العظات الخمسون للقديس أنبا مقار

خلع الإنسان العتيق ولبس الجديد

‏العظة الثانية من العظات الخمسون

[من مملكة الظلمة، أي مملكة الخطيئة، وان الله وحده هو القادر أن ينزع منَّا الخطيئة وينقذنا من عبودية رئيس الشر]

[أ] الإنسان العتيق الفاسد

1 – إن مملكة الظلمة، أعني رئيس الشر الذي سبى الإنسان منذ البدء[انظر تك3] ، قد أحاط بالنفس وكساها بسلطان الظلمة ، كما حينما يجعلون إنساناً ملكاً ويلبسونه ثياباً ملوكية، حتى إنه من رأسه إلى إصبع قدميه يتسربل بثياب المُلك ؛ هكذا النفس بكل كيانها قد كساها رئيس الشر بالخطيئة وأفسدها كلها وسباها بالتمام إلى مملكته ، حتى إنه ما ترك منها ولا جزءاً واحدا معتوقاً منه : لا الحواس ولا العقل ولا الجسد ، بل كساها برداء مملكة الظلمة . فكما أن الجسد لا يتألم جزء منه أو عضو منه بمفرده ، بل يكون الجسد كله بكامله متألماً ؛ هكذا النفس أيضا قد تألمت بكليتها بأهواء الشر والخطيئة ، إذ إن الشرير قد ألبس النفس كلها – التي هي العنصر والعضو الأساسي للإنسان – ألبسها شره ، أي الخطيئة ، فأمسى الجسد هكذا مستهدفاً للتألم والفساد .

2 – لأن الرسول حين يقول : « اخلعوا الإنسان العتيق » ( أف4: 22 ؛ کو3: 9) ، إنما يقصد إنساناً كاملاً له أعين عوضاً عن أعين ، ورأس عوضاً عن رأس ، وأذن عوضا عن أذن ، وأيادٍ عوضا عن أيادٍ ، وأرجل عوضاً عن أرجل . فلقد لوَّث الشرير الإنسان بكامله نفساً وجسداً ، وكسا الإنسان بإنسان عتیق ملوث نجس مُعادٍ لله ، غير خاضع لناموس الله[انظر رو8: 7] بل هو الخطيئة بعينها ، حتى إن الإنسان لا يعود يرى بعد كما يشاء هو ، بل ينظر نظراً شريراً، ويسمع سمعاً شريراً، وتصير رجلاه سريعتين إلى فعل الشر[انظر : أم1: 16 ، رو3: 15] ويداه مقترفتين للإثم[انظر: مز26: 10] ، وقلبه مفتكراً بالشرور .

[ب] الله وحده يخلع عنَّا الإنسان العتيق

فلنتضرع إذاً نحن أيضاً إلى الله لكي يخلع عنا الإنسان العتيق ، إذ إنه هو وحده القادر أن ينزع منَّا الخطيئة[انظر 1يو3: 5]، لأن أولئك الذين سبونا وأمسکونا في مملكتهم هم أقوى منا، ولكنه وعدنا أن ينقذنا من هذه العبودية الشريرة . فكما أنه حين تشرق الشمس ويتفق أن تهب معها الرياح، ورغم أن لكل من الشمس والرياح طبيعته الخاصة وكيانه الخاص ، إلا أن أحداً لا يستطيع أن يفصل الرياح عن الشمس إلا الله وحده ، ذاك الذي يُوقف الرياح فلا تهبُّ بعد[انظر مر4: 39، 41] ؛ هكذا أيضاً الخطيئة التي امتزجت بالنفس ، رغم أن لكل من الخطيئة والنفس طبيعته الخاصة .

3 – إذا ، فهو ضرب من المستحيل أن تنفصل النفس عن الخطيئة ما لم يُوقف الله هذه الريح الشريرة الساكنة في النفس والجسد ويُبكمها . كما لو أن هناك أحداً يشاهد طائراً مُحلقاً ، وواتته الرغبة هو أيضاً أن يطير ، فما يستطيع ذلك لأنه لا يملك أجنحة يطير بها؛ هكذا أيضاً حال الإنسان الذي تكون “الإراد حاضر عنده”[انظر رو7: 18] أن يصبح طاهراً وبلا لوم ولا دنس وأن لا يقتني شراً في نفسه بل يكون على الدوام مع الله ، ولكن لا قدرة له على ذلك. فإنه  يروم التحليق في الأجواء الإلهية وفي حرية الروح القدس ، لكنه ما لم يقتني أجنحة فلن يستطيع ذلك. فلنتضرع إذا إلى الله ، لكي يهبنا أجنحة حمامة – أجنحة الروح القدس ، حتى نطير إليه ونستريح[1] ، وحتی ينزع عن أنفسنا وأجسادنا الريح الشريرة ، أي الخطيئة الساكنة في أعضاء نفوسنا وأجسادنا ، ويوقفها ، لأن له وحده القدرة على ذلك . فإنه قيل : « هُو ذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم » ( یو1: 29) ، فهو وحده الذي صنع هذه الرحمة لأولئك الذين آمنوا به من البشر حتى يفتديهم من الخطيئة. فإنه لأولئك الذين ينتظرونه دائماً والذين يترجونه والذين يسألونه بلا انقطاع ، يصنع هذا الخلاص الذي لا يُعبر عنه.

4 – فكما يحدث في ليلة قاتمة مظلمة ، حينما تهب ریح عاصفة فتحرك كل الأشجار والنباتات وتنفذ خلالها وتميلها هنا وهناك ؛ هكذا أيضاً الإنسان الساقط تحت سلطان ليل ظلمة الشيطان والقابع في ليل وظلام ، “يهت” بالريح العاصفة التي للخطيئة ، التي تقع عليه فتحركه وتميله هنا وهناك وتنفذ خلال كل طبيعته ونفسه وأفكاره وعقله ، فتضطرب كل أعضائه الجسدانية ولا يكون عضو من النفس أو الجسد معتوقاً من الخطيئة الساكنة فينا[انظر رو7: 17، 18] أو مُعافى منها. على ذات المنوال هناك نهار نور ، و وهناك ريح الروح القدس الإلهية التي تهب فتنعش النفوس الكائنة في نهار النور الإلهي ، وتنفذ خلال كل جوهر النفس والأفكار ، وتنعش كل أعضاء الجسد وتريحها براحة إلهية لا يُعبر عنها ؛ هذا هو ما قاله الرسول : « لسنا أبناء ليل ولا ظلمة ، جميعكم أبناء نور وأبناء نهار » ( 1تس5: 5 – حسب النص) .

[ج] الإنسان الجديد هو يسوع المسيح فينا

وكما أنه بالغواية في ذلك الزمان قد لبس الإنسان القديم (أي آدم) إنساناً شريراً کاملاً، فتسربل بثياب مملكة الظلمة : ثياب تجديف وعدم إيمان وعدم خشية وعُجب وكبرياء ومحبة للمال وشهوة وباقي ثياب مملكة الظلمة، تلك الخرق النجسة الدنسة؛ هكذا أيضاً الآن جميع الذين قد خلعوا الإنسان العتيق الأرضي الذي من أسفل ، والذين قد خلع عنهم يسوع ثياب مملكة الظلمة ، هؤلاء قد لبسوا الإنسان الجديد السماوي[انظر 1كو15: 47 – 49] الذي هو يسوع المسيح ، وصار لهم أعين عوضاً عن أعين وآذان عوضاً عن آذان ورأس عوضاً عن رأس ، حتى يغدو إنسانهم الجديد نقياً بالكلية وحاملاً الصورة السماوية. 

 5 – فلقد ألبسهم الرب ثياب مملكة النور الذي لا يُعبَّر عنه : ثياب إيمان ورجاء ومحبة وفرح وسلام وصلاح ولطف[انظر غل5: 22، 23] وكل ما يتبعها من الثياب الإلهية الحية ، ثياب نور وحياة وراحة لا يُنطق بها ، حتى كما أن الله هو محبة وفرح وسلام ولطف وصلاح ، هكذا يصير الإنسان الجديد أيضاً بالنعمة . وكما أن الخطيئة ومملكة الظلمة كلتيهما مخفيتان في النفس حتى يوم القيامة ، حيث يتغطى جسد الخطأة و أيضاً بالظلمة المخفية في النفس منذ الآن ؛ كذلك أيضا مملكة النور والصورة السماوية ، أي يسوع المسيح ، يُنير النفس سراً منذ الآن ، ويملك داخل نفوس القديسين . ورغم أنه مخفی عن أعين الناس ، إلا أنه – أعني المسيح – يُرى بالحقيقة بأعين النفس فقط ، وذلك حتى يوم القيامة حيث يتغطى الجسد هو أيضا بنور الرب ويتمجد به ، ذلك النور الكائن منذ الآن في نفس الإنسان ، حتى يملك الجسد هو أيضا مع النفس التي منذ الآن قد نالت ملكوت المسيح واستراحت بالنور الأبدي واستنارت به . فالمجد لرأفاته وشفقته ، لأنه يرحم عبيده ويُنيرهم وينقذهم من مملكة الظلمة وينعم عليهم بنوره الخاص وبملكوته الخاص ، له المجد والسلطان إلى الدهور ، آمین . 

  1. انظر : مز55: 6  وعن أجنحة الروح ، انظر : رسائل القديس أنطونيوس ، الرسالة 2:18 ؛ و بستان الرهبان قول 237.

زر الذهاب إلى الأعلى