاسع عشر:

7 – زكا رئيس العشارين (1:19-10)

القديس لوقا وحده

هذه آخر قصة عن المسيح على الطريق الطويل الذي اتخذه في رحلته إلى أورشليم، وقد قصد ق. لوقا أن تكون صالحة لتتبوأ مركز القمة في أهميتها بالنسبة لخدمة المسيح. على أنها تعطي انطباعات عديدة يعتبرها ق. لوقا أنها على غاية من الأهمية. فهي تمثل المثل الأقوى لصورة المسيح في الإنجيل الذي يجري وراء الخاطئ والمنبوذ، والمسيح يأخذ في تعامله مع الخاطئ دور المبادرة والمفاجأة بالحب والعطف والاستقبال، وإمعاناً في تقديم نفسه كصديق حقيقي للعشارين دعا نفسه ليدخل بيته ويأكـل عنـده؛ شيء لو نظرناه بمنظار أن المسيح يمثل الله فعلاً لانذهلنا من هذا الإجراء، هل إلى هذا الحد الله يهمه الخاطئ؟ وهل إلى هذا الحد يتنازل الله ليصادق الخطاة؟ وهل ليس عند الله مانع أن يجلس على مائدة ويأكل مع الخاطئ راضياً وقائعاً بكل نقائص هذا العمل الذي لا يرضاه المطهرون؟

ولكـن مـن أكثر الأمور أهمية في هذه القصة أن زكا كان رجلاً غنياً بمعنى الكلمة، غنى فاحشاً باستخدام أساليب الغش والتدليس المعروفة لدى العشارين جباة الضرائب . ففرحة زكما بدعوة المسيح له وبطلب دخوله بيته والأكل معه أعطت صورة لكيف استجاب زكما لهذه المحبة والمجاملة من المسيح بأن أعلن كيف ستؤول أمواله إلى الفقراء والمساكين، وكيف سيغير سلوكه ويعوض كل من أساء إليه. فبالنهاية أعطى زكا مثلاً حيا واقعياً لكيفية دخول الغني ملكوت الله!! «ها أنا يا رب أعطي نصف أموالي للمساكين، وإن كنت قد وشيث بأحد أرد أربعة أضعاف. فقال له يسوع: اليوم حصل خلاص لهذا البيت، إذ هو أيضاً ابن إبراهيم» وإذ يقدم ق. لوقا المسيح قائلاً في نهاية القصة: « لأن ابن الإنسان قد جاء ليخلص ما قد هلك» يكون قد وضع هذه الآية كتاج فوق إنجيله! 

1:19و2 «ثم دخل واجتار في أريحا. وإذا رجل اسمه زكا، وهو رئيس للعشارين وكان غنيا».

هنا تفتتح القصة بآية اتصال لتتوافق مع الكلام السابق وما قبله، ويلاحظ أن الكلام قبل السابق كان عن تعذر دخول الأغنياء ملكوت الله، وأنه لما استصعب التلاميذ الأمر وقالوا: من يخلص؟ قال لهم: غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله، وهوذا المسيح هنا يقدم مثلاً يؤكد ما قاله. والإنجيل أعطى صفات لكا تهمنا للغاية أنه كان رئيساً للعشارين، ثم أنه كان غنياً.

3:19و4 «وطلب أن يرى يسوع من هو، ولم يقدر من الجمع، لأنه كان قصير القامة. فركض متقدماً وصعد إلى جميزة لكي يراه، لأنه كان مزمعاً أن يمر من هناك».

محاولة جادة من زكا لرؤية المسيح، إذ هو يعلم تماماً أنه كان صديقاً للعشارين، فتاقت نفسه أن تراه. ولما كان الجمع يزدحم حوله ترك الجمع وصعد إلى جميزة لكي يراه بوضوح، لأنه كان قصير القامة. وسنجد في الحقيقة أن شهوة زكا لرؤية المسيح كان يصاحبها إحساس داخلي بشوق شديد أن يسمعه، لأنه كان غالباً غير راض عن حياته ويسعى داخلياً إلىطريق يخرجه من همومه. 

5:19و6 «فلما جاء يسوع إلى المكان، نظر إلى فوق فرآه، وقال له: يا زكا، أسرع وانزل، لأنه ينبغي أن أمكث اليوم في بيتك. فأسرع ونزل وقبله فرحاً».

لم تكن مصادفة أن يمر المسيح من تحت هذه الشجرة بالذات، ولم تكن مصادفة أن ينظر إليه. لأن الكلام يقطر ودا. ودعوة المسيح لزكا بسرعة النزول دعوة ذات مشاعر وديبة لكي يتقابل معه ويذهب معه إلى بيته. ويبدو أن زكما كان اسمه وارداً في أجندة هذا اليوم لتكميل عملية خلاص أخيرة في منهج خدمة المسيح الطويلة. وكان زكا في المقابل فرحاً فقد شعر بتكريم من الرب فوق العادة، فلم يصنع كبطرس الذي قال للرب: «اخرج من سفينتي يا رب لأني رجل خاطئ» (لو 8:5). زگا قبل دعوة المسيح لنفسه بنوع من الامتياز الفائق أن يدخل المسيح تحت سقف بيته ولم يستكثر خطيته على المسيح.

7:19و8 «فلما رأى الجميع ذلك تذمروا قائلين: إنه دخل ليبيت عند رجل خاطئ، فوقف زكا وقال للرب: ها أنا يا رب أعطي نصف أموالي للمساكين، وإن كنت قد وشيت بأحد أرد أربعة أضعاف».

وهنا ليس الفريسيون هـم الـذين تذمروا بـل اليهود، الشعب الملتف حول المسيح، لأنهم أيضـاً أقرب إلى فئة العشارين ويعرفون أعمالهم وسلوكهم، فهو في نظرهم رجل خاطي، ودخول المسيح إلى بيته يعني مباشرة أنه يشترك معه في خطيته بالموافقة. وهذا عينه ما أراده المسيح، لأن مجيئه إلى أورشليم كان
بسبب ذلك ومن أجل ذلك، لكي يحمل خطايانا في جسده على الخشبة. ولكن الإنسان لا يرحم أخاه ولا يرتاح إن رأى أحدا يرحمه. ولكن سرعان ما انطلق زكا يدافع عن نفسه وعن معلمه ويرد على تذمر المتذمرين، بإعطاء النذر أن يعيش حياة جديدة إكراما للمسيح الذي زاره ودفاعا عنه من سيئة يتحملها بسببه، فقدم زكا توبة ذات فاعلية كما بقسم. علما بأن التعويض المطلوب رسميا كان 20% من ماله بحسب حكم الربيين. وجعل الدفع فورا وكأنه في الحال تبريرا لموقفه. وفي الشرع أن التعويض يكون نفس الكمية المختلسة مضافا إليها خمس الكمية (لا 6: 5-1). ولكن في حالة اختلاس الظلم يكون الرد أربعة أضعاف. وهذا الحكم حكم به داود النبي على الرجل الذي يغتصب نعجة غيره، وهو لا يعلم أن النبي كان يضعه في مأزق لأنه هو الذي أخذ نعجة، بثشبع امرأة أوريا الحثي: «فحمي غضب داود على الرجل جدا (وهو نفسه) وقال لناثان (النبي): حي هو الرب أن يقتل الرجل الفاعل ذلك ويرد النعجة أربعة أضعاف لأنه فعل هذا الأمر ولأنه لم يشفق.» (2صم 12: 5ر6)

كذلك أمرت الشريعة: إذا سرق إنسان ثورا أو شاة فذبحه أو باعه يعوض عن الثور بخمسة ثيران وعن الشاة بأربعة من الغنم»، (خر 1:22). ويعتقد أن القانون الروماني والقانون المصري كان يأمر بذلك.

10,9:19 «فقال له يسوع: اليوم حصل خلاص لهذا البيت، إذ هو أيضا ابن إبراهيم، لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك».
عحيب هو الرب! وهكذا تمتد رحمته من الخاطئ إلى كل بيته!! كما حدث لكرنيليوس. فسخاء الله لا يوازيه سخاء، إذ للرب أفكار علت عن أفكارنا كعلو السماء عن الأرض (إش 9:55). هم قالوا إنه رجل خاطى لا يصح للمسيح أن يدحل بيته وإلا يكون قد اشترك في خطيته، فدخل الرب ورفع خطيته
على الصليب بعمل مسبق، ونجَّاه هو وأهل بيته بالرغم من أنه عشار وخاطي، ولسان حاله يقول: ألست أنا الراعي الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف؟ هذا العشار خروف إسرائيل الضال وجدته فأدخلته الحظيرة.
ولكن لا يفوتا أبدا أنه غني، ولكن إذ وفيَّ حق الشريعة خلص وتـبرأ. والذي يعطي نصف أمواله للفقراء يصبح غنيا في العطاء.

أما الآية الأخيرة في القصة: «لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك» فقد صاغها المسيح في قالب الراعي الصالح على مستوى البشرية.

وفي الحقيقة خلاص زكا هو وأهل بيته وهو رئيس للعشارين ورجل غني يعتبر قمة عمل الخلاص مطبقاً على أصعب ظرف مر بنا حتى الآن. وهكذا قصد ق. لوقا قصداً أن يضعه كآخر قصة في إنجيله، لكي يلفت نظرنا إلى اتساع صدر الصليب وعمقه المديد وارتفاعه اللانهائي.

سادساً: الخدمة في أورشليم (11:19-38:21)

سار المسيح من أريحا صاعداً إلى أورشليم، وقد أخذ ق. لوقا من إنجيل ق. مرقس ما يختص بهذا القسـم مـا عـدا (11:19-27). والمسيح يدخل أورشليم على أتان ويتنبأ عن خرابها (28:19_44). ويهتم ق. لوقا بالهيكل بنوع خاص كمقر لأعمال المسيح وخدمته (45:19-48)، ويبتدئ يتعرض للاختلاف بين الرؤساء والمسيح كما هو في إنجيل ق. مرقس، ويتكلم عن حوادث آخر الأيام للتلاميذ (38-5:21) والشعب كان دائماً مستعداً للسماع ولكن الرؤساء يتصدون، أما رؤية ق. لوقا العامة فكانت ضد أورشليم.

( أ ) مثل العشر وزنات (أمناء Pounds) (27-11:19)

(مت 25: 14-30)

 ظل المسيح يكلم الجماعة نفسها وكانوا يعتقدون أن ظهور ملكوت الله حالاً، خصوصاً أنه قال لتلاميذه: إن ملكوت الله قد اقترب . لذلك ظنّ التلاميذ أنه بمجرد وصول المسيح أورشليم سيظهر ملكوت الله، لذلك قال المسيح هذا ليطرد من ذهنهم مسألة حضور الملكوت وشيكاً. والمثل يوضح خطين متلازمين من الفكر: الأول أن المسيح سيذهب ويتركهم ولن يقام ملكاً وسيرفضونه، وعلى ذلك تكون الدينونة، وخط الفكر الثاني أن المؤمنين بالمسيح إنما عليهم أن يستمروا في الخدمة طالما غاب المسيح عنهم.

هذا المثل يؤكد أنه ستكون هناك فترة ليست قصيرة بين تكميل خدمة المسيح وذهابه ثم عودته ثانية. وهذه الفترة من الغياب هي التي اهتم بها المسيح في المثل. على أن المثل أيضاً مهتم بحقيقة الملكوت الآتي ومسئولية المؤمنين في استخدام مواهبهم لتؤهلهم للدخول في النهاية. وعلى هذا نجد أن هذا المثل يشمل العمـل المسيحي الآن وعمـل المستقبل الآتي. وعلـى هـذا فـإن المثـل يـضـع مسئولية على المؤمنين في استخدام مواهبهم الروحية في غياب المسيح دون القلق في الانتظار. وعلى العموم، لا ننسى أن هذا المثل وضعه المسيح لينفي ظهور الملكوت وشيكاً، فهو موضوع على أساس ماذا نعمل في غياب المسيح حتى يجيء.

11:19 «وإذ كانوا يسمعون هذا عاد فقال مثلاً، لأنه كان قريباً من أورشليم، وكانوا يظنون أن ملكوت الله عتيد أن يظهر في الحال».

إذا انتبهنا إلى العلاقة بين الحديث السالف وهذا المثل نستشف المعنى المقصود، ففي الكلام السابق سمع التلاميذ والجموع قول المسيح: «اليوم حصل خلاص لهذا البيت» هذا هو الذي هيج فكر الجماعة أن الملكوت عتيد أن يظهر في الحال. لذلك كـان هـم المسيح أن يوضح أنه نعم : يحدث خلاص اليـوم (9:19)، ولكن ملكوت الله لا يظهر. وعلينا أن نذكر أن هذا الكلام حدث في أريحا على بعد 17 ميلاً من أورشليم، ولهذا كان فكرهم أنه بمجرد دخول المسيح أورشليم سيظهر الملكوت، وكان جهد المسيح محصوراً في هذا المثل ليقنعهم أنه سيدخل وسيغيب أيضاً قبل أن يحدث ما ينتظرونه.

12:19و13 «فقال: إنسان شريف الجنس ذهب إلى كورة بعيدة ليأخذ لنفسه مُلكاً ويرجع. فدعا عشرة عبيد له وأعطاهم عشرة أمناء، وقال لهم: تاجروا حتى آتي». 

هنا أهـم جـزء في هذه الآية ذهاب الإنسان الشريف الجنس إلى كورة بعيدة (بعـد السـماء عـن الأرض)، ثم إنه يدبر لنفسه ملكاً (ملكوت) وهذا نعرفه نحن أنه غياب المسيح بعد القيامة: «ينبغي أن السماء تقبله إلى أزمنة ردّ كل شيء.» (أع 21:3)

«عشرة أمناء»:

المنا الواحد عملة يونانية تساوي 100 دراخمة (درهم)، ربما تساوي خمس جنيهات إنجليزي وربما تساوي أجر ثلاثة شهور خدمة. ولما أعطاهم الودائع اشترط أن يأخذ الربح عند عودته.

14:19 «وأما أهل مدينته فكانوا يبغضونه، فأرسلوا وراءه سفارة قائلين: لا نريد أن هذا يملك علينا».

واضح أنه يتكلم عن اليهود ورؤسائهم ورفضهم للمسيح أن يملك عليهم، هذا تم بالحرف الواحد، ولكن العجيب أن المسيح يتخطى اليهود ورؤساءهم وملكهم الفاني ويتكلم عن فوزه بالمملكة!!

15:19 «ولما رجع بعد ما أخذ الملك، أمر أن يدعى إليه أولئك العبيد الذين أعطاهم الفضة، ليعرف بما تاجر كل واحد».

وهنا وبالرغم عن أنف البعثة غير السلامية التي ذهبت تقول لا نريد أن هذا يملك علينا، رجع الشريف حائزاً على مملكته، وعليه دعا عبيده ليحاسبهم عن تجارتهم. تصوير إبداعي لمجيء المسيح بعد غيابه الطويل ليكافئ المكافأة العظمى والأخيرة للذين جاهدوا واحتملوا المشقات من أجل الوزنات التي سلمت إليهم: الإيمان والرجاء والمحبة وكل مفاعيل الخلاص من النعمة الموهوبة مجاناً أصلاً. وحينئذ يدرك الإنسان أن جهاد الإيمان والمحبة ليس ضائعاً أو بلا مقابل؛ بل المقابل فوق تصـور العقل لأن المجازاة ليسـت مـن قـيـاس ولا صنف الجهاد، لأن الجهاد جسدي نفسي أميا الملكوت فإلهي.

16:19و17 «فجاء الأول قائلاً: يا سيد، مناك ربح عشرة أمناء. فقال له: نعما أيها العبد الصالح، لأنك كنت أميناً في القليل، فليكن لك سلطان على عشر مدن».

واضح أن الوديعة التي تركها الرجل الشريف مالية قابلة للربح المادي، وهذا اعتبره من جهة النوع أو القياس أنه “القليل”، أما المكافأة فجاءت على مستوى المدن. معنى هذا أن الشريف قد جاء ومعه مملكته أو ملكوته. والآن يجيء دور توزيع الملكوت أو إعطاء المراكز في الملكوت التي ظهرت أنها مدن بالنسبة للمملكة. وهنا يقف العقل والقلم. ما هي المدن في ملكوت المسيح؟ واضح أنها من صنف الملكوت، ولكـن مـا هـو العمل أو السعادة هناك؟ القديس لوقا توقف هنا، أما ق. متى فأوضح قـول المسيح للذي ربح: «ادخل إلى فرح سيدك» (مت 21:25). هنا عرفنا أن القيمة القياسية للجهاد هنا الفـرح هناك، ولكـن الفـرح لا يعطى دون مسببات، فكما نفرح بمكسب المال هنا سوف نفـرح بكسب شيء يتناسب مع الفرح السماوي أو الإلهي. إلى هذا الحد يقف الفكر والقلم، غير أن الفرح الإلهي قد أُعطي لنا منذ الآن أن نسبق ونتذوقه في قربنا من المسيح أو إحساسنا بعمل الروح القدس في قلوبنا، حيث نحس بفرح من نوع لا يعرفه العالم. ويقول المسيح إنه لا يستطيع أحد أن ينزع هذا الفرح منًا (يو 22:16). إذن، هو فرح ملكوت الله الذي نكون قد بدأنا به هنا لينتقل معنا هناك، ليأخذ مداه غير المحصور لا بفكر ولا يزمان ولا بمكان . 

19,18:19 «ثم جاء الثاني قائلاً: يا سيد، مناك عمل خمسة أمناء. فقال لهذا أيضاً: وكن أنت على خمس مدن».

كان جواب الإنسان الشريف الجنس وقد جاء ومعه الملك أن أعطاه أن يكون على خمس مدن، وفي إنجيل ق. متى ليس أكثر من «ادخل إلى فرح سيدك» لذلك نرى أن ق. لوقا يقدم تقليداً جديداً في الشرح يقوم على أساس أن المختارين سيكون لهم في الملكوت عمل روحي كقيادة ومسئولية على أنه ستستمر المواهب الروحية تعمل على مستوى أعلى في القيادة والريادة؛ وربما التعليم آخرين، بمعنى بطرق تتناسب مع التكوين الجديد للروح أو النفس الروحانية هناك، إذ لا يوجد كلام يسمع ويفهم بل مخاطبة بالتخاطر الذهني الروحي دون سمع أو كلام، فالذي في ذهن المعلم ينتقل بالتخاطر إلى ذهن المتعلم فيزداد معرفة.

20:19و21 «ثم جاء آخر قائلاً: يا سيد، هوذا مناك الذي كان عندي موضوعاً في منديل، لأنّي كنت أخاف منك، إذ أنت إنسان صارم، تأخذ ما لم تضع وتحصد ما لم تزرع».

هنا نجد العقاب شنيعاً حيث أمر الملك أن المواهب التي أعطيت له من نعم وبركات الفداء والخلاص والمصالحة والتبني تُرفع – عنه، وبالتالي استحالة أن يدخل ملكوت الله بلا مؤهلات، فهو لم يكن أميناً في القليل فليس له نصيب في الكثير، في حين أن صاحب العشرة والخمسة انطلق بمواهبه إلى الملكوت كمؤهلات يعمل بها على مستوى أعلى. فهنا يتحقق لنا أكثر أن اشتغالنا بما أعطانا المسيح من مواهب هو الذي يؤهلنا لدخول الملكوت؛ بل يضعنا هناك في الدرجة اللائقة بنشاطنا وخدمتنا ومعرفتنا ووعينا الروحي للاستمرار في عملنا الروحي على مستويات عليا وإلى مدى لا نهائي.

22:19_24 «فقال له: من فمك أدينك أيها العبد الشرير. عرفت أني إنسان صارم، آخذ ما لم أضع، وأحصـد مـا لـم أزرع. فلماذا لم تضع فضتي على مائدة الصيارفة، فكنت متى جئت أستوفيها مع ربا؟ ثم قال للحاضرين: خذوا منه المنا وأعطوه للذي عنده العشرة الأمناء».

 هنا جوزي العبد الكسلان والمهمل، بل والغبي، بالحرمان الكلي. فالذي كان رسمياً له بنوع العمومية وأهمله أُخذ منه. ولكن الأخطر أنه أصبح غير صالح لأخذ عمل فوق. وفوق ليس للعاطل مكان ولا عمل، لهذا أخرج خارج الملكوت حيث الظلمة. أما قوله احتجاجاً على كسله وغباوته أنه خاف . السيد الشريف واعتبره يجازي جزافاً وبلا عدل، فاتخذه السيد أو الملك الآن أساساً لمعاملته بمقتضى ما نسبه للسيد الشريف. هذه النظرة نسمعها في الحقيقة تماماً من الذين يرفضون الحياة الروحية والانتظام في الكنيسة والمواظبة على التعليم في الإنجيل بنفس هذه الصورة الغبية من الحجج: أن الحياة الروحية صعبة وأن الإنجيل صعب وغير مفهوم وأن دراسة الروحيات ومعرفة الواجبات الدينية نير ثقيل وليس أي مسرة فيه ولا تُرى فيه أي قيمة ـ فيا للحسرة والحزن على مثل أولئك الجهلة مهما كان علمهم وفهمهم وذكاؤهم، فهم في عداد ذلك «العبد الشرير» الذي نسب هذه الأوصاف للسيد الشريف الذي هو بفصيح العبارة المسيح. فنال جزاء مريعاً: الحرمان من الملكوت أي من رؤية الله والحياة عنده، والبقاء بعيداً عن النور والحق الإلهي إلى الأبد! أي خسارة هذه؟

والملاحظ هنا أن مثل هؤلاء الذين حرموا أنفسهم من الإنجيل والقراءة الروحية والاهتمام بالحياة الأبدية ومعرفة الفداء والخلاص بإرادتهم وبمنتهى حريتهم، سيحرمون منها هناك إلى الأبد مع تحمل عقوبة الحرمان من الله ومن رحمته ونعمته كأب.

إذن، فالدينونة وعقابها هي من صنف ومستوى العمل ولكن بصورة أبدية.

أما تأكيد الملك أن الذي عنده المنا يؤخذ منه، فمعناه لا رجعة ولا إمكانية للخروج من نصيبه في الظلمة، على أن أي إنسان لا يستطيع قط أن ينسب الله ظلماً. فالمسيح أعطى المواهب وطالب العمل بها ووعد العاملين بالملكوت! فإذا لم يمارسوا عملهم بالمواهب تنزع منهم ويحرمون من الله!

وطبعاً لا يفوت علينا أننا بصدد ذهاب المسيح وغيابه طويلاً، وفي غيابه الطويل أعطينا مواهب نعمل بها ونمارسها لنربح للمسيح مؤمنين جدد بانتظار مجيئه والمحاسبة وفتح الملكوت.

26,25:19 «فقالوا له: يا سيد عنده عشرة أمناء. لأني أقول لكم: إن كل من له يعطى، ومن ليس له فالذي عنده يؤخذ منه».

هنا قانون العمل الذي يعرفه جيداً الذين يعملون: أنه لو كان عندك عمل هام تريد أن تنجزه بسرعة لا تعطيه لإنسان ليس عنده عمل، بل أعطه لمين عنده عمل كثير فهو سينجزه لك أكيداً. وهذه هي نظرية التعامل روحياً ـ فالذي يجاهد حسناً يضاف عليه لتزداد له المكافأة لأنه أقدر لها وأولى بها. أما الكسول فكل ما يعطى له سيتلف، فلذلك يتحتم أن يؤخذ .

27:19 «أما أعدائي، أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم، فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي».

إن كان حاشا للسيد القدوس المبارك أن يأمر بشر أو يتسبب في حزن أو يرضى بألم الإنسان ولكن هذا قانون الناس. فالمسيح هنا يطبق قانون الناس، وقد انطبق عليهم بسبب سوء أعمالهم وجهلهـم وحماقتهم، أولئك الذين حاربوا روما وقتلوا ضباطهم انتظاراً منهم أن يهوه يتحمس ويرسل لهم “مسيا” الذي ذبحوه، فذبحهم تيطس في المكـان الـذي أشار إليـه السـيد. فحمـاقتـهـم الـتـي عـاملوا بهـا المسيح، وجهلهم وعماهم الروحي الذي جعلهم يذبحون المسيح على الصليب، بتقديم شهادات زور وتلفيقات في عريضة الاتهام التي كانت كلها أكاذيب ليتخلّصوا من توبيخه لهم ـ هي نفس الحماقة التي عاملوا بها الرومان، ولكن الرومان ليسوا كالمسيح، فالمسيح طلب من الآب أن يغفر لهم جرمهم المريع فغفر، ولكن الرومان لا يغفرون! فالذين في النهاية سيساقون إلى الظلمة التي هي الحرمان الدائم من الله، هم الذين يكتبون بأيديهم وثيقة الحرمان الله منذ الآن. 

(ب) المسيح يصل إلى مشارف أورشليم (28:19-40)

(مت 1:21-11)
(مر1:11-11)
(يو12:12-19)

 وأخيراً وصـل المسيح ومعه جوقة من التلاميذ والشعب الزاحف وراءه حتى مشارف أورشليم. وتكميلاً لنبوة زكريا (زك 9:9) طلب جحشاً وجلس عليه وبدأ يدخل المدينة من منحدر جبل الزيتون من بابها الشرقي، وهو محاط بتهليل التلاميذ والناس الذين زادت حماستهم جداً، ظناً منهم أنه سيعلن نفسه المسيا ويعلن حكم مملكة داود، فقالوها صراحة حسب إنجيل ق. مرقس: «والذين تقدموا والذين تبعوا كانوا يصرخون قائلين أوصنا مبارك الآتي باسم الرب، مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب. أوصنا في الأعالي» (مر 11: 9و10). ثم يقول ق. مرقس إن المسيح لمها دخل إلى المدينة ودخـل الهيكل، «وليا نظر حوله إلى كل شيء إذ كان الوقت قد أمسى خرج إلى بيت عنيا مع الاثني عشر» (مر 11:11). ثم عاد المسيح بعد أن بات في بيت عنيا ودخل المدينة والهيكل، ولكن في الطريق لعـن شجرة التين إذ لم يجد فيها ثمراً. وكانت هذه نبؤة عن إسرائيل التي لم تخرج ثمراً بعد فلاحتها بالكلمة. وقال: «لا يأكل أحد منك ثمراً بعد إلى الأبد» (مر 14:11)، وقد كان. «ولميا دخل يسوع الهيكل ابتدأ يخرج الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام ولم يدع أحداً يجتاز الهيكل بمتاع.» (مر 11: 15و16)

أما ق. متى فوصف موكب الدخول إلى أورشليم بتدقيق جميل: «والجمع الأكثر فرشوا ثيابهم في الطريق وآخرون قطعوا أغصاناً من الشجر وفرشوها في الطريق» (مت 8:21). ولكن ق . مرقس هو الوحيـد الـذي ذكر “مملكـة أبينا داود” في هتاف الجموع، الأمر الذي أثار غضب الكتبة ورؤساء الكهنة. ويقول ق. مرقس: «فطلبوا كيف يهلكونه لأنهم خافوا إذ تمت الجمع كله من تعليمه.» (مر18:11)

ولما صار المساء خرج مع تلاميذه، ولما عاد في الصباح رأوا التينة التي لعنها المسيح فقال له بطرس: « يا سيدي انظر التينة التي لعنتها قد يبست .» (مر 21:11)

ويقول ق. مرقس أيضاً إن المسيح «فيما هو يمشي في الهيكل أقبل إليه رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ وقالوا له: بأي سلطان تفعل هذا ومن أعطاك هذا السلطان حتى تفعل هذا» (مر 11: 27و28). أما المسيح فهو لا يرد على الأسئلة أبداً إلا بسؤال محرج، فأحرجهم لما سألهم عن يوحنا المعمدان هل كان من الناس أم من الله فارتبكوا ولم يجيبوه لأنهم لم يؤمنوا به، ومعروف لدى الشعب أنه كان نبيا، فخافوا الشعب وسكتوا. ووجدها المسيح فرصة فتكلم عن الكرامين الأردياء وكيف قتلوا كل الرسل الذين أرسلهم صاحب الكرم ليأخذوا من ثمر الكرم، وأخيراً قتلوا الابن الوحيد المحبوب لميا أرسله، فأخذوه وقتلوه خارج الكرم. وسألهم: «فماذا يفعل صاحب الكرم. يأتي ويهلك الكرامين ويعطي الكرم إلى آخرين … فطلبوا أن يمسكوه ولكنهم خافوا من الجمع. لأنهم عرفوا أنه قال المثل عليهم. فتركوه ومضوا» (مر 12: 1-12). وكان المسيح واقعياً وعجيباً في هذا المثل إذ وصف قاتليه وهم أمامه ولم يستطيعوا أن يمسكوه لأنهم خافوا الشعب في العيد.

ونحن نستسمح القارئ عذراً لأننا قدمنا صورة أكثر تدقيقاً من التي قدمها ق. لوقا، ولكن لأن كلاً من ق. لوقا وق. متى أخذ عن ق. مرقس قصة دخول المسيح أورشليم، فالذي حذفه ق. لوقا اعتنينا أن نسجله هنا حتى لا يحرم القارئ من صورة كاملة لدخول المسيح أورشليم.

والآن نعود إلى ق. لوقا آية آية كالمعتاد.

31-28:19 «ولما قال هذا تقدم صاعداً إلى أورشليم. وإذ قرب من بيت فاجي وبيت عنيا عند الجبل الذي يدعى جبل الزيتون، أرسل اثنين من تلاميذه قائلاً: إذهبا إلى القرية التي أمامكما، وحين تدخلانها تجدان جحشاً مربوطاً لم يجلس عليه أحد من الناس فحلاة وأتيا به. وإن سألكما أحذ: لماذا تحلأنه؟ فقولا له هكذا: إن الرب محتاج إليه».

 «بيت فاجي» معناها: “قرية التين”، أما «بيت عنيا» فتعني: “بيت التمر (البلح) أو بيت العناء”. وهي العازرية الآن نسبة إلى لعازر، على بعد ميلين من أورشليم في الاتجاه الجنوبي الشرقي. وهو المكان الذي تعين لصعود الرب من هناك. ولكن – وحسب قول الملاكين (أع 11:1) ـ هل سيكون مكان ظهوره الثاني؟

يأخذ القديس لوقا كل محتويات هذه القصة من إنجيل ق. مرقس، لذلك سنرجع إلى إنجيل ق. مرقس من حين إلى حين لنضع النقط على الحروف. هنا صعوبة المدخل إلى القصة في إحضار الجحش، ولكن أمامنا حلّين: الأول أن القرية هي بيت عنيا حيث يوجد أصدقاء المسيح، وربما رتّب المسيح مع أصحاب الجحـش أنـه سيرسـل ويأخـذه. ولكـن الحـل الثـاني وهـو أكثـر إلهامـاً وهـو يتعلـق بالكلمة التي قالها المسيح هنا عن قصد لتنبيه الأذهان أنه إذا سألكما أحد لماذا تحلأن الجحش فقولا: الرب” محتاج إليه» هنا كلمة السر بمعنى أن المسيح يعرف ما سيكون بروحه، وأن كلمة «الرب محتاج إليه» إشارة إلى أن الأمر فائق على السؤال والجواب، بمعنى أن الله قال!! والأمر الآخر الذي فيه تدخل إلهي واضح هو أن الجحش إذا لم يتدرب على من يركبه ويسوقه مدة لا تقل عن شهر أو أكثر فهو لا يسمح لأحد أن يعتلي ظهره، فكون الجحش لم يجلس عليه أحد قط فهذا أمر آخر للرب تدخل فيه. أما النبوة الخاصة بهذا الجحش في هذا الوقت فهي واضحة للنبي زكريا: «ابتهجي جداً يا ابنة صهيون اهتفي يا بنت أورشليم هوذا ملكك يأتي إليك هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش أتان» (زك 9:9). أول كل شيء هذه نبؤة عن المسيا، وهنا يذكر موضوع الجحش والوضع الملازم له: “ابتهاج وهتاف”. والنبوة خاصة بأورشليم التي ستستقبل ملكها وديعاً راكباً على جحش. وهذا تم بالحرف الواحد. فالجموع التي خرجت مسرعة تقلل له كلهـا مـن أورشليم، أما الابتهاج فهو ابتهاج الخلاص الذي جاءت أيامه، وأما الهتاف فهو من أجل النصرة التي واتت الشعب بعد موات، « هوذا ملكك يأتي إليك منصوراً»

أما الارتباك الذي حدث بين الشراح : بسبب ذكر الجحش والأتان الذي جاء في قول ق. متى: « وأتيا بالأتان والجحش ووضعا عليهما ثيابهما فجلس عليهما» (مت 7:21)، فالحقيقة وراء ذلك هي أن الأتان يجري وراءها ابنها الصغير (جحش) وهو دائماً بجوارها طالما هي مربوطة.

وبرجوعنا إلى السبعينية وجدنا سر “الابتهاج جدا”. وهو أن مجيء الملك يكون بصفته مخلصاً: “لأن الملك يأتيك عادلاً ومخلصاً “. كذلك نجد نبؤة ركوب المسيح جحشاً تأتي مبكرة جداً في سفر التكوين على لسان يعقوب وهو يعطي البركات لأولاده، وهو هنا يتكلم عن يهوذا السبط الذي جاء منه المسيح: «رابطاً بالكرمة جحشه وبالجفنة ابن أتانه، غسل بالخمر ثيابه وبدم العنب ثوبه» (تك 11:49). هنا ينكشف الوضع المسياني للمسيح لحظة ركوبه الأتان ودخوله أورشليم كما جاءت النبوة.

والسؤال هنا على ألسنة العلماء: هل كان المسيح يعلم مضمون دخوله أورشليم راكباً على جحش ابن أتان؟ الجواب نسمعه من المسيح بعد ذلك حينما طلب منه الكتبة ورؤساء الكهنة أن يسكت الصارخين القائلين: «مبارك الآتي باسم الرب، مباركة هي مملكة أبينا داود» ! فكان رد المسيح كما جاء في إنجيل ق. لوقا أنه «إن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ» بمعنى أن الراكب أمامكم ليس ملكاً وحسب, بـل يـهـوه «أمـا قـرأتم قـط مـن أفـواه الأطفال والرضـع هيـأت تسبيحاً؟» (مت 16:21)، (مز 2:8). ولمن التسبيح إلا ليهـوه الخالق، والمزمور واضح كما كتبه داود: «أيها الرب سيدنا ما أمجد اسمك في كل الأرض حيث جعلت جلالك فوق السموات. من أفواه الأطفال والرضع أسست حمداً. بسبب أضدادك لتسكيت عدو ومنتقم.»(مز 8: 1 و2)

واضح هنا أيها القارئ العزيز الانسجام التام بين ما جاء في المزمور وما أراد أن يصفه النبي زكريا وهو يهتف بابنة صهيون، أن اليوم يوم فرحها فملكها المخلص قد جاءها، هذا المشهد المهيب حرك وجدان المسيح ليدرك الحاصل أمامه. لذلك لما طلب أعداؤه أن يسكت المهللين رفع الصورة إلى يهوه الذي يهللون له، المزمور لتسكيت عدو ومنتقم!! «فإن شهادة يسوع هي روح النبوة» (رؤ 10:19). وينتهي أليس الذي قال هذا قال حالاً: «إنسان شريف الجنس ذهب إلى كورة بعيدة ليأخذ لنفسه ملكاً ويرجع»(11:19)؟

والقديس يوحنا يقدم لنا هنا صورة بمية لدخول المسيح: «وفي الغد سمع الجمع الكثير الذي جاء إلى العيد أن يسوع آت إلى أورشليم فأخذوا سعوف النخل وخرجوا للقائه وكانوا يصرخون أوصنا مبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل.» (يو 12: 12و13)

والمسيح سمح بهذه الصورة المسيانية المبهجة ليعطي واقعاً حقيقياً للسلام والفرح الذي سيشتريه بدمه سريعاً ليكون ليس لأورشليم الخائنة بل للعالم بجميع أممه.

35-32:19 «فمضى المرسلان ووجدا كما قال لهما. وفيما هما يحلأن الجحش قال لهما أصحابه: لماذا تحلأن الجحش؟ فقالا: الرب محتاج إليه. وأتيا به إلى يسوع، وطرحا ثيابهما على الجحش وأركبا يسوع».

هذه الآية البسيطة تقول إنهما وجدا كما قال لهما. هي شهادة عـن نبـوة المسيح التي قالها لهما ليكتشفا مدى صدقها، فالقول هنا ليس كلاماً عادياً بل تحقيق نبؤة. كذلك سؤال أصحاب الجحش ورد التلميذين يحمل هو الآخر نوعاً من التورية العجيبة. فـ «الرب محتاج إليه» كلام مقصود بمعنى أن الله يهوه يطلب الجحش، فانصاع أصحاب الجحش دون معارضة. هنا الوضع المسياني يزداد وضوحاً ولكن للأسف لم يفهم التلاميذ شيئاً، مما ضيع علينا مقطعاً ثميناً من المعرفة لو كانا قد استدركا الأمر لنا وشرحاه .

ثم إذ ننظر إلى هذه الحركات البسيطة واهتمام كاتب الإنجيل بها هذا الاهتمام الدقيق وفي الأربعة أناجيـل، نتيقن أن وراءهـا معـان دقيقـة. فكمـا قلنـا هـي شـرح مـسـياني دقيـق لـدخول ملـك إسرائيل إلى مدينته يطالب بملكه، الأمر الذي سينتهي بالقبض عليه وذبحه ويكون في هذا منتهى رضاه وقصد الله. لأنه سيملك بالفعل إنما مصلوباً!!

38-36:19 «وفيما هو سائر فرشوا ثيابهم في الطريق. ولما قرب عند منحدر جبل الزيتون، ابتدأ كل جمهور التلاميذ يفرحون ويسبحون الله بصوت عظيم، لأجل جميع القوات التي نظروا، قائلين: مبارك الملك الآتي باسم الرب! سلام في السماء ومجد في الأعالي!»

استبدل ق. لوقا أغصان الأشجار وسعف النخل بفرش الثياب على الطريق. وهذا وذاك رمز الطاعة والترحاب والتهليل المناسب لملك قادم. والمنظر أمامنا الآن هو بعد أن بلغ الركب قمة جبل الزيتون وابتدأ الطريق ينحدر باتجاه أورشليم. القديس مرقس هنا أعطى صورة بهية للوضع الذي عمله التلاميذ، إذ قسّموا أنفسهم مجموعة تسير أمام المسيح ومجموعة تسير خلفه ليبدأوا الأنتيفونا أي التسبيح بالتبادل لم يلتفت إليها ق. لوقا هنا ـ وهي الطريقة في التسبيح التي أخذتها الكنيسة: خورس بحري وخورس قبلي، وهي طريقة التسبيح منذ البدء في إسرائيل. غير أن الخورس الواحد كان معمولاً به قبل التقسيم إلى خورسين. والقديس لوقا هنا يستخدم التسبيح الذي أطلقته الملائكة في ميلاد الرب: «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام» فجعل المجد والسلام لله في الأعالي :

مبارك الملك الآتي

باسم الرب

سلام في السماء ومجد في الأعالي

كذلك تلاحظ أن ق. لوقا أسقط كلمة أوصنا باعتبار أن الإنجيـل مـقـدم للأمم والكلمة عبرية خالصة، فوضع مكانها: «مبارك الآتي باسم الرب» (مز 26:117)، وهو مزمور يقال للملك عندما يتقدم داخلاً الهيكل. واستعاض ق. لوقا عن مباركة مملكة أبينا داود بـ «مبارك الملك الآتي باسم الرب 

ويلاحظ أن القول بمبارك الآتي قول مسياني، فصفة الآتي هي للمسيًا والسلام رفضته إسرائيل. وقد بكى عليها المسيح (41:19).

39:19و40 «وأما بعض الفريسيين من الجمع فقالوا له: يا معلم، انتهز تلاميذك. فأجاب وقال لهم: أقول لكم: إنه إن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ!»

نصيحة من الفريسيين وليس معارضة، ويبدو أن هؤلاء الفريسيين الذين كانوا في وسط الجمع رأوا خطورة المناداة بمملكة داود أو بالملك الآتي فإنها قد تجلب التفات نظر الرومان. وفي الحقيقة نجد أن ق. لوقا هو فقط الذي انتحى بناحية الفريسيين، ولكن ق. متى قال بخصوص الكتبة ورؤساء الكهنة أنهم أبدوا امتعاضاً، لأنهم شعروا أن ذلك يؤذي مشاعرهم هم، لأنهم لا يوافقون على هذا الموكب ولا على هذا النداء (مت 21: 15-16)، واعترضوا على هتاف الأطفال وليس التلاميذ الذين كانوا يهتفون للمسيح أوصنا لابن داود. وينتحي بعض العلماء إلى أن الفريسيين لم يظهروا في كل المواقف داخـل أورشليم ولا في الاتهام والمحاكمة.

أما صراخ الحجارة فلها معنى عميق للغاية، فالحجارة وكأنها تعرف مستقبلها لو حوكم المسيح وصلب فإن النقمة ستطالها، وقد سبق المسيح وأعلن أنه لن يبقى فيها حجر على حجر لا ينقض. فالحجارة تصرخ لو سكت الأولاد الذين يهتفون بحق ملك إسرائيل وابن داود ومملكة أبينا داود الآتية، لأنها كحجارة فهي شاهدة على عصر النعمة الذي سيضيعه الرؤساء والكتبة. ولماذا لا تصرخ الحجارة إن كان رأس الزاوية سينقض، فإن حكموا على رأس الزاوية وهدموه فقل على الهيكل كله الخراب. وصح قول حبقوق النبي: «لأن الحجر يصرخ من الحائط فيجيبه الجائز من الخشب .» (حب 11:2)

( ج ) مصير أورشليم (41:19-48)

هي الوصلة بين موكب المسيح الداخل إلى المدينة، وبين وجوده في الهيكل جالساً يعلم، فهنا مقطع مهيب. والمنظر هنا لا يزال فيه المسيح بموكبه خارج سور أورشليم لم يدخل بعد، فوقف على المنحدر المطل على أورشليم وبكى عليها”. لم تفتح عينها وأذنها لعريسها، رفضوا كلامه ورفضوه «رفضوني أنا الحبيب مثل ميت .» (مز 21:37و22 حسب النسخة القبطية)

الموكب يهتف: «مبارك الآتي باسم الرب» والرب يبكي على أورشليم التي لم تتعرف على ملكها. مأساة شعب وخراب مملكة لأن علماءها ولاهوتييها وكهنتها ورؤساء كهنتها عميت أبصارهم ولم يتعرفوا على الذي طلبوه بدموع مئات السنين بالبكاء والأنين. جاءهم في الميعاد والمكان المحدد ولكنهم عميوا عن معرفته. رثاها الرب مرتين بحسب إنجيل ق. لوقا (35:13 و41:19) والمرة الثالثة حزن لما حزنت عليه نساؤها وبكين، حزن عليهن لأنه رآهـن تحت يد جنود تيطس يذبحن وأولادهن (28:23) – وهذه اختص بها ق. لوقا دون غيره.

أورشليم واسمها مدينة السلام ما عرفت ما هو لسلامها يوم السلام، عميت عينها عن عريسها الذي جاءها حسب الميعاد لأنه وجدها لاهية مع عشاقها في السرقة والزنا والكبرياء. جاء حاملاً لها الصلح مع باريها فذبحته خارج أسوارها.

الأعمى ابن طيما تعرف عليه (41:18) وما تعرفت هي! السامرية بشرت به، وأورشليم افترسته و نگلت به، رآها والمترسة تحيطها ومعاول الهدم تهدمها على بنيهـا وهـم فيهـا هـدماً حتى التراب، فلا يتبقى فيها حجر يحكي عن ماضيها. وجاز عليها ما جاز على بابل: «طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة» ! (مز 9:137)

وحق على أورشليم ما نطق به إرميا: «هكذا قال رب الجنود: اقطعوا أشجاراً أقيموا حول أورشليم مترسة. هي المدينة المعاقبة، كلها ظلم في وسطها. كما تنبع العين مياهها هكذا تنبع هي شرها: ظلم وخطف يسمع فيها أمامي دائماً (دفتر أحوال يومية) مرض وضرب. تأدبي يا أُورشليم …. (إر6:6-8)

1 – المسيح يبكي على أُورشليم (41:19-44)

القديس لوقا وحده

41:19 «وفيما هو يقترب نظر إلى المدينة وبكى عليها».

نظرة المسيح ليست كنظرتنا، فقد رأى ماضيها كله في لحظة، رأى أيام سلامها وعزها ورأى هيكل سليمان وأجته، رأى أيام سلامها وفرح أجيالها المتعاقبة بأمجادها، ورأى إثمها وفجورها وجهالة معلميها الذين أخفوا عنها يوم سلامها. رأى كهنتها يلبسون الإثم وليس البر، ورؤساء كهنتها حانثون ومراءون يحكمون بالظلم ويقبلون الرشوة، يقتلون الأنبياء ويرجمون المرسلين. ثم رأى مصيرها المحتوم وهي تُحرق بالنار وتهدم حتى التراب. وكيف لا يبكي؟ لم يبـك سـرا ودموعه محبوسة بل بكاهـا بنحيب كنحيب مر النفس ceklausen بالصوت المسموع، منظر لا يطاق. وكيف كان؟ 

42:19 «قائلاً: إنك لو علمت أنت أيضاً حتى في يومك هذا ما هو لسلامك. ولكن الآن قد أخفي عن عينيك».

«إنك لو علمت»:  ما أقدمت عليه من عمل سيقضي عليك وينهي تاريخك المجيد كله وينزل هيبتك إلى التراب!

«أنت أيضاً»: مدينة الملك العظيم، مدينة الحب والسلام، مدينة الماضي السحيق والمستقبل الذي انتهى يومه.

«حتى في يومك هذا»: وعريسك واقف على بابك آن ليخطبك عاصمة الدنيا وقصبة الديار قاطبة فخنقت يومك بيدك.

«ما هو لسلامك»: الذي وقف بك معه عهـد سـلام أبدي، رئيس السلام يدعى، فاديك يناديك والخلاص بين يديه.

«ولكن الآن قد أُخفي عن عينيك»: أخفي عليك لتكملي إثمك وتختمي على شرك وتذبحي عريسك ليكمل كيلك.

43:19و44 «فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة، ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة، ويهدمونك وبنيك فيك، ولا يتركون فيك حجراً على حجر، لأنك لم تعرفي زمان افتقادك».

أقام الرومان سوراً من الحجر (مترسة) يحيط بالمدينة حتى لا يفلت أحد. وهكذا دخلت أورشليم الحصار المريع وأنشئت حولها الاستحكامات (يحدقون بك) حتى لا يوجد منفذ من جميع الجهات وكأنها قبضة من يد حديدية على رقبتها. وهكذا دخلت في مصائب المجاعة في الداخل التي كانت بالنسبة للمدينة أقوى تخريباً من المدافع، أكلوا القطط والكلاب والحمير وذبحوا الأطفال وأكلوها. هذا هو المنظر الذي رآه المسيح وبكى عليه!

وإذ لم تسلم المدينة بدأ هدم الأسوار لينزل الحجر الذي وزنه عدة أطنان يتدحرج ليسحق أمامه كل حي. وأسقطت جميع الأسوار حتى دكوا بها المدينة من الداخل – وأبقى تيطس جزءاً من السور الشرقي لم يهدمه، لكي يرى العالم ويتعجب كيف هدم تيطس هذه الأسوار. والأمر الذي يندهش له العالم الآن أنه لا توجد حجارة من الهيكل ولا أي أثر له لأن الأمر صدر بحرث الأرض حرثاً. وتم الأمر الإلهي فلم يبق في المدينة حجر قائماً! 

والمسيح يعزو ذلك إلى أنها لم تعرف زمن افتقادها بمجيء المسيح لأنه جاءها بالسلام والخلاص فذبحته!! أما أوصاف الحصار والهجوم عدة مرات وعدد القتلى وحرق الهيكل وذبح الكهنة وحال المدينة إلى أن أُخليت نهائياً من كل اليهود فهذا ليس مكانها، ولكن ليس صعباً على القارئ أن يتصورها.

2 – تطهير الهيكل (46,45:19)

(مت 12:21-14)
(مر15:11-17)
(يو13:2-17)

تأتي القصة باختصار شديد عند ق. لوقا، ولكن عند ق. مرقس تأتي واضحة ومهيبة (15:11-17)، ولا تحمل هذه العملية كلها أي توضيح من قريب أو بعيـد إلى أن الهيكل سيستخدم بعد ذلك. فالتطهير هنا معنوي محض ولكن قام به المسيح كعمل رسمي قبل أن يعلم في الهيكل، وقد أتى بنتيجة سلبية مطلوبة وهي سلوك الكهنة والقادة ضد المسيح ليكمل مكيالهم. والقديس مرقس يوضح من موقع القصـة أنـه احتسبها على أنهـا إشـارة مسبقة لهـدم الهيكـل، ولكنهـا عمليـة تطهـير يمكـن احتسابها إرجاع المقدسات إلى عملها الصحيح طالما المسيح فيها. فهو عمل أخروي أكثر منه زمني، وهذه هي نظرة ق. لوقا التي سنتوسّع فيها.

46,45:19 «ولما دخل الهيكل ابتدا يخرج الذين كانوا يبيعون ويشترون فيه قائلاً لهم: مكتوب أن بيتي بيت الصلاة. وأنتم جعلتموه مغارة لصوص».

أما القول بأنه مغارة لصوص فهو بسبب التخفي تحت ستار الدين واستنزاف مال الشعب وعطاياه لحساب العاملين فيه وخاصة حنان رئيس الكهنة. وعبارة «مغارة لصوص» هنا سبق أن جاءت في (إر 11:7): «هل صار هذا البيت الذي دعي باسمي عليه مغارة لصوص» ويبدو أن المسيح قال هذا لميا استفزه الرؤساء الذين حضروا ورأوا وسمعوا بما يعمله المسيح وسألوه لماذا يصنع هذا.

ويختص التطهير بالباعـة داخـل الهيكل ورواق الأمـم الـذي يشغله التجار والحيوانات والطيـور الـتي للذبح ومواد الخدمة من زيت وخمر وملح وهكذا.

والمسيح استخدم نبؤة إشعياء مع نبوة إرميا التي سبق ذكرها (إر 11:7): «آتي بهم إلى جبل قدسي وأفرحهم في بيت صلاتي وتكون محرقاتهم وذبائحهم مقبولة على مذبحي لأن بيتي بيت الصلاة يدعى لكل الشعوب.» (إش 7:56)

والقديس لوقا يتبع إنجيل ق. مرقس في كل كلمة ولكن باختصار. فالقديس لوقا يجعل المسيح يدخل من أورشليم إلى الهيكل مباشرة ويحذف قصة شجرة التين.

 

3 – المسيح يعلم داخل الهيكل – (48,47:19)

(مر 18:11)

أقبل الشعب على تعليم المسيح في الهيكل وحتى الرؤساء كانوا يسمعونه، وواضح أنه مكث فترة في أورشليم كان يعلم بالنهار ويذهب إلى بيت عنيا يبيت هناك. وفي هذه المدة تشاور رؤساء الكهنة مع الكتبة كيف يقتلونه. والملاحظ أن الفريسيين لم يكونوا راضين عن أعمال رؤساء الكهنة والكتبة، فلا نسمع عنهم في هذه المؤامرات. ولكن ظهر عنصر مناوئ جديد وهو “وجوه الشعب” أي الأراخنة، ولكن لم يستطيعوا أن يجمعوا أسباباً لقتله لأن الشعب كان يلازمه ويسمع له بحماس.

47:19 «وكان يعلم كل يوم في الهيكل، وكان رؤساء الكهنة والكتبة مع وجوه الشعب يطلبون أن يهلكوه».

هذا الكلام مرادف لما جاء في إنجيل ق. مرقس (18:11)، إلا أن ق. لوقا اهتم ببعض النقاط التي يراها ذات قيمة. وبتدوين ق. لوقا هذه الأقوال دخلت بالضرورة في موضعها التاريخي الدقيق الذي اهتم به ق. لوقا بالدرجة الأولى وهو: ما هي الأعمال التي قام بها المسيح في آخر أيامه في أورشليم؟ وبقوله «كل يوم» يتضح نوع التسلسل في التعليم لفترة محدودة ـ ولكن لا يذكر هنا أشفية، وصيغة التعليم في هذه الأيام كانت على مستوى الإدانة وتطهير الهيكل وهذا أنشأ بدوره بؤرة جديدة للمقاومة والمساءلة، ودخل رؤساء الشعب مع المقاومين وهم العنصر الثالث في السنهدرين. وعلى كل حال ففي هذه الفترة كون المقاومون رأيهم بضرورة قتله. 

48:19 «ولم يجدوا ما يفعلون، لأن الشعب كله كان متعلقاً به يسمع منه».

أصبح الشعب الذي يسمع التعليم كل يوم حائلاً ضد أي عمل عدائي للمسيح في هذه الأيام، لأن الشعب كان قد تعلّق بالمسيح. وهكذا أظهر الشعب وهو يعبر عن الأمة اليهودية كشعب الله أنه مع المسيح ضد رؤساء الكهنة، ولكن السلطان الكهنوتي استطاع باتصاله بالرومان أن يضعف قوة الشعب ويوقف مشاعره. أما المسيح فظل يعلم. لذلك نجد أن ق. لوقا شدد على هذه الفترة من عمل المسيح في أُورشليم أكثر من ق. مرقس.

تفسير إنجيل لوقا – 18 إنجيل لوقا – 19 تفسير إنجيل لوقا تفسير العهد الجديد تفسير إنجيل لوقا – 20
القمص متى المسكين
تفاسير إنجيل لوقا – 19 تفاسير إنجيل لوقا تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى