دعوة المعمدان
وكيف أحيا روح الترقب لمجيء المسيا وأعد الطريق بالتوبة والعماد
[كانت قد لوحته الشمس جاء وله اشتياق ناري للملكوت
القادم يحترق كالنار في أعماق نفسه، ويدعو لانتظار
الآتي بعده الذي سيعمد بالروح القدس ونار.] بابيني
كانت مهمة المعمدان شاقة، لأن الشعب كان قد نعس من اليأس وكلَّ من الرجاء والانتظار، وأكلته الخطية وساد عليه الشيطان يُخرب في عبادته وآماله وسلوكه. فأن تخرج من وسط هذا الركام والخــــراب دعوة لملكوت الله ؛ فهذا الأمر وحده كان كفيلاً ليقظة مفاجئة. ومن تحت الاحتلال الروماني والشعب مداس تحت أقدام المستعمرين، أنْ يُسمع بالخلاص؛ فكان هذا وحده عودة للروح. ومن وسط ظلام الأيام التي تسير بطيئة متثاقلة، أن تشرق شمس ومعها دعوة لانتظار يوم الرب المضيء؛ كان هذا بمثابة جرعــــة إنعاش المحتضر. كان هذا عمل المعمدان الأول، وكان هذا أهم إعداد لبدء قيام المسيا بعمله.
ولكن كان من أخطر ما يمكن أن يُفسد عملية المعمدان والمسيح معاً، أن يظن الشعب أن يوحنا المعمدان هو المسيَّا القادم. فكان لزاماً على المعمدان لحظة أن ينادي بقرب الملكوت أن يُسرع ليملأ الأسماع أنه ليس هو المسيَّا الآتي، ولكنه هو المُرسَل قدامه ليعد الطريق أمامه. لذلك كان تشبث المعمدان بنبوة إشعياء التي تضع المعمدان كمجرد صوت صارخ في البرية ينادي بإعداد الطريق للآتي بعده من أهم مقومات دعوة المعمدان:
+ «وهذه هي شهادة يوحنا، حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه: مَنْ أَنتَ؟ فاعترف و لم ينكر، وأقر أني لست أنا المسيح،
فقالوا له: مَنْ أنت، لنعطي جواباً للذين أرسلونا؟ ماذا تقول عن نفسك؟
قال: أنا صوت صارخ في البرية، قوموا طريق الرب، كما قال إشعياء النبي.» (يو 1: 19-23)
وفي الحال أدرك الفريسيون أنه مجرد المنادي بالمسيا.
ولكن لم يكتف المعمدان بأن يقول : مَنْ هو، بل وجد أن من وظيفته أن يُعرف الشعب بمَنْ هـ المسيَّا، ومَنْ هو بالنسبة لنفسه. فقال عن المسيَّا الآتي: إنه من فوق وهو فوق الجميع، وهـو الــذي أرسله الله ومن الله يتكلم. أما عن نفسه فقال: إنه من الأرض ومن الأرض يتكلم، وإنه إنما يعمــد بالماء، وإنه ليس أهلاً أن يحل سيور حذاء المسيَّا، وقال: «الآب يحب الابن وقد دفع كل شيء في يده» (يو (35:3). وهكذا كشف المعمدان عن هوية المسيح أنه من السماء، وقد أرسله الله وهو ابن الله، وأنه سيعمد بالروح القدس. وبالنهاية قال: إن المسيا هو العريس، وأما هو فصديق العريس؛ والمسيا ينبغي أن يزداد، وأما هو فينبغي أن ينقص.
كانت المعمدان روح روح وثابة مستمدة من روح إيليا والأنبياء، ولكن المعمدان جاء بغير مــــا جاء به إيليا، إيليا كان موبخاً عنيفاً كالصاعقة على الأنبياء الكذبة والملك الذي يعبد الأصنام)، وقد ذبح أربعمائة نبي منهم على نهر قيشون. أما المعمدان فجاء كنور الفجر الخافت ليبدد الظلمة القاتمة التي خيمت على الشعب مئات السنين ليوقظهم بصراخه كالمبشِّر أن الفجر أتى والنور قادم، ويــــوم الرب على الأبواب، فقد اقترب ملكوت السموات» (مت 2:3. إنه كـــان بالنسبة للشعب كمجدد للرجاء، ومذكّر بالوعود والمواعيد، وقد أدخلهم في حلم من أحلام الآباء السعداء. وهذا في الحقيقة كان المدخل الصحيح للمسيَّا، لأن عمل المسيا كان أيضاً في واقعه تحقيقاً صادقاً وعمليـــاً وفعالاً لكل أحلام الآباء وشهوة قلب إبراهيم صاحب الوعد الأول بمجيء المسيا.
فإن كان كل جهد المعمدان قد تركز في دفع الشعب للتوبة، فهو بقصد تجديد الأفكار بالتعليم والأبدان بغسيل المعمودية. وقد شهد عنه يوسيفوس المؤرخ هكذا:
[كان رجلاً صالحاً وواحداً من الذين دفعوا اليهود لممارسة الفضيلة، سواء كان بالحق والبر نحو بعضهم البعض، أو بالتقوى في عبادتهم لله. وهذا كان عمل المعمودية حتى بغسل الماء يصيرون لائقين ومقبولين لكي تُرفع خطاياهم. وليس ذلك فحسب بل وأيضاً ليصيروا أطهاراً بالجسد بعد أن صاروا أبرارا في نفوسهم بالاعتراف بالخطايا.]
هذا كله في واقعه كان خلاصة شهوة الأنبياء في نبواتهم كأقصى ما يقدمه العهد القديم تمهيداً للملكوت الآتي، على يد يوحنا المعمدان.
قط على أنه لا ينبغي أن نخطئ فنعتبر أن المعمدان قد خطا بالشعب أول خطوة في مجال العهد الجديد، لأن خدمة المعمدان اقتصرت على التنبيه والتوعية وإعداد الأفكار والقلوب بالملكوت الآتي، ولكن يخط ولا خطوة واحدة عملية في العهد الجديد، أي في ملكوت الله. لذلك كان تقرير المسيح النهائي عن المعمدان بعد أن مدحه كثيراً ومطوَّلاً أنَّ «الأصغر في ملكوت السموات أعظــــم منــــه »(مت 11:11). فكان لسان حال المعمدان عندما خطا المسيح أول خطوة لافتتاح عهد الملكـ أن قال: «إذا فرحي هذا قد كَمَلَ. ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص.» (يو 3: 29و30)
ولكن الذي سبب هذه الرؤية كأن المعمدان خطا خطوة في مجال العهد الجديد، كون الأناجيل جميعاً قد أعطته تكريماً وتعظيماً – من وجهة نظر مسيحية بلغت قمتها ونهايتها . – فقربته جداً من حدود المسيحية، حتى اختلط الأمر وأخذ المعمدان صورة مسيحية ليست صحيحة وليست له. ولكن شهادة المسيح تضع هذه الحقيقة في حدودها الصحيحة: «أنا (المسيح) لا أقبل شهادة من إنسان. لكني أقول هذا لتخلصوا أنتم كان هو السراج الموقد المنير، وأنتم أردتم أن تبتهجوا بنوره ساعة. وأما أنا فلي شهادة أعظم من يوحنا …» (يو 5: 35,34)