تفسير المزمور 19 للقديس أغسطينوس

عظة أولى في المزمور الثامن عشر
(بحسب السبعينية)
كلمة الله

تحت ستار الرمز، يُعظَّم النبي الكرازة بالإنجيل، بشارة الكلمة الموكلة إلى الرسل، وبالرسل عمّت الأرض كلها، وراحت تعمل في هداية البشر. شرط الاهتداء والتوبة عن الخطايا.

للغاية، مزمور لداود

1- العنوان معروف : ليس المسيح يسوع هو المتكلم في هذا المزمور، إنما هو المقصود فيه.

«السماوات تُذيع مجد الله» (19: 1) الإنجيليون القديسون الذين يسكن الله فيهم كما في السموات، يبشروننا بمجد يسوع المسيح، أو بالمجد الذي مجّد به الآبَ ابنه الذي عاش في هذه الدنيا . والجلدُ يُخبرُ بأعمال يديه (19: 1) الجلد يُخبر بأعمال الربّ العجيبة. إنها قوّة الروح القدس التي صارت جَلَدًا وسماء، بعد أن كانت أرضًا ضعيفةً بفعل الخوف.

3- «النهارُ يُكلّم النهار» (19: 2): الروح يكشف للإنسان الروحي، وبملئه، حكمة الله التي لا تحول، الكلمة الذي هو الله ، وفي منذ البدء (يو 1: 1) . «والليل يُعلِّم الليل». أي أنّ هذا الجسد الله المائت الذي ينقل الإيمان إلى الجسديين كما لو كانوا في البعيد البعيد، يبشرهم بالمعرفة التي تأتي بعد الإيمان.

4 – «ليس قول ولا كلام لا يُسمع به صوتُهم» (19: 3). من ذا لم أصوات الإنجيليين وهم يكرزون بالإنجيل بكل لغة؟ في كلّ الأرض دوّى صوتُهم، وفي أقاصي المسكونة ذاع يسمع كلامهم

6 – «في الشمس نصب خباءه »(19: 5) . الربّ الذي أتى ليشن حربا على قوى الضلال الزمنية ، ويحمل إلى الأرض سيفا لا سلاما (مت 10: 34)، عرّف بنفسه في الزمن، حيثُ أظهر سر تجسّده الذي كان له بمثابة خيمة عسكرية. كان مثل ختن خارج من مخدعه». . خرج أحشاء العذراء، حيث عقد الطبيعة البشرية زواجًا مقدسًا . «وكالجبار انطلق في سبيل رسالته». انطلق بقوته، متقدما على جميع الناس بقدرته التي لا تُقاس لا ليقف في سبيله، بل ليسير فيه إلى النهاية. لأنه لا يقف في طريق الخطأة» (مز 1: 1).

7- من أعلى السموات انطلق (19: 6)، ومن الآب أتانا، لا في مجيء مؤقت بل في جيل أبدي. «وإلى أقاصي السماء مسيرته» (19: 6). ولأنه إله كامل، ساوى أباه ولا أحد يتفادى حرَّ ناره»، لأنّ الكلمة الإلهي الذي صار جسدا، ولبس ميتتنا لكي يحلّ بيننا (يو 1: 14) ، لم يسمح لأي إنسان أن يحتج بظلال الموت، من حيث أن الموت نفسه أحس بحرارة الكلمة .

8- «شريعة الربّ لا عيب فيها وهي تهدي النفوس» (19: 7) . شريعة الربّ، إذًا، هي ذاك الذي أتى ليُكمل الشريعة لا لينقصها (مت 5: 17). إنّه شريعة نقية خالصة، هو الذي لم يرتكب خطيئة، ولم ينطق فمه بالكذب» (1بط 2: 22)؛ الذي لا يُرهق النفوس بنير الإستعباد، بل يجتذبهم أحرارًا ليقتدوا به «شهادة الربّ أمينة، وتهب الحكمة للبسطاء». تلك الشهادة أمينة وصادقة لأن أحدا لا يعرف الآب، إلا الابن ومن أراد الابن أن يكشفَه لهم (مت 11: 27). ما خفي عن الحكماء وكُشف للبسطاء، لأنّ الله يقاوم المتكبرين ويهب النعمة للمتواضعين (يع 4: 6) .

 9 – «أحكام الربّ مستقيمة، وتُفرح القلب» (19: 8): جميع أحكام الربّ مستقيمة في ذاك الذي لم يُعلّم شيئًا لم يعمله هو نفسه، لكيما تفرح قلوب الذين يقتدون به فيعملون لا بخوف العبيد، بعد، بل بمحبة الأحرار. «وصيّة الربّ نيّرة، تُضيء العيون»: تلك الوصية النقية التي لا يُخفيها حجاب البهارج الجسديّة تنير عيني الإنسان الباطني.

10 – «خشية الربّ طاهرة، وهي ثابتة إلى دهر الدهور» (19: 9). خشية الربّ هذه لم تعد تلك التي كانت قصاصا تحت الشريعة، والتي تخشى ضياع الخيور الزمنيّة التي يُعَدُّ حبُّنا لها زنى ؛ بل إنّها خشيةٌ طاهرة، تحمل الكنيسة على تفادي ما يمكن أن يُسيء إلى خَتَنِها ، بدراية توازي حبّها له. والحال فإنّ المحبّة الكاملة لا تقصي تلك الخشية (1يو 4: 18)، التي تثبت إلى الأبد.

 11- «وأحكام الربّ حقٌّ ومُبرَّرة بذاتها» (19: 9): إنّ أحكام الذي لا يدين أحدا بنفسه، والذي أعطى الابن الحكم كله (يو 5: 22)، هي حقا عدل لا يحول لأنّ الله لا يغش، لا في وعيده ولا في وعوده؛ ولا أحد بوسعه أن يُنقذ الآثم من العذاب، ولا أن يمنع الثواب عن البار. هي أشهى من الذهب والجواهر الثمينة» (19: 10): أي أشهى من الذهب الكثير، أو من الذهب الغالي الثمن. على أن أحكام الرب أفضل من بهارج هذا العالم التي يمنعنا اشتهاؤُها من ابتغاء أحكام الله، بل يجعلنا نخشاها، أو نزدريها، أو لا نؤمن بها. لو كان كل مؤمن، بدورِه، ذهبًا خالصا أو إبريزا ثمينا لا تؤثر فيه نار، ويُكنز في خزائن الربّ، إذ ذاك يُحبّ أحكام الله فوق محبّته نفسه، ويعمل مشيئة الله لا مشيئته هو . وأحلى من العسل وقطر الشهاد»: فلتكن النفس المؤمنة ذاك العسل الشهي، ولتنتظر بعد تحرّرها من خيور الحياة، يوم وليمة الربّ ؛ أو لا تكن غير عسل في قفير، متحصنة في هذه الحياة من غير أن تلتصق بها، كما العسل في الخلايا التي يملأها ، بحاجة إلى أن تعصرها يدُ الله لا لتسحقها، بل لتستخرجها كالعسل، وتنقلها من الزمان إلى الأبدية، فتكون أحكام الله أحلى لها منها، لأنّ أحكام الله أشهى من الشهد والعسل.

12- وعبدك أيضًا يسترشد بها (19: 11)، ويكون يوم الربّ أشد مرارة لمن يزدريها. وفي حفظها ثواب عظيم»؛ وهذا الثواب العظيم لا يكون في أيّ مكسب خارجي، بل في حفظ وصايا الربّ؛ والثواب عظيم لأنّ حفظ الوصايا، يحمل الفرح في ذاته.

13- «من الذي يتبيَّن زلاته» (19: 12). وأي حلاوة بوسعنا أن نجد في تلك الزلات ونحن بلا فهم؟ وكيف نفهم الزلات عندما تُظلم عيني النفس التي تجعل في الحقيقة لذاتها، وتجد أحكام الله حلوة وتستحق أن تُشتهى؟ فكما تُعمي الظلمة أبصارنا، كذلك الخطايا هي غشاوة للنفس، تحجب عنها النور فلا تعود تبصرها.

14- نقني يا ربّ من خفايا نفسي (19: 12). حررني يا ربّ من الشهوات التي تختبئ في قلبي. إعصم عبدك من خطايا الآخرين» (19: 13) فلا يُغوونني. لأنّ الإنسان المطهر من خطاياه لا يؤخذ بخطايا الآخرين. فاعصم من الأهواء الغريبة، لا المتكبر طالب التحرّر، بل اعصمني أنا عبدك. فإن لم تتسلّط علي أغدو بلا عيب» (19: 13): أكون بالتأكيد بلا عيب إن لم تتسلّط علي، لا أهوائي ولا أهواء الآخرين. لأنه ليس من أصل ثالث للخطيئة، بعد ذلك الوسواس الداخلي الذي أسقط إبليس، وذلك الوسواس الخارجي الذي أغوى الإنسان وصار خطيئةً برضاه «وأطهر من معصية كبيرة» . ما عساها تكون تلك المعصية سوى الكبرياء؟ ليس من إثم أعظم من الإنفصال عن الله، لأنه رأس كبرياء الإنسان (يشوع بن سيراخ 10: 14). حقًا إنه بلا عيب ذاك البعيد حتى عن هذه الخطيئة التي هي خطيئتنا الأخيرة حين نتوب إلى الله، مثلما كانت الأولى حين تخلّينا عنه .

15 – «ولتكن أقوال فمي مرضيّةً لديك، وأفكار قلبي أمام وجهك في كل حين» (19: 14): لن يعود قلبي فيسعى إلى المجد الباطل في رضا الناس، لأنّي اطرحت عنّي كلّ كبرياء، وأنت يا ربّ تُبصر القلوب الطاهرة. «أنت أيها الربّ صخرتي وفادي. أنت صخرتي وعوني عندما ألتجئ إليك، وما افتديتني إلا لكي أمضي إليك. من تجرأ فعزا إلى حكمته ارتداده إليك، أو إلى قواه، بلوغه إلى عزّتِك، لا بد من أن يُطرح بعيدًا، لأنك تقاوم المتكبرين (يع 4: 6)، وليس ببريء من تلك الخطيئة الكبرى، ولا هو مرضي في عينيك، يا ربّ، أنت الذي تفتدينا لكي نتوب إليك، وتعضدنا لكي نبلغ إلى قربك.

عظة ثانية في المزمور الثامن عشر

في هذه العظة الثانية يستخلص القديس أوغسطينس النتائج الأدبية والعملية للعظة الأولى: أوّلاً بخصوص نعمة الله التي ننالها باستحقاقات يسوع المسيح؛ وثانيًا بخصوص وحدة الكنيسة تجاه الهراطقة ونظرتها إليهم ؛ وثالثًا بخصوص الإستعدادات التي تتطلبها منا التوبة الحقيقية .

1 – بعد أن تضرّعنا إلى الربّ لكي يُطهرنا من خطايانا التي نجهلها، وأن يحفظ عبيده من خطايا الآخرين، علينا أن نفهم معنى تضرعاتنا، لكي تُرنّم بالروح تسابيح الربّ، كبشر عاقلين، لا كعصافير؛ لأننا نرى كلّ يوم، الشحرور والببغاء، والغراب والكناري، تتعلم من الإنسان ترنيم النغم من دون أن تفهمه. لكنّ الله شاء بملء إرادته أن يهب الإنسان فهم ما يُرنّم. وبألم نرى الكثيرين من المنافقين والفجار يصدحون بأناشيد تستسيغها آذانهم وقلوبهم الآثمة، لكونهم لا يجهلون ما يُنشدون ذاك أنهم يعرفون أن أناشيدهم آثمة، ومع ذلك يُردّدونها بابتهاج، كلما ازداد اهتياجًا ازداد رجسًا، ويحسبون أنفُسَهم أكثر فرحًا كلّماً أمعنوا في الفسق والفجور. أما نحن الذين تعلمنا أن نرنّم في الكنيسة ألحاناً إلهية، فعلينا أن نبذل جهدنا لبلوغ ذلك الكمال الذي صيغ على هذا النحو: «طوبى للشعب الذي يعرف التهليل» (مز 88: 16). علينا، إذًا، يا أحبائي، أن ندرس ونفهم، بقلب طاهر، ما رنّمناه جوقًا واحدا. كل منا، في هذا النشيد، تضرع إلى الربّ وقال : «نقني يا ربّ من خفايا نفسي؛ إعصم عبدك من خطايا الآخرين؛ فإن لم أشعر بسلطانها أغدو بلا عيب، وأطهر من معصية كبيرة» (مز 19: 12، 13) ولكي نفهم جيدا معنى تلك الكلمات ومحمَلَها، فلنقرأ سريعا، بمعونة الله، نص المزمور.

2 – إنه رمز للمسيح، ونرى ذلك بوضوح في هذه الكلمات: «كان مثل ختن خارج من مخدَعِه» (19: 5) . مَن يكون العروس سوى ذاك الذي خطبه النبي إلى عذراء؟ وفي توسّلاته العفيفة، يخشى صديق الختن الأمين من أن تتدنّس حواس عروس المسيح العذراء، وتنحل من العفاف الذي في المسيح، على مثال حواء التي أغوتها الحية باحتيالها (2كو 11: 3). إذا ، في ربّنا ومخلصنا يسوع المسيح، خزن الله تلك الكنوز، وملء النعمة التي قال لنا عنها يوحنا الرسول: «أبصرنا مجده مجد وحيد من الآب مملوءا نعمةً وحقا» (يو 1: 14). ذاك هو المجد الذي تُخبر به السماء فالسموات هي القديسون الذين رفعوا فوق الأرض، ويحملون الربّ ؛ على أنّ السماء أخبرت بمجد المسيح على طريقتها . ومتى أخبرت به؟ – عند ولادة المخلّص، حين أظهرت نجما جديدا لم يكن بعد معروفًا . على أنّ ثمة سموات أخرى أعظم، قيل عنها في الآية التالية : ليس قول ولا كلام لا يُسمع به صوتُهم. في كل الأرض دوّى صوتُهم، وفي أقاصي المسكونة ذاع كلامهم» (19: 3، 4). قولُ مَن وكلام من، إن لم يكن من السموات؟ ومن تكون السموات، سوى الرسل ؟ هؤلاء الرسل هم الذين يُردّدون التسبيح والشكر الله على النعمة التي وهبها ليسوع المسيح لكي يغفر الخطايا. إذ الجميع قد خطئوا، يُعوزُهم مجد الله، فيتبرّرون مجانا بدم يسوع المسيح (رو 3: 23). وبما أنّ الهبة مجانية، فهي نعمة، لأنه ما من نعمة إلا وتكون مجانيَّة . لم نكن قد أتينا أي عمل صالح يستحق عطايا الله، وهو لم يكن ليُنزل بنا مجانًا أيَّ قِصاص؛ من هنا أنَّ صنائعه لنا مجانية. في حياتنا الماضية، لم نكن نستحق شيئًا غير قصاص عادل. إذًا، خلصنا الله، لا لأعمال برّ ،عملناها بل لرحمته بغسل الولادة الجديدة (تي 3: 5). ذاك برأيي، هو مجد الله الذي تُخبر به السموات. لأنك لم تأتِ عملا صالحا، ومع ذلك نلت خيرًا وافرا . فإذا كان لك نصيب في تلك النعمة التي رنّمت بها السموات، عليك أن تقول للرب إلهك : «هو إلهي ويتداركني برحمته» (مز 59: 11). والحال، فإنه هو الذي تداركك، وبادر إليك سريعا، فلم يجد فيك صالِحًا . أنت استنزلت قصاصاته بكبريائك، فتداركك بمحو خطاياك . فغدا الخاطئ فيك بارا، والآثم مُبرِّرًا، والمحكوم بالموت استعاد حقه في السماء؛ لذلك عليك أن تقول للربّ: لا لنا، يا ربّ، لا لنا، لكن لاسمك، أعط المجد» (مز 113: 9) . لنقل بصراحة: «لا لنا»، فلمن يُعطيه إن كان يهتم لنا؟ لنقُلْ مرّةً بعدُ: «لا لنا، يا ربّ». فلو عاملنا بحسب استحقاقاتنا لما وجد لنا غير القصاص. تمجد اسمه، لا اسمنا «لأنه ما عاملنا بحسب خطايانا» (مز 103: 10). «لا لنا ، يا ربّ، لا لنا هذا التكرار يُقوّي الفكرة لا لنا، يا ربّ، لا لنا، لكن لاسمك أعط المجد». هذا ما فهمته السموات التي رنّمت مجد الرب. 

3- «والجلد يُخبرُ بعمل يديه» (19: 1). عبارة «يُخبر بعمل يديه» تعيد الكلام عن مجد الربّ. ما هي أعمال يديه؟ لا نحسبن مثل كثيرين، أن الرب عمل كلّ شيء بالكلمة، فيما صنع الإنسان، الخليقة الأكمل، بيديه. هذا القول سخيفٌ وبعيد عن الصحة، لأنّ الله صنع كلّ شيء بكلمته. على الرغم من أنّ الكتاب المقدس يعرض لنا أعمال الخالق المتعدّدة والمتنوّعة، ويخبرنا بأنّه خلق الإنسان على صورته، غير أنّ كلّ شيءٍ كان إنّما بكلمته كوِّن وبغيره لم يُكوّن شيء مما كُوِّن. أما بشأن يدي الله فقيل أيضًا : «السموات صنع يديك» (مز102: 26) ولئلا يختلط علينا الأمر بين سمواتٍ وقديسين، يُضيف النبي : هي تزول، وأنت تبقى» (102: 27). إذًا، لا البشر فقط، بل أيضًا السموات التي ستزول، هي صنع يدي الله الذي قيل إنّ السموات صنع يديه. وهذا ما قيل أيضًا الأرض: «له البحر وهو صنعه ويداه جبلتا اليبس» (مزمور 95: 5). إذًا، إن كان قد صنع والأرض بيديه، فإنّ الإنسان ليس وحده من صنع يديه. لكنّه إذا كان قد صنع السماء بكلمته، والأرض بكلمته، فإنه صنع الإنسان أيضًا بكلمته . عمل الكلمة هو عمل يديه، كما أنّ عمل يديه هو عمل كلمته . لا يملك الله، مثلنا، أعضاء تظهر بها قوتُه ، لأنه بكليته في كلّ مكان، ولا يحده حد. وعملُ كلمته هو عمل حكمته، وعمل يديه عمل قدرته «لأن المسيح قوة الله وحكمة الله» (1كو 1: 24)؛ وبه كلّ شيء كان، وبغيره لم يُكوَّن شنيءٌ ممّا كُوّن (يو 1: 3). السموات، إذًا، أخبرت بمجد الربّ، وتُخبِرُ أيضًا، وستخير على الدوام. أجل، إنّها تُرنّم بمجد الربّ، تلك السموات، أو بالأحرى أولئك القديسون الذين رفعوا فوق الأرض، ويحملون الربّ، ويُذيعون أحكامه ويُهيبون بحكمته؛ إنهم يُخبرون بمجد الربّ الذي خلصنا على الرغم من عدم استحقاقنا. وذاك الإبن الأصغر الذي يعضه الجوع يعرف عدم استحقاقنا . أي أنه يعرف المجد الذي لا نستحقه. ويعرفه ذاك الشاب الذي ترك أباه وسافر إلى بلادٍ بعيدة ليعبد الشياطين ويرعى الخنازير ؛ يعرف مجد الله، لكن فقط عندما يعضه الجوع. ولما كان ذلك المجد قد صَنَع منا ما لم نكن مستحقين أن نكون قال لأبيه: «لست مستحقا أن أدعى لك ابنا» (لو 15:21) بائس منحه تواضعه السعادة، فأظهر أنه يستحقها ، إذ أقرّ بعدم استحقاقه لها . ذاك هو مجد الله الذي تذيعه السموات وعملُ يديه الذي يُخبر به الجَلد. ذلك الجَلد القلب القوي، لا القلب الواجف. وتلك الأعمال أُخبر بها بين الأئمة، أعداء الله، بين محبّي العالم ومضطهدي الأبرار. أجل، وسط هذا العالم المسعور ؛ لكن ماذا كان يستطيع العالم المسعور، والجلد هو الذي يُخبر؟ وبمَ يُخبر الجلد؟ – بأعمال يديه. وما هي أعمال يديه؟ هي مجد الله الذي خلصنا وخلقنا بالأعمال الصالحة (أف 2: 10) . لأنّه «به لا بنا» (مز 99: 3) صرنا بشرًا وأبرارا، هذا إذا قيض لنا أن نكون أبراراً.

4- «النهار يُكلّم النهار والليل يُعلّم الليل» (19: 3). ما معنى هذا؟ ربما كان من السهل علينا أن نفهم كوضح النهار، جملة «النهار يُكلّم النهار». أما جملة والليل يُعلّم الليل» فإنّها كالليل مظلمة. النهار الذي يُكلّم النهار هو القدّوس الذي يُكلّم القديسين، والرسول الذي يُكلّم المؤمنين والمسيح الذي يُكلّم الرسل ويقول لهم: «أنتم نور العالم (مت 5: 14). هاك ما يبدو واضحا وسهلًا على الفهم. لكن، كيف لليل أن يُعلّم الليل؟ بعضهم فهم الجملة بحرفيتها، ولعلّ هذا هو المعنى الصحيح ؛ برأيهم ، إنّ العلم الذي تلقاه الرسل من يسوع المسيح في حياته على الأرض، نقلوه إلى خلفائهم من جيل إلى جيل. إذًا، النهار يُكلّم النهار والليل الليل ؛ النهار الأوّل يُكلم النهار التالي، والليل الأول الليل الذي يليه ؛ لأنّ ذاك التعليم يُبشّر به في النهار وفي الليل من اكتفى بهذا التفسير البسيط لا يطلب المزيد. غير أنّ الغموض الذي يكتنف بعض مقاطع الكتب المقدسة أفادنا لناحية انتاج تفاسير كثيرة. فإذا كانت هذه الكلمات واضحة، لما رأينا لها سوى معنى وحيد. ولأنها مبهمة، فإنّك أمام معان كثيرة. تفسير آخر لآية : «النهار يُكلّم النهار والليل يُعلّم الليل يقول بأن الروح تكلّم الروح، والجسد يُعلم الجسد . ثم إنّ «النهار يُكلّم النهار» قد تعني أنّ الإنسان الروحي يُكلّم الذين يسلكون بحسب الروح؛ و«الليل يُعلّم الليل»، أنّ الإنسان الجسدي يُعلّم الجسديين هؤلاء وأولئك يسمعون الكلام نفسه، لكنهم لا يستسيغونَه باللذة عينها. يراه الروحيون كرازة، والجسديون علمًا يُنشَر . ذاك أنّ الكرازة لا تكون إلا لأناس حاضرين، أما نشر العلم فيكون لبعيدين وبوسعنا أن نجد لـ «السموات» تفاسير أخرى، لكن الوقت اليسير المتبقي لنا ، يُرغمنا على الإكتفاء بما ذكرنا . على أي حال، دعنا نُعطي تفسيرًا أعطاه كثيرون كتخمين . قالوا : عندما كان ربنا يسوع المسيح يُكلّم الرسل كان النهار يكلم النهار؛ وعندما غدر يوضاس بالمسيح، كان الليل يُعلّم الليل.

5 – «ليس قول ولا كلامٌ لا يُسمع فيه ذلك الصوت» (19: 3). صوت من يكون سوى صوت السموات التي تُخير بمجد الربّ؟ إقرأ في أعمال الرسل كيف أنّهم امتلأوا من الروح القدس الذي حلّ عليهم وكيف راحوا ينطقون بجميع الألسنة كما آتاهم الروح أن ينطقوا (أعمال إذًا، كيف أنه «ليس قول ولا كلام لا يُسمع فيه ذلك الصوت». ولم يُدوِّ صوتهم فقط في المكان الذي حل فيه الروح عليهم، بل طاف في الأرض كلها وكرازتهم لم تتوقف حتى أقاصي المسكونة. لذلك نحن الآن نكرز. لأنّ ذلك الصوت الذي طاف في الأرض كلها وصل إلينا، وكلام الهراطقة لا يدخل الكنيسة. وهذا الصوت طاف في الأرض كلّها لكي يدفعنا للدخول إلى السماء. أيّها الخبيث الفاسد الشرّير، المتلذذ بحمأة الضلال! أيها الابن المتكبر! أصغ إلى وصيّة أبيك ! أنظر ! أي شيء اشد وضوحًا وجلاء؟ «طاف صوتهم في الأرض كلّها وكلامهم تردَّد حتى أقاصي المعمورة» هل من حاجة بعد إلى إيضاح ؟ لِمَ ترتد قواك عليك؟ تُريد أن تعترض لكي تستأثر بالجزء، فيما السلام يُملكُك الكل.

6 – «في الشمس نصبَ خباءَه» (19: 4) أسس كنيسته وأظهرها للعيان في ضوء النهار لا في الظلمة، لا في الخفاء والستر، لئلا تتوارى مثل جماعات الهراطقة. قيل للخاطئ في الكتاب المقدس: «لأنك خطئت في السرّ، تُعاقب في وضح النهار» (2صم 12: 12): أي أن القصاص سيُنزلُ بك أمام عيون الجميع بسبب الخطيئة التي ارتكبتها في السر. ولهذا نصب في الشمس خباءه. فلم، إذًا، يا ابن الهرطقة تتوارى في الظلمة؟ أمسيحي أنت؟ فاسمع ليسوع المسيح. أعبد أنت؟ فاسمع للسيد. أو ابن ؟ فاسمع لأبيك . أصلح نفسك وعُد إلى الحياة، لكي نستطيع أن نقول لك : كان ميتا فعاش، وضالا فوجد (لوقا 15: 32). حذار أن تقول لي : لم تبحث عنّي إن كنتَ ضالا؟ – لأنك ضال أبحث عنك. لعله يقول : لا تبحث بعد عنّي . تلك هي أمنية الإثم الذي يُفرقنا، لا المحبّة التي تجعلنا إخوة. لا أكون آثما إذا بحثت عن خادم، أفأُجرم إن بحثت عن أخي؟ فليغضَب، إذًا، ولن نوقف البحث عنه، فسيستكين عندما نجده إذًا، أبحثُ عن أخي، وأدعو الرب إلهي، لخيره لا لويله. ولن تكون صلاتي : «قل يا ربّ لأخي أن يُقاسمني الميراث»، بل قل لأخي أن يتنعم معي في الميراث كلّه» (راجع لو 12: 13). فلِمَ ضلالك هذا يا أخي؟ لمَ الهرب إلى أماكن بعيدة؟ لِمَ تبذل كلّ هذا الجهد لتتوارى؟ نصب الله خباءه في الشمس، وهو كالختن الخارج من مخدّعِه (19:5) . لا شك في أنك لا تجهل «ذاك الختن الخارج من مخدعه المنطلق كالجبار في سبيل رسالته». إنه هو الذي نصب في الشمس خباءه. أي أنّ الكلمة الذي صار جسدا، وجد، كالختن، مخدعًا في حشا عذراء، وعندما اتحد بالطبيعة البشرية، خرج كمن يخرج من مخدع ،طاهر، أكثر اتضاعا من الجميع في رحمته، وأقوى من الجميع في جلاله ، وكالجبار انطلق في رسالته، فولد وكبر وعلّم وتألّم وقامَ وصعد إلى السماء، وعلى هذا النحو، مشى ولم يتوقف في الطريق. والختن إيّاه الذي مشى طريقه هذه، هو الذي في الشمس خباءه، أي في العلن كنيسته.

7- أتريدون أن تعرفوا تلك الطريق التي اجتازها بهذه السرعة الفائقة؟ «من أعلى السموات ،نزل لكي يعود فيصعد إلى ذروتها» (19: 6 ). لكن بعد أن نزل منها وعاد إليها سريعا أرسل روحه. وظهرت لهم ألسنة كأنها من نار، فاستقرّت على كلّ واحدٍ منهم» (أع 2: 3). حلّ الروح القدس بشبه ألسنة من نار تأكل الجسد مثل قش يابس، وتُطهِّرُ الذهب في البوتقة. حلّ الروح بشبه نار، لا يستطيع أحد أن ينجو من لظاها.

 8 – «شريعة الرب نقية، تهدي النفس»: هذا هو الروح القدس . «وشهادة الربّ صادقة تهب الجاهل الحكمة» (18: 7) ذاك، أيضًا، هو الروح القدس. العظماء .

9- «أحكام الربّ مستقيمة» تحمل الفرح إلى القلب، لا الخوف. ذاك هو عمل الروح القدس. «وصيّة الربّ مُشعة، تنير العيون» (19: 9)، ولا تبهرها ؛ لا عيون الجسد، بل عيون القلب؛ لا عيون الإنسان الخارجي، بل عيون الإنسان الروحي ذاك هو أيضًا فعل الروح القدس .

10 – خشية الربّ طاهرةٌ لا ذليلة تُحبّ مجانًا ما تخشاه؛ لا تخشی قصاص الذي تهابه بل فراق الذي تُحبّه. تلك هي الخشية الطاهرة التي لا تتوارى أمام المحبّة الكاملة (يو 4: 18)، بل التي « تستمر ثابتة إلى دهر الدهور» ذاك هو الروح القدس، أو بالأحرى، الروح القدس هو الذي يهبها، ويُفيضُها في النفوس ويزرعها فينا . أحكام الربّ حقٌّ ومبرَّرة بذاتها» (19: 9)، لا تحمل على المنازعات، بل على الوحدة في السلام، وهذا معنى أنها مبررة بذاتها». ذاك أيضًا فعل الروح القدس. فالذين اقتبلوه لدى حلوله الأول، اقتبلوا أيضًا موهبة الألسنة، ما يُبرهن لنا أنّ الروح يعود فيوحدُ كلّ ألسنة الأرض وحدة الكنيسة تنطق بكل اللغات، وتواصل اليوم معجزة إنسان واحد كان ينطق يومها بلغة الجميع، بعد أن اقتبل الروح القدس. واليوم، إنسان واحدٌ أيضًا يُكلّم الأمم كلها بكل اللغات. إنسان واحد رأس واحد هو المسيح، وجسد واحد هو الكنيسة، الإنسان الكامل الختن وعروسه «ويصير الإثنان جسدا واحدا» (تك 2: 24)، يقول الكتاب «أحكام الربّ حق ومبررة بذاتها»، بسبب الوحدة .

11- «هي أشهى من الذهب والجواهر الثمينة» (10:19). أي إما أشهى من الذهب الكثير ، أو أنّها ثمينة جدا، أو شهيّةٌ جدا؛ لكن الكثير قليل على الهرطوقي . لا يرغبون في الوحدة معنا، ومعنا يعترفون بالمسيح. لكن ذاك المسيح الذي تُشاركُني الاعتراف به، أحِبَّه! شاركني حبه ! والذي لا يريد الوحدة ويرفض ويرفس ويزدري، لا يؤمن بأنها أشهى من الذهب والجواهر الثمينة إسمع ما يقول النبي أيضًا : وأحلى من العسل وقطر الشهاد». وهذا يدين الضال. ليس أمر من العسل على فم محموم ، ولا أحلى منه على فم سليم، لأنه عزيز على الإنسان السليم. إذا أحكام الله أشهى من الذهب والجواهر الثمينة، وأحلى من العسل وقطر الشهاد.

12- وعبدك أيضًا يعمل بها، ويتبيّن حلاوتها، لا بالكلام، بل بالفعل. عبدك يعمل بها لأنّ مذاقها حلو في هذه الحياة، ونافع للحياة الأخرى. وله في حفظها ثواب عظيم (19: 11). لكن المهرطق الخاضع لتصلبه لا يسعه أن يتنعم برؤية نورها ولا أن يتذوّق حلاوتها .

13- «من الذي يتبيَّن زلاته؟ »- إغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون (لو 23: 34) هذا هو يقول النبي، عبدك الذي بوسعه أن يتذوق حلاوة كهذه، الذي يملك في قلبه رقة المحبة، محبة الوحدة. وأنا الذي أتذوّقها ، يُتابع النبي ، أتوسل إليك أن تقول لي، من ذا الذي يتبيَّن زلاته؟ إجعل ألا يتسلّل إليّ، أنا الإنسان، أي ضعف، وألا أُغوى. نقني ياربّ من الخطايا التي تخفى عليَّ» (19: 12). سبق أن رنّمنا هذا النشيد وسنصل إليه في شرحنا . ولنقل إذا بوعي : لنرنمنَّ بفهم، ولنسألنَّ الربَّ ،بالإنشاد لكيما تستجاب صلاتنا ؛ ولنقل : «نقنا يا ربّ من الخطايا التي تخفى علينا». من الذي يتبين زلاته؟ لا نتبيَّنها إلّا إذا تبيَّنا الظلمات ولن نصير في النور إلا عندما نتوب عن خطايانا . الإنسان المتمرّغ في الخطيئة، يستحيل عليه أن يرى تلك الخطيئة، لشدّة ما اسودت عيناه وأظلمتا؛ فإنكم إذا وُضع على عيني جسدكم حجاب، لن تعودوا ترون شيئًا ولا الحجاب نفسه. فلنُخاطبنَّ الله الذي يعرف أن يرى فينا ما ينبغي تنقيته، وأن يشفي ما ينبغي شفاؤه، ولنقُل له : «نقني ياربّ من الخطايا التي تخفى عليَّ، واعصم عبدك من خطايا الآخرين (19: 12، 13). يقول : خطاياي تدنسني، وخطايا الآخرين تغمُّني ؛ إعصمني من هذه، ونقني من تلك. إنزع من قلبي كلّ فكر ،آثم، وأبعد عني ما يوحي بالشر. هذا ما تعنيه عبارة «نقني يارب من الخطايا التي تخفى عليَّ، واعصم عبدك من خطايا الآخرين». هذان النوعان من الخطايا هما اللذان ظهرا، أوّلا،  في بداية العالم خطايانا، وخطايا الآخرين. إبليس سقط بخطيئته هو، وآدم سقط بخطيئة آخر من هنا أنّ عبد الله الذي يحفظ أحكام الله ويجد فيها ثوابًا عظيما، يُصلّي هكذا في مزمورٍ آخر : «لا تَصِلْ إلي قدَمُ المتكبر، ولا تُزحزحني يدُ الخاطئ) (36: 12). إذا، لا تدخُلَنَّ الكبرياء قلبي، أي نقني من خطاياي الخفية؛ ولا تُزحزحني يد الخاطئ أي إعصم عبدك من خطايا الآخرين.

14- فلا تتسلّط علي خطاياي الخفيّة وخطايا الآخرين، «حينئذ أزكو وأطهر». لا يجرؤ أن ينال مطلبه بقوّتِه الذاتية، بل يلتمس من الله أن يُنيله إياه، ويقول له في مزمور آخر : ثبت خطواتي في أقوالك، ولا تسمح بأن يتسلّط علي الإثم (119: 133). أنت مسيحي، فاحترز، إذا ، ألا يتسلّط عليك إنسان، واخش الله في كل حين. إخش أهواءَك، أي الشر الذي فيك ؛ لا ما صنعه الربّ بك، بل ما صنعته أنت بنفسك . خلقك الرب عبدا صالحًا، وأنت صنعت لك في قلبك ربا شريرا . بالعدل خضعت للإثم، وخضعت للسيّد الذي سلطته على نفسك، لأنك لم تشأ أن تعبد الذي خلقك.

15- فإن لم أعُد عبدا لطغيانهم ، حينئذ أزكو وأطهر من معصية كبيرة (19: 13). أتعرفون من أية معصية؟ وما هي تلك الخطيئة الكبرى؟ يمكن ألا تكون ما سأقولُه ، لكنني لن أكتم رأيي. برأيي، تلك المعصية الكبيرة هي الكبرياء. ولعلّ هذا ما يُعبر عنه بكلمات أخرى فيقول: “أزكو وأطهر من معصية كبرى” أتسألونني كم هي كبيرة المعصية التي أسقطت الملاك، والتي حوّلت الملاك إلى شيطان، وأغلقت بوجهه، إلى الأبد، ملكوت السموات؟ تلك هي المعصية الكبرى، أصل المعاصي كلّها لأنّه كُتِب: «الكبرياء أوّل الخطايا» (يشوع بن سيراخ 10: 15). ولئلّا ننظر إليها كخطيئة صُغرى، يُضيف الكتاب : «أوّلُ كبرياء الإنسان ارتداده عن الرّب (يشوع بن سيراخ 10: 14). لا يا إخوتي، هذه المعصية ليست خطيئة صغرى. هذه المعصية يأنف منها التواضع المسيحي، لدى هؤلاء الأشخاص الكبار الذين ترونهم. هذه المعصية هي التي تجعلهم يأبون أن يُحنوا أعناق رؤوسهم لنير المسيح، أولئك المستعبدين لنير الخطيئة، لأنهم لا يقوون على التحرر من العبودية، ويرغبون في التحرُّر ، في وقت يرون في العبودية فائدة لهم. ما يكسبونه في السعي إلى التحرّر هو رفض خدمة سيد صالح، لا الانعتاق الكلي؛ لأننا عندما نأبى أن نكون عبيدا للمحبة، نصير بالضرورة عبيدا للخطيئة. وهذه المعصية نستطيع أن نُسمّيها أصل جميع الخطايا الأخرى، لأنّها جميعها نابعة منها، وهي التي حملتنا على إنكار الله والنفس، باستخدامها السيء لحريتها، تغرق في الظلمات، لكثرة الخطايا التي تُثقل كاهلها. فها هو يعيش في الضلال، يبذر ثرواته مع الغواني، ويغدو راعيًا للخنازير (لو 15: 13-16)، ذاك الذي كان في صحبة الملائكة . بسبب تلك المعصية، بسبب خطيئة الكبرياء الكبيرة، اتضع الله وصار إنسانًا. ذاك السبب، وذاك هو الجرح العميق، وذاك هو سقم النفوس الأعظم، الذي حمل الطبيب الكلي القدرة على النزول من السماء، والاتضاع في صورة العبد، وأذله، وعلقه على خشبة لكيما تشفى تلك الآفة العظمى بذاك الدواء الناجع العظيم ألا فليخجل الإنسان من كبريائه، إذ يرى أجله اتضع. إذ ذاك، يقول النبي : «أزكو وأطهر من معصية كبيرة» أمام «الله الذي يُقاوم المتكبّرين ويؤتي المتواضعين نعمة» (يعقوب 4: 6، 1بط 5: 5). هو أن الله من

16– فتطيب لك كلمات فمي وتصير أفكار قلبي مرضية لديك في كل حين» (19: 14) . لأنّي إن لم أطهر من تلك المعصية الكبرى، (19: 14). تكون كلماتي مرضية لدى الناس، لا لديك؛ لأن النفس المتعالية تتوسل رضى الناس، لكنّ النفس المتواضعة، حقًّا، تُريد أن تكون مرضيّة في ذلك السر الذي لا يُدرك كنهه غير الله وحده. وإذا حدث أن أرضت الناس ببعض الأعمال الصالحة، فإنّها تفرح لرضى الناس لا لرضى ذاتي. ينبغي أن ترضى بأنّها فعلت خيرًا . يقول الرسول: «فخرنا هو شهادة ضميرنا» (2كو 1: 12) فلنُرنّم، إذًا، لله هذا النشيد: «أيها الربّ أنت عوني وفادي». ناصري أنت على الخير ومخلّصي من الشر. أنت عوني لكي أثبت في المحبة؛ وفادي لأنك افتديتني من الإثم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى