تفسير مزمور 11 للقمص متى المسكين
دراسة:
في هذا المزمور يقف صاحبه في موقف يائس، فحياته في خطر، والأصدقاء المشيرون أعطوا الهرب كمشورة، والأشرار في الصاعد وفي موقف لا يقاوم. وهو يذم تصوراتهم بسخط وحقد ويهوه له حافظ، فلو هو بحث عن ملجا آخر سيكون ذلك عملاً خارجاً عن الإيمان ويدل على الجبانة، فهو يفتخر بإيمانه كمنتصر أن يهوه هو ضابط المسكونة كلها بالبر وهو قادر أن يحطم الشرير ويرحب بالبار في حضرته.
والنقاط التي تربط هذا المزمور بمزامير 5و7و10و17 ينبغي أن تدخل جيداً في الاعتبار والحفظ لأنها لداود. هذا ترجيح عال، وهذا المزمور موافق أشد التوافق للمناسبة التي دخلت فيها حياته في حكومة شاول، وينبغي أن يرجع إلى هذه المدة أكثر من أيام أبشالوم وعصيانه عليه. فداود كان في موقف المسئول، انظر: (اصم ۱۸: ۱۲و١۳و١٦و ۳٠):
+ «وكان شاول يخاف داود لأن الرب كان معه وقد فارق شاول. فأبعده شاول عنه وجعله له رئيس ألف فكان يخرج ويدخل أمام الشعب ـ وكان جميع إسرائيل ويهوذا يحبون داود لأنه كان يخرج ويدخل أمامهم – وخرج أقطاب الفلسطينيين ومن حين خروجهم كان داود يفلح أكثر من عبيد شاول فتوقر اسمه جدا».
وبلا شك كان معظم مقاوميه في حكومة شاول وكانوا في أشد الاستعداد أن يغتالوه. وكان قائد محبوب كهذا لا يمكن أن يغتال علانية. فكان عليهم أن ينتظروا الفرصة ليصطادوه سرا، ولهذا في ذلك الوقت كان أصدقاؤه ينصحونه أن يحتفظ بحياته ويهرب، وكانوا يحاجونه بأن الأمر ميئوس منه أن يستمر في هذه المعركة غير المتوازنة، حيث انقلب الحق بواسطة فعلة الرئيس المسئول في الدولة، ولكن زمن الهروب لم يأت بعد، وصمّم داود بعزم أن يواجه الخطر في ثقة أكيدة أن يهوه سيحافظ عليه ويحميه.
والمزمور يحتوي على وقفتين متساويتين لكل منهما ثلاث آيات مع آية ختام:
1 – تصورات أصدقاء ذاب قلبهم (1-3).
٢ – أساس الثقة الثابت الحقيقي (4-6).
۳ – نظرة نحو الإيمان (7).
شرح وتفسير المزمور على مستوى كل التوراة
1- عَلَى الرَّبِّ تَوَكَّلْتُ. كَيْفَ تَقُولُونَ لِنَفْسِي: «اهْرُبُوا إِلَى جِبَالِكُمْ كَعُصْفُورٍ؟
2- لأَنَّهُ هُوَذَا الأَشْرَارُ يَمُدُّونَ الْقَوْسَ. فَوَّقُوا السَّهْمَ فِي الْوَتَرِ لِيَرْمُوا فِي الدُّجَى مُسْتَقِيمِي الْقُلُوبِ.
3- إِذَا انْقَلَبَتِ الأَعْمِدَةُ، فَالصِّدِّيقُ مَاذَا يَفْعَلُ؟ »
«على الرب توكلت»:
الأصح أنا أخذت ملجأي الله، انظر: (مز 1:7):
+ «يا رب إلهي عليك توكلت».
لذلك يكون عملاً منافياً للإيمان، وجباناً أن أبحث عن جهة أمان في الجبل.
«كيف تقولون لنفسي»:
وكأن حياتي في خطر، انظر: (مز ٢:٣):
+ «كثيرون يقولون لنفسي، ليس له خلاص بإلهه» .
«اهربوا…کعصفور»:
هنا الدعوة لداود وجماعته، نصحوهم أن يهربوا إلى مكانهم المعتاد كملجأ في الجبال، ولكن الضمير في “جبالكم” هنا زيادة. والعصافير والطيور الأخرى التي لا دفاع لها هي صورة ومثال لفرائس معرضة للملاحقة وليس لها معين إلا الطيران، انظر: (1صم ٢٠:٢٦):
+ «والآن لا يسقط دمي إلى الأرض أمام وجه الرب. لأن ملك إسرائيل (شاول) قد خرج ليفتش على برغوث واحد. كما يتبع الحجل في الجبال».
والجبال أو بلاد التلال بمغائرها كانت هي المكان الطبيعي للتوحد وللراحة، انظر: (1صم14: 22)
+ «وسمع جميع رجال إسرائيل الذين اختبأوا في جبل أفرايم أن الفلسطينيين هربوا فشدوا هم أيضاً وراءهم في الحرب».
ربما يهرب إلى الجبل كان مثلاً يقال كآخر ملجا في حالات الخوف من الهلاك المؤكد. وفي الآية (۲) هذا الكلام لأصدقاء قد وقع قلبهم من الهلع فاستمروا في وصف الخطر وهم يحققون نصيحتهم بالهرب بوضع الخونة وكأنهم في حالة حرب. ونفس هذه اللغة نسمعها في مزمور (64: 3و4):
+ «الذين صقلوا ألسنتهم كالسيف. فوقوا سهمهم كلاماً مراً ليرموا الكامل في المختفى بغتة».
ولكن في هذا المزمور الكلام كلام قتل، انظر: (اصم ۱۹: ۱و۲):
+«وكلم شاول يوناثان وجميع عبيده أن يقتلوا داود. وأما يوناثان بن شاول فسر بداود جدا. فأخبر يوناثان داود قائلاً شاول أبي ملتمس قتلك والآن فاحتفظ على نفسك إلى الصباح وأقم في خفية واختبئ».
«إذا انقلبت الأعمدة فالصديق ماذا يفعل؟»:
هنا الحال أو المجتمع يشبه بناء قائماً على أعمدة، والفكرة الأساسية أن أعمدة المجتمع وأساسه هو القانون أو العدالة. والمنظر قد يصور الرجال العظماء أو رؤساء الناس المسئولين. وتجدها في (اش ۱۰:۱۹):
+ «وتكون عمدها مسحوقة، وكل العاملين بالأجرة مكتبي النفس».
انظر بصورة أوضح (مز 3:75):
+ «ذابت الأرض وكل سكانها. أنا وزنت أعمدتها. سلاه».
وأيضاً: (مز ٥:٨٢):
+ «لا يعلمون ولا يفهمون. في الظلمة يتمشون. تتزعزع كل أسس الأرض». وأيضاً: (حز 4:30):
+ «ويأتي سيف على مصر ويكون في كوش خوف شديد عند سقوط القتلى في مصر ويأخذون ثروتها. وتهدم أسسها».
حينما نتأمل في هذه الأسس والمبادئ ونرى كيف انقلبت فماذا يسأل الشخص اليائس، وهل يمكن هنا للبار أن يعمل شيئاً. ولذلك نجد أن تركيب المزمور في الأصل يظهر أنه مقصود به أن لا يكون له حل. كما يظهر أن أصل هذا البيت هو لأن الأساسات قد انقلبت فماذا يعمل البار، فإمكانية البار صارت بلا قيمة بالنسبة للفوضى، وماذا بقي له من رجاء يبقى في وسط تهديد الموت؟
4- اَلرَّبُّ فِي هَيْكَلِ قُدْسِهِ. الرَّبُّ فِي السَّمَاءِ كُرْسِيُّهُ. عَيْنَاهُ تَنْظُرَانِ. أَجْفَانُهُ تَمْتَحِنُ بَنِي آدَمَ.
5- الرَّبُّ يَمْتَحِنُ الْصِّدِّيقَ، أَمَّا الشِّرِّيرُ وَمُحِبُّ الظُّلْمِفَتُبْغِضُهُ نَفْسُهُ.
6- يُمْطِرُ عَلَى الأَشْرَارِ فِخَاخًا، نَارًا وَكِبْرِيتًا، وَرِيحَ السَّمُومِ نَصِيبَ كَأْسِهِمْ.:
بدأ جواب داود ليبرر رفضه لنصيحة أصدقائه لأنهم ينظرون إلى الأرض فقط، ولكنه هو ينظر إلى السماء، ويحكمون بحكم مظهر الدقيقة التي يعيشونها ولكن إيمانه يرى ضابط الأبرار يمارس سلطانه. ففي الأرض يمكن أن يكون العدل مغلوباً أو متوقفاً ولكن الحاكم الأبدي لا يغادر عرشه في السماء.
يُلاحظ هنا قوله: “الرب في هيكل قدسه‘‘ هي هي “الرب في السماء كرسيه“، انظر: (مز ٦:١٨):
+ «في ضيقي دعوت الرب وإلى إلهي صرخت. فسمع من هيكله صوتي وصراخي قدامه دخل أذنيه».
فيهوه يجلس على عرشه، في مجده وجلاله كملك وقاض، انظر: (مز 9: 4و7و8):
+ «لأنك أقمت حقي ودعواي، جلست على الكرسي قاضياً عادلاً. أما الرب فإلى الدهر يجلس ثبت للقضاء كرسيه. وهو يقضي للمسكونة بالعدل» .
وأيضاً: (مز 14:10):
+ «قد رأيت لأنك تبصر المشقة والغم، لتجازي بيدك، إليك يسلم المسكين أمره. أنت صرت معين اليتيم» .
وأيضاً: (مز ٢:١٤):
+ «الرب من السماء أشرف على بني البشر لينظر هل من فاهم طالب الله» . وأيضاً: (مز ۱۰۲: ۱۹و۲۰):
+ «لأنه أشرف من علو قدسه. الرب من السماء إلى الأرض نظر. ليسمع أنين الأسير ليطلق بني الموت».
«عيناه تنظران»:
كلمة تنظر تجيء في العبرية بمعنى الفحص والفهم والاختراق بنظرة نافذة وهي تعتبر المسكين كما جاءت في السبعينية: «عيناه تنظران المسكين».
«أجفانه تمتحن بني آدم»:
حينما يريد الإنسان أن يفحص شيئاً فحصاً دقيقاً بعينيه تجده يضغط على أجفانه لتساعده على الرؤيا الفاحصة، وتجيء هنا بمعنى أن عين الله تميز بنظرة واحدة وتفرق بين الغث والثمين، انظر (مز ۹:۷):
+ «فإن فاحص القلوب والكلى الله البار».
«الرب يمتحن الصديق، أما الشرير ومحب الظلم فتبغضه نفسه»:
كل نصف من الآية يأخذ من الآخر. فالرب يمتحن ويوافق البار وفي نفس الوقت يمتحن ويرفض الشرير. وكلمة “يمتحن الصديق تعني يختبره ويستحسنه كما جاءت في (رو ٢٢:١٤):
+ «ألك إيمان. فليكن لك بنفسك أمام الله. طوبى لمن لا يدين نفسه فيما يستحسنه».
وأيضاً: (اتس ٤:٢):
+ «بل كما استحسنًا من الله أن نؤتمن على الإنجيل هكذا نتكلم لا كأننا نرضي الناس بل الله الذي يختبر قلوبنا».
«فتبغضه نفسه»:
انظر: (إش 14:1):
+ «رؤوس شهوركم وأعيادكم بغضتها نفسي. صارت علي ثقلاً. مللت حملها».
وقوله “نفس الله“ يعتبر اصطلاحاً جريئاً للتعبير عن أعماق الله في جوهر طبيعته التي لا يمكن إلا وأن تكره الإنسان الشرير لأنه يختار الشر بدل الصلاح الذي هو من طبيعة الله، انظر: (مي3: 2و3)
+ «المبغضين الخير والمحبين الشر. النازعين جلودهم عنهم ولحمهم عن عظامهم (أي يأكلون لحم المسكين وينزعون جلده أيضاً) والذين يأكلون لحم شعبي ويكشطون جلدهم عنهم ويهشمون عظامهم» .
وأيضاً: (رو ۳۲:۱):
+ «الذين إذ عرفوا حكم الله أن الذين يعملون مثل هذه يستوجبون الموت لا يفعلونها فقط بل أيضاً يسرون بالذين يعملون».
«يمطر على الأشرار فخاخاً، ناراً وكبريتاً. وريح السموم نصيب كأسهم»:
وصحتها: ليته يمطر فخاخاً على الشرير. نار وكبريت والريح المحرقة في كأسهم. فأحياناً تأتي الجملة في الصيغة الإخبارية بينما يكون المقصود منها هو التمني بالصيغة الرجائية، انظر: (مز ۳:۱۲):
+«يقطع الرب جميع الشفاه الملقة واللسان المتكلم بالعظائم».
والمعنى: “ليت الشرير يأخذ نصيب سدوم“، وتُقال دائماً عن الخطايا الثقيلة. وهنا تكون اللغة مأخوذة من (تك 24:19):
+ «فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتاً وناراً من عند الرب من السماء».
وأيضاً: (تث ۲۳:۲۹):
+ «كبريت وملح كل أرضها حريق لا تزرع ولا تنبت ولا يطلع فيها عشب ما، كانقلاب سدوم وعمورة وأدمة وصبوييم التي قلبها الرب بغضبه وسخطه».
وأيضاً: (حز ۲۲:۳۸):
+ «وأعاقبه بالوبا وبالدم وأمطر عليه وعلى جيشه وعلى الشعوب الكثيرة الذين معه مطراً جارفاً وحجارة برد عظيمة وناراً وكبريتاً».
هذا على جوج وماجوج الآتي على إسرائيل في الأيام الأخيرة! أما الفخاخ فلكي تعرقل مسيرهم فلا يستطيعون الهروب من النار التي تلتهمهم والأبخرة المسمومة التي تخنق من يستنشقها، انظر:
(مز ۱۲:۱۸):
+ «من الشعاع قدامه عبرت سحبه. برد وجمر نار».
وأيضاً: (مز 10:140):
+ «ليسقط عليهم جمر. ليسقطوا في النار وفي غمرات فلا يقوموا».
7 – «لأن الرب عادل ويحب العدل. المستقيم يبصر وجهه»:
وصحتها الرب بار ويحب أعمال البر. واضح أن صفات یهوه الفائقة هي أساس حكمه. وجزاء الرجل البار المستقيم يقارن هنا بجزاء الشرير الذي سبق وصفه. وأعمال البر هي في حقيقتها استعلان لصفة الله البار، انظر: (۱صم ۷:۱۲):
+ «فالآن امثلوا فأحاكمكم أمام الرب بجميع حقوق الرب التي صنعها معكم ومع آبائكم».
كذلك أعمال بر الإنسان: انظر: (إش 5:33):
+ «تعالى الرب لأنه ساكن في العلاء. ملأ صهيون حقـا وعدلاً».
فبينما الشرير يختفي وينفي ويحطم، ولكن البار والمستقيم فإنه يسمح له بالدخول إلى حضرة يهوه كعبد أمام سيده، انظر: (مز 5: 4-7):
+ «لأنك أنت لست إلها يسر بالشر. لا يساكنك الشرير. لا يقف المفتخرون قدام عينيك أبغضت كل فاعلي الإثم. تهلك المتكلمين بالكذب. رجل الدماء والغش يكرهه الرب. أما أنا فبكثرة رحمتك أدخل بيتك. أسجد في هيكل قدسك بخوفك».
وأيضا: (مز 15: 1و2):
+ «يا رب من ينزل في مسكنك؟ من يسكن في جبل قدسك؟ السالك بالكمال والعامل الحق والمتكلم بالصدق في قلبه».
وأيضاً: (مز 13:140):
+ «إنما الصديقون يحمدون اسمك. المستقيمون يجلسون في حضرتك».
ويتفرسون في وجه الرب الذي هو منبع النور والفرح والخلاص.
هي مقولات ذهبية في سفر المزامير تحققت بالاستعلان في الإنجيل، انظر: (مت 8:5):
+ «طوبي للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله».
وأيضاً: (ايو ٢:٣):
+ «أيها الأحباء الآن نحن أولاد الله. ولم يظهر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم أنه إذا أظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو».
تفسير مزمور 10 | مزمور 11 | تفسير سفر المزامير | تفسير العهد القديم | تفسير مزمور 12 |
القمص متى المسكين | ||||
تفاسير مزمور 11 | تفاسير سفر المزامير | تفاسير العهد القديم |