علاقة المعمدان بالشعب وبتلاميذه

 كل الذين تحركت قلوبهم من نداء المعمدان وتحذيره ودعوته للعودة بقلوبهم إلى الله واعترافهم بخطاياهم وقبولهم العماد من يديه وجدوا بالفعل في المعمدان معلماً للحق والفضيلة والتوبة والعودة إلى الله، لأن المعمدان كان صادقاً مع نفسه ومع دعوته. أحس به المقربون إليه وأحبوه، فكلامه واضح وإرشاده للنفوس التائبة بسيط ومتواضع وليست له متطلبات أكثر من توبة القلب وأعمال تليق بالتائبين. وأوضح وصاياه الجيدة والصحيحة للغاية، أنه لم يأمر أحداً أن يترك عمله مهما كان. بل يُحسن سيرته في عمله ويكون صادقاً . نفسه والله، وهكذا مع الجنود، وهكذا مع العشارين. فجذب إليه هذه الفئات وأحبوه. فعين المعمدان كانت مصوّبة على قلب الشعب وليس على أعماله ووظائفه، فالكل مدعو للصلاح والأمانة والشرف والصدق مع نفسه والله.

وبالمقارنة بتعاليم المسيح يبدو المعمدان فعلاً وكأنه ممهد للقلوب والأفكار وليس مجدّداً بأي حال من الأحوال، ولا يتطلب بالتالي طلبات جوهرية مصيرية كالتي طلبها المسيح أول ما طلب أن يسلّم الإنسان المشيئة الله ويضحي بكل انحرافات العواطف والأهواء والشهوات. وهذا يرجع أساساً إلى ما يحمله كل من المسيح والمعمدان من قوى وإرادة ومشيئة وسلطان روحي إلهي. فالمسيح يأمر أو يعطي الوصية ليس كما كانت تعطي التوراة حتى تنفّذ بقدرة الإنسان وعلى قدر التنفيذ يكون الجزاء والعقوبة، وهنا نشأ برّ الذات ولكن المسيح يأمر بالوصية وهو يسندها بقوة روحه، ويضمن نفاذها بنعمته إن صدق الإنسان وآمن من كل قلبه ،وبدأ يعمل تسنده الطاعة والأمانة للمسيح. فالمسيح يعطي الوصية من مركز إلهي قادر مقتدر.

أمَّا المعمدان فكان يؤمن تماماً أن تغيير القلوب يحتاج إلى عمل إلهي تركه للمسيا الآتي بعده “الأقوى مني” (مت 11:3) فاقتصرت وصاياه على تنفيذ أمر في حدود رسالته أن يمهد ويعلم وينصح ويرشد بكل إخلاص وصدق عالماً أن التغيير للتجديد سيتم بعمل الله في المسيا. يدعو إلى السلوك الأخلاقي الصادق والأمين ولكن إعطاء قوة لتجديد الحياة ليس من عمله. فالمعمدان لم يخطئ النظرة إلى نفسه قط، فهو يعرف نفسه وحجم رسالته. فبالرغم من الغيرة النبوية الملتهبة إلا أنه لم يخرج عن حدود كونه نبيًّا، يُنبئ ولا يعطي، يُعلّم ولا يُغير ، ينصح ولا يرتقي بالنفس. كان أداة طيبة وطائعة لروح الله في حدود إعداد الطريق أمام صاحب الروح. يُدرك أن هناك حتماً قادماً مَنْ سيعطي الخليقة جدتها وروحانيتها، ولكنه لا يزيد عن كونه يبشر بها بفرح وينتظرها كالباقين. لذلك لم يستطع تلاميذه أن يرفعوه فوق ما هو ولا أن يفتخروا به أكثر مما يقول ويعمل في حدود رسالته المتواضعة “لست أهلاً أن أحمل حذاءه” (مت 11:3). لقد تأكد تلاميذه أنه من الله، وأنه مُرسل من الله، ولكنه كالمصباح الذي يُوقَد في الليل حتى الفجر، فإذا انبثق نور الشمس خبا نور المصباح حتى ولو لم ينطفئ! 

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى