تفسير إنجيل متى أصحاح 9 للقمص متى المسكين
تمهيد
يتسم هذا الأصحاح بظهور أول المعارضات ضد المسيح. وقد بدأت من أول معجزة بعد عودته إلى كفرناحوم حينما أخذ عليه الكتبة قوله للمفلوج «مغفورة لك خطاياك» ثم لما جلس يأكل مع العشارين والخطاة، قال الفريسيون لماذا يأكل معلمكم مع العشارين والخطاة. وجاء إليه تلاميذ يوحنا يعترضون لماذا تلاميذك لا يصومون؟ ولما أخرج الشيطان الأخرس والأصم قال الفريسيون إنه برئيس الشياطين يُخرج الشياطين.
إبراء الرجل المفلوج 9: 1-9
1:9 و2 فدخل السَّفِينَة وَاجْتَازَ وَجَاءَ إلى مدينته. وإذا مفلوج يُقَدِّمُونَهُ إِلَيْهِ مَطْرُوحا على فراش. فلما رأى يَسُوعُ إيمَانَهُمْ قَالَ لِلمفلوج ثقْ يَا بُنَيَّ مَعْفُورَةً لَكَ خطاياك».
من حيث الترتيب الزمني بحسب ق. مرقس وق. لوقا، فإن حادثة شفاء المفلوج ودعوة لاوي (متى) للتلمذة تجيء في زمانها قبل العظة على الجبل. ولكن ق. متى، الذي هو لاوي”، وهو يكتب إنجيله أخر هذه المعجزة لتأتي مع المعجزات. فهو يهتم بالموضوع وليس بزمن الموضوع. ولكن كان ق. متى حريصاً للغاية أن لا يذكر قرينة زمنية هنا حتى لا يقع إنجيله في مناقضة. وكان ترتيبه لقصص المعجزات ينتخب الوسائل المتعددة في إجراء المعجزة فباللمس شفى الأبرص، ومن على بعد شفى عبد قائد المائة، وزجر الحمى فشفيت حماة سمعان، ثم أمر الرياح أمراً أن تهدأ فهدأت والأمواج الصاخبة فصمتت. وأمر الشياطين فانصاعت. ثم يجيء هنا في الأصحاح التاسع وبوسيلة لا تخطر على بال، يغفر الخطايا فيشفى المفلوج وهي قمة السلطان الإلهي. والمنظر أمامنا الآن منظر أخاذ، المسيح في بيت ما في بلدته وهي بلدة بطرس أيضاً ومتى، وقد يكون البيت أحد بيوتهم، اجتمعت المدينة وما حولها في هذا البيت وخارجه، وجاء كتبة وفريسيون وكان فريسيون ومعلمون للناموس جالسين وهم قد أتوا من كل قرية من الجليل واليهودية وأورشليم. وكانت قوة الرب لشفائهم (لو 17:5)، وللوقت اجتمع كثيرون حتى لم يعد يسع ولا ما حول الباب. فكان يخاطبهم بالكلمة (مر 2: 2). وبهذا المنظر يمكننا أن نفهم لماذا صعد حاملو المفلوج وهو طريح على فراشه ودلوه من السقف اختصر ق. متى هذا كله وأعطى صورة المريض مطروحاً محمولاً. ولكن كانت فرصة المسيح الفريدة أن يعطي هنا وسيلة شفاء المفلوج مما يتفق تماماً مع رسالته التي جاء من أجلها متجسّداً ، ومتفقة تماماً مع ما سيتم على الصليب. ذلك أمام هؤلاء العلماء والدكاترة في الناموس والتعليم اليهودي، وهو يعلم تماما ثمن ما يقول ! ولكنها كانت الفرصة العظمى أمامه لكي ينطق بغفران الخطايا، الأمر الذي لا يجوز إلا الله وحده ولكن ليعرف الجميع من هو قال مغفورة لك خطاياك ، فقام المريض المشلول والمعروف أن ليس لمرضه دواء أو شفاء !! فإن استكثروا على المسيح قولته بغفران الخطايا فلينظروا إلى المريض وقد استجاب للقول والمغفرة وقام معافى حاملاً فراشه يمشي وسط الجموع !!
أليس هذا درسا في اللاهوت لا يحتاج إلى شرح أو مثل أو قرينة؟
ثم أليس هذا برهان ميلاده من عذراء قديسة وهو ابن الله وقد تجسد ليرفع خطايا العالم ويقوم الإنسان المشلول وله خمسة آلاف سنة طريح الخطية ذليل الشيطان عبد الخوف من الموت والهلاك؟ ثم أليس هذا هو النسل الموعود لإبراهيم الذي ستتبارك به كل أمم الأرض؟
ولكن دكاترة الناموس وورثة العهد والوعد أبناء إبراهيم خرجوا وهم يتشاورون كيف يقتلونه!!
ثق يا بني Θάρσει, τέκνον
ترجمتها الصحيحة: تشجع يا ولدي أو تقو، فقد غفرت لك خطاياك”.
ليس من فراغ أيها القارئ العزيز يقول المسيح للمريض المشلول تشجع أو تقو، فمرض الشلل يُؤدي بالأمل والرجاء ويصيب الإنسان باليأس من حاله وحياته ويشعر بأنه صار عالة وعلة على قومه، ولم يعد له مكان أو مكانة إلا عند يسوع المسيح. فقد دخل إلى قلب الرب وشعر بالحياة والرجاء والأمل والعز والعزة والوجود والترحاب صار ولد المسيح المحبوب، ذلك كله قبل أن يغفر له خطاياه أما بعد الغفران فقد صار شريك حبه ومجده والمدعو إلى بيته الخاص وملكوته !! هذا درس لكل مريض مشلول فهو مهدى له من الرب تشجع وتقو يا ولدي ” تكفيه نعمته ويعزيه قربه وحبه، أما مغفرة الخطايا فقد نالها كل مشلول قبل مرضه وفي مرضه وبعد مرضه، لأن المسيح قد حمل أمراضنا قبل أن يحمل خطايانا. إنها دعوة عزاء لكل مريض استبد به المرض، وقيل من ورائه أو سمع بأذنه أن لا شفاء ولا دواء إلى هذا يقول الرب اليوم: تشجع يا ولدي وتقو، أنا لك أفضل من شفاء وأفضل من دواء !! أنت حبيبي وواحد من أهل بيتي تكفيك نعمتي. لقد حملت كل أسقامك ومرضك وعرفت ضيقتك ومررت في كل حزنك وأوصيت أن تكون أول الجالسين على مائدتي لا تحزن ولا تتألم من حالك، احزن على العالم وأهل العالم الأصحاء الذين أعطيتهم الصحة والمال والجمال وتركوني وأهانوا اسمي وصليبي. فتشجع أنت واحمل صليبك واتبعني بقلبك ولتكن عيناك مرفوعتين دائما نحوي لأسكب عليك من عزائي. اسجد لي بقلبك واركع أمامي بروحك وانتظر تكميل وعدي واحذر أن تعتقد أنه بسبب خطاياك أصبت بهذا المرض أو ذاك، أو لأن الله أراد أن يضربك ويذلك. حاشا للرب أن يجرب بالشرور. فإذا سألت ولماذا عمل في هكذا ؟ اسأله لماذا عملوا فيه هو هكذا، إذ يصفه إشعياء النبي محتقر ومخذول من الناس رجل أوجاع ومختبر الحزن … فلم . نعتد به … لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها ونحن حسبناه مُصاباً مضروباً من الله ومذلولاً !» (إش 53: 3 و4). فإن صرت مثله وحسبت نفسك مضروباً ومذلولاً فقد حسبك الله شريك آلام ابنه، شريك أحزانه وأوجاعه وذله. فافرح لأنك صرت شريك المسيح. فإن تألمنا معه تمجدنا معه (رو 17:8)!!
«مغفورة لك خطاياك»:
قبل الصليب؟ نعم قبل الصليب !! لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطاناً على الأرض أن يغفر الخطايا مت (6:9). فالذي قدم جسده مكسوراً ودمه مسفوكاً قبل الصليب على مائدة عشائه السري، له سلطان أن يغفر الخطايا ويهب العطايا، قبل الصليب وبَعْدَه.
8-3:9 «وإذا قَوْمٌ مِنَ الكتبة قد قالوا في أنفسهم: هذا يُجَدِّفُ فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ، فقال: لِمَاذَا تُفَكَّرُونَ بِالشَّرِّ فِي قُلُوبِكُمْ؟ أَيُّمَا أَيْسَرُ، أَنْ يُقَالَ: مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أمْ أنْ يُقال : قَمْ وَامْش؟ ولكنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ الإِنْسَانِ سُلطاناً على الأرْض أَنْ يَغْفِرَ الخَطايا. حِينَئِذٍ قَالَ لِلمفلوج : قم احْمِلْ فِرَاشِكَ وَاذْهَبْ إلى بَيْتِكَ! فقامَ وَمَضَى إِلَى بَيْتِهِ. فَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعُ تَعَجَّبُوا وَمَجَدُوا اللَّهَ الَّذِي أعطى النَّاسَ سُلْطَانًا مِثْلَ هذا».
يجدف
يُحسب الكلام تجديفاً على الله في ثلاث حالات:
( أ ) نسبة أشياء غير لائقة إلى الله.
(ب) أشياء خاصة بالله تنكر عليه.
( ج ) حينما تنسب صفات الله الخاصة إلى شخص آخر، إنساناً كان أو نبيا.
هؤلاء الكتبة معذورون، فحقا بالحقيقة لا يستطيع أحد أن يغفر الخطايا إلا الله وحده، ولكن بعد أن قال المسيح للمفلوج بالمقابل قم احمل فراشك واذهب إلى بيتك وقام وحمل فراشه وسار بينهم عياناً بيانا برجليه ويديه المشلولة، فلم يعد لهم حق في الشك في لاهوته أبداً. فالقول بالغفران سبيل لإعطاء الصحة، فإن أعطى المسيح الصحة والعافية لمشلول لا يتحرك، فالقول مطابق للعمل. وهنا نجيء إلى منطق المسيح فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال» (يو 38:10)!! فإن لم تؤمنوا بالقول ولم تؤمنوا بالعمل فقد حكمتم على أنفسكم بالتجديف !!
لذلك فإن معجزة غفران خطية المشلول وقيامه وحمله لسريره وسيره صحيحاً معافى إلى بيته هي حقا معجزة اللاهوت هي المسيا ظاهراً وعاملاً ومبرهنا على وجوده وعصره وعمله.
والآن مع القارئ العزيز نتأمل معاً : ماذا صنع ذلك المشلول ليستحق غفران الخطايا والشفاء بالكلمة، ثم ماذا عن كل المشلولين وكل المصابين بكل مرض عضال، ماذا عليهم أن يعملوا لتغفر خطاياهم بالمثل ويُعطوا الشفاء بالمقابل. وأمامنا المشلول لم يُطلب منه حتى الإيمان، إذ استبدله المسيح بهذه الجرأة التي قدمه بها أصحابه من فوق السقف والمفروض أن لا يسأل من لا قدرة له على الجواب، ففي معظم حالات الشلل لا يتكلم المريض بل ويفهم بصعوبة.
والآن نحن أمام قضية من أخطر قضايا الإنسان، والله الذي أرسل ابنه الوحيد ليشفي هذا المشلول لم يرسله لمريض في إسرائيل، بل أرسله لإنسان العالم المريض والمشلول فيما يخص علاقته الصحيحة بالله. والمسيح الذي قال للمريض: «مغفورة لك خطاياك قالها على الصليب لكل إنسان له أذن تسمع وقلب يصدق. فمن قبل المسيح وجاءه مثل ذلك المريض فقد نال حقه من مغفرة الخطايا بكل يقين نعرفه من جهة الإيمان وصدق مواعيد الله. أما من جهة أمراض البشرية وشفائها فلا نقول إنها تشفى أو شفيت بل ألغيت مع الخطية والموت. فالمريض الآن في المسيح يسوع هو مريض جسد فقط ولكنه صحيح روح، وآلامه محصورة في الجسد فقط ولا ينبغي أن تخرج عن مضمون ألم الجسد. وآلام الجسد شاركنا فيها المسيح، فالذي يتألم بالجسد وهو في المسيح فهو شريك آلام الرب، وبالتالي كما قال بولس الرسول فنحن لا نتألم وحدنا بل نتألم معه، لا كغرامة عن شيء، بل كرامة مع الذي تألم لنتمجد ونكون شركاء آلامه ومجده معاً. فالمريض في المسيح يسوع المتألم بالجسد هو أسمى في الرتبة والقيمة من الصحيح في المسيح يسوع غير المتألم بالجسد.
فالمريض إن كان في الرب يتألم وهو في الرب يصلي ويشكر ويسبح ولو بالقلب، فهذا قد صار “قدساً” في البيت، يتبارك منه أهل البيت ويقبلون يده كل يوم لأنه شريك آلام المسيح ومجده.
دعوة القديس متى صاحب الإنجيل 9: 9-13
تأتي دعوة ق. متى في الثلاثة أناجيل بعد شفاء المفلوج مباشرة وفي نفس المكان في كفرناحوم ومن نفس الموقع مكان الجباية. وقد قدمنا كل ما يختص بهذا القديس الإنجيلي في مقدمة شرح الإنجيل
9:9 «وَفِيمَا يَسُوعُ مُجْتَارٌ مِنْ هُنَاكَ رَأَى إِنْسَاناً جَالِسًا عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ، اسْمُهُ مَتَّى. فقالَ لَهُ: اتَّبَعْنِي. فَقَامَ وَتَبِعَهُ».
بحسب إنجيل ق. مرقس كان هذا المكان الذي للجباية عند البحر. وفي هذا المعنى تتحدد عملية الجباية المذكورة أنها كانت الضرائب المفروضة على البضائع القادمة من سوريا عن طريق البحيرة في مراكب ومرسلة إلى الغرب عبر البحر الأبيض المتوسط، لأن هناك سكة رسمية إمبراطورية تربط كفرناحوم بالطريق العام التجاري الخاص بين سوريا ومصر. وهذه الضرائب كانت مصدر الدخل لحكام المنطقة ولروما أيضاً بنسبة ليست صغيرة.
ويقول ق. لوقا إنه بمجرد قبول متى دعوة المسيح فترك كل شيء وقام وتبعه (لو 28:5). وواضح أنه بسبب أن ق. متى من نفس بلد المسيح كانت هناك علاقات سابقة على الدعوة أقنعت المسيح بصلاحية ق. متى كتلميذ ليكون من الاثني عشر بالرغم من وظيفته، لأنه كما تيقن للعلماء أنه كان “رابي دارساً للتوراة والأنبياء والمزامير ويُقال إن اللاويين فقدوا مكانهم في الهيكل بسبب طغيان عائلة الصدوقيين الذين احتلوها بالمناصب الكهنوتية للانتفاع العلني، فما كان من اللاويين الأتقياء إلا أن يعملوا ليأكلوا من عرق جبينهم لذلك كان ق. متى من أوائل الذين جمعوا أقوال الرب ودرسوها على أصولها النبوية الأولى، وانشغل من أول يوم بكتابة إنجيله الذي ظهر بصورته العبرية أو الأرامية مبكراً جداً. وواضح أنه بسبب تقوى هذا اللاوي (الكهنوتي) اكتسبت المجموعة اتجاهاً مماثلاً، فكان من يومه الأول متحفظا يقيس كل أعمال الرب على التوراة والأنبياء. وبمضي الزمن طغى اسم متى على اسم لاوي الذي عرف به أولاً.
واسم متى يعني عطية الله” وهو المقابل العبري لاسم دوروثيئوس اليوناني. ومعروف أن الذي يعمل في الضرائب – وخاصة فيما يخص ضرائب الترانزيت التي تصدر إلى الخارج – كان يلزم أن يكون ضليعاً في اللغات واللهجات. لذلك كانت هذه المميزات مدبرة من الله لحساب الإنجيل. ولهذا اشتغل من أول يوم بتقييد كلمات المسيح وأقواله وجمعها معاً فيما يشبه الكتاب وقد أسماه بابياس: اللوجيا. وظنها العلماء أنها تعني مجرد كلمات. ولكن اكتشف أن الاسم هو الإنجيل في صورته العبرية الأولى. ومن إنجيله يحس الباحث والقارئ أنه شخص متواضع أنكر ذاته كلية. فلم يذكر عن نفسه شيئاً بعكس .ق. لوقا الذي يكشف عن شخصيته دون تعمد. فالقديس متى لم يدع نورا ولو ضئيلاً أن يظهر بجوار النور الذي أشرق في الظلمة على الجالسين في كورة الموت. ومن أول يوم في تلمذته يأخذ صفة المحبة والبذل والانفتاح على الجميع، فقد صنع في يوم التحاقه بالاثني عشر وليمة كبيرة في بيته.
10:9 وَبَيْنَمَا هُوَ مُتَّكِيٌّ فِي الْبَيْتِ، إِذا عَمَّارُونَ وَخُطاهُ كَثِيرُونَ قَدْ جَاءُوا وَاتَّكَلُوا مَعَ يسوع وتلاميذه».
كانت هذه وليمة وداع الوظيفة وزملاء العمل الذين حضروا جميعاً ليباركوا له دعوته واختيار الله له، مما يدل على أنه كان محبوباً ومحترماً بين زملائه ورؤسائه ومرؤوسيه. وهكذا جذبت الوليمة حتى الخطاة بمعنى الزناة أيضاً، لأن هؤلاء عرفوا مدى ترحاب المسيح لهم. فمجيئهم كان شهادة كرامة ومحبة شخصية للمسيح من الطبقات الدنيا المرفوضة التي كانت تتهافت على الحضور والسماع له، لأن روح التوبة كانت تسري في الشعب إثر عملية كرازة المعمدان. وقد عُرف أخيراً وبتأكيد أن المسيح جاء من أجل هؤلاء الخطاة والعشارين والبؤساء الذين يطلبون الحياة.
منظر عجيب ومذهل، الرب القدوس جالس وسط زمرة من العشارين والخطاة والزناة يكسر الخبز ويمرر كأس حبه المشهور على محبيه الجالسين حوله في ألفة ومسرة ودالة وعشق منقطع النظير. منظر يثير أعصاب كل الناقدين والناقمين ومدَّعي النسك والقداسة والتعقف. ولكن مجلس المسيح هنا لا يقوى عليه أي جالس مهما علا صيته وعلت ديموقراطيته وتقربه من الفقراء وادعاؤه حب المساكين، فهنا لا يجلس إلا الإله خالق الجبلة الساقطة الذي جاء ليأخذ نجاستها في جسده ويعيد أجسادها لها جديدة مجددة ومقدسة!
هذا هو يوم الأنبياء جميعاً ويوم مسيا والبشرية التي فقدت رجاءها في حياة مع الله !! … هنا مسيح الله الذي مسحه بالروح القدس ليبشر المساكين برضى الله وحبه مرسلاً بيد ابنه وحيده. هذه هي مائدة المسيا صورة أصلية لمائدة الملكوت في صورتها الأولى ونواتها التي انبثقت منها على الأرض.
13-11:9 «فلما نظر الفريسيونَ قالُوا لِتَلَامِيذِهِ: لِمَاذَا يَأْكُلُ مُعَلِّمُكُمْ مَعَ الْعَشَارِينَ وَالْخُطَاةِ؟ فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ لَهُمْ: لا يَحتاجُ الأَصْحَاءُ إلى طبيب بل الْمَرْضَى فَاذْهَبُوا وَتَعَلَّمُوا مَا هُوَ إِنِّي أريدُ رَحْمَة لا ذبيحة، لأنّي لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةَ إِلَى التَّوْبَةِ».
هنا يرتفع المسيح بالوسط المنحط، ولا ينحط إلى الوسط المنحط الله لا يتسخ بوساخة الإنسان ولكن الإنسان والوسخ يتقدس بحضرة الله المسيح يرتفع بالمريض إلى مستوى الصحة ، هذا واضح لكل عين لم يُصبها العمى، ولكل أذن لم تنسد عن سماع تمجيد الله من أفواه المشلولين والعمي والذين كان بهم شياطين المسيح يرتفع بالخاطئ إلى عدم الخطية. كان هذا أمام أعينهم حيث أن عدم الخطية هي الصحة منتهى الصحة بعينها، البار عند نفسه ليس له عند المسيح مكان ولا مكانة لأنه اكتفى بنفسه من دون الله. أما البار الحقيقي فهو في حضرة المسيح خاطئ بالحق يطلب الغفران. لذلك يقول المسيح لم أت لأجل أبرار لا يطلبون الغفران والصحة، بل من أجل خطاة يطلبون بر الله لتغفر خطاياهم ويصيروا أصحاء، أصحاء في كل شيء. أنا طبيب البشرية التي وقعت في أيدي اللصوص فنهبوها وعروها وتركوها بين حي وميت البشرية تصرخ تطلب رحمة، فعهد القرابين والذبائح ولى، فما أفادت القرابين والذبائح شيئاً. والرحمة التي أنا أقدمها، أقدمها من دمي ومن لحمي، فأنا أشتري البشرية الله بثمن وعلى صليبي أدفع المقدم والمؤخر.
أريد رحمة لا ذبيحة
+ «إني أريد رحمة لا ذبيحة ومعرفة الله أكثر من محرقات.» (هو (6:6)
+ «بغضت كرهت أعيادكم ولست التد باعتكافاتكم. إني إذا قدمتم لي محرقاتكم وتقدماتكم لا أرتضي وذبائح السلامة من مسمناتكم لا ألتفت إليها. أبعد عني ضجة أغانيك ونغمة ربابك لا أسمع .» (ع)
+« قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح وماذا يطلبه منك الرب إلا أن تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعاً مع إلهك .» (مي 8:6)
لقد أظهر المسيح بجلوسه وسط هؤلاء الخطاة والزواني والعشارين الرحمة في أجمل وأعظم معناها وفعلها، لأنه أعاد إلى نفوسهم إحساسهم بقربهم من الله، وارتفعت أرواحهم ومعنوياتهم. وانظروا كيف أنه من تأثر زكا بقبول المسيح له قدم التوبة مضاعفة وعهداً قطعه على نفسه أن يصنع الصالح ويرد الأضعاف عن ما أخطأ. هكذا كل نفس ذليلة أحست بالمسيح حتى اليوم، فالمسيح أبو الرحمة وصانعها للبشرية جمعاء. وبالرحمة صنع من البشرية الذليلة أصدقاء الله والصدق والحق والألفة والحب. إنهم بخبث عيروا التلاميذ بمعلمهم الذي يؤاكل العشارين والخطاة كما عيروا الأعمى: أنت تلميذ ذاك وأما نحن فإننا تلاميذ موسى (يو 28:9). ولكن واحسرتاه فموسى معلمهم ترك لهم قراره الأخير فيما كانوا عليه وفيما سيكونون مخزوناً في مخازنه
+ «إنهم أمة عديمة الرأي ولا بصيرة فيهم. لو عقلوا لفطنوا بهذه وتأملوا آخرتهم …. لولا أن صخرهم باعهم والرب سلمهم …. لأن من جفنة سدوم جفئتهم (كرمهم) ومن كروم عمورة. عنبهم عنب سم ولهم عناقيد مرارة خمرهم حمة الثعابين وسم الأصلال القاتل. أليس ذلك مكنوزاً عندي مختوماً عليه في خزائني » (تث 32: 28-34)
السؤال عن الصوم [14:9-17]
14:9 و15 «حِينَئِذٍ أَتَى إِلَيْهِ تَلَامِيدُ يُوحَنَّا قَائِلِينَ: لِمَاذَا نَصُومُ نَحْنُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ كَثِيراً، وأما تلاميذك فلا يَصُومُونَ؟ فقال لَهُمْ يَسُوعُ: هَلْ يَسْتَطِيعُ بَنُو العُرسِ أَنْ ينوحوا مَا دَامَ العَريسُ مَعَهُمْ ؟ ولكن ستأتي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فحِينَئِذٍ يَصُومُونَ».
أثارت وليمة متى العشار في ذلك الوقت نقمة المتزمتين من تلاميذ الفريسيين ويوحنا المعمدان الذين فرضوا على أنفسهم أصواماً كثيرة وتنسكات تشبها بجماعة الأسينيين المتعبدين. وكانت هذه بشبه صحوة كاذبة للتعلق بالتقوى الشكلية والأصوام الجسدية في مقابل حالة الانحلال والخطية التي عَمَّتْ الشعب. فكان رد المسيح أن تلاميذي يُعيدون الآن في أيامي عيد العهد الجديد، عرس الله والكنيسة، أبهج أيام شقاوة الإنسان على الأرض، أيام تنسم الله رائحة رضى ارتفعت من الأرض لأول مرة بعد سقوط آدم. فالابن الوحيد المحبوب نزل ليخطب من البشرية عذراء عفيفة الله يأخذها لنفسه لتقف أمامه لتسبحه في بر الابن الوحيد بلا لوم في قداسة المحبة، وتمدح مجد نعمته التي أنعم بها أخيراً على البشرية الحزينة. فهذه أيام فرح لا يحل فيها حزن الصوم ولا نوح على خطية، ولكن عندما يرتفع العريس تصوم الكنيسة تذكاراً لأيام فرحها وتهليلاً لخلاصها:
+ «لأنه كما يتزوج الشاب عذراء يتزوجك بنوك وكفرح العريس بالعروس يفرح بك إلهك.» (إش 5:62)
والمسيح يصوّر أيامه بعيد ممتد، أو حفلة عرس ذات بهجة وأفراح، والصوم والنوح لا يناسب وجوده بل غيابه.
16:9 و17 «لَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ رُفِعَةٌ مِنْ قِطْعَةٍ جَدِيدَةٍ على ثوب عتيق، لأَنَّ الْمِلْءَ يَأْخُدُ مِنَ الثوْبِ، فَيَصِيرُ الحَرْقُ أَرْداً. ولا يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً في زقاق عتيقة، لِئَلا تَنْشَقُ الزقَاقُ، فَالْخَمْرُ تَنْصَبُ وَالزَّقَاقُ تَتْلَفُ بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْرًا جَدِيدَةً فِي زقاق جَدِيدَةٍ فَتُحفظ جَمِيعاً».
واضح أن المثل الأول والثاني لهما هدف واحد، ولكن لنتفهمها أولاً ، فالثوب العتيق نسيجه ضعيف، والرقعة الجديدة نسيجها جديد قوي، فبالاستخدام لا يحتمل القديم ما يحتمله الجديد وهكذا يصير تفاوت في الاحتمال ينتج عنه تمزق. أما الزقاق وهي قربة يوضع فيها الماء أو الخمر قديماً، وهي من جلد الماعز أو الغنم، تدبغ جيداً ويوضع فيها الماء أو الخمر . فالزقاق العتيقة جلدها ضعيف، فإذا وضعنا فيها خمراً جديدة – والخمر الجديدة تحتاج إلى وعاء يحتمل تخمرها وزيادتها في الحجم – ينشق الجلد من التمدد. والمثلان يوضحان أن التعليم القديم – للكتبة والفريسيين، كما أوضحه المسيح في العظة على الجبل كان يحتاج إلى تداريب وضبط وصوم متواصل وجهد جسدي لتكميل الوصايا، لأن نعمة الخلاص المجاني لم تكن قد وهبت للإنسان، فكان الاعتماد الكلي على مدى تدريب الإنسان على إخضاع حواسه وشهواته وطبيعته الجامحة للتوافق مع الوصايا.
أما العهد الجديد – المسيح والتلاميذ – خاصة بعد أن اتضح عمله بعد القيامة وحلول الروح القدس، فيعتمد على الإيمان والنعمة وليس على جهد الإنسان. وهذا هو تعليم العهد الجديد، لا يتوافق مع الأعمال الحزينة ووسائل تعذيب النفس القديمة، بل يحتاج إلى فكر وقلب وضمير جديد يستطيع أن ينبذ الوسائل القديمة ويعيش بالروح معتمداً على الإيمان والنعمة والمقارنة هنا ليست بين الخمر القديمة والجديدة، بل بين الوعاء القديم والوعاء الجديد. فالقديم اعتاد على وضع كان يناسبه، فلكي يقبل الوضع الجديد يلزم تغيير الوعاء الفكري والجسدي. وهنا الكلام منصب على تعيير الكتبة للتلاميذ أن معلمهم يأكل مع العشارين والخطاة وأنهم لا يصومون . هنا زقاق جديدة والخمر جديدة، وعقول الكتبة خمر قديمة في زقاق قديم الفارق الضخم هنا مستور وهو التعليم وهدف التدين. أما التعليم فالقديم يقول إن ليس على رجال الدين أن يعاشروا الخطاة والزناة لأنهم جنس مرفوض محكوم عليه بالموت، لأنهم يخطئون بإرادتهم، وكل خطية بالإرادة الحرة ليس لها ذبيحة وعلاجها الرجم.
هنا المسيح جاء خصيصاً كمعلم وفاد للخطاة والزناة والمرفوضين المحكوم عليهم بالرفض والقتل، بمعنى جاء ليعالج خطية العمد التي ليس لها ذبيحة المحكوم على فاعلها بالقتل المحتم بالناموس. وهو يعلمهم أولاً لكي يكون لهم ثقة وشجاعة ومحبة الله قبل أن يقدم نفسه ذبيحة للآب من أجل خطاياهم. فالتعليم منبثق من ذبيحة فدية سيقدمها من أجلهم ليربحهم قديسين وبلا لوم في المحبة. هذا أمر مرفوض 100% من جهة الكتبة والفريسيين والكهنة أصحاب التعليم القديم وأصحاب الذبائح القديمة، إلا إذا احتسب الكاتب والفريسي والكاهن نفسه أنه خاطئ ومستوجب الموت، لأنه يفعل أفعال العشارين والزواني إنما في السر بعيداً عن يد الناموس وهذا هو نفسه روح العظة على الجبل: قيل لكم في القديم (والكلام هنا موجه ضمناً للكتبة والفريسيين واللاويين عموما) أن القتل يوجب القتل، أما أنا يسوع المسيح العهد الجديد فأقول لكم إن مَنْ غضب على أخيه باطلا يكون مستوجب (نفس) الحكم. إذن، نفس الحكم يقع على الكتبة والفريسيين والكهنة واللاويين جميعاً هنا أصبح انتقاد أقوال المسيح وأعماله يشكل فضيحة لحقيقة الفكر القديم.
إقامة ابنة رئيس من الموت وشفاء امرأة نازفة دم 9: 18-26
تأتي هذه الحادثة المزدوجة بعد حديث المسيح الذي عقب به على ناقدي حضوره وليمة العشاء مع العشارين، ونقد تلاميذ المعمدان بخصوص عدم صوم التلاميذ . والقديس متى يضم هاتين المعجزتين لبقية الحديث عن المعجزات.
18:9 «وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُهُمْ بهذا إذا رَئِيسٌ قَدْ جَاءَ فَسَجَدَ لَهُ قَائِلاً: إِنَّ ابْنَتِي الْآنَ مَاتَتْ لكِنْ تَعَالَ وَضَعْ يَدَكَ عَلَيْهَا فَتَحْيَا».
لا يذكر القديس متى هنا اسم هذا الرئيس، ربما تحاشياً لإحراج السيناجوج، فهو عضو كبير في هيئة خدام المجمع المسئولين، واسمه يذكره .ق. مرقس وق. لوقا وإذا واحد من رؤساء المجمع اسمه ” يايرس” جاء ولما رآه خرَّ عند قدميه وطلب إليه كثيراً قائلاً ابنتي الصغيرة على آخر نسمة، ليتك تأتي وتضع يدك عليها لتشفى فتحيا (مر 22:5 و 23). يُلاحظ هنا أن ق. متى لم يخف حقيقة طلب الرئيس يايرس بل قالها على المكشوف إنها ماتت، والطلب قدمه رسميا ليقيمها من الموت. ولأن هذا حدث مباشرة بعد الوليمة والوليمة كانت في كفرناحوم، فرئيس المجمع هذا هو لمجمع كفرناحوم حيث كان يذهب المسيح ويعظ، وكانت معجزات كثيرة تعمل هناك. وق. متى يختصر الكلام هنا للغاية، فهاتان المعجزتان ذكرها .ق. لوقا في 17 آية وق. مرقس في 23 آية، أما ق. متى فاكتفى بتسع آيات !! والكل استرعاهم سجود رئيس المجمع عند قدمي يسوع المسيح، وهذا أيضاً لا يسترعي انتباهنا بل يجعلنا نتقياً هذا الرياء، إذ في المجمع كم مرة يصادرون المسيح في تعليمه خاصة في الشفاء يوم السبت، وهنا يخر ويسجد للمسيح كالله ؟! هذا أمر يحير العقل في أمر هؤلاء الرؤساء الذين تسببوا في هلاك أمة عن غير حق إرضاءً لريائهم الديني القاتل!
والسؤال هنا ليايرس الرئيس: أما كان المسيح قادراً أن يضع يده على الأمة فتقوم من نزعها الأخير وتحيا وتعيش وتصير هي نوراً للأمم؟
والفارق بين رواية ق. مرقس وق. لوقا ورواية ق. متى هنا هو أنه في الإنجيلين السالفين قيل للمسيح أن يضع يده عليها فتشفى، أما هنا يضع يده عليها فتقوم من الموت، وهذا راجع إلى أن البنت ماتت والمسيح في الطريق إلى بيت هذا الرئيس، فيبدو أنه لم ييأس بل طلب طلبه الثاني هذا عن إيمان وتقدير فائق الحد.
22-19:9 «فقامَ يَسُوعُ وَتَبعَهُ هُوَ وَتَلَامِيدُهُ. وَإِذا امْرَأَةً نازفة دَم مُنْدُ اثْنَتَيْ عَشْرَة سنة قدْ جَاءَتْ مِنْ وَرَائِهِ وَمَسَّتْ هُدْبَ ثوبه، لأنها قالت فِي نَفْسِهَا: إِنْ مَسَسْتُ ثوْبَهُ فقط شُفِيتُ. فالتفت يَسُوعُ وَأَبْصَرَهَا، فقالَ: ثِقِي يَا ابْنَهُ إِيْمَانُكِ قَدْ شفاك. فَشُفِيَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ».
فقام
قد يبدو أن المسيح كان جالساً ولكن هذا لا يثبته الحال، فالمسيح قام من بيت .ق. متى عن العزومة”، وفي طريقه قابله تلاميذ المعمدان، وهو إذ ما يزال يتحدث معهم جاء هذا الرئيس يايرس، فمن أين قام؟ هنا يقترح العالم هندركسن – وهو على حق – أن كلمة ” قام ” هنا لا تعني أنه كان جالساً بل «قام معه» بمعنى أسرع في الحال ليتجه معه نحو البيت. هذه الحركة يصورها .ق. مرقس بحذق «فسمع يسوع لوقته الكلمة التي قيلت فقال لرئيس المجمع لا تخف آمن فقط»( مر 36:5). وهنا يضيف ق. مرقس أمراً أنه ليس جميع التلاميذ تبعوه بل انتقى منهم بالتعيين ولم يدع أحداً يتبعه إلا بطرس ويعقوب ويوحنا أخاً يعقوب (مر 37:5). وهنا لا تفوتنا هذه اللفتة، فقد لاحظنا أن المسيح عندما كان ينوي على أمر جلل، فهو لا يدع الكل يتبعه، وحتى تلاميذه يعينهم ولا يأخذ معه إلا هؤلاء الثلاثة، ووضح هذا الأمر جداً في حادثة التجلي مما جعل ق. بطرس يفتخر بقوة لأننا لم نتبع خرافات مصنعة إذ عرفناكم بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئه، بل قد كنا معاينين عظمته، لأنه أخذ من الله الآب كرامة ومجداً ، إذ أقبل عليه صوت كهذا من المجد الأسنى هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سررت به ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلاً من السماء إذ كنا معه في الجبل المقدس» (2بط 1: 16-18). كذلك اختار المسيح يوم آلامه هؤلاء الثلاثة لكي كما شاهدوا مجده يشاهدون سحق نفسه أمام الآب في الصلاة والعرق يتصبب قطرات دم شاهدوها وشهدوا.
ولكن والجمع سائر نحو بيت يايرس إذ فجأة يتوقف المسيح، وحسب إنجيل ق. مرقس يتلقت حوله ويقول: قوة قد خرجت مني. وهنا تظهر الامرأة بطلة الإيمان بلمس الثوب تعترف بحسب إنجيل ق. مرقس « فللوقت التفت يسوع بين الجمع شاعراً في نفسه بالقوة التي خرجت منه فقال من لمس ثيابي؟ فقال له تلاميذه أنت تنظر الجمع يزحمك وتقول من لمسني؟ وكان ينظر حوله ليرى التي فعلت هذا، وأما المرأة فجاءت وهي خائفة ومرتعدة عالمة بما حصل لها فخرت وقالت له الحق كله فقال لها …» (مر 5 30-34).
أما ق. متى فيستمر مختصراً الكلام فالتفت يسوع وأبصرها فقال: ثقي يا ابنة إيمانك قد شفاك. فشفيت المرأة من تلك الساعة أي بحسب تحقيق قول المرأة أنها شفيت لحظة أن مست ثوب المسيح! إنها بطلة من أبطال الإيمان الهادئ الصامت الحاسم.
أما المسيح في هذا الحادث المفاجئ الذي قطع عليه المسير، فهو إله المفاجات، لا يراجع ولا يعاتب بل يلاطف ويقف، وكأنه كان سائراً لحساب نازفة الدم وليس لرئيس وابنة في نزع الموت ويحتاج إلى إسراع ولو إلى ثانية واحدة، وهذه أوقفته لحسابها، وكان سروراً لنفسه ومزيداً من عمله وحبه، وودعها وكأن ليس وراءه بعدها من شيء ! أليس هو القائل فوق كل الحوادث والآيات والعظات: تعالوا إلي يا جميع المتعبين والتقيلي الأحمال وأنا أريحكم (مت (28:11) وليس مفاضلة بين نازفة حياة ونازفة دم، فالأسبق أولى بالحياة !!
ولكن ولأن المرأة أفصحت عن مرضها وصار معلوماً، ولو أن ق . متى لا يريد أن يدخل بنا إلى التفاصيل، ولكن دخل إليها كل من القديس مرقس وق. لوقا. وهكذا فتحا الباب لنا لكي ندخل ونحكي عن هذه المرأة ونزيفها. فكما قلنا هو نزيف دم يؤدّي إلى نزف حياة، فتوجد أصناف من علله ليس لها شفاء كما حقق ق . مرقس وقد تألمت كثيراً من أطباء كثيرين وأنفقت كل ما عندها ولم تنتفع شيئاً بل صارت إلى حال أردأ (مر 26:5) ، ويُؤمِّن على هذا .ق. لوقا ويعمل تحفظا لسمعة الأطباء التي شهر بهاق. مرقس فقال إنها هي وليس الأطباء لم تقدر أن تشفى (لو43:8)، على أي حال صرفت ما عندها ولم تشف. وهذا النزيف ولو أننا نخرج قليلاً عن تخصصنا إلا أنه ينبغي للقارئ أن يعرف أنه أحيانا كثيرة لا يُشفى ويكون نزيفاً مستمراً لا يتوقف فينزل المريض إلى حالة سوء تذهب بعافيته، ويفقد القدرة على مواصلة الجهاد، فلا يقوى على شيء ولا على الوقوف، لا تستطيع أن تذهب إلى مجمع ولا أن تسلم على الناس. ولكن فوق كل هذا إحساس بالموت يسري في كيانها. فأحياناً يكون سبب النزف هو سرطان، أو هو سيولة في الدم. هنا يصبح الذي عمله المسيح معها، أو التي فعلته سرا بلمس ثوبه، نوعاً من حياة جديدة تسربت إلى جسدها الناحل الهزيل ليجري دمها في عروقها من جديد، صبية لها كل ما للنساء من إمكانيات. إنها معجزة حياة من بعد موت. وجيد أن يجعلها ق. متى مع الصبية الأخرى التي ماتت ويطلبون لها الحياة.
26-23:9 «وَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ الرَّئيس، ونظرَ الْمُزَمرِينَ وَالْجَمْعَ يَضِجُّونَ، قَالَ لَهُمْ: تَنحَوْا ، فإنَّ الصَّبيَّة لَمْ تَمُتْ لَكِنَّهَا نَائِمَةٌ. فَضَحِكُوا عَلَيْهِ. فَلَمَّا أُخْرِجَ الْجَمْعُ دَخَلَ وَأَمْسَكَ بِيَدِهَا، فَقامَتِ الصَّبيَّة. فخَرَجَ ذَلِكَ الْخَبَرُ إِلَى تِلْكَ الْأَرْضِ كُلَّهَا».
حفلة جنازة موسيقية، أخذها اليهود عن المصريين القدماء، ولكن ما كان المصريون يودعون به الروح إلى مقرها بالموسيقى والأناشيد الحزينة، أخذ عنهم اليهود الموسيقى وكلمات الرثاء لاستدرار البكاء والعويل بواسطة ندابات تخصصن في إثارة عواطف الحزن والنحيب وطبعاً لأن المصاب لرئيس ديني فكل طغمة المجمع وخدامه اجتمعوا . وكما وصفها ق متى «مزمرين والجمع يضجون» هؤلاء بادرهم المسيح أن يتوقفوا ويتركوا المكان وأعطاهم السبب الذي سخروا منه إنه ليس موتاً بعد حتى تقيموا أعمال الموت، فالابنة مجرد نائمة هذه هي رؤية المسيح التي حققها بالفعل، فهنا لم يكن للموت كلمته الأخيرة والرب موجود.
فلما خرج الجميع، دخل المسيح مع أبويها وتلاميذه الثلاثة، وهنا يعطينا ق. مرقس وصفاً أقرب «وأخذ أبا الصبية وأمها والذين معه ودخل حيث كانت الصبية مضطجعة. وأمسك بيد الصبية وقال لها: طليثا قومي الذي تفسيره يا صبية لك أقول قومي. وللوقت قامت الصبية ومشت لأنها كانت ابنة اثنتي عشرة سنة. فبهتوا بهتا عظيما» (مر :5 40-42). ولكن .ق. متى اختصرها على أنها معجزة إقامة من الموت بقوة وتحديد «فقامت الصبية»
وطبعاً معروف المرات والمواضع التي تمت فيها قيامة حقيقية من الموت في إنجيل ق. متى قيامة المسيح (6:28)، والقديسون الذين قاموا من القبور لحظة موت المسيح (52:27 و 53)، والموتى الذين أقامهم المسيح أمام تلميذي يوحنا المعمدان والموتى يقومون (مت 5:11). لكن ق. متى لم يذكر قيامة لعازر من الموت كما لم يذكر إقامة ابن أرملة نايين (لو 7 11-17).
وبهذه المعجزة التي تمت بالقيامة من الموت يكون ق. متى قد بلغ قمة حديثة عن معجزات المسيح في هذا الجزء من إنجيله، حيث أظهر يسوع قادراً أن يقيم من الأموات
غير أنه أضاف في نهاية هذا الأصحاح معجزتين أخرتين:
أعميان على الطريق [27:9-31]
31-27:9 «وَفِيمَا يَسُوعُ مُجْتَارٌ مِنْ هُناكَ تَبِعَهُ أَعْمَيانِ يَصْرَخَانِ وَيَقُولان: ارْحَمْنَا يَا ابْنَ دَاوُدَ وَلَمَّا جَاءَ إِلَى البَيْتِ تقدم إلَيْهِ الأَعْمَيان، فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: أتُؤمنان أنّى أقدر أن أفعل هذا؟ قالا له : نعم يا سَيِّدُ حِينَئِذٍ لَمَسَ أَعْيُنَهُمَا قائلاً: بحسب إيمَانِكُما ليكن لكما. فانفتحت أعينهما. فَانْتَهَرَهُمَا يَسُوعُ قائلا: انظرا ، لا يعلم أحد ولكنهما خرجا وأشاعاه في تِلْكَ الْأَرْضِ كُلها».
كان شفاء هذين الأعميين من حصيلة ذلك اليوم المملوء بالآيات، بالإضافة إلى أخرس آخر ربطه الشيطان. وقد تربص الأعميان خلف بيت رئيس المجمع، وبمجرد خروج المسيح تتبعاه وهما يصرخان بلا توقف ويظهر أنهما سمعا عظة القرع على الباب (مت 7:7) ، وقد اختارا اسم ابن داود ليعتبرا نفسيهما من بني مملكته، أليسا هما أولاداً لإبراهيم. وقد ظل المسيح يمشي دون أن يلتفت لهما، ولعله كان يقيس طول أثاتهما في النجاجة كما يصنع الله إلى أن بدأ يدخل البيت. أي بيت؟ هل بيت العائلة أم بيت تلميذ له؟
تحقيق:
فقال لهما يسوع: أتؤمنان أني أقدر أن أفعل هذا فالأمر خطير والعملية عملية تركيب عينين أو أربعة عيون جديدة بشرايينها وأوردتها وعدساتها اللامعة والقرنية والشبكية وهي أصعب ما في العين؟ ولا مشرط ولا نقل دم ولا تعقيم ولا نوم ولا مخدّر ولا غرفة إنعاش ولا عناية مركزة !! وإجراء العملية وقوفا على الباب الخارجي للبيت وتراب الحارة والذباب وكل ميكروب يخطر على البال، ولكنهما قالا: نعم يا سید» ! وهنا السؤال لا ينصب على كيفية عودة الإبصار لهما، ولكن كله منصب على شخص المسيح نفسه: «أتؤمنان أني أقدر أن أفعل هذا؟ هكذا سلم الأعميان لشخص المسيح كل إيمانهما على أن يُجري العملية كاملة على حسابه بانتظار كلمة واحدة، فينظران هذا الذي يقال له المسيا الحبيب، وينظران العالم بشمسه وقمره وناسه وجماله وقبح الإنسان فيه.
ولكن المسيح اعتمد على إيمانهما في الشفاء: «حينئذ لمس أعينهما قائلا: بحسب إيمانكما ليكن لكما». كما قال النازفة الدم. وهكذا بإيمانهما فيه وإيمانهما في إمكانية الرؤية الجديدة «فانفتحت أعينهما» من أين أتى المسيح بهذه العيون الأربعة ببريقها وجمالها وصحة إبصارها على الحد الأعلى 6/6 من أين؟ إنه حتما الخالق يباشر عمله ولكن لم يجيء من أجل العيون الصحيحة الجميلة وحسب، بل من أجل بشرية جديدة بجملتها بصحتها كاملة وبجمالها الذي لن يخبو . وهذه العيون التي خلقها وإقامته لإبنة يايرس ولعازر، كلها عربون منظور لما سيكون.
ابراء رجل أخرس مجنون به شیطان [32:9-34]
34-32:9 «وَفِيمَا هَمَا خَارِجَان إِذا إِنْسَانٌ أَخْرَسُ مَجْنُونٌ قَدَّمُوهُ إِلَيْهِ. فَلَمَّا أُخْرِجَ الشَّيْطَانُ تَكَلَّمَ الأخْرَسُ، فَتَعَجَّبَ الْجُمُوعُ قَائِلِينَ: لَمْ يَظْهَرْ قَطَ مِثْلُ هذا فِي إسْرَائِيلَ أما الفريسيون فقالوا : برئيس الشَّيَاطِينَ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ».
سبق أن شرحنا هذه الحالة في إنجيل ق. مرقس وإنجيل ق. لوقا. ولكن نقول هنا باختصار أن الأرواح الشريرة حينما تسكن إنساناً وتميته تأخذ اسمه وصفاته وتعمل بها في آخرين. وهنا حالة إنسان طبيعي ليس أخرس ولا أصم، ولكن إذا دخله روح شرير كان قد اقتنص إنساناً أخرس أصم فهو يمتلك صفاته لتمثيلها تمام التمثيل، ثم يُجبر الذي يسكنه أن يؤدّي الأدوار نفسها عنوة، فيظهر أنه أصم وأخرس مهما حاول القوم أن يجعلوه يتكلم أو يسمع كالأعمى الأخرس في إنجيل ق. متى (22:12). والدليل أن هذا الأخرس لم يكن أخرس في السابق، أنه بمجرد أن أخرج المسيح منه الشيطان تكلم في الحال. علما بأنه لم يجر عليه أي إجراءات الشفاء من المرض. وهكذا يستطيع الشيطان أن يُخرس الإنسان دون خرس. وكلمة κωφὸν تعني: “أصم أخرس”.
هذا المجنون الأخرس قدموه للمسيح بعد أن شفى عيون الأعميين فشفاه، ويختصر ق. متى كل ما تم له بهذه الكلمة: «فلما أخرج الشيطان تكلم الأخرس وواضح هنا أن الشيطان هو الذي عقد لسانه كدور تمثيلي أجبره على أدائه عنوة. وهنا مهانة للجبلة البشرية، أشد مهانة وإزاء هذا الشفاء السريع الواضح تعجب الجموع قائلين:” لم يظهر قط مثل هذا في إسرائيل” ولكن الفريسيين انعمت عيونهم وانعقد لسانهم عن النطق بالحق كما رأوه كبقية الناس، ولكن لخبث ضمائرهم وخيانة قلوبهم الله والحق لم يعترفوا بل جدفوا تجديفاً لا يُغفر لهم، إذ قالوا إنه برئيس الشياطين يُخرج المسيح الشياطين. وكأنهم تقمصوا فكر الشيطان في قلب الحقائق، واستعاروا لسانه لينطق بالتجديف. وهنا آخر المطاف لتقديم ق. متى للمعجزات، وقرار الفريسيين الأخير عنها. وسوف يناقشهم المسيح في قرارهم هذا في (24:12) فإلى هناك.
الحصاد كثير والفعلة قليلون [35:9-38]
35:9 «وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ الْمُدْنَ كُلَّهَا وَالقَرَى يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهَا، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَض وَكُلَّ ضُعْفَ فِي الشَّعْبِ».
القديس متى هنا يكرر ما سبق أن قاله في الأصحاح (23:4) في بداية خدمته وكان يسوع يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب» وكل التغيير الذي أضافه على الآية السابقة أن ذكر : المدن كلها والقرى ” بدل الجليل، وكأنما يعيد الكلام بأكثر تحديد. ولكن رواية ق. متى تستمر كما هي بكل دفعها بخصوص كرازة الجليل حتى الأصحاح (20:15). وإلى هنا يكون المسيح قد أكمل تعليمه بالحكمة الروحية العالية، وأدى أعمال الآيات بقوة أذهلت كل من رأى وسمع. ولكن بالنسبة للكتبة والفريسيين كانت استجابتهم عنيفة النقد والمراجعة والاتهام مما يكشف مستوى الحقد والحسد الذي يزداد بازدياد التعليم والمعجزات، الذي بلغ قمته هنا بهذا التعبير الذي يخرجهم عن دائرة العقلاء وليس الحكماء الأمر الذي أمسكه المسيح عليهم كمنطوق حكم الدينونة الذي سيدانون به « إن كانوا قد لقبوا رب البيت بعلزبول، فكم بالحري أهل بيته!» (25:10) ، وكرروها إذ رأوا فيها ما يشفي غليلهم: «أما الفريسيون فلما سمعوا قالوا هذا لا يُخرج الشياطين إلا ببعلزبول رئيس الشياطين »(24:12). وكان هذا التصرف من جهتهم يتمشى مع قرارهم النهائي بضرورة قتله لأنهم صغروا جداً أمامه وضاعت هيبتهم إزاء تعاليمه وانبهار الشعب به وبمعجزاته التي أطاحت بشخصياتهم حتى الطين إذ لم يعد أمامهم إلا إما أن يخضعوا ويسجدوا أمامه، أو يقتلوه، ولا حلّ آخر أمامهم. فلما استكثروا عليه أن يكون كالله وهو كذلك ، قالوا إنه شيطان ليريحوا كبرياءهم المدحور. وهكذا تطورت كرازة المسيح بواسطة هؤلاء الكتبة والفريسيين إلى حرب مرة، وقليلا قليلا بدأ شبح الصليب يظهر في الأفق.
وإزاء الشعب الذي يتجمهر ويجري وراءه، وإزاء صورة الصليب التي تقترب أمامه، رأى مدى حاجة الشعب إلى تلاميذ وخدام قبل أن يترك الميدان.
38-36:9 وَلَمَّا رَأى الجُمُوعَ تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ، إِذْ كَانُوا مُنْزَعِجِينَ وَمُنْطَرِحِينَ كَعْتُم لَا رَاعِي لها. حينئذ قال لتلاميذه: الْحَصَادُ كَثِيرٌ وَلَكِنَّ الْفعلة قليلون. فاطلبوا مِنْ رَبِّ الْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فعَلَة إِلَى حَصَادِهِ».
كانت أقوال المسيح وتعاليمه الهادئة والمريحة مع الأشفية المستمرة سبباً مباشراً في جعل الشعب يهجر بيوته وأعماله ويتجه نحو المسيح أينما ذهب في البيت، في الجبل، في البحيرة، كانوا يتخابرون بحاسة لا تخطئ أين سيذهب وأين سيختفي منهم، حتى لم يجد المسيح الفرصة لنومه، فنام في المركب، ولم يجد فرصة لأكل الخبز، فشفى على باب بيته الأعميين والأخرس الذي أخرسه الشيطان.
تحنن عليهم
هنا شعور من امتلأت أحشاؤه بالرحمة، لأن الفعل شمولي يوضّح رد فعل مشاعر المسيح إزاء تجمع الشعب المتعب والممزق بمنظر الغنم المبددة. ففي كل مرة يجدهم يتجمهرون حوله كان يتحنن عليهم كراع يهدئ من روع خرافه أو يشفي أوجاعها. كانت أخطر مشاكل حياتهم هي حيرتهم أمام طاعة الله وتعليم الفريسيين الذين كانوا يضعون عليهم أحمالاً ثقيلة الحمل ولا يحركونها بإحدى أصابعهم! (لو 46:11)، ويُر عبونهم بالناموس كعصى ثقيلة مرفوعة فوق رؤوسهم، ومن ضيقهم ذهبوا إلى آلهة الأمم التي تسترضى بالرخيص وتعطي الحلّ لكل خطية. لأن إله إسرائيل أصبح بتصوير الفريسيين والناموس إلها مرعباً له على المدى من الذبائح نصف القطيع، وإن كقت، ذبائح استرضاء وتطهير وكفارة ومواسم بلا حصر وطول النهار غسيل وتطهير حتى للأسرة التي ينامون عليها، والماء في إسرائيل شحيح !!
فنصف الحياة تطهير وغسيل والنصف الآخر ذبائح لاسترضاء الله. أما الفقراء ومساكين الأرض والخطاة فهي حثالة البشرية التي تعامل معاملة المنبوذين في الهند !!
وبهذا الإحساس الطاغي بالمسئولية من جهة هذا الشعب الذي فقد رعاته قال لتلاميذه: “اطلبوا من رب الحصاد أن يُرسل فعلة إلى حصاده” لأنه يعلم أن بعد ذهابه سيخلو الجو للكتبة والفريسيين، لهذا يسبق ويطلب ما يليق بالحصاد الذي زرعه بيده وهو وشيك أن يملأ إسرائيل والعالم. ونحن لا نستطيع أن نستحي من القول إن المسيح وهو رب الحصاد – وليس في ذلك أدنى شك – يطلب من التلاميذ أن يطلبوا منه أن يُرسل فعلة إلى حصاده، لأن الكنيسة وهي جسده تطلب إليه كرئيس وهو يسمع ويستجيب، وإن يكن الجسد متوافقاً مع الرأس لسد اعواز أعضائه تنمو الكنيسة وتزدهر . وهو الذي يضع في قلوبنا ما ينبغي أن نصلي به.
وإلى الآن صارت هذه صرخة كل راع وكل خادم أمين ثقل المسيح على كتفه بنير مسؤولية النفوس الثمينة.
وكان ق. متى في ترتيبه للحوادث حاذقاً لماحاً، فهنا جعل الأصحاح القادم دعوة التلاميذ وإرسالهم بعد أن دعمهم بسلطان النعمة والقوة. وواضح هنا أن ق. متى يضع ملخصاً لإرسالية المسيح في الأصحاحات السالفة (5-9) ثم يجعلها هي نفسها مقدمة لإرسالية التلاميذ، بمعنى أن يتسلموا منه الرسالة عينها مدعما إرساليتهم بالصلاة من أجل إرسال فعلة جدد، لأن الحصاد أصبح وفيرا والشعب لا راعي له.
تفسير إنجيل متى – 8 | إنجيل متى – 9 | تفسير إنجيل متى | تفسير العهد الجديد | تفسير إنجيل متى – 10 |
القمص متى المسكين | ||||
تفاسير إنجيل متى – 9 | تفاسير إنجيل متى | تفاسير العهد الجديد |