التجربة على الجبل
(مت 111:4، مر 12:1 و 13، لو 1:4-13)
+ «لأنه فيما هو قد تألّم مجرباً يقدر أن يعين المجربين» (عب 18:2)
+ «مجرب في كل شيء مثلنا بلا خطية.» (عب 15:4)
+ « لقد ودع المسيح خدمته بين الناس بعشاء المحبة،
ولكنه بدأ خدمته بوحدة عنيفة وصوم ثقيل.] بابيني
– “آدم تجرب وسقط أمام عدوه، والمسيح تجرب وأسقط عدوه”.
– “الذي قاله الشيطان للمسيح: «إن كنت ابن الله قل…».
قاله أيضاً رئيس الكهنة للمسيح: «إن كنت ابن الله انزل ..»”.
22 – أهمية أن يُجرَّب المسيح من الشيطان قبل أن يبدأ خدمته
الآن قد استلم المسيح الرسالة بالصوت المسموع والرؤية العلنية للروح القدس، وهو يؤازره بالمنظور حتى يدرك المسيح أن الروح القدس سيعمل معه على المكشوف الذي يراه كل بشر. ولكن لا يزال يعوز الخدمة أن يتمرس المسيح كإنسان على أسلحتها في مواجهة الشرير وأعماله ويستوثق هو مــــن سـلطانه الأقوى في مواجهة رئيس هذا العالم. فاقتاده الروح للمقابلة الرسمية مع العدو وهو في عقر داره في القفر.
فإن كان المسيح قادماً ليفتتح ملكوت الله في صميم العالم، فهذا معناه اقتحام سلطة الشيطان رئيس هذا العالم ونهب داره أولاً الذي سلحه بأسلحة الخطية المتعدّدة. إذن، فقد لزمت المواجهة.
وهكذا تقدم المسيح أعزل من سلطانه الإلهي ، إذ قد تخلى عمداً عما له، لكي يستطيع أن يقف موقفنا ويأخذ دورنا ففي كل ما انتصر فيه المسيح معناه أننا انتصرنا ]. وفي هذه المواجهة الساخنة مع الشيطان انتصرت البشرية فيه على مستوى البشر لأن كل ما انتصر فيه جسدياً انتصرنا فيه حتماً.
يلزمنا أن نتعرف أولاً على ما حدث في تجربة الشيطان للمسيح بناء على رأي الرب يسوع في العلاقة التي بين المسيح والشيطان وهي على مستوى المثل الذي قدَّمه المسيح لتلاميذه ليدركوا من هو المسيح ومن هو الشيطان، وماذا فعل المسيح للشيطان كمحصلة للتجربة التي مر بها على الجبل وفي خدمته بطولها بالنسبة للأشفية وإخراج الشياطين. وهو مَثَل أعطاه المسيح نفسه وهو يحمل . قوة المسيح. والمثل الذي ساقه المسيح لقياس القوة بين المسيح والشيطان يأتي هكذا: «ولكن إن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين، فقد أقبل عليكم ملكوت الله! أم كيف يستطيع أحد أن يدخل بيت القوي وينهب ، أمتعته، إن لم يربط القوي أولاً، وحينئذ ينهب بيته؟» (مت 12: 29,28)
واضح من هذا الكلام أن المسيح:
أولاً: قد افتتح ملكوت الله وأصبح بيت إسرائيل بشخصه هو ملكوت الله.
ثانيا: إنه جاء وفيه الروح القدس كقوة رادعة للشيطان الذي هو الروح أو الملاك الساقط من السماء.
ثالثاً : ومن المثل أن المسيح ربط القوي وهو الشيطان أولاً، ثم دخل بيت القوي وهو القفر ونهب أمتعته والسؤال متى وأين ربط المسيح هذا الشيطان القوي؟
واضح لدينا الآن أن بدخول المسيح إلى الشيطان في البرية القفر وعلى جبل التجربة، استطاع أن يدخل بيته وأن يربطه بمعنى أن يشل حركته أي يعري أساليبه. وسوف نرى ذلك في موضوع التجربة على الجبل.
ولكن يعطينا ق لوقا في إنجيله معلومة مضافة كالآتي: «حينما يحفظ القوي داره متسلحاً تكون أمواله في أمان. ولكن متى جاء مَنْ هو أقوى منه فإنه يغلبه وينزع سلاحه الكامل الذي اتكل عليــــه ويوزع غنائمه» (لو 11 21 و 22). هنا إضافة ق لوقا تأتي بخصوص الربط، إذ يضيف عليها أنه ينزع سلاحه الكامل الذي اتَّكل عليه قبل أن يوزّع غنائمه، بعد أن يربطه ويغلبه.
وهذا يعطينا معلومة أن نزع السلاح الكامل يأتي بعد أن يغلبه ويغلبه لأن المسيح هو الأقــــوى! وهذا كله يضاف إلى مفهوم تجربة المسيح على الجبل.
23 – التجربة (مت 4: 1-10)
أول ما يسترعينا في هذه القصة أن الروح هو روح المسيح: [فروحه هو الذي اقتاده إلى البرية]، [و بآن واحد نقول: إن روح الله هو الذي اقتاده إلى البرية.]
( أ ) « ثم أصعد يسوع إلى البرية “من الروح ليُجرَّب” من إبليس»:
إذن، فالتجربة أساساً موضوعة في تدبير الله كجزء من منهج رسالة المسيح وخدمته قبل دخوله في بدء الخدمة. ولذا فهي تختص أساساً بالخدمة، إذ يستحيل أن ينزل المسيح إلى الخدمة والشيطان حر طليق يعبث بالناس ويعطل عمل المسيح بمعنى أنه لَزِمَ أولاً أن يُربط الشيطان ويُنزع سلاحه الكامل الذي اعتمد عليه والذي جعله يطمئن على بيته وهو الإنسان؛ بعد أن يتغلب المسيح على الشيطان القوي ” ويربطه لأن المسيح هو الأقوى” – وهنا الروح القدس وارد بمعنى أن المسيح يحمل اللاهوت فهو أقوى ليس بالروح القدس، ولكن الروح القدس مرافق للاهوته لأنه الابن بشهادة الآب، وهذا هو سر قوته الفائقة على قوة الشيطان – حينئذ تبدأ جولة المسيح في مواجهة الشيطان في الناس الذين تسلط عليهم إلى أن يتقابلا أخيراً عند الصليب.
(ب) «فبعدما صام أربعين نهاراً وأربعين ليلةً، جاع أخيراً»:
واضح أن الصوم يجيء هنا كأول وأساس لعملية التجربة. والمعنى واضح أن التجربة ستبدأ من الجسد أي بصفة أن المسيح حامل البشرية. فبالتالي من حق الشيطان أن يتقدم ويجرب المسيح. لذلك لزم للمسيح أن يُعدَّ جسده أو بشريته للتجربة بالصوم. اما جوع المسيح بعد هذه المدة فهو إثبات قاطع أن الجسد الذي يحمله انتهت طاقته في احتمال الانقطاع الكلّي عن الأكل والشرب عند هذا الحد.
وعند هذا الحد تقدَّم الشيطان، لأنها أضعف لحظة للمسيح فيها يستخدم الشيطان الضغط على الجسد بالجوع والعطش ليقدم تجربته. فالجوع يُنشئ “شهوة للطعام جارفة، ومن “الشهوة سابقاً أسقط آدم وامرأته. فالشيطان متمرس في إسقاط الإنسان بعراكه مع شهوة الجسد، وهذا هو أول أسلحة الشيطان الكاملة. فتقدم الشيطان رافعاً سلاحه.
(ج) فتقدَّم إليه المجرب وقال له : إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزا»:
هنا استغل الشيطان فرصة الجوع والعطش الشديد ليحرك فكر المسيح أن يعمل عملاً يتنافى مع رسالته ويستخدم لاهوته في إشباع جوعه بدلاً من إشباع جوع مَنْ جاء ليخلصهم. وهنا يكون المسيح قد خضع لمشيئة نفسه بإيحاء من الشيطان، وهي مخالفة صريحة مباشرة لقانون المسيا والخلاص: «لأني قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني» (يو 38:6). وقد وضع الشيطان تجربته في قالب مناسب غاية المناسبة. فمنذ قليل وبعد المعمودية جاء الصوت من السماء يؤكد أنه ابن الله، فما فما المانع أن يتأكد هو من هذه الحقيقة، وبسلطان ابن الله يحوّل الحجارة خبزاً؟ وهكذا يكون الشيطان قد حبك التجربة لتخلخل علاقة المسيح بالآب السماوي وتوحي للمسيح أن يستقل بإرادته عن مشيئة الآب. وعلى هذا الخبث كان رد المسيح لينزع سلاح الشيطان الكامل في العمل على استقلال مشيئة الإنسان عن مشيئة الله أو ابن الله عن الآب!
( د ) «فأجاب وقال مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله»:
هنا التجاء المسيح وهو ابن الله إلى كلمة الله توضيح لمصدر “الأقوى ” عند المسيح، وهـو سلطان الكلمة ” التي بها انتزع سلاح الشيطان الكامل الذي يقوم على استخدام مشيئة الإنسان بعيداً عن مشيئة الله، أو الابن عن الآب، لتكميل شهوة الجسد. فالخبز مهما كان ليس هو مصدر حياة الإنسان، بل كلمة الله التي تخرج من فمه لتحيي وتميت.
يُلاحظ هنا أن رد المسيح بكلمة الله التي تخرج من فمه (انظر: تث (3:8 بعينها لو طبقناها على التوراة ككل تصير كل وصايا الله . حيث الاتجاه التعليمي يكون الطاعة الوصايا وهي التي عبر عنها المسيح بقوله: «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتم عمله.» (يو 34:4) هي الله وإرادته،
فالشيطان يستغل الجوع ويُظهر عطفه لئلا يموت الإنسان، مُحرِّضاً إياه ليعمل الخطأ والممنـــوع (يسرق مثلاً) لكي يحيا ولا يموت، وردَّ المسيح أن الحياة ليست من الخبز بل الحياة في كلمة الله.
وهنا انتهى الشيطان من التجربة القائمة على شهوة الجسد بتكسير سلاحه وانتزاعه. فابتدأ يصوب التجربة الثانية وهي قائمة على رد المسيح أنّ بكلمة الله يحيا الإنسان. فهنا تقدم الشيطان بمشروعه الثاني القائم على الاعتماد على كلمة الله.
(هـ) «ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدَّسة، وأوقفه على جناح الهيكل، وقال له: إن كنت ابن ا الله فاطرح نفسك إلى أسفل، لأنه مكتوب: أنه يوصي ملائكته بك، فعلى أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك»:
وهذا وارد حقاً في المزمور (91: 11و12).
فسلاح وهنا يستخدم الشيطان سلاحه القائم على أساس استخدام كلمة الله للفخار والمجد الذاتي. الشيطان هنا مصوب نحو كلمة الله لكي يجعلها أساس التجربة. فبهذه المناسبة نجد سلاح العدو من نفس صنف سلاح الفريسيين الذين طلبوا من المسيح ،آية فكان ردّه أنه لا تعطى لهم آية إلا آية يونان النبي، والتي كانت قائمة على استخدام كلمة الله لتبكيت أهل نينوى وإنذارهم بالهلاك إن لم يتوبوا هذا هو سلاح الكلمة الأقوى. فكان رد المسيح:
( و ) «قال له يسوع: مكتوب أيضاً: لا تجرب الرب إلهك»:
هنا القوة الأقوى انبرت لتحطيم سلاح العدو بسلطان الكلمة نفسه لتظل كلمة الله ضد العدو قادرة أن تحطّم أسلحته وفخاخه على أساس أن عدم تجربة الله يستند على الثقة بالله. وهنــا تقــدم الشيطان بسلاحه الأخير، مصوباً إياه نحو رسالة المسيح القائمة على أساس تحمل الآلام والصلب والموت الخلاص العالم وهي أيضاً مشيئة الله الآب.
( ز ) «ثم أخذه أيضاً إبليس إلى جبل عال جداً، وأراه جميع ممالك العالم ومجدها، وقال له: أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي»:
هنا سلاح العدو مصوّب ضد “الآب” نفسه الذي أرسل الابن لخلاص العالم مبذولاً علـــى الصليب. فقدم الشيطان مشروعه في المقابل: أن يكسب العالم كله لحسابه لو عصى الآب وأطـــاع الشيطان. وهو بهذا يتجنَّب الآلام والصليب. ولذلك كان رد المسيح حاسماً وقاطعاً ضد تجربته.
(ح) «حينئذ قال له يسوع: اذهب يا شيطان لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد»:
على أساس أن نوال مُلك العالم من دون الله خيانة لله . لذلك فهذا الرد الإلهي يستند على الأمانة المطلقة الله.
عصى كانت التجربة الأخيرة التي قدَّمها الشيطان هي نفسها التي كان قد سقط فيها الشيطان نفسه؛ إذ الله قديماً فأسقط من رتبته التي كانت رئاسته العُليا على بقية الملائكة، وأخذ رئاسته السفلى على العالم المادي، وذلك بمشيئة الله كمجرب أو كحزب معارضة ضد تعاليم الله، وليمكنه أن يستولي – إن استطاع – على الإنسان الذي خلقه الله على صورته لكي يعبده، والله عـــالم أنـــه سيستعيده بقدر ما يكتشف الإنسان الحق. وهكذا انتقلت رئاسة الشيطان من وضعها الإيجابي الروحي العالي – قبل سقوطه – إلى وضعها المادي الأسفل والسالبي، وبدل أن كانت للخير كخادم لله صارت للشر كمقاوم ومحرّب ولكن تحت انضباط الله. هنا المسيح صوب سلاحه الأقوى والغالب لتحطيم سلاح الشيطان الأخير، ذلك بالرجوع إلى الله مصدر السلطات والمجازاة والعطايا، بأنــه يتحتم السجود الله وحده والطاعة الكاملة مع العبادة، مذكراً الشيطان بجريمته.
إلى هنا يكون المسيح قد حطّم سلاح العدو الكامل وبالتالي ربطه حيث الرباط والتقييد هنا هو نتيجة حتمية لتحطيم سلاحه الكامل الذي اعتمد عليه وهو أنواع المراوغة ووسائل الخداع لإسقاط الإنسان بعيداً عن الله ووصاياه.
(ط) «وينهب أمتعته» : (مت 29:12)
وبعد أن ينتزع سلاحه ويربطه « ينهب أمتعته» وهنا عملية الخدمة بطولها، حيث كان عمل المسيح مُرَكَّزاً بصورة أساسية ومُلفتة إلى إخراج الشيطان بقوة واقتدار وسلطان. ففضح الشيطان وحرر مئات وربما ألوفاً من الذين كان قد استولى عليهم الشيطان وصاروا من ممتلكاته أو أمتعته التي يتمتَّع ويتسلى بتعذيبها كخليقة الله التي وقعت في يده فريسة.
وهكذا ينكشف منهج المسيح بوضوح كيف نزع أسلحته قبل بداية الخدمة وقيده، فلم يعد لـــه قدرة على مواجهة المسيح. ثم نزل المسيح إلى بيت الشيطان الذي اختبأ فيه هو والأشخاص الذين استولى عليهم وسكن فيهم سكنى المتاع والاستمتاع، وهناك أخرجه عنوة وفضحه. وهذه أمثلة من صراخه:
+ «وإذا هما قد صرخا قائلين ما لنا ولك يا يسوع ابن الله؟ أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذبنا؟» (مت 29:8)
+ «آه ما لنا ولك يا يسوع الناصري أتيت لتهلكنا. أنا أعرفك من أنت قدوس الله.» (24:1)
+ «أستحلفك بالله أن لا تعذبني.» (مر 7:5)
+ «أطلب منك أن لا تعذبني.» (لو 28:8)
وبهذا كله كان المسيح يرد على الشيطان فيما عمله في خليقة الله التي أهانها وعذبها: «والمعذبون من أرواح نجسة. وكانوا يبرأون.» (لو 18:6)
هذا طبعاً مضافاً إليه كشف المسيح لأفكار الشيطان وأعماله في سلوك الناس وتلويث عبادتهم.
بقيت في حركات الشيطان وأعماله عملية واحدة لها علاقة هنا بالتجربة “ في البرية” إذ السؤال: لماذا ذهب المسيح بنفسه مُقاداً بالروح إلى “البرية ” ليُجرَّب من إبليس ؟ والجواب قدمه المسيح في موضع آخر هكذا:
(ي) «إذا خرج الروح النجس من الإنسان يجتاز في أماكن ليس فيها ماء، يطلب راحة ولا يجد. ثم يقول: أرجع إلى بيتي الذي خرجت منه فيأتي ويجده فارغاً مكنوساً مزيَّناً. ثُمَّ يذهب ويأخذ معه سبعة أرواح أخر أشر منه، فتدخل وتسكن هناك، فتصير أواخر ذلك الإنسان أشر من أوائله. هكذا يكون أيضاً لهذا الجيل الشرير.» (مت 12: 43- 45)
واضح هنا أن البرية هي المكان المفضل للعدو الذي يجعله مركز تجمعه وراحته. فالمسيح بذهابه إلى البرية، دخل إلى الشيطان في عقر داره بصفته الأقوى، ونازله وانتزع أسلحته وربطه ونزل إلى الخدمة ونهب أمتعته.
(ك) «ولما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين.» (لو 13:4)
واضح من هذه الآية، أنه بعد أن فقد الشيطان جولته مع المسيح وخرج منهزماً ومربوطاً، فارقــــه إلى حين، بمعنى فارقه ليتقابل معه على الصليب؛ حيث أنهى المسيح معه جولته الأخيرة وانتزع كـــل سلطانه المؤسس على الخطية التي هي آخر أسلحته وأمضاها :
+ «مسامحاً لكم بجميع الخطايا، إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض، الذي كان ضدا لنا، وقد رَفَعَهُ من الوسط بيننا وبين الله مسمّراً إياه بالصليب، إذ جرَّد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهاراً، ظافراً بهم فيه.» (كو 2: 13-15)
نظرة إلى مجموع التجارب وهدفها
إن أهم ما يمكن أن نقوله بخصوص هذه التجارب التي جازها المسيح : إنها لم تُصوَّب إليه كونه “ابن الله ” فهذا مستحيل ولا يستطيعه الشيطان، ولكنه لما تجسَّد الابن الكلمة وأخذ جسد الإنسان، أي صار بشراً، أصبح في متناول الشيطان لأنه جرَّب مع آدم ونجح. فالتجارب مصوبة للمسيح ابــــن الله المتجسد باستغلال أخذه ضعف الإنسان أي جسده.
وبالمقابل فإن المسيح دخل إلى تجربة الشيطان وهو حامل البشرية وممثلها بقصد مباشر هو أن يجيز البشرية التي فيه أضعف ما فيه كل تجارب الشيطان ثم يغلب الشيطان وبجسدها الضعيف وهي يحطّم أسلحته وقوته وذلك لحساب الإنسان الجديد أو الخليقة الجديدة التي ستقوم به وفيه من بين الأموات. لذلك قالها المسيح واثقاً مما عمله بفم الإنسان الجديد الذي فيه قبل أن يجوز به الموت لينهي منه قوة الخطية إلى الأبد: «لأن رئيس هذا العالم يأتي ولـيـس لـه في شيء» (يو 30:14). فقد صفّى المسيح حساب الشيطان مع الإنسان قبل أن يدخل بجسده الموت حتى لا يمسك منه . في الموت؛ بل قام به جديداً منيراً خليقة جديدة لحساب الإنسان.
على أن التجربة الشيطان كانت تمهيداً للتجارب والمصادمات التي كانت تنتظره مع الكتبة والفريسيين، وأعطته الإحساس الداخلي كيف يتعرف على التجربة من أين هي آتية وإلى أين هي مصوبة. فقد أدرك أفكار العدو وكشف حيله، فلم تكن التجارب بعد ذلك خارجة عن متناول معرفته وسلطانه.
لقد جاز المسيح تجارب الشيطان والكتبة والفريسيين ورؤساء الكهنة، وبالنهاية قال لتلاميذه: « دفع إلي كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم» (مت 19,18:28) لقد تخلى المسيح عن مظاهر المجد والقوة وحارب الشر والأشرار ببره الذاتي الشخصي، فغلب واسترد كل سلطان له ليحكم ويدين.
لقد كان القصد والغاية من التجربة التي جازها المسيح إزاء الشيطان أن يختبر علاقة المسيح بالله أبيه. بالرغم أن التجربة في ظاهرها أصابت الجسد حيث تتركز التجربة في : ( أ ) شهوات الجسد الطبيعي، (ب) الشهوات النفسية للطبيعة الإنسانية، (ج) شهوة الإعجاب بالذات والتكريم من الآخرين وامتلاك القوة.
أما جوهر التجربة الحقيقي فهو موجه نحو الدعوة التي دُعِيَ إليها المسيح، فهي مصوبة بإتقان لتخريب العلاقة بين المسيح والله لإصابة طاعته وثقته وأمانته في الله. وهذا واضح جداً في عرض الشيطان للمسيح بأن يُسلمه مملكة العالم كله إن هو سجد له. أما ثقة المسيح في الله فتعرضت للتجربة بتقديم فكرة طرح المسيح لنفسه من فوق جناح الهيكل . وأما طاعة المسيح لله في كل شيء فامتحنها الشيطان بعرض فكرة تحويل الحجر إلى خبز، الأمر الذي ازداد وضوحاً برد المسيح عليه: « ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله» أي الوصايا والطاعة لها. كمـا جاءت في (تث 3:8) حيث تكون الحياة في خضوع كلي لمشيئة الله.
من هنا يظهر لنا أن المعمودية وبعدها التجربة هما فصل واحد متماسك ومتشابك في بدء حياة المسيح وخدمته، حيث في المعمودية يتم اختيار الله للمسيح وتعيينه للعمل، يقابله في التجربة رد فعل المسيح في المحافظة على هذا الاختيار بمنتهى حرية المسيح والأمانة الكلية الله الآب، والثقة فيه، والخضوع والطاعة له كملك.
وهكذا وقبل أن يبدأ خدمته تعين المسيح رسمياً من الله كمختار الله للعمل في تأسيس ملكوته على الأرض، كما تم إثبات أمانة المسيح وثقته وخضوعه الله كملك لملكوته على الأرض، وأن كل ما سيتم في هذه الخدمة سيكون من أجل الله ، مع الله، وتحت الله؛ حيث المسيح سيكون العامل الأمين الكامل للملك الكامل.
الأناجيل تُثبت وتوضح هذا الأمر :
+ «إن كنت أنا بروح الله أُخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله » (مت 28:12)
وهنا واضح أن القوة التي سيُمارس بها المسيح إخراج الشياطين هي قوة الله الملك.
+ «ثم نظر حوله إلى الجالسين وقال : ها أمي وإخوتي، لأن من يصنع مشيئة الله هو أخي وأختي وأمي.» (مر 3: 34و35)
وهنا واضح أن المسيح جاء ليصنع مشيئة الله بدليل أن كل مَنْ يصنع مشيئة الله يكون منتسباً إليه: “بيت الله”.
+ «وأما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا للذين أُعد لهم.» (مر 40:10)
+«وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الآب.» (مر 32:13)
وهنا واضح أن المسيح يترك ما الله في يد الله وليس له إلا أن يصنع مشيئته.