حضور الروح القدس وعمله خلال اسرار الكنيسة

 

السر في المصطلح الكنسی یعنی عملاً مقدساً، به ينال المؤمن نعمة غير منظورة تحت مادة أو علامات منظورة.

والأسرار الكنسية بهذا المفهوم ليست طقوساً خارجية أو ممارسات رمزية ، لكن المؤمنين ينالون بها نعماً حقيقية وإن كانت غير منظورة ، والأسرار أيضا هي الوسائط التي وضعها ربنا يسوع المسيح لتنقل للبشر بركات الخلاص الذي أستعلن بالصليب وهي بمثابة القنوات الموصلة بين بحر الخلاص وبين الإنسان.

والروح القدس هو الفاعل في هذه الأسرار ، حيث أنه “يأخد مما للمسيح ويعطينا ” ( يو 15،14:16 ) ، أي أنه عن طريق عمل الروح القدس في الأسرار يتم تفعيل الخلاص بداخلنا وبدون الروح القدس تصبح الأسرار مجرد ممارسات تقليدية لا قيمة لها.

وقد آمنت الكنيسة الرسولية منذ تأسيسها بالأسرار السبعة ومارستها حيث يقول معلمنا بولس الرسول : ” هكذا فليحسبنا الإنسان كخدام المسيح ووكلاء سرائر الله” (1كو1:4) .

أولاً: حلول وفاعلية الروح القدس في أسرار الكنيسة

? في سر المعمودية ( الروح يشهد بالبنوة ) :
فالمعمودية هي الطريق الوحيد الذي رسمه الرب لنوال الخلاص “من آمن واعتمد خلص ” ( مر 16:16 ) ، وفي المعمودية ينتقل إلينا كل فعل الخلاص الذي تم على الصليب من موت وقيامة مع المسيح .
وفي المعمودية أيضا ننال البنوة التي وهبها لنا الآب بأن نصير أبناؤه ، فلو أردنا تبسيط دور الروح القدس في المعمودية ندرك أنه ينطق كلمة الآب : “هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت” (مت17:3) لكل إنسان خارج من مياه المعمودية ، كما وضحها بولس الرسول قائلا : “الروح نفسه أيضا يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله” ( رو16:8)

? في سر الميرون ( الروح يقدسنا – يدشنا ) :
كلمة ميرون من أصل يونانی قبطی ومعناها “دهن أو طيب ” ، والميرون هو السر الثاني الذي تناله بعد المعمودية وبه يحل الروح القدس على المعمد للإمتلاء به.
وكان هذا السر يمارس في الكنيسة الأولى بوضع أيدى الرسل :
“جيئنذ وضعا الأيادي عليهم فقبلوا الروح القدس ” (أع 17:8) .. وبعد ذلك صار هذا السر يتم بمسحة الميرون المقدسة.

يقول معلمنا يوحنا الرسول في رسالته : “وأما أنتم فلكم مسحة من القدوس وتعلمون …. وأما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابته فيكم ، ولا حاجة بكم إلى أن يعلمكم أحد ، بل كما تعلمكم هذه المسحة عنها عن كل شئ” ( 1يو27:2) .
وهذه المسحة التي تعلمنا ما للمسيح ما هي إلا مسحة الروح القدس بالميرون ، لأن السيد المسيح قال عن الروح القدس : “فهو يعلمكم كل شيء” ( يو 26:14 ) .

? في سر الإفخارستيا ( الروح القدس يثبت فينا ) :
  هذا السر الذي أسسه السيد المسيح بنفسه في ليلة الخميس الكبير بأن شكر وكسر الخبز ، ولذلك سمى سر الإفخارستيا أي سر الشكر ، وبه نأخذ جسد ودم المسيح الحقيقيين في صورة الخبز والخمر بعد تحويلهما بفعل الروح القدس ” الذي يستدعيه الكاهن في صلوات التقديس .
الروح القدس ينقل المذبح الأرضى إلى حضرة الله في السماء ليبارك ويقدس الخبز والخمر ليصبح جسده ودمه ، ولذلك فإن الروح القدس هو الذي يجعل هذا السر امتداد لما فعله المسيح يوم الخميس وليس تكرار ، وامتداد لذبيحة الصليب التي قدمها المسيح بنفسه ، أي أن الذي يقدس الذبيحة ” هو المسيح نفسه وليس الكاهن وهذا هو فعل الروح القدس في هذا السر العظيم الذي به نثبت في المسيح ونتحد به “من يأكل جسدى ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه” ( يو56:6)

۔ ? في سر التوبة والاعتراف ( الروح القدس يشفع ) :
وهو السر المختص بفاعلية الروح القدس في الخاطئ التائب ، فالروح القدس هو الدافع الأول لحياة التوبة ، فهو الذي يبدأ بدعوة الإنسان سراً إلى التوبة ويجعله يشتاق إليها.
يقول القديس العظيم الأنبا أنطونيوس : “إن الروح القدس المأخوذ في المعمودية يعطينا العمل بالتوية ليردنا ثانية إلى رئاسته الأولى ونرث الميراث الذي لا يزول”.
وفي سر الاعتراف يعطينا الروح القدس الغفران الممنوح لنا في الصليب ، ففي الاعتراف تخضع نفسك للآب متشفعاً بدم ابنه يسوع المسيح بشفاعة الروح القدس .. “الروح نفسه يشفع فينا بانات لا ينطق بها ” ( رو 26:8).

? في سر مسحة المرضى ( الروح القدس يشفی ) :
عمل الروح القدس هنا هو الحلول على المريض حينما يستدعيه الكاهن في صلاته .
“أمريض أحد بينكم ؟ فليدع شيوخ الكنيسة فيصلوا عليه ويدهنوه بزيت باسم الرب ، وصلاة الإيمان في المريض والرب يقيمة ، وإن كان قد فعل خطية تغفر له ” ( يع 15،14:5 ) . 
والشفاء هنا ليس معناه الشفاء الجسدي فقط والا أنكرنا حلول الروح القدس على أي مريض لم يُشفى ، ولكن المقصود أيضا هو شفاء النفس ليعطيها الرب سلام وراحة لتقبل التجربة والمرض بالفرح والشكر .

? في سر الزيجة ( الروح القدس يبارك ) :
“من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ، ويكون الإثنان جسداً واحداً. هذا السر عظيم، ولكني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة” ( أف 32،31:5 ) .
بالروح القدس يصير الاثنين واحدا متحدين في المسيح يسوع اتحاداً أبديا ، كما يقول بولس الرسول : ” هذا السر عظيم “( أف 32:5 ) ، وذلك لكي ننتبه إلى عظمة واضع السر فيكمل قائلا : “ولكني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة” أي أن هذا الإتحاد لا يصير إلا من خلال الروح القدس بالمسيح يسوع عندما يقول الكاهن : كللهما بالمجد والكرامة أيها الآب أمين – باركهما أيها الابن الوحيد أمين – قدسهما أيها الروح القدس.

? في سر الكهنوت ( الروح القدس يمسح ) :
من المنطقي أن الشخص الذي عن طريقه يتم استدعاء الروح القدس من خلال الأسرار هو نفسه يكون أُعطى السلطان من الروح القدس نفسه ، وعن طريق الروح القدس يتم مسح الكهنة بوضع اليد عليهم بمسحة الروح الذي حل على التلاميذ في يوم الخمسين .

ثانيا : الروح القدس يعمل فينا ونعمل معه

– يقول معلمنا القديس بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية : “ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معا للخير للذين يحبون الله ( رو 28:8 ) ، وبالرجوع إلى أصل الآية نجد أنه “كل الذين يختارون الخير يعمل الله معهم للخير.”
– لذلك علق القديس الأنبا أنطونيوس على هذه الآية قائلاً: لذلك يا أولادي يجب أن نتمسك بنسكنا وأن لا نتغافل لأن الله عامل معنا فيه.

وهذا التوافق بين الروح القدس والأعمال الصالحة يؤدي بنا أن الروح القدس يضرم فينا الأعمال الصالحة وأن الأعمال الصالحة بدورها تزيد من تأجج الروح القدس في قلوبنا ، وهكذا بهذا التوافق والتفاعل المتبادل بين قوة الروح القدس والعمل الصالح أي بين النعمة والجهاد ” ينمو الإنسان روحيا .
– ويقول أيضا القديس العظيم مقاريوس الكبير : إن الروح القدس يجعل عمل الله للإنسان أحلى من العسل ومن شهد العسل ” .
إذا فالروح القدس يدفعنا للمزيد من الجهاد الروحي ، والجهاد بدوره يزيد من انسكاب قوة الروح فينا ” عمل مشترك ” .

ولكن ما ينبغي أن نلاحظه في هذا التفاعل المتبادل هو أن الروح لا يعطي من أجل استحقاق العمل الصالح ولكن من أجل نعمة الله المجانية ورأفته علينا ، أي أن الروح القدس لا يأتي إليك لأنك كامل ، بل لأنك تحتاجه.

ثالثا : ثمار تفاعل الروح الإنسان

– يقول معلمنا بولس الرسول في رسالته إلى أهل غلاطية : “وأما ثمر الروح فهو : محبة فرح سلام ، طول أناة لطف صلاح ، إيمان ، وداعة تعفف” ( غل 23،22:5 ) .

هذه الثمار التي قدمها بولس الرسول لا تمثل الكل بل هي مجرد عينة ، لأن تفاعل الروح القدس مع الإنسان يعطى لا نهائي من الثمار يزداد كلما إزداد هذا الاتحاد وزاد لهيبه.
والثمر هو النتيجة الظاهرة من فاعلية الروح في الإنسان ، ويجب أن ننتبه أن هناك فرق كبير بين أن يعمل الروح في الإنسان لإنتاج ثمار روحية وبين أن يهب الله بروحه في الإنسان مواهب خاصة تشهد بوجودها لله وللإيمان بالمسيح ( 1 كو 4:12-11 ) . 

وهذه ثمار الروح القدس:

 ? محبة : كون المحبة هي أول ثمار الروح القدس فلأنها أول استعلانات انسكاب الروح القدس في القلب “لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا ” (رو5:5) .
المحبة هنا أخذت صفتها اللاهوتية أنها محبة الله أي أنها تنتج من الثبات في الله وبدورها نقدمها لبعضنا، فالمسيح أعطانا أمراً أن نثبت في محبته وأن نحب بعضنا بعضا .

? فرح : هو انعكاس مباشر لفعل محبة الله التي انسكبت في قلوبنا بفعل الروح القدس ، فعندما يمتلئ القلب بالحب يمتلك الفرح وجه الإنسان لينطق بالابتهاج والسرور . ومنبع الفرح هنا هو الإيمان والرجاء “فرحين في الرجاء” ( رو12:12) .

? سلام : من الصفات المميزة جداً للعهد الجديد ، وبالعبرية معروف باسم “شالوم ” وتعني صحة نفسية داخلية ، وفي العهد القديم كان يقصد بها حالة الخير والرفاهية ، وحالة الازدهار والسلام والأمان من الحرب .
أما في العهد الجديد أضيف إليها الحالة الداخلية للإنسان والحالة الروحية كعطية من الله بسبب المصالحة معه ، فإذا إمتلأ القلب بالإيمان بالمسيح فإن السلام سوف ينبعث منه، فالفرح والسلام ثمرة حياة قلبية مع الروح القدس الذي يحكي لنا عن عمل المسيح الممتد.

رابعا : القيادة بالروح القدس 

“لا يأتيك الروح القدس لأنك كامل بل لأنك تحتاجه “.
سلم نفسك وحياتك لله واشترك معه في أسراره واتحد به وأطلب دائما في صلاتك الروح القدس کی يزداد لهيبه بداخلك ، ويعطيك السلام والإرشاد، فتجد نفسك دائما في فرح وعدم خوف، أي أنك دائماً في عهد بينك وبين الروح القدس.

أما إذا رفضت عمله فيك بإصرارك على عدم التوبة أو عدم المحاولة ، وإهمال عمل الله فيك من خلال أسرار الكنيسة ، فهذا هو التجديف على الروح القدس بعينه، وهو مرحلة نهائية لا رجوع بعدها لأنه لا توبة بعد الموت. 
لا تيأس ليس معنى أنك تسقط كثيرا ، أنك ترفض عمل الروح القدس داخلك ، إطلاقا .
– فالقديس مقاريوس الكبير يقول : إن الإنسان مهما بلغت قداسته ومهما بلغ من كمال السيرة فهو لا يزال معرضاً للسقوط ، ويقول أيضا عن الإنسان الذي دخل في علاقة مع الروح القدس : ولكن إن تجاسرت روحه وقاومت ترتيب الروح القدس نفسه ، فإن القوة التي وضعت فيه تنسحب ، وبذلك تتولد في قلبه محاربات واضطرابات ، ولكن إن تاب وتمسك بوصايا الروح القدس من جديد فإن معونة الله تعود إليه وحينئذ يفهم الإنسان أنه خير له أن يلتصق بالله في كل حين وأن حياته في الله

يقول السيد المسيح : “اثبتوا فىَّ وأنا فيكم ” ( يو 4:15 ) .. اثبت فيه دائماً بحفظ وصاياه والاتحاد به فيثبت هو فيك بروحه القدوس الذي بدوره يضمن لك الاستمرار في الاتحاد به .

وتطبيقاً لهذه الدائرة يقول القديس سيرافيم ساروفسکی : ( الروح القدس بنفسه يأتي ويسكن فينا أي في أرواحنا ، وهذا الحلول فينا للكلى القدرة أى الوجود داخلنا لوحدة الثالوث وكينونتها مع أرواحنا أي الاتحاد بالله ، وهذه كلها لا تعطى لنا إلا بشرط العمل بكل اجتهاد وبكل وسيلة تتاح لنا لاقتناء هذا الروح القدس الذي يهيئ فينا موضعاً لائقاً بهذا الالتقاء حسب قول الرب إني سأسكن فيهم “وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً” (إر33:31).

هذا هو الزيت الذي ملأ مصابيح العذارى الحكيمات ، الزيت الذي استمر مشتعلاً ومنيراً والذي وحده أهل العذارى الحكيمات لمقابلة العريس في نصف الليل بل وأدخلن معه إلى حجرة العرس التي هي الفرح الأبدي.

من المسابقات الدراسية – مرحلة جامعيين 2015

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى