القديس يوحنا كاسيان

تعطشه الروحي جاء به إلى مصر 

ثمة ضيف ثالث جاء إلى مصر في تلك الحقبة – القرن الرابع – هو كاسيانوس. جاء أيضا إلى وادينا الحبيب بدافع التعطش الروحى الذي جعل منه ومن معاصريه حجاجاً قصدوا إلى مصر وارتادوا فيافيها وطافوا في أرجائها لينالوا بركة من هذه البقاع التي تقدست بأنفاس أصفياء الله. ولقد قضى کاسیانوس فى بلادنا العزيزة السنوات العشر الأخيرة من القرن الرابع ، قابل خلالها عدداً غير قليل من الآباء المصريين .

ولا يعرف حتى الآن مسقط رأس كاسيانوس بالضبط. وليس يهمنا في كثير أو قليل أن نعرف أين ولد لأن هذا حدث تافه فى حد ذاته، ولكن الذي يهمنا هو أنه بعد أن زار أباء الصحارى المصرية جلس إلى نفسه يتأمل حياتهم وأحس بحنين عميق إليهم. وبدافع هذا الحنين إلى الآباء المصريين أمسك بقلمه وكتب سيرهم أبرز فيها ما امتازوا به من روحانية عجيبة.

ولقد جاء كاسيانوس إلى مصر مرتين . فلما انتهى من الزيارة الثانية قصد إلى القسطنطينية حيث رسمه يوحنا ذهبي الفم قسيسا . وكان كاسيانوس ضمن المعجبين بهذا الحبر العظيم المناصرين له.

تأسيسه ديرين في ضواحي مرسيليا على نمط الأديرة المصرية 

ولم يكتف كاسيانوس بالكتابة عن آباء مصر بل دفعه اعجابه بهم إلى أن يؤسس في جنوبي فرنسا دیرین عرف أحدهما باسم سان فيكتور وثانيهما باسم ليران. وبعد مضى سنين عاوده الحنين إلى الآباء المصريين. ورأى صديقه أسقف أبت هذا الحنين باديا عليه ، فرجا منه أن يكتب سير هؤلاء القديسين. على أن كاسيانوس تردد بعض الشئ قبل البدء في الكتابة عن النساك المصريين إذ أحس بأن اختباراته من القدسية بحيث لا يستطيع التعبير عنها تعبيراً وافيا. ولكن حنينه غلبه وبدد تردده وملأه رغبة في الكتابة. وهكذا أعطى للعالم صوراً أخاذة لما سمعه ورأه في صحراء مصر. وكان كاسيانوس يهدف من نشر سير القديسين ومن تأسيس الديرين أن ينشر في الغرب مبادئ الرهبنة المصرية فصورها في صورة رائعة بينت نواحى العظمة فيها.

 اعجابه بالنساك المصريين لامتزاج صلواتهم بالعمل اليدوى 

وقد أثار اعجاب كاسيانوس ما شاهده من انشغال الرهبان المصريين بالعمل اليدوى إلى جانب الروحيات العميقة وذلك أسوة ببولس الرسول وتنفيذاً لتعاليم الأنبا أنطونى والأنبا باخوم . وكان بعض السفسطائيين قد زعموا أنه ليس للراهب أن يشتغل بغير الصلاة . فبين لهم كاسيانوس ما هم فيه من خطأ ، وأوضح لهم التعاليم المصرية التي تؤدى إلى أن العمل اليدوى لازم ، لحفظ التوازن العقلى . وكان وصفه لهذه التعاليم غاية في الروعة إذ قال : “إن القديس بولس كان طبيباً روحياً ماهراً شغل نفسه بصنع الخيام لكي يحول دون ما يعروه من ملل نفسى . وقد سار على هذا المنوال آباء مصر الحكماء فعلموا من تتلمذ لهم أن يشتغل بالعمل اليدوى لا لسد حاجاتهم فحسب بل لاكرام الغرباء واعانة الفقراء والمسجونين أيضاً”.

وقد أضاف هؤلاء المصريون إلى هذا التعليم قولهم لتلاميذهم أن الراه المشتغل بيديه لا يهاجمه غير شيطان واحد ، أما الراهب الذي لا يعمل بيديه فتهاجمه جحافل الشياطين . كما أن العمل اليدوى يعاون الراهب على تحمل مشاق الحياة الصحراوية ويحول دون ما قد يصيبه من ملل.

الرهبان المصريون قريبون من السماء

ومن أروع ما رواه كاسيانوس عن رهبان مصر قوله : ” إن الحياة النسكية التي يحياها الرهبان المصريون هي أقرب شبها بالحياة السمائية . وقد استرعانى على الأخص رهبان منطقة (أوكسى رينكوس) فقد كان رهبانها البالغ عددهم عشرة آلاف راهب. وراهباتها البالغ عددهن عشرين الفا ، لا ينقطعون عن تسبيح الآب السماوى ليل نهار. ولم يكن غريب أو فقير ليمر في المنطقة إلا غمروه بكرمهم ومحبتهم”.

كرم الرهبان المصريون وعطفهم الشامل 

وفى أحد الأيام سأل كاسيانوس راهبا مصريا عن السبب في امتناع الرهبان من الصوم إذا ما استقبلوا ضيفاً في حين أن رهبان فلسطين يصرون على الصوم حتى حين يمر بهم ضيوف ؟ فأجابه الراهب المصرى على الفور : ” إن الصوم في استطاعتى كل لحظة ولكنى حين استقبل زائراً أستقبل المسيح له المجد في شخصه . وقد أوصانا رب المجد بأن لا نصوم والعريس قائم بيننا . واقامتك بيننا لن تدوم إلا بضعة أيام فإذا ما غادرتنا وعدت إلى بلادك استطعنا أن نصوم قدر الامكان.

وقد كان لهذا الكرم المصرى العجيب والعطف الشامل من الأثر في نفس كاسيانوس ما جعله يشيد به بعد مضى عشرين سنة على مغادرته مصر وكان المؤلفاته من الأثر العظيم فى الأقطار الغربية ما جعل أهل الغرب يمتلئون اعجاباً بعظمة الحياة النسكية المصرية .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى