التجسد أعظم حدث على أرضنا
الواقع الحي :
إن أهم ما يلفت النظر في تاريخ البشرية هو معاناتها الطويلة مع الخطية والموت. ولكن عندما تجسد كلمة الله، أي عندما أخذ ابن الله جسدًا بشريًا مثلنا – ما خلا الخطية – كان ذلك بمثابة بداية الحياة التي تقبلها الإنسان في واقعه الجديد.
لذا فقد صار التجسد الإلهي هو أعظم حدث في تاريخ البشرية، حيث توجه التاريخ البشري بعده اتجاها جديدًا، وأصبح لهذا التاريخ معنى جديد وهداف أسمى؛ إذ صارت حياة المؤمنين مسيرة ظافرة نحو الوطن السماوي، كما أصبح المؤمن يعي حق الميراث في الحياة الأبدية ويملك عربونه: “الذي ختمنا أيضا وأعطى عربون الروح في قلوبنا” (2كو 1: 22).
ولكن هذا الحق في ميراث الحياة الأبدية لم يأت جزافًا، بل إنه عندما تجسد كلمة الله وأخذ جسد إنسانيتنا، أصبحت قسوة بر الله متأصلة وراسخة في أعماق النفس البشرية، وقوة بر الله هي القوة الإلهية التي ضمنت حقه في إرث الحياة الإلهية: “مملوئين من ثمر البر .. البر الذي من الله بالإيمان” (في 1: 11، 3: 9) ومن هنا، فإن التلاقي مع بر الله والالتحام به أنشأ حالة جديدة من الإنسان الروحي الجديد المستنير الواعي بميراث بنوته الله: “إن كنا أولادًا فإننا ورثة أيضا، ورثة الله ووارثون مع المسيح (رو 8: 17).
هذا هو جوهر الإيمان الصافي بحضور الرب وسط شعبه وحلوله داخل كياننا الجديد وتحقيق وجوده فعلاً في قلوب الناس:
+ “المسيح فيكم رجاء المجد” (كو 1: 27).
+ “ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم” (يو 17: 26).
+ “والكلمة صار جسدًا وحل بيننا (فينا)” (يو 1: 14).
من هنا، صار الإيمان المسيحي يرتكز في جوهره على الإيمان بتجسد ابن الله الكلمة، حيث فيه وحده يتحقق فعل المشاركة الحية بين الإنسان ،والله فيُخلص النفس من موتها ومذلتها وضعفها وقصورها.
لذا فقد بات المؤمن المسيحي واعيًا بنسبه الإلهي، ومقدرا قيمة ميراثه الثمين، لأن اتحاده بالله – بعد ولادته الجديدة من فوق – صار نابعا من عمق العلاقة بينهما، وستظل هذه العلاقة حية نامية يتواصل فيها عمل الروح ويدوم؛ مادام هو ملتزما بأصول القرابة التي صارت بينه وبين الله.
الحاضر الجديد :
ومع أن التجسد حدث داخل الزمن والتاريخ، إلا أن مفعوله يتخطى حدود الزمن والتاريخ، فهو قد جعل الأبدية حاضرة في واقع الإنسان مستمرة بلا نهاية لتعديل مجرى التاريخ الإنساني وتوجيه حركة المسيرة الإنسانية إلى فوق. وهنا نلمس روحًا جديدًا في تاريخ البشر، فقد استطاع الله – بتجسد كلمته – أن يعلن فعالية الخلاص من الخطية والموت الأبدي؛ ويحققها كفعل إلهي يمتد في القلب، ويرتفع بالنفس، ويسمو بالسلوك، ويرفع الأنظار إلى فوق وينير البصيرة؛ فيُعطي للإنسان قدرة أن يميز بين ما هو حق وما هو باطل، وبهذه الفعالية يتنسم المؤمن نسمات الخلود، فتشعر نفسه بالارتياح الشديد، لأن هذه النسمات الخالدة تغذي شوقه الداخلي للحياة إلى الأبد مع الله خالقه. وخلاصة القول، إن المسيح قد جاء حاملاً سر الحياة الأبدية؛ فنقل قوتها إلى الطبيعة البشرية فيه أولا، حتى لا يحني الإنسان المؤمن المولود جديداً رأسه للخطية، وحتى لا يُذَلّ ويخضع لسلطان الموت الأبدي.
هذا هو الحاضر الجديد الذي أنعش رجاء الإنسانية الحزينة، والذي ينبغي أن تعيه البشرية جيدًا في علاقتها الجديدة مع الله في صميم التاريخ البشري. أما إذا ظلت البشرية مربوطة بماضيها الحزين المتعثر، منطوية على ذاتها بعيدا عن الله رافضة بشارة الحياة فهي تبقى ذابلة جافة عقيمة بلا ثمر تعيش موتها كل يوم وكل لحظة.
ولكن، لماذا لم يُبطل الله الخطية واللعنة بكلمة آمرة منه، وبذلك لا تكون هناك ضرورة للتجسد ؟
يجيب القديس أثناسيوس الرسولي قائلاً: الو أن الله قال كلمة واحدة – لسبب قدرته – وأبطل بها اللعنة لظهرت قوة الذي أعطى الأمر (أي أن ذلك يُظهر فقط قوة الله وقدرته)، ولكن الإنسان كان سيظل كما كان آدم قبل العصيان، لأنه كان سيحصل على النعمة من الخارج دون أن تكون متحدة . الجسد؛ بل ربما صارت حالته الآن أسوأ مما كان في الجنة بسبب أنه تعلَّم كيف يعصي. فلو كانت حالته هكذا وأغوي مرة أخرى بواسطة الحية (أي إبليس) لصارت هناك حاجة مرة أخرى أن الله يأمر ويُبطل اللعنة، وهكذا تستمر الحاجة إلى ما لا نهاية ولظل البشر تحت الذنب بسبب استعبادهم للخطية، إذ هم يقترفون الإثم ، ولظلوا على الدوام في حاجة لِمَنْ يعفو عنهم ولَمَا خلصوا قط. ولكونهم أجسادًا يحسب طبيعتهم، فإنهم يظلون مقهورين بواسطة الناموس بسبب ضعف الجسد].
الحقيقة العظمى :
ان المسيح هو الحب المتجسد، وفي هذا الحب المتجسد يكمن جوهر الكمال والسمو والبر وكل ما تتوق إليه الإنسانية. لذا لم يَعُدْ التجسد مجرد مقولة لاهوتية أو موضوعا فلسفيا خاضعاً للجدال والمناظرة، بل إن التجسد هو الحقيقة العظمى التي يستتر وراءها قصد الله السامي من خلقة الإنسان.
ومن المفيد أن نعرف أن آدم المخلوق على صورة الله عندما أخطأ، دخل الموت إلى كيانه فأفسد طبيعته، وعن آدم ورثنا جميعًا – كل بني آدم – طبيعة بشرية قابلة للموت وبسبب الموت صارت الخطية رابضة في عمق الكيان البشري. ولكن الله أشفق على خليقته وأظهر منتهى حنوه عندما اتخذ كلمته جسدًا ليصبح هو نبع البر الذي يُبرر الإنسانية، ومصدر الخلاص الذي بدمه يكفر عن خطايا البشرية: لأنه إن كان بخطية الواحد (آدم) قــــد ملك الموت بالواحد، فبالأولى كثيراً الذين ينالون فيض النعمة وعطية البر، سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح (رو 5: 17).
فلم يكن عبثاً أن يتجسّد ابن الله على أرضنا، بل إنه قد أخذ جسدًا بشريا – حسب قصده الإلهي – لكي يُحول طبيعتنا فيه، وقد ولد هو أولاً من الروح القدس ومن العذراء القديسة مريم لكي نستطيع أن نولد نحن من الروح القدس مثله ميلادًا جديدًا، وبهذا الميلاد الجديد نتخلص من الفساد الذي ورثناه من آدم الأول، ويبقى إنساننا الجديد في عدم انحلال بسبب ميراثنا طبيعة آدم الثاني أي المسيح. هذا هو ما شرحه القديس كيرلس الكبير في كلامه عن التجسيد : لقد جاء الابن ابن الله وصار إنساناً لكي يحول طبيعتنا فيه هو، وابتدأ أولاً بالميلاد الذي جعله مقدما وعجيبًا، إذ جعله ميلاداً للحياة، فولد هو أولاً من الروح القدس، وأنا أعني طبعاً جسده، لكي ننال نحن هذه النعمة ويصل إلينا منه لكي نولد ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا مشيئة رجل بل من الله (يو 1: 13).
وبالروح القدس تولد نفوسنا ميلادًا جديدًا روحيًا مشابها لميلاد ذاك الذي هو بالطبيعة وبالحق الابن، وبذلك ندعو الله أبا. ويؤهلنا هذا الميلاد الجديد أن نبقي في عدم الحلال لأننا امتلكنا ليس طبيعة آدم الأول الذي فيه انحللنا، بل طبيعة آدم الثاني…
ففيه (أي في آدم الثاني) قد ولدنا ميلادًا جديدًا عندما نزل إلي حالتنا لكي يردنا إلى كرامته الإلهية].
المسيحية ليست مجرد دین جدید :
ما أحوجنا أن ندرك أن المسيح لم يأتِ إلى العالم ليؤسس دينًا جديدًا، أو ليُعلم الناس طريقة عبادة جديدة ترضي الله؛ بل جاء لكي يُعالج فساد الطبيعة الإنسانية، ويعطي للإنسان حياة إلهية تعيش معه وفيه ، وهذا هو مضمون عمل النعمة الإلهية التي حازها الإنسان بتجسد ابن الله. كما أنه بهذا التجسد قد حُرِّر الجسد الإنساني من سيطرة أرواح الشر، وهذا أيضا يدخل في صميم عمله لإصلاح الطبيعة البشرية الفاسدة عندما نزل إلينا.
ويقول القديس أنبا مقار بهذا الصدد:
[لأنه لو كان قد شاء أن ينزل إلينا بلاهوته المكشوف بدون جسد، فمن كان يستطيع أن يحتمل رؤيته؟ لذلك فقد تكلم إلى الناس بواسطة الجسد كأداة. فبهذه الطريقة قد قضى على أرواح الشر التي كانت قد اتخذت لها مسكنا ومجلسًا في الجسد أي كراسي العقل والفكر التي سكنت فيها، فجاء الرب وطهَّر الضمير وجعل العقل والأفكار والجسد كرسيا له].
من هنا يستطيع الإنسان أن يتحقق من قيمة التجسد كقوة ملموسة في حياته، قوة ترتفع به من حضيض البؤس والخطية إلى قمة البر بر المسيح بر الله نفسه؛ لأنه يستحيل على الإنسان بقوته الذاتية أن يتغير من الداخل، أو أن يتحرر من الانقياد الأعمى وراء أهواء النفس، أو أن يتخلّص من الخضوع لسلطان الخطية، مهما حاول ببره الشخصي أو بقوة إرادته، فإن جهوده للخلاص تضيع كلها عبثاً، ويبقى من الداخل دون تغيير يُذكر.
ولذلك يقول القديس أنبا مقار :
[إن استئصال الخطية والشر الساكن فينا لا يمكن تحقيقه إلا بواسطة القوة الإلهية. فإنه ليس مستطاعاً للإنسان ولا في إمكانه وطاقته أن يستأصل الخطية بقوته الخاصة، وإنما في قوتك أن تصارع ضدها وتحاربها، لأنه لو كان مستطاعاً للإنسان أن يستأصلها، فأي حاجة كانت تدعو – إذن – لمجيء الرب إلى العالم؟! فكما أن العين لا تستطيع أن تنظر بدون نور، وكما أن الإنسان لا يستطيع أن يتكلم بدون لسان، أو يسمع بدون آذان، أو يمشي بدون قدمين، أو يعمل بدون يدين؛ هكذا لا يستطيع الإنسان أن يخلص بدون يسوع، وبدونه لا يستطيع الدخول إلى ملكوت السموات].
وقد أشار المسيح إلى ذلك بقوله: “لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً” (يو 15: 5)؛ أي بدونه تبقى الخطية حاجزاً لا يمكن عبوره أو تخطيه بين الإنسان والله، كما يبقى الإنسان محتاجاً على الدوام إلى القوة التي تخلصه من سطوة الخطية وسلطان الإنسان العتيق. فالمسيح وحده هو الذي يقدر أن يُلاشي الظلمة التي عششت في الطبيعة الإنسانية؛ بل ويهب الحياة الأبدية.
التجسد لم يُغيّر من جوهر الله:
جديرٌ بنا أن نعلم أن الرب حينما تجسد ، لم يكن لاهوته محصورا أو محدودا في هذا الجسد؛ بل إن لاهوته ظل يملأ السماء والأرض، لأن اللاهوت غير محدود، وتجسد الله لـــم يغيّر من جوهره الإلهي. وذلك مثلما نقول إن الله حينما تكلم مع موسى من العليقة، لم يكن وجوده محصورا في العليقة دون سائر الوجود وكذلك حينما كان الله يكلم إبراهيم أو أحد أنبيائه، كان في نفس الوقت يملأ السماء والأرض, وأيضاً حينما يُقال: “أما الرب فإلى الدهر يجلس” (مز 9: 7)، فلا يعني هذا أنه صار محدودًا على هذا العرش الذي يجلس عليه، بل إن وجوده يملأ كل مكان. وأيضا هذا هو ما عبَّر عنه رب المجد في حديثه مع نيقوديموس “ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي في السماء” (يو 3: 13). أي بينما كان الرب يتكلم مع نيقوديموس هنا على الأرض، كان أيضاً موجـ السماء، ولاهوته يملأ كل موضع في السماء وعلى الأرض. وهذه الحقيقة يذكرها أثناسيوس قائلاً:
[فلا يتوهمن أحد أنه (أي الله الكلمة] أصبح محصورًا في الجسد، أو أن كل مكان آخر أصبح خاليًا منه بسبب حلوله في الجسد، أو أن العالم أصبح محروما من عنايته وتدبيره طالما كان يحرك الجسد، ولكن ما يدعو إلى الغرابة والدهشة أنه وهو (الكلمة) الذي لا يحتويه مكان، فإنه هو نفسه يحوي كل الأشياء، وحاضر في كل الأشياء بقدرته، ضابطا كل الأشياء، ومظهرا عنايته فوق كل شيء، وفي كل شيء، وواهيا الحياة لكل شيء، مالنا الكل دون أن يُحَدَّ. هكذا حتى مع حلوله في جسد بشري واهبا إياه الحياة، فقد كان يمنح الحياة للكون في نفس الوقت بلا تناقض وهذا هو وجه الغرابة أنه بينما كان يتصرف كإنسان كان ككلمة الله يُحيي كل الأشياء، وكابن كان قائما مع أبيه؛ ولذلك عندما ولدته العذراء لــم يعتره أي تغيير].
ونقول إنه كما أن الشمس حينما تخترق أشعتها غرفة جوانبها من الزجاج، فإنها تملأ الغرفة ولكنها لا تنحصر فيها بل تتعداها إلى خارجها في نفس الوقت الذي تكون فيه كائنة في الماء.
ويمكن القول أيضاً، إن حلول الله في الجسد لم يدنس الله، ولم يُحطَّ من قدره – حاشا الله – فإنَّ نبع الطهر لا يدنسه شيء ولا يغيّر من جوهره أبداً؛ بل بقدرته الإلهية يشع هـو مـــن طهارته على كل شيء فيتطهر . ويستعرض القديس أثناسيوس هذا الأمر فيقول: إن كانت الشمس التي خلقها هو والتي نراها وهي تدور في السماء، لا تتدنس بمجرد لمسها الأجساد التي على الأرض ولا تنطفئ بظلماتها، ولكنها بالعكس تنيرها وتظهرها أيضاً فبالأولى جداً كلمة الله الكلي القداسة بارئ الشمس وربها لم يتدنس قط بمجرد ظهوره في الجسد؛ بل بالعكس، لأنه عديم الفساد فقد أحيا وطهر الجسد الذي كان في حد ذاته قابلاً للغناء].
إن الشمس تُرسل كل يوم أشعتها إلى الأرض وتتحد بالأشياء فتنميها وتنضجها وتكسبها حياة بدون أن يعتريها تغير في تركيبها، وهوذا النار تتحد بالحديد دون أن يحدث في جوهرها تغيير أو تبديل؛ فهل يعقل أن يكون للطبيعة قوة اتحاد بالأشياء الأخرى دون تغيير أو تبديل ولا تكون هذه القدرة الله خالق الطبيعة ؟!