تفسير إنجيل متى أصحاح 7 للقمص متى المسكين
حياة المدعوين إلى بر الملكوت
( أ ) لا سماح لأولاد الله أن يدين بعضهم البعض 7: 1-5
21:7 «لا تَدِينُوا لِكَيْ لا تُدَانُوا، لأَنَّكُمْ بالدينونة الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي به تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ».
قصد المسيح هنا كيف يتعامل بنو الملكوت معاً هنا الوسط المسيحي العالي لا يسمح قط بأن يدين أولاد الله بعضهم البعض، طالما النصيحة لها مكان وكذلك المحبة. فالمحبة الحقيقية تحتمل حتى الأخطاء وإن لزم الأمر فالنصيحة الحلوة أو العتاب ولكن الدينونة ممنوعة بين أولاد الله نهائيا. لأن الله قائم وسط الجماعة، والروح القدس هو الديان الوحيد الذي يبكت القلوب والضمائر. فأقصى ما يمكن أن يعمل للأخ إذا عثر هو أن يُصلى من أجله، ولكن إذا استخدم النقد بين أولاد الله يتدخل الشيطان ويثار روح التذمر والسخط لهذا يوعي المسيح التلاميذ والمؤمنين بنوع خصوصي أن لا يستخدم النقد أو الدينونة إطلاقا في كنيسة الله وبين المؤمنين.
فلأن المسيح يتعامل مع أولاده بالمحبة وليس بالدينونة، هكذا يتعامل أولاد الله مع بعضهم البعض، وبروح الوداعة ينصح الكبير الصغير ، وليس بصورة دينونة أو محاكمة لئلا تفسد المحبة. فإذا لم ينتصح الكبار بنصيحة المسيح وابتدأوا يحاكمون ويدينون الآخرين، يثار ضدهم روح العداوة والكراهية، ويفقد الراعي أو الكاهن أو الرئيس سلطان المسيح الذي بالمحبة، وتنشق روح الطاعة المقدسة وتتحول الحياة إلى نقد ومحاكمة وتذمر، وبالنهاية تفقد الكنيسة روح المسيح الذي يجمع ولا يفرق، ويضطر المسيح أن يدين ويحكم على الذين يدينون ويحكمون فيفقدون هيبتهم التي يستمدونها من هيبة المسيح.
والمسيح هنا يضع هذه الوصية بنوع الأمر، فهي العمود الفقري الذي يقيم جماعة المسيح ويضمن سلامتها ووحدتها. علما بأن الرئيس الحكيم الذي ينتصح بوصية المسيح يزداد نعمة وحكمة وتخضع له الرعية بالمحبة وتحل عليه هيبة المسيح.
5-3:7 ولماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عَيْنِكَ فلا تفطن لها ؟ أم كَيْفَ تَقُولُ لأخيك : دَعْنِي أخرج القذى مِنْ عَيْنِكَ، وَهَا الْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ. يَا مُرَائِي، أخرج أولاً الخَشَبَة مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيداً أَنْ تُخْرِجَ القَذى مِنْ عَيْن أَخِيكَ !»
لا تزال الوصية الهامة تستأسر بفكر المسيح لخطورة نتائج الدينونات والمحاكمات في وسط جماعة المؤمنين، فلا الدينونة ولا المحاكمة ولا النقد يصلح بتاتاً للتعليم والتهذيب المسيحي، أو يصلح لنمو الجماعة في المعرفة الإنجيلية أو المحبة المسيحية. وفي أحسن الأحوال حينما يؤخذ إنسان بذلة أو خطية فهذا أيضاً يمتنع أن يُحاكم بل يُفرز ويُصلى من أجله كثيراً حتى يشعر هو بخطئه ويتوب ويطلب الصفح فيعطي له فوراً. ولكن لا يدان من الكبير أو الصغير، لأن الديان موجود والروح القدس عمله في وسط الجماعة هو التبكيت، ويلزم إعطاؤه فرصة العمل بالصلاة. لأنه لكي يحاكم ويدين إنسان إنساناً آخر يلزم ويتحتم أن يكون هو بلا عيب وبلا أدنى شبهة لمثل الخطية التي يدينها أو يحكم فيها، ولا يوجد مثل هذا القاضي أو الديان في الكنيسة. فالكل أخطأ وأعوز الكل مجد الله. فمن الواضح لدى الكنيسة في كل تاريخها أن الذين قاموا بالمحاكمات والإدانة كانوا لا يخلون من الملامة، وربما كانت سيرتهم وعينهم فيها الخشبة التي يحكي عنها المسيح. لذلك يكاد المسيح يتوسل لدى جماعة المؤمنين وأولاده وتلاميذه أن يكفوا عن الدينونة، مؤكداً عدم صلاحية وجود ديان يخلو من الدينونة أمام الله. فإذا تجرأ رئيس وأدان وحكم وهو يعلم أنه واقع في نفس الخطأ والملامة فإن حكمه يرتد عليه، بحسب تحذير المسيح وقانون الكنيسة وهذا خطر كبير على هيبة جماعة الله. ويلاحظ هنا أن المسيح يعالج ما قبل الدينونة وهو مجرد النظر إلى القذى في عين الأخ، أي الهفوة الصغيرة أو النقص الأخلاقي أو العيب في السلوك، كل هذا يمنعه المسيح لأنه يؤدي حتماً للدينونة وما بعدها من خصام وشقاق.
«يا مرائي أخرج أولاً الخشبة من عينك. وحينئذ تبصر جيداً أن تخرج القذى من عين أخيك»:
هذا هو شرط الدينونة، فإن كان ولابد أن تدين أخاك مهما كانت ولاية الذي يدين على الذي يُدان، فيتحتم لكي تكون الدينونة ذات صلاحية أن يكون قد جاز هو نفسه هذه الدينونة عينها وتزكى أمام الناس والضمير والله ولأن هذه العملية يصعب تنفيذها على مستوى المجتمع المسيحي كان هذا مما يوجب عدم الدينونة.
والملامة هنا شديدة لأن العمل هو عمل الله وحده: «في اليوم الذي فيه يدين الله سرائر الناس حسب إنجيلي بيسوع المسيح» (رو 2: 16)، «وأيضاً الرب يدين شعبه.» (عب 10: 30)
ولا يمكن أن يغيب عن بالنا الحكم الصادر من المسيح بعد أحكام رؤساء السنهدرين أن الزانية ترجم فبادرهم أن من كان منهم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر ، فانسحب الجميع ولم يبق واحد بلا خطية فلم يبق للدينونة مكان. وهنا تدخل المسيح وأعطى حكمه المسجل بالنور في السماء والأرض: «ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تخطئي أيضاً» (يو 8: 11). هذا هو أسلوب العهد الجديد، أو هذه هي أخلاق بني الملكوت التي يتحتم أن تعيشها الكنيسة والمؤمنون أن الخاطئ يُعطى فرصة للتوبة، ولا تيأس الجماعة من رحمة الله.
(ب) لا استهانة بالمقدسات [6:7]
6:7 «لا تُعْطُوا القدْسَ لِلكِلابِ، وَلَا تَطرَحُوا دُرَرَكُمْ قَدَّامَ الخنازير، لِئَلَّا تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ».
هنا يُعطي المسيح الوجه المقابل لعدم الدينونة، وكأن المسيح يقول: ليس معنى أن لا ندين أخانا أن نعرض مقدساتنا للغرباء وأعداء الإيمان لأن مفهوم الكلاب بالنسبة لليهود هم الأنجاس، وكذلك الخنازير. فغير مصرح أن نتساهل مع الذين على مستوى الكلاب والخنازير في النجاسة بأن ندعهم يطلعون على مقدساتنا أو نكشف لهم أسرار الله الخاصة بالإيمان والحياة الأبدية والملكوت. فملكوت الله يلزم أن يبقى في وضعه الفائق السري جدا ، وسر المسيح يبقى لأولاد المسيح وحدهم: سري لأهل بيتي» فالبشارة بالإنجيل والملكوت لا تعني تسليم أسرارها إلا للذين أثبتوا أنهم يصلحون أن يكونوا أبناء سر الملكوت، وبعد أن يكونوا قد نبذوا الشيطان وكل أعماله.
وهذا واضح من قوله أن لا تطرحوا درركم قدام الخنازير، حيث الدرر هي اللآلئ. واللؤلؤة تعني في الإنجيل ملكوت الله. كذلك فإن القدس لا يطرح للكلاب حيث القدس هو كل ما يختص بالله. فأصبح المعنى أن لا نستهين بالمقدسات ونكشف سر الملكوت لئلا تداس من المستهزئين وندفع ثمن التهكم والإيذاء لأنه كما أن القدس والدرر لا تهم الكلاب والخنازير ولا تصلح لهم في شيء فتدوسها لأنها ليست في حاجة إليها، هكذا المستهزئون بأمور المسيح والملكوت.
(ج) الأسئلة الثلاثة واستجابتها الحاضرة [7: 7-12]
السؤال، الطلبة، قرع الباب
7:7 «إسالُوا تُعطوا. اطلبوا تَجِدُوا. اقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ».
هذه الثلاثة أفعال تأتي باليونانية في صيغة الأمر المضارع الدائم المستمر، بمعنى أن المسيح يفتح أمامنا سر ملكوت السموات وكيف يغتصب اغتصاباً، لأنه ليس لأحد قط الحق فيه. ولكن هي عطية سر الملكوت التي خص بها تلاميذه أولاً ليسلموها لكل من يؤمن ويتتلمذ للمسيح تحت أيديهم.
اسألوا Αἰτεῖτε
هنا الفعل في صورة الأمر الدائم أو المستمر . فأول ما يلفت نظرنا أنه سؤال دائم، لا لأن الله لا يستجيب سريعاً بل لكي يرتفع سؤالنا إلى الإحساس الدائم بضرورة الأخذ ، لأن السؤال هنا يختص بموضوع ملكوت الله بالأساس. فالأمر هنا بالسؤال هو أولا يختص بملكوت الله، وثانياً يختص بأولاد الله العارفين ما هو ملكوت الله، والذين أعدوا فكرهم وقلبهم وحياتهم لتقبل الرد على السؤال لأن الرد على السؤال شيء مهول للغاية، فهو سيُعطي بدء العمل وكيفية السعي والصعوبات التي ستواجه الإنسان ومشقة طول الطريق لمدى سنين طويلة، ومؤهلات الطريق من احتمال وصبر على الاحتقار والمذلة والاضطهاد، ثم تلميح للمعونة في النهاية. إذن ينبغي أن يدرك القارئ أن وعد يسوع المسيح هنا «اسألوا تعطوا» أمر يخص كشف وإعلان طريق الخلاص العملي المؤدّي إلى ملكوت الله، لا في معناه اللاهوتي الصحيح، بل في واقعه في حياتنا هنا على الأرض بما يتناسب مع السائل، مناسبة خاصة شديدة الخصوصية، بحيث ما سيسمعه من الله ردا على سؤاله لن ينفع غيره بل ولن يفهمه إلا هو.
بعد هذا يستطيع القارئ أن يُدرك قبل أن يسأل هل هو على استعداد لأخذ معلومات وبيانات خاصة جداً لحياته، تطول لتشمل العمر كله؟ لأن التأهيل لملكوت الله هو تأهيل حياة برمتها. ثم هل هو على استعداد أن يعطي فوراً الإجابة القاطعة على طلبات الله التي يطلبها لكي يستجيب لسؤاله ويفتح له باب الدخول الخاص جداً ؟
فمن الأمور الثابتة أن السؤال المطلوب هنا ليس من أجل مطالب وأعواز حياة هذا الدهر، الأمر الذي أكده المسيح «فإن هذه كلها تطلبها الأمم لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها» (مت 32:6). لذلك لا ينبغي أن نخلط في الصلاة بين أمور العالم وملكوت الله. وهنا يكرّر المسيح بضرورة السؤال والطلبة وقرع الباب لأن الموضوع المطلوب هام وخطير وأهم من كل الحياة. لذلك يطلب تعبئة القوى في قلب الإنسان ووجدانه بمنتهى ما يمكن أن يوفّره الإنسان من عزيمة وتصميم ورجاء بدموع وعصر القلب. لأن العطية غالية وثمينة ولها كل مجد الله!!
وردا على ” اسألوا ” يقول المسيح إن الإجابة حاضرة تنتظر بلوغ سؤالكم درجة الاستعداد للأخذ. لا نقول هنا درجة الاستحقاق فهذا أمر مستحيل، ولكن درجة الاستعداد للأخذ بمعنى النية الداخلية الحاضرة للتنفيذ، أي تنفيذ الأوامر والتوجيهات التي تعطى، لأن السؤال قبل. وعلى سبيل المثال نية الترك والتفريط في المتعلقات القلبية والاستهانة بالخسارات والتصميم على الإمساك بالمسيح حتى الموت.
اسألوا تعطوا Αἰτεῖτε, καὶ δοθήσεται ὑμῖν
هنا الوعد بالعطاء المجاني بدون ثمن، ولكن على أساس الاستعداد للأخذ والتنفيذ. ولكن هل يعطي الله ما نسأله من جهة ملكوت الله مباشرة أو سريعاً؟ لا ! إذ يلزم انتظار صدور الأمر بالعطاء بدون ملل ولكن
بثقة الآخذ والواثق من الأخذ !! ثم يعود المسيح ويُلحق بالسؤال الطلب أيضا:
اطلبوا ζητεῖτε
وتأتي أيضاً في صيغة الأمر الدائم، بمعنى أن الطلبة تظل موضع الطلبة مدى الحياة لأن الأخذ سيظل أخذاً مدى الحياة. ولكن الفعل في اليونانية يأتي بمعنى يفتش و “يسعى للحصول “. فهنا تكميل عملي لفعل السؤال الأول، فالسؤال يظل قائما في قلب الإنسان إلى أن يُعلن الله الإجابة. ولكن إلى أن يستجيب الله يتحتم على الإنسان أن يسند السؤال بالسعي، وهو سؤال للحصول على ملكوت الله، ولكن يأتي في القلب على أنه سؤال الحصول على المسيح نفسه !! أنا أطلبك، أنا أريدك أنت أنا أسألك أن تعطيني أن أحيا معك وفيك. هذا هو مضمون سؤال ملكوت الله فبعد أن نوفي السؤال حق تقديمه بدموع القلب نظل نسعى في ظل السؤال على كيفية حصول ما تشتهيه نفوسنا ونتصور كيف نحن مستعدون أن نعطي كل شيء ونترك كل شيء، فقط لو سمع لي المسيح وفتح لي وأعطاني سره، سوف أعمل وأعمل وأقدم وأقدم وأصلي ما دمت حيا. فالطلب هنا بمعنى السعي للحصول هام جداً على مدى السؤال والإلحاح في السؤال. إذ لا يكف الإنسان عن تفتيش الكتاب المقدس وحضور الصلوات والحياة بحسب إرادة الله.
اطلبوا تجدوا: ζητεῖτε, καὶ εὑρήσετε
أما الإجابة للتفتيش والسعي فتكون حاضرة بصورة تكاد تكون إعجازية، فكلما بحثنا تأكدنا من الدعوة وكلما سعينا نرى أمام عيوننا وكأنما الله يجيب بنفسه. فالسؤال له عطية بقدرة عطية الباب المفتوح للملكوت، والسعي له إجابة تأكيداً لقبول السؤال ووعداً دائماً “بالعطية”. وهكذا بقدر ما يسعى الإنسان ويبحث ويفتش عن كيف سينال سؤاله يزداد الوعد إجابة وتأكيداً. وهكذا ترتفع حرارة الإنسان وفرحته إلى مستوى يقترب من الأخذ وهذه هي طريقة الله في رفع درجة نضوج الإنسان لكي يليق بما سيعطى !!
«اقرعوا» κρούετε
آخر فعل في مسلسل طلب ملكوت الله وبره !! فالسؤال الأول يسنده البحث والسعي، والسعي ينتهي بإصرار قرع الباب إلى أن يُفتح من كثرة السؤال ومن كثرة الطلبة (السعي) يتكون لدى الإنسان دالة على الله تعطيه الإحساس بأنه واقف على بابه بالفعل وليس أمامه أي عائق إلا أن يظل يقرع بحسب أمر الرب حتى يفتح الله، والله حتماً يفتح ولكن عندما تبلغ حرارة الاستعداد لقبول العطية الكبيرة اكتمالها. فقرع الباب لا يزيد الله تحننا وكأننا شحاذون، بل سببه هو صبر الله ليزيد طبيعتنا حرارة وإحساساً بما يتناسب والعطية الفائقة. وكلما يسمع القارع حركات خلف الباب كلما يستميت في القرع ربما بعد سنة أو اثنتين أو ثلاث أو أربع، ولكن تظل هذه السنين جزءاً حيًّا مضيئاً في حياة الإنسان وكأنها كانت سبق تذوق الملكوت على الأرض.
أما بعد أن يُفتح الباب فلا يعود الإنسان يصدّق نفسه أنه فتح له ويشعر بأنه قد سرق ما ليس له!
اقرعوا يُفتح لكم κρούετε, καὶ ἀνοιγήσεται ὑμῖν
لينتبه القارئ جداً : فالذي قال اقرعوا هو نفسه الذي وعد قائلاً: «يُفتح لكم». لذلك نحن لا نتبع صوتاً يَعِدُ ولا يفي، يسمع ولا يستجيب، بل «فإنه من أجل لجاجته يقوم ويعطيه قدر ما يحتاج!» (لو 11: 5-8)
تأكيد الوعد:
8:7 « لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُدُ، وَمَنْ يَطلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ».
واضح لنا جداً من هذا المسلسل المتعلق بالحصول على ملكوت الله، أن كل فعل من هذه الأفعال هام جداً في موقعه، ولكنه يأتي بعده فعل آخر يكمله والثالث ليختم على مسلسل الحصول على ملكوت الله.
وهذا يكشف عدم كفاية السؤال وحده أو الطلبة أو قرع الباب، إذ لابد أن الثاني يكمل الأول والثالث يكمل الثاني والأول. وهكذا رأينا وشرحنا أن الثلاثة أفعال إنما تكون منهجاً متكاملاً لا يُسهب المسيح في شرح أسبابه، ولكن يكتفي بأن يعلنه فقط، لأنه جزء لا يتجزأ من سر الملكوت نفسه «قد أعطي لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السموات.» (مت 11:13)
وفي هذه الآية يعود المسيح فيؤكد أن لكل فعل إجابة خاصة به وأن الثلاثة لهم جواب أخير في كيف يُفتح الباب بالنهاية.
وفي نهاية هذا المسلسل السرّي نقول: إن لكل صلاة وضعها المحدود إلا هذه الصلاة فهي أم الصلوات وهي صلاة العمر، وتحقيق لكافة الصلوات. وفي ثلاثة أفعال كثلاث خطوات كبرى، استعرض المسيح سر النقلة الخفية من عالم الأعواز الصغيرة إلى عالم الحياة التي بلا أعواز، وتخطى هموم هذا الدهر – والإنسان حي بعد على الأرض – ليغشى جو الحياة التي بلا هم ويعاين صدق الله.
تطبيق:
11-9:7 «أم أي إنسانِ مِنْكُمْ إِذَا سَأَلَهُ ابْنُهُ خَبْراً، يُعْطِيهِ حَجَراً؟ وَإِنْ سَأَلَهُ سَمَكَة، يُعْطِيهِ حَيَّة؟ فإن كُنتُمْ وَأَنتُمْ أشْرَار تَعْرِفُونَ أنْ تُعْطُوا أَوْلادَكُمْ عَطَايَا جَيْدَةَ، فَكَمْ بِالْحَرِي أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ، يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ!»
الملاحظ أن المسيح يستخدم في هذا التشبيه الخبز والسمكة”. وهما عنصرا معجزة الخمس خبزات والسمكتين، والمعروف في تقليد الكنيسة بأنها رمز الإفخارستيا والاثنان معجزة الخمس خبزات والسمكتين والإفخارستيا معروف أنهما الصورة المادية السرية لوليمة الملكوت وهنا ولو أن مفردات التشبيه ضاع منها عنصر الحبك ولكن هي الأساس في وليمة الملكوت، والمعنى بهذا يصبح شديد الوضوح فإن كنتم تعرفون أن تعطوا رمز الوليمة السماوية، فكم بالحري يعطي أبوكم الذي في السموات الوليمة ذاتها بخيراتها.
نشر الوعي الملكوتي
12:7 «فكُلَّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هكذا أنتُمْ أَيْضًا بِهِمْ، لأَنَّ هَذَا هُوَ النَّامُوسُ وَالْأَنْبِيَاءُ».
المسيح هنا يتصور أن الإنسان الذي سأل وطلب وقرع، أعطي ووجد وانفتح له باب الملكوت، فما الذي يستطيع أن يعمله مثل ذلك الإنسان ليعطي الآخرين عينة مما أخذ من خيرات الاب السماوي إلا أن بمبادئه الجديدة ونعمة الله التي وهبها والروح القدس الذي أعطي، يسلك بين الناس عاملاً لهم كل الخير الذي يتمنى أن يعمل به. فإن كان من الصعب بل ربما من المستحيل أن يشرح لهم دقائق السر الذي انفتح له، إلا أنه يستطيع أن يريهم فيروا ويسمعوا فيتعرفوا على نتائجه التي حصل عليها. وهكذا يصبح كارزا بملكوت الله دون أن يعظ وبذلك يوفي دين الله الذي منحه له بمقتضى قبوله ليكون من خاصته. وهذا الدرس قرين قوله: «وأما أنت فاذهب وناد بملكوت الله!» (لو 60:9)
(د) الباب الضيق والطريق الكرب المؤدي إلى الملكوت 7: 13, 14
على مدى العظة كلها والحديث يدور بسرية بالغة حول الملكوت والوصايا الخاصة بأولاده، والصلاة اليومية المحسوبة أنها خبزة كل يوم، ونصائح تفرز أبناء الملكوت عن المرائين، ومحاولة لرفع أعينهم عن أعواز العالم الحاضر ليطلبوا ملكوت الله وبره. وهنا كشف المسيح محور العظة. ثم عاد يصف ما يجب أن يُوصَفَ به بنو الملكوت كجماعة. ومرة واحدة نجده يكشف عن وسيلة الحصول على الملكوت ومتى ينفتح بابه.
ولكن هنا يعود بهدوء وبانكشاف تام يوضح بداية الطريق الكرب المؤدّي إلى الحياة، وكيف يبدأ بابا ضيقاً للغاية ينحشر فيه الإنسان الراغب في الخلوص من الحاضر الأكرب ليدخل على درب يبدو في البداية متسعاً، ولكن يضيق به غاية الضيق ويزداد ضيقه حتى يصبح هو الكرب بذاته، حتى يتعذر على الإنسان أن يتلقت يمينا أو يساراً، وإن جازف بالنظر إلى الوراء فيصير ذلك هو الهلاك بعينه.
13:7 و 14 ادْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الضَّيِّق، لأنَّهُ وَاسِعٌ الْبَابُ وَرَحْبُ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الهلاكِ، وَكَثِيرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إلى الْحَيَاةِ، وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ!»
ادخلوا من الباب الضيق Εἰσέλθατε διὰ τῆς στενῆς πύλης
يقول ق. لوقا «اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق» (لو24:13)، اجتهدوا والكلمة فيها معنى المعاناة – struggle. والقديس لوقا يوضح لماذا قال المسيح هذا التعبير: «فقال له واحد يا سيد أقليل هم الذين يخلصون» (لو 23:13) والقديس متى يكشف ضمناً لماذا الاجتهاد أو تحمل المعاناة والصعاب للدخول من الباب الضيق، لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك. فاختيار الباب الضيق ونحن نواجه بالباب الواسع، يحتاج منا اختيار الأصعب والأكرب، وهذا مبدأ الطريق وبابه المؤدي إلى الملكوت.
وهكذا بعدما أعطانا كيف نسأل ونطلب ونقرع الباب، واطمأن المسيح أننا استوعبنا الوسيلة وفهمنا الدعوة، نزل إلى دقائق الوصف الخاص بالباب والطريق المؤدي إلى الملكوت الذي يعتبر في نظرنا أخطر تعليم قدمه المسيح للذين يتبعونه من كل قلوبهم. لأن في هذه الآية يدخل المسيح معنا في الوصف الدقيق لمدخل الملكوت وهو يقدّمه للذين استمعوا إليه على طول العظة وتحركت قلوبهم واشتهوا هذا البر الذي يزيد على بر الكتبة والفريسيين، وتمنوا أن يعرفوا أين الباب وما شكل الطريق. هنا كلام الصدق والحق ليس ككلام مروّجي الخلاص في هذه الأيام، الذين يجعلون الملكوت نزهة في صلاة قصيرة وطلبة بإيمان وثقة أن الإنسان قد خلص فيكون قد خلص. ولكن المسيح هنا يصدقنا القول ويكشف لنا سر الصليب منذ الدخول من الباب، فالضيق والاضطهاد الذي يقع على الإنسان من أقرب الناس إليه وجحود العالم وتجربة الشيطان بالمرصاد، فالباب الضيق مرسوم عليه صورة الجلجثة والكأس وسيوف وعصي، ومكتوب على العتبة آية النجاة: «صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة التي تجاهلها بطرس فأنكر ! عنق الزجاجة ويعبر الباب تحت تهديد الموت يجد الطريق وصحيح أنه بمجرد أن يفلت الإنسان من معقولاً فيسير وهو يُغنّي، ولكن الطريق يضيق بأسرع ما يمكن ويُخيّم عليه الظلمة، ولكن سرعان ما يسعف الله الإنسان بمن يدله على الطريق خطوة خطوة، وقوة الدفع الهائلة التي عبر بها من الباب الضيق تظل تدفعه خفيًا وتؤمن له عدم النظر إلى خلف
أمامي شرح للعالم ها ندركسن كرس فيه صفحتين لكي يناقش هل الباب أولا ثم الطريق، أم الطريق ثم الباب، ورأى أن المعقول جدا أن يكون الطريق أولاً ثم الباب وأورد الأدلة والأسماء والمراجع … ولكي نريح مثل هؤلاء العلماء نقول إن الباب هو أخطر جزء في صفقة الملكوت بأجمعها الذي إذا عبر منه الإنسان تأهل في الحال وبمعونة سماوية أن يسير الطريق بكل كربه، والطريق لا ينتهي بباب بل بالمسيح وردا على العلماء الآخرين الذين ظنوا أن الباب والطريق هما بعد الموت وآخرون بعد مجيء المسيح …. ولهؤلاء أيضاً نقول إن الباب الضيق يبدأ من هنا وفي وسط أعمالنا ومشاغلنا، وهو باب يفتح على طريق سري يسير خلف العالم ولا يدري العالم من أمره شيئا، ولا حتى أقرب المقربين إلينا. وإلا ما كان المسيح يقول: « اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق بل وأضاف إضافة حزينة وقليلون هم الذين يجدونه لذلك نبه المسيح قلوبنا في الآيات السابقة: «اطلبوا (فتشوا واسعوا للحصول) تجدوا» فالباب مخفى عن عيون اللاهين.
وأخيراً لسنا في حاجة أن نشرح أنه واسع الباب ورحب الطريق المؤدي إلى الهلاك، فهو أمام عيوننا كل يوم!
( هـ ) نصائح لبني الملكوت الأنبياء والمعلمون الكذبة 7: 15-20
18-15:7 «اِحْتَرزُوا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الكَذبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَابِ الحُمْلان، وَلَكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلِ ذِنَابٌ خَاطِفَةٌ مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنبَا، أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تينا ؟ هكذا كُلَّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أثماراً جَيْدَةَ، وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الرَّدِيَّة فتصنع أثماراً رَدِيَّة، لا تَقْدِرُ شَجَرَةٌ جَيِّدَة أَنْ تَصْنَعَ أثماراً رَدِيَّةً، وَلَا شَجَرَةٌ رديَّة أن تصنع أثماراً جَيْدَةَ».
لقد عانت الكنيسة الأولى كثيراً من الأنبياء الكذبة، لأنه في العصر الأول المسيحي وبعد حلول الروح القدس انتشر الأنبياء بكثرة وكانوا مقتدرين بالفعل في الوعظ والتعليم وعمل الآيات، لأن الروح القدس قد انسكب على الشعب بكل فئاته بلا كيل. ومن هنا اندس بين المملوئين من الروح القدس مدعون ليس لديهم معرفة ولا يحملون قوة الروح، وبعضهم كان مدسوساً من الشيطان، يقلدون الأنبياء، بل ويقلدون الرسل:
+ «وكان قبلاً في المدينة رجل اسمه سيمون يستعمل السحر ويُدهش شعب السامرة قائلاً: إنه شيء عظيم، وكان الجميع يتبعونه من الصغير إلى الكبير قائلين هذا هو قوة الله العظيمة. وكانوا يتبعونه لكونهم قد اندهشوا زماناً طويلاً بسحره.» (أع 8: 9-11)
+« ولما اجتازا الجزيرة إلى بافوس وجدا رجلاً ساحراً نبيا كتاباً يهوديا اسمه باريشوع … فقاومهما عليم الساحر ، لأن هكذا يترجم اسمه، طالباً أن يُفسد الوالي عن الإيمان. وأما شاول الذي هو بولس أيضاً فامتلأ من الروح القدس وشخص إليه وقال: أيها الممتلئ كل غش وكل خبث يا ابن إبليس يا عدو كل بر، ألا تزال تفسد سبل الله المستقيمة. فالآن هوذا يد الرب عليك فتكون أعمى لا تبصر الشمس إلى حين. ففي الحال سقط عليه ضباب وظلمة فجعل يدور ملتمساً من يقوده بيده.» (أع 13: 6-11)
وهنا نجد المسيح يسبق فيُوعي المؤمنين من هؤلاء الأنبياء الكذبة الذين كانت علامتهم أنهم يلبسون الثياب الصوف، لذلك قيل إنهم يجولون بثياب حملان” وهم من داخل ذئاب خاطفة. وأخطر أعمال الأنبياء الكذبة على مدى تاريخ الكنيسة الأولى هو دس تعاليم مضلة وتسهيل الخطية للناس والوعد بالخلاص بدون معرفة ولا إيمان ولا برهان نعمة.
ومع الأنبياء الكذبة كان رسل كذبة وإخوة كذبة ومعلمون كذبة ومسحاء كذبة، وهؤلاء جميعاً كانوا يندسون في وسط الشعب لاختطاف المؤمنين كالذئاب التي تخطف الحملان، وتلويث الإيمان المستقيم وتعليم خرافات وأكاذيب للضلال.
وأعطى المسيح في تعليمه كيف يستطيع المؤمنون كشف كذبهم بمعرفة ثمارهم، أي تعاليمهم، هل هي بحسب الإنجيل أم لا . فالشوك لا يُثمر عنباً والحسك لا يُعطي تينا، بمعنى أن تعاليم المسيح هي المحك الذي يُضاهى عليه أقوال هؤلاء الأنبياء، ولا يصعب على الإنسان التفريق بين ما هو صالح وما هو طالح. ولكن يُضيف المسيح أنه لا أمل ولا رجاء من الذين يثمرون ثماراً رديئة، فهؤلاء لا يمكن إصلاحهم.
19:7 و 20 «كُلَّ شَجَرَةٍ لا تَصْنَعُ ثمراً جيداً تُقطع وتلقى في النَّارِ. فَإِذَا مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ».
هنا أعطى المسيح للكنيسة سلطاناً أن تحاصر هؤلاء الأنبياء الكذبة وتحاكمهم بناءً على تعاليمهم، وتحرمهم من العضوية الكنسية، وبالتالي تحدّر الكنيسة من قبولهم والسماع لتعاليمهم، كما سمعنا في أمر سيمون وعليم اللذين قطعهما الرسل وحلت عليهما اللعنة.
(و) كيف تُصفى أعمال الناس ليتم اختيار الصالحين لدخول الملكوت [27-21:7]
النهاية: الحكم في الملكوت
- الذين قالوا ولم يفعلوا إرادة الآب الذي في السموات (21أ) + (22) و (23).
- الذين عملوا إرادة الأب الذي في السموات (21 ب).
- مثل الذين سمعوا أقوال المسيح وعملوا بها (24 و 25).
- مثل الذين سمعوا نفس الأقوال ولم يعملوا بها (26 و 27)
يُقدم المسيح هنا خاتمة حاسمة لتعليمه بالعظة على الجبل: فهو يعطي الحكم بخصوص الذين كانت صلاتهم مجرد كلام وتلاوة متكررة بدون عمل إرادة الآب الذي في السموات، ثم الحكم بالنسبة للذين عملوا إرادة الآب مع صلواتهم.
ويعود ليعطي مثلاً للذين سمعوا كلام عظة المسيح وعملوا بالكلام فيمثلهم بالإنسان الذي يبني بيته على الصخر بعد أن يحفر ويعمق. ومثلاً آخر للذي سمع الأقوال ولم يعمل بها فيمثله بالإنسان الذي بنى بيته على الرمل ولم يحفر ولم يعمق.
الذين قالوا ولم يفعلوا:
21:7 «لَيْسَ كُلَّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبَّ يَا رَبَّ، يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إرَادَة أبي الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ».
هنا يأتي المسيح إلى نهاية العظة ويعطي الأحكام التي ستسري على الناس، فالذين اكتفوا من الصلاة بالأقوال دون الأعمال، وكانت صلاتهم تلاوة وترديد أقوال فهؤلاء لن يدخلوا ملكوت الله أما الذين قدموا صلواتهم وكانت أعمالهم وفق مشيئة الآب الذي في السموات فهؤلاء هم الذين يدخلون. وهكذا يكشف المسيح عن الهدف المباشر الذي كان قد وضعه في عظته عن الصلاة وعن الأعمال التي بمقتضى مشيئة الأب الذي في السموات، حيث كان الهدف هو ملكوت السموات في كل ما قال وعلم.
هكذا طرح المسيح أمام تلاميذه وجميع المؤمنين باسمه ما ينبغي أن يطبقوه من تعليمه في حياتهم لكي يكون لهم نصيبهم في ملكوت السموات، مع تحذير واضح للذي يكتفي من أقوال المسيح وتعاليمه بأن يؤدي صلاة الكلام وأقوال المعرفة دون أن تدخل حياتهم في حيز العمل بوصايا المسيح فيما يخص فعل إرادة الآب السماوي.
ويعود المسيح ثانية فيما بقي من آيات ليؤكد صورة الذين احتسبهم المسيح فاعلي الإثم وهي محزنة للغاية.
22:7 و 23 كَثِيرُون سَيَقُولُونَ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبَّ يَا رَبِّ، أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِاسْمِكَ صَنعنا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحِينَئِذٍ أَصَرِّحُ لَهُمْ: إني لم أعرفكُمْ قط! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فاعلي الإثم!».
هنا يجمع المسيح المرفوضين معاً، فنجد منهم الذين كانوا يعظون والذين كانوا يتنبأون باسم المسيح والذين كانوا يخرجون شياطين، والذين كانوا يعملون آيات بمعنى معجزات وقوات كثيرة، لا عن كذب بل تظهر غشاً وكأنها عن حق، ولا كأنها بدون صلاة ودعاء وصليب ودهن بزيت بل مستوفية كل مظاهر الحق وألفاظه، ولكن لم تكن لهم حياة إنجيلية صادقة وعشرة مع المسيح تشهد لها أعمالهم وأقوالهم، ولا حياة داخلية صادقة مع المسيح عازفة عن المال والمجد الزائف، وحياتهم من داخل كانت منحلة. يمارسون الخطايا بلا تأنيب ضمير، وقست قلوبهم فلم يكن فيها مخافة الآب السماوي، فخلت حياتهم من الرحمة وعمل المحبة والبذل واكتفوا بالمظاهر والكلمات المحفوظة التي لها شكل العمل وقوة الروح وهي فاقدة لكل نعمة وقوة. استخدموا اسم المسيح بمهارة فعملوا به المعجزات والآيات وإخراج الشياطين، وشخص المسيح أهملوه وأنكروه بأعمالهم وحياتهم. أتقنوا الصلوات المحفوظة في مواعيدها وبألفاظها القانونية ودققوا في حروفها وظروفها وأوقاتها بلا أدنى توان، ولكن لم يعملوا بحسب وصية المسيح من جهة الأعمال التي بحسب إرادة الآب السماوي من جهة الرحمة والمحبة والبذل اكتفوا بجمع الأموال دون الصرف على من يستحقها، بل اكتنزوها لأنفسهم وأقاربهم وحرموها على من يستحقها، مع أنها أعطيت باسم الفقراء ولخدمتهم. وأكملوا حياتهم وكأنها بلا لوم شكلاً وهي منكرة لكل مشيئة الآب الذي اختارهم وأقامهم وأرسلهم.
وقول المسيح لهم: إني لم أعرفكم قط» يكشف عن أعظم فضيحة في حياة هؤلاء المدعين بأنهم رسل وخدام وكهنة المسيح ووعاظ إنجيل، والحقيقة التي انجلت عن حياتهم وخدمتهم أن المسيح لم يعرفهم ولم يقبل خدمتهم. فهؤلاء ليس فقط حرموا من ملكوت الله بل وزيفوا معنى الملكوت والدخول إليه. وكانت حياتهم خداعاً للناس والله ولأنفسهم.
البيت على الصخر أو سيرة حياة عطرة بالإيمان عاملة بالنعمة:
24:7 و 25 فكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أقوالي هذهِ وَيَعْمَلُ بها ، أشبهُهُ بِرَجُلٍ عَاقِلِ، بَنِي بَيْتَهُ عَلَى الصخر. فنزل المطر، وَجَاءَتِ الْأَنْهَارُ ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَوَقَعَتْ عَلَى ذلِكَ كل من يسمع أقوالي هذه هي المقابل لقوله في العهد القديم: اسمع يا إسرائيل» والتي تسمى عندهم البَيْتِ فَلَمْ يَسقط، لأنَّهُ كَانَ مُؤسَّساً عَلَى الصَّخْرِ».
“كل من يسمع أقوالي هذه” هي المقابل لقوله في العهد القديم “اسمع يا إسرائيل” والتي تسمى عندهم “الشماع ” أي اسمع وهنا يضع المسيح أقواله باعتبارها قانون الحياة الأبدية الذي إذا عمل الإنسان المسيحي بمقتضاه ووهب فكره وقلبه لمعرفته، وفتش وبحث ودرس كيف يبني حياته على أساس الإيمان بالمسيح والاعتماد الكلي على شخصه والالتصاق به التصاق الأسمنت على الحجر الصلب، وبدأ يعيش على كلمات الرب ويبني بها معرفته وفهمه وسلوكه وآماله ورجاءه في الحياة، يعلو البيت راسخاً، فإذا جاءت التجارب متعددة الأشكال والمتاعب والمخاطر والأهوال فإنها لا تؤثر في البنيان المؤسس على الصخر، لأن التصاق الإنسان الشخصي بالمسيح ووصاياه يؤمنه ضد كل أهوال الحياة وزعازعها.
وأخيراً يأتي العدو كنهر ويصدم البيت، والبيت ثابت ثبوت الإيمان الواثق. وهكذا ينجو البيت ويقف شاهداً على صدق تعاليم المسيح ووعوده ونعمته، وعلى إيمان الإنسان بالمسيح، الإيمان الشخصي بالروح « من التصق بالرب فهو روح واحد.» (1 كو 17:6)
البيت على الرمل أو سيرة حياة فقدت العمق وعاشت على السطح وبنت على الرمل:
26:7 و 27 «وَكُلَّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هَذِهِ وَلَا يَعْمَلُ بِهَا، يُشَبَّهُ بِرَجُلٍ جَاهِلِ، بَنِي بَيْتَهُ عَلَى الرمل. فنَزَلَ المَطرُ، وَجَاءَتِ الْأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَصَدَمَتْ ذَلِكَ الْبَيْتَ فسقط، وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيماً !»
هنا نأتي لقول المسيح السابق الذي اتخذه المسيح كتعليم في الأساس، يأتي هنا للتطبيق: «ليس كل مَنْ يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات وهنا قد وصلنا إلى النهاية حيث المجازاة هنا إنسان سمع أقوال المسيح كلها وربما درسها ووعظ بها، ولكنه لم يعمل بها أو بمقتضاها، فجاءت أعماله كلها ليس في الإنجيل ما يزكيها وليس من كل أقوال المسيح ووصاياه ما يشهد لصدقها، فلا هو حفر وفتش وبحث ودرس كلمة الله وجعلها دستور حياته، ولا بني أفكاره ومبادئه وأسلوبه في الحياة والتعامل مع طبقات الناس كما أوصى المسيح. أما الرمل فهو كناية عن تعاليم أشخاص مشهورين وأمثال وأقوال محفوظة اتخذها مصدراً لأفكاره وأعماله وحديثه. وجاءته التجارب فلم يصمد أمامها لأن ليس في كل حياته ما يسنده من الإنجيل أو الاتكال الحقيقي على الله.
والمسيح هنا لا يتكلم عن الحياة الحاضرة وما يصيب البيت المبني على الصخر والبيت المبني على الرمل فالوصف والاختبار والنتيجة لا تعلن هنا بل هي محصلات الدينونة، فالذي بنى على الصخر لن يخزى بل يرتفع اسمه كمنتصر جاز اختبار الدينونة وتزكى من المسيح نفسه، أما الذي لم يتخذ المسيح له أساساً وبناء وتسليحاً وصيانة فيقول المسيح إنه يسقط وليس كمثل هذه الكلمة من خيبة أمل وضياع.
ولكن الحمد والسبح والشكر الله والمسيح الذي قال لنا هذا المثل الخطير حتى نتعلم كيف نبني على الصخر كعقلاء، وكيف لا تصاب بالهبل لنبني على الرمل. فالأمر واضح أمامنا وعلى مدى الأيام والدهور .
ومطلوب منا أن نعود إلى ما قاله المسيح كل يوم ونمتحن أنفسنا ونقيس أعمالنا وبناء حياتنا هل هو مطابق
لشروط البرج الصاعد إلى السماء بأمان وسند من المسيح والإنجيل، أم أننا نعبت على الرمل ونبني بيوتنا كما يلعب الأطفال على شاطئ البحر ، لتأتي الموجة وتمسح من على وجه الأرض ما بنيناه. والدرس الذي نخرج به من هذا التشبيه المحكم بالنسبة لأعمالنا وسلوكنا هو أن ملكوت السموات يبدأ من هنا والباب الضيق والطريق الكرب، والبناء بمقتضى تعاليم المسيح هي قضية السماء وقضية الساعة بأن واحد.
وملكوت السموات هو الذي يجعل لحياتنا هنا معنى وقيمة، وبدون وضع ملكوت السموات أمام أعيننا ليل نهار لا يعود لهذه الحياة التي نحياها معنى ولا قيمة. وبناء البيت على الصخر ليس في حقيقته النهائية عملاً هيناً، فهو خلاصة مواهب الإنسان التي اكتسبها من الله والإنجيل والوعظ والخدمة وحضور الصلوات، مضافاً إليها خبرة الآخرين وتوعية القديسين ومعونة الروح القدس الخفية. ولكن على مستوى اليوم والساعة هو عمل هين، فالبناء بعد الوصول إلى صخر الإيمان بالصلاة والسعي والبحث لا يعود أكثر من وضع حجر على حجر كل يوم، لا يشعر بثقلها الإنسان ولا يحمل لها هما ، فالمعونة تأتي من فوق لأن البناء يرتفع إلى فوق وفرحة الجهد المبذول من أجل الله والإنجيل تجعل الإنسان ينطلق في الطريق وهو يرثل ويمجد وكأنه يصعد على سلم السماء.
نهاية القسم الأول من خمسة أقسام الإنجيل
سبق أن قلنا إن القديس متى قسم إنجيله إلى خمسة أقسام على نمط خمسة أسفار موسى (انظر صفحة 108) وعلامة انتهاء كل قسم واحدة، وهي جملته المشهورة: ولما أكمل يسوع أقواله هذه» ويعتبر هذا القسم بمثابة سفر الخروج لوضع أساس العبور.
28:7 و 29 «فلما أَكْمَلَ يَسُوعُ هَذِهِ الأقْوَالَ بُهِتَتِ الْجُمُوعُ مِنْ تَعْلِيمِهِ، لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانُ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ».
الكلام هنا يختص بالعظة وما حوت من تعاليم إلهية أصبحت ناموس العهد الجديد بالروح، وكلها تعاليم للبناء وليس لمجرد المعرفة. فكل آية فيها تحمل قوة جذب إلى فوق. وقول الآية إن الجموع بهتت من تعاليم يسوع يوضح أنها ليست من هذا الدهر، ولا هي لمجرد الحياة في هذا الدهر فسر انبهار السامعين أنها تتجاوز معرفة الإنسان المحصورة في الحاضر الزمني لاستهلاك الجسد. فهي مصوبة للروح لإعطائها قدرة الارتفاع بالحياة فوق متطلبات هذا الزمان. فالعقل لا يُذهل بالأرضيات لأنها منه وهو منها، ولكن يُذهل بما هو فوق طبيعته، الأمر الذي يتحداه لقبول معارف جديدة هي لصميم الحياة الأبدية أعمال تعمل على الأرض ولكن لحساب حياة جديدة في السماء . كلام يستصعبه العقل ولكن تشتهيه الروح. وسلطان المسيح كان يحمل الكلام كمن يحقنه في الدم ليسري في جسد الإنسان ويصبح وكأنه من مكوناته لا يقف عند الأذن بل يتغلغل حتى أعماق القلب ليضيف إليه قوة بصيرة جديدة ليعرف بها كل الأمور المختصة بملكوت الله وحياة الدهر الآتي. وكأنما هو تنبيه ليكون مواطناً سماوياً. وأخيرا جدا وفي نهاية كل التعليم وكل أعمال المسيح عرفنا بنوع من السر الفائق أنه سيقدم نفسه ذبيحة من أجلنا وسوف يسقينا دمه وهكذا نعود على تعاليمه لندرك أنها كانت حياته يسقيها لنا في كلمات وآيات وأمثال وتعاليم.
تفسير إنجيل متى – 6 | إنجيل متى – 7 | تفسير إنجيل متى | تفسير العهد الجديد | تفسير إنجيل متى – 8 |
القمص متى المسكين | ||||
تفاسير إنجيل متى – 7 | تفاسير إنجيل متى | تفاسير العهد الجديد |