زيارة المجوس

حكماء من المشرق يمثلون الأُمم:

[جاءوا على الجمال المطهَّمة المزركشة بأجمل الحليات.
حكماء قطعوا دجلة والفرات والصحراوات.
عبروا على القبائل والأسباط حتى بلغوا
البحر الميت وأرض اليهودية.] بابيني

كانت بشارة الرعاة بمثابة استعلان المسيا لإسرائيل، أما مجيء المجوس على هدي نجم السماء فكانت كاستعلان خاص للأُمم ، هداهم النجم كما هَدَى الملاك الرعاةَ إلى حيث كان الصبي في المذود. كانوا حكماء علماء يعرفون ويشتغلون بالفلك: «ولما وُلِدَ يسوع في بيت لحم اليهودية، في أيام هيرودس الملك إذا مجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم قائلين: أين هو المولود ملــك اليهود؟ فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له.» (مت 2 : 1و2)

ولكي نحدد زمان مجيء المجوس بالنسبة لميلاد المسيح، نتحرك في مسافة زمنية قليلة جداً، علماً بأننا نعلم أن هيرودس أساس هذه القصة مات بالتحقيق بعد خسوف القمر الذي كان بحسب الأرصاد الدقيقة في 12 أو 13 مارس سنة 4 ق.م، والمعروف أن المسيح ولد في 25 ديسمبر سنة 5 ق.م، أي أن الفترة الزمنية التي يمكن تحديد مجيء المجوس فيها لا تتعدى ثلاثة أشهر. وفي هذه الفترة يتعين أن يكونوا قد جاءوا فيها وزاروا المسيح وقدَّموا هداياهم ثم انطلقوا إلى بلادهم. 

ويتساءل العلماء: هل جاء هؤلاء المجوس من بلاد مادي وفارس؟ أو من بلاد بابل؟ لأن كلتا الدولتين كانتا تشتغلان بالنجوم وحساباتها ورصد الحوادث عليها. ولكن كلمة “المجوس” حسمت الأمر لأنها فارسية الأصل، وقد وجدها العلماء في كتاب هيرودوت، وتأكدوا أن المجوس إحدى القبائل في بلاد مادي وفارس وكانوا دارسي فلك ومولعين برصد حركات النجوم وعلاقتها بالحوادث التي تجري على الأرض. وفي نفس الوقت كانوا على درجة عالية من التعبد ويؤمنون بالإله الواحد ويمارسون الخير والصلاح ويعفون عن الشر ويؤمنون بالصلاة ويعملون في الزراعة. ويتفق الآباء: كليمندس وذهبي الفم وديودورس من طرسوس وكيرلس الإسكندري في أن المجوس هم حكماء فارس. ويُعتقد أنه منذ سبي بابل في القرن السادس قبل الميلاد ووجود اليهود هناك؛ فقد كان لهم أكبر الأثر في تهذيب هؤلاء الفرس، وغرس أصول العبادة ومخافة الله، والإيمان بوحدانية الله. ولا ننسى أن كثيراً من اليهود استوطنوا بلاد فارس ولم يعودوا من السبي وتزاوجوا من أهل البلاد ونشروا ثقافتهم الدينية هناك. كما استلم الفرس من اليهود ترقب مجيء المسيا ملك اليهود الذي سيخلص الشعب والأُمم.

أما عدد المجوس فيقدرهم البعض بعدد الهدايا ذهباً ولباناً ومُراً. والقصص في أمرهم كثيرة وأسماؤهم ووظائفهم، ولكن الذي استقر في التقليد أن أسماءهم: ملخيور، وبلتاصر، وكاسبار.

أين المولود ملك اليهود؟ وترصد هيرودس:

جاءوا وعلى شفاههم هذا الاستفسار: «أين المولود ملك اليهود» مما أثار حركة سواء في قلوب اليهود أو قلب هيرودس الملك الأدومي المعيَّن بالقوة على اليهود من قبل روما، والذي يخــــشـى أي غريم له وإلا يكون قد قضي على ملكه هو وأولاده من بعده، إن كان هذا حقا ملكاً لليهود!

هذا كان هدف المجوس من رحلتهم الشاقة التي استغرقت ما لا يقل عن ثلاثة أشهر ليعبروا مناطق شاسعة في الشرق حتى يصلوا إلى بيت لحم، وقد غمرهم الفرح عندما سمعوا من شيوخ إسرائيل والربيين أن الملك الذي سيظهر سيُولد في بيت لحم وهي قريبة من أورشليم. إذن، فقد تحقق صــدق دعواهم وحساباتهم وظهور نجمهم.

أما النجم فيقول العلماء إنه نجم حقيقي وليس كوكباً، وضوؤه ذو لمعان فريد بين النجوم، ولكن معروف ضمنا لدى الفلكيين أن كوكب جوبتر (برجيس) وهو إله الرومان يرافق ظهوره ميلاد الملوك. فإذا اجتمع جوبتر مع ساتورن (زُحَل) في برج السمكة ظهر شبه مذنب لـــه ذيـــل شـــديد اللمعان يقترب كثيراً من الأرض وهو يشير عند المنجمين إلى تحقيق رجاء عالمي. ويمكن رؤيته بالعين المجردة، ولكن المدهش والجديد علينا قولهم إنه يمكن رصده بالقلب إذ يوجد علاقة وجدانية في الإنسان مع هذا النجم، لذلك يمكن أن يتحرك الإنسان وفق حركة ظاهرية للنجم. ويؤكد أصحاب هذا العلم أن المنجم الموهوب لا يُضلل. وكل ما أُوحِيَ للمجوس أن هذا النجم له صلة بميلاد ملك اليهود لأنه رجاء عالمي وملوكيته تشملهم، أما قولهم رأينا نجمه في المشرق فيعني أنهم رصدوا شروقه.

وليس لنا أن نقول في ذلك شيئاً إلا أن الله ألهمهم بواسطة علمهم بهذه الحركة الفريدة من نوعها والتي صارت مؤكدة وصدق حدثها عندهم، كما يقول بهذا ذهبي الفم.

ونرى أن هذا كان تدبيراً من الله ليكونوا شهوداً على خيبة أمل اليهود الذين لهم معرفة الأزمان والمواعيد المحددة بواسطة الأنبياء مثل دانيال الذي حسبها بالأسبوع!

وهذا النجم له علاقة ما بنبوة بلعام بن بعور، وهو أيضاً منجم تنبأ وقد تكلم عن هذا النجم، ولكنه سماه كوكباً، ذلك قبل المجوس بألف وخمسمائة سنة، وكان كلامه نطقاً مباشراً من الله كنبوة صادقة أُخذت رسمياً أنها تشير إلى المسيَّا ملك اليهود الآتي. وبلعام نبي من بين النهرين من أرام بلد إبراهيم من جبل المشرق، هذا لما استأجره بالاق عدو اليهود لكي يلعن له اليهود الذين اصطفوا لمحاربته، وافاه الملاك في الطريق وقال له: «إنما تتكلم بالكلام الذي أكلّمـك بــه فقـط» (عــد 35:22) فوضع الرب كلاماً في فم بلعام ( عد 38:22) فلما راوده بالاق ملك موآب ليلعن إسرائيل رد عليه من أرام أتى بي بالاق ملك موآب من جبل المشرق، تعال العن لي يعقوب وهلم اشتم إسرائيل. كيف ألعن مَنْ لم يلعنه الله؟ وكيف أشتم مَنْ لم يشتمه الرب؟ … لتمت نفسي موت الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم (عد :23: 7-10)، فأجاب وقال أمَّا الذي يضعه الله في فمي أحترص أن أتكلم به عد ،12:23، «ولو أعطاني بالاق ملء بيته فضة وذهبـاً لا أقــــدر أن أتجاوز قول الرب لأعمل خيراً أو شراً من نفسي، الذي يتكلمه الرب إيَّاه أتكلم.» (عد 13:24)

ثم أخذ بلعام ينطق نبوة تُحسب أنها أقوى وأوَّل نبوَّة قيلت عن المسيح وعن نجمه من فم هذا النبي الأممي: «وحي بلعام بن بعور، وحي الرجل المفتوح العينين، وحي الذي يسمع أقوال الله ويعرف معرفة العلي، الذي يرى رؤيا القدير ساقطاً وهو مكشوف العينين: أراه ولكن ليس الآن، أبصره ولكن ليس قريباً (أكثر من 1400 سنة فرق زمن) يَبْرُزُ (يُشرق) كوكب من يعقوب ويقوم قضيب (ملك) من إسرائيل فيحطّم طرفي موآب ويهلك كل بني الوغى.» (عد 24: 15-17)

وهكذا وبناء على نبوة بلعام، يكون نجم المجوس حقيقة وتصديقاً لنبوة سابقة من فم الله نفسه على لسان نبي أممي والمجوس وبلعام من بلد واحد وزملاء مهنة واحدة ورؤيا واحدة مشتركة. بلعام رأى والمجوس طبقوا الرؤيا على الواقع. وهكذا حقق المجوس ما رآه جدهم بلعـــام منذ 1400 سنة، وواضح أن الله هو المتكلم رسمياً مع الأول، فيكون من الإنصاف أن يكون الله أيضاً هو الذي هدى المجوس بواسطة النجم. وهكذا اشترك الأمم في فرحة المجيء للمسيا وقدموا له هداياهم. 

 

زر الذهاب إلى الأعلى