تفسير إنجيل مرقس أصحاح 14 – كنيسة مارمرقس مصر الجديدة

الأَصْحَاحُ الرَّابِعُ عَشَرَ 
العشاء الأخير | القبض على المسيح ومحاكمته

 

ع1-2:

(1) التدبير لقتل الرب (ع1-2):

1 وَكَانَ الْفِصْحُ وَأَيَّامُ الْفَطِيرِ بَعْدَ يَوْمَيْنِ. وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَطْلُبُونَ كَيْفَ يُمْسِكُونَهُ بِمَكْرٍ وَيَقْتُلُونَهُ، 2 وَلكِنَّهُمْ قَالُوا: «لَيْسَ فِي الْعِيدِ، لِئَلاَّ يَكُونَ شَغَبٌ فِي الشَّعْبِ».

اجتمع مجمع كبير من رؤساء الكهنة والكتبة (معلمّى الشعب) الثلاثاء ليلا (الأربعاء يهوديا)، وكان الاجتماع لغرض واحد وهو القبض على الرب يسوع وقتله، إلا أن الاجتماع قرر التأجيل لسبب أحداث عيد الفصح وتجمّع معظم اليهود في أورشليم والبلبلة التي قد تحدث فيه.

“الفصح”: أعظم أعياد اليهود على الإطلاق، وأمر الله فيه موسى واليهود أن يكون شريعة أبدية (خر 13: 9)، يحتفل فيه اليهود بتذكار خروجهم من مصر وعبورهم البحر الأحمر وغرق فرعون، والنجاة من قتل أبكار المصريين بعلامة الدم (خر 12: 7) {رمز لفداء المسيح}، ويأكلون في هذا الفصح الخروف مشويا بالنار وعلى أعشاب مرة، وهي رموز كلها تحققت في آلام المسيح على الصليب.

“الفطير”: كان يؤكل لمدة سبعة أيام بعد الفصح، ومصنوع من الدقيق والماء دون الخمير، وهو يرمز للطهارة التي يجب أن يحيا فيها الإنسان كل أيام حياته (7 أيام) بعد اتحاده بالفصح (المسيح)، وذلك لأن الخمير يرمز للشر هنا.

(2) ساكبة الطيب (ع 3-9):

3 وَفِيمَا هُوَ فِي بَيْتِ عَنْيَا فِي بَيْتِ سِمْعَانَ الأَبْرَصِ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ، جَاءَتِ امْرَأَةٌ مَعَهَا قَارُورَةُ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ. فَكَسَرَتِ الْقَارُورَةَ وَسَكَبَتْهُ عَلَى رَأْسِهِ. 4 وَكَانَ قَوْمٌ مُغْتَاظِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَقَالُوا: «لِمَاذَا كَانَ تَلَفُ الطِّيبِ هذَا؟ 5 لأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ هذَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ». وَكَانُوا يُؤَنِّبُونَهَا. 6 أَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ: «اتْرُكُوهَا! لِمَاذَا تُزْعِجُونَهَا؟ قَدْ عَمِلَتْ بِي عَمَلًا حَسَنًا! 7 لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ، وَمَتَى أَرَدْتُمْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِمْ خَيْرًا. وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ. 8 عَمِلَتْ مَا عِنْدَهَا. قَدْ سَبَقَتْ وَدَهَنَتْ بِالطِّيبِ جَسَدِي لِلتَّكْفِينِ. 9 اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهذَا الإِنْجِيلِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ، يُخْبَرْ أَيْضًا بِمَا فَعَلَتْهُ هذِهِ، تَذْكَارًا لَهَا».

 

ع3: بعد أن تعرض القديس مرقس لمؤامرة الكهنة ليلة الأربعاء، يعود بنا إلى ليلة الأحد السابقة (يو 12: 1) حيث الوليمة التي حضرها الرب يسوع في بيت سِمعان الذي كان أبرص وشفاه الرب.

“بيت عَنْيَا”: تعني “بيت العناء”، وهي قرية تقع في سفح جبل الزيتون شَرْقَىِّ أورشليم، وكان الرب يبيت فيها ليلا، ويقضى النهار بأورشليم طوال أسبوع الآلام.

“جاءت امرأة”: لم يذكر متى ومرقس أيضًا من هي هذه المرأة، بينما أكد القديس يوحنا أنها مريم أخت لعازر ومرثا (يو 12: 3).

“قارورة”: زجاجة.

“طيب ناردين”: هو أغلى العطور وأزكاها في ذلك الزمان، وكان أيضًا خالصا أي مركزا. فكسرت القارورة، أي عنق الزجاجة، وسكبته على رأس المسيح. ويقول القديس يوحنا أنها سكبته على قدميه، مما يجعلنا نصل إلى أنها سكبت الطيب على رأسه وقدميه.

 

ع4-5: بسبب تصرف مريم، اغتاظ كثيرون من الحضور، بعضهم من التلاميذ (مت26: 8)، وأشار القديس يوحنا أن أكثرهم غيظا كان يهوذا (يو 12: 4)، وتساءلوا في أنفسهم: لماذا هذا الإسراف، أليس الفقراء أولى بثمنه الغالى (300 دينار)؟

ملاحظة:

لمعرفة ارتفاع سعر هذا الطيب، كان أجر العامل في اليوم دينارا واحدا (مت 20: 2)، وإذا أنقصنا أيام السبوت التي لا يجوز فيها العمل، فإن ثمن قارورة الطيب كان يعادل أجرة عامل لمدة سنة كاملة.

 

ع6-7: ازداد توبيخ الناس وتأنيبهم لها، فتدخل السيد المسيح مدافعا، وصد عنها كل هجوم، بل عاتب مؤنبيها ومدح تصرفها، موضحا: إن الفقراء معكم في كل حين، أما أيامى أنا فقليلة على الأرض… وهو لا يرفض أبدا مشاعر الحب المقدمة من أولاده وأحبائه له.

 

ع8-9: كان ما صنعته مريم كأنه تَنَبُّؤٌ منها بصلب المسيح ودفنه، وهذا ما أعلنه المسيح إنه للتكفين. ولم يكتف المسيح فقط بشكرها أو مدحها، بل أمر رسله الأطهار بتسجيل هذا الحادث في بشائرهم عند الكتابة والكرازة، ليعلم العالم كله ما صنعته مريم أخت لعازر ويطوّبونها…

† نتعلم من هذه الواقعة:

(1) أن مريم قدمت أغلى ما عندها للمسيح الرب… فماذا نقدم نحن؟

(2) كانت هذه تقدمة شكر للمسيح الذي أقام أخيها… فهل نشكر الله على أعماله معنا… وكيف نشكره؟

(3) ليتنا لا ندين أحدا على تصرفه… فمن ندينه نحن قد يكون ممدوحا من الله نفسه.

(4) الله لا ينسى تعب المحبة، ويمدح ويشجع أولاده ويطوّبهم… فما أطيب قلبه.

 

ع10-11:

(3) خيانة يهوذا (ع10-11):

10 ثُمَّ إِنَّ يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ، وَاحِدًا مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ، مَضَى إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ. 11 وَلَمَّا سَمِعُوا فَرِحُوا، وَوَعَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ فِضَّةً. وَكَانَ يَطْلُبُ كَيْفَ يُسَلِّمُهُ فِي فُرْصَةٍ مُوافِقَةٍ.

في مقابلة عجيبة بين محبة مريم وتقدمة أغلى ما عندها، نجد في الناحية الأخرى التلميذ الخائن الذي يسعى لتقديم معلمه ليقبض ثمن خيانته، وبالطبع فرح الكهنة ووعدوه بالمال “ثلاثين من الفضة” (زك 11: 13 ؛ مت 26: 15)، ودار حديث بينهم عن تحيّن أفضل الفرص لتسليمه لهم.

وهكذا تختلف نوعيات البشر من الأمانة إلى الخيانة، وربما الخيانة ممن لا نتوقع منهم ذلك… فلا تضطرب أبدا يا صديقى، ألم يحدث هذا مع المسيح ذاته؟!!

(4) الفصح الأخير (ع 12-21):

12 وَفِي الْيَوْمِ الأَوَّلِ مِنَ الْفَطِيرِ. حِينَ كَانُوا يَذْبَحُونَ الْفِصْحَ، قَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ: «أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نَمْضِيَ وَنُعِدَّ لِتَأْكُلَ الْفِصْحَ؟» 13 فَأَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمَا: «اذْهَبَا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَيُلاَقِيَكُمَا إِنْسَانٌ حَامِلٌ جَرَّةَ مَاءٍ. اِتْبَعَاهُ. 14 وَحَيْثُمَا يَدْخُلْ فَقُولاَ لِرَبِّ الْبَيْتِ: إِنَّ الْمُعَلِّمَ يَقُولُ: أَيْنَ الْمَنْزِلُ حَيْثُ آكُلُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي؟ 15 فَهُوَ يُرِيكُمَا عِلِّيَّةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَةً مُعَدَّةً. هُنَاكَ أَعِدَّا لَنَا». 16 فَخَرَجَ تِلْمِيذَاهُ وَأَتَيَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا. فَأَعَدَّا الْفِصْحَ. 17 وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ جَاءَ مَعَ الاثْنَيْ عَشَرَ. 18 وَفِيمَا هُمْ مُتَّكِئُونَ يَأْكُلُونَ، قَالَ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِدًا مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي. اَلآكِلُ مَعِي!» 19 فَابْتَدَأُوا يَحْزَنُونَ، وَيَقُولُونَ لَهُ وَاحِدًا فَوَاحِدًا: «هَلْ أَنَا؟» وَآخَرُ: «هَلْ أَنَا؟» 20 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «هُوَ وَاحِدٌ مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ، الَّذِي يَغْمِسُ مَعِي فِي الصَّحْفَةِ. 21 إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ، وَلكِنْ وَيْلٌ لِذلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْرًا لِذلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ!».

 

ع12: “اليوم الأول من الفطير”: كان يوم الخميس، وكان يُنزع فيه الخمير من البيوت. وكان خروف الفصح يذبح ما بين الساعة الثالثة والخامسة عصرا، ولكنه لا يؤكل قبل الغروب، أي ليلة الجمعة، وفي ذلك اليوم سأله تلاميذه: أين نذهب ونُعد لتأكل الفصح؟

 

ع13-16: لما كان المسيح لا يريد التصريح بالمكان جهرا حتى لا يعرف يهوذا ويبلغ الكهنة، فيتعرض التلاميذ لخطر القبض عليهم، أرسل بطرس ويوحنا، وأعطاهما علامة أنهما يلاقيان إنسانا حاملا جرة ماء فيتبعاه حتى البيت، ثم يسألا صاحب البيت عن المكان، فيخبرهما عن مكان أعلى المنزل “عِلِّيَةً كبيرة مفروشة”. وهناك، على التلميذين إعداد الفصح للرب وباقي التلاميذ.

ولنلاحظ الآتي:

(1) لم يكن للرب يسوع أو أحد من تلاميذه بيت بأورشليم، ولهذا استخدم بيت رجل آخر.

(2) يخبرنا التقليد الكنسي أن هذا البيت هو بيت القديس مرقس كاروز الديار المصرية كلها.

(3) استخدم الرب يسوع علامة “جرة الماء” قبل تأسيس الأفخارستيا (سر التناول)، في إشارة واضحة بأن المعمودية بالماء تسبق التناول.

 

ع17-18: في المساء (أي ليلة الجمعة)، جاء السيد المسيح مع تلاميذه إلى المكان المعد لأكل الفصح. وعند جلوسهم للأكل، أعلن المسيح إعلانا نزل كالصاعقة على تلاميذه، وهو أن أحد الاثنى عشر سوف يقوم بتسليمه، وأنه ممن يأكلون معه.

 

ع19-20: تبدّل شعور التلاميذ من الفرح بالاحتفال بأبهج أعياد اليهود إلى حزن وحيرة، وبدأوا يتساءلون بصوت مسموع واحد بعد الآخر: : “هل أنا؟” وجاءت إجابة مؤكدة: نعم، إنه أحدكم. وأعطى علامة أخرى أن من يسلّمه سوف يغمس يده في نفس الصحن الذي يأكل منه المسيح. ويضيف القديس يوحنا في إنجيله (يو 13: 26) أن يسوع بالفعل غمس اللقمة من الصحفة وأعطى يهوذا ليأكل في إشارة صامتة أخيرة أن يهوذا هو مسلمه… كل هذه النداءات والتلميحات والتحذيرات كان الغرض منه هو توبة يهوذا. ولكن الصورة توضح لنا كيف أن القلب الشرير المحب للمال لم يستجب لتحذيرات الله، بالرغم من وضوحها وتكرارها. بالإضافة إلى ذلك، نجد أن يهوذا حضر الفصح مع الجميع على الرغم من عزمه على تسليم المسيح، ولكنه في رياء واضح اشترك في هذه المائدة… فهل نفعل مثله في بعض الأحيان؟!

† فليعطنا الرب قلبا يقظا حساسا سريع الاستجابة والعودة من طريق الشر…

 

ع21: أكد الرب أنه ماضٍ في طريقه من أجل فداء البشر كما جاء في النبوات، ولكن هذا لن يَعْفِ يهوذا من عقوبة خيانته وتسليمه، فالله لم يجعل يهوذا يسلّمه، وكان يمكن أن يتم القبض عليه وصلبه دون أن يكون ليهوذا دخلا في ذلك، ولكن يهوذا استحق بفعلته عقوبة هلاكه.

“كان خيرا… لو لم يولد”: تعبير على سبيل المثل، ويحمل كناية عن شدة عقوبة هذا الإنسان حتى أنه كان من الأفضل له ألا يولد، عن أن يولد ويقع في هذا الشر والخطية، ويستحق هذه الدينونة الرهيبة.

(5) تأسيس الأفخارستيا “سر التناول” (ع 22-26):

22 وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ، أَخَذَ يَسُوعُ خُبْزًا وَبَارَكَ وَكَسَّرَ، وَأَعْطَاهُمْ وَقَالَ: «خُذُوا كُلُوا، هذَا هُوَ جَسَدِي». 23 ثُمَّ أَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ، فَشَرِبُوا مِنْهَا كُلُّهُمْ. 24 وَقَالَ لَهُمْ: «هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ، الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ. 25 اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ أَشْرَبُ بَعْدُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ إِلَى ذلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ جَدِيدًا فِي مَلَكُوتِ اللهِ». 26 ثُمَّ سَبَّحُوا وَخَرَجُوا إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ.

 

ع22: بعد عشاء الخروف، أخذ الرب خبزا وباركه، فتحوّل إلى جسده الحقيقي بصورة سرية فائقة، وأعلن بكل وضوح أن هذا الخبز قد صار جسده، “هذا هو جسدي”، وقدّم وأعطى هذا الجسد لهم ليأكلوه… ولهذا احتفظت الكنيسة في قداسها الإلهي بنفس الكلمات التي نطق بها السيد المسيح.

 

ع23-24: وفعل بالمثل أيضًا مع الكأس التي تحوى خمرا ممزوجا بماءٍ – كالعادة في الفصح – وشكر أيضًا وأعطاه للتلاميذ ليشربوا بتمرير الكأس بينهم، وأعلن الرب بوضوح أيضًا تحوّل الخمر إلى دمه الحقيقي المسفوك عن العالم من أجل خلاصه وفدائه.

 

ع25: هكذا قبل الرب في نفسه حكم الموت بإرادته وبسلطانه قبل أن ينفذه فيه اليهود، وأعلن أنه لن يكرر هذا السر معهم ثانية على الأرض، إذ اكتفى بتأسيسه قبل موته. ولكنه وعد بأن تكون هناك وليمة وشركة جديدة في ملكوت السماوات، حيث نكون أرواحا تشعر وتشبع به بصورة روحانية بعيدة عن الأكل المادي، وبالتالي تعبير “أشربه جديدا” هو تعبير مجازي الغرض منه ما سبق شرحه.

 

ع26: “ثم سبّحوا”: كانت مزامير التهليل (مز 115-118)، المعروفة لليهود، تُصَلَّى بعد عشاء الفصح. ولما انتهوا من التسبيح، انطلقوا إلى جبل الزيتون.

(6) الإنباء بإنكار بطرس (ع 27-31):

27 وَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «إِنَّ كُلَّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ الرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ الْخِرَافُ. 28 وَلكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ». 29 فَقَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «وَإِنْ شَكَّ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ!» 30 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ، قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ مَرَّتَيْنِ، تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». 31 فَقَالَ بِأَكْثَرِ تَشْدِيدٍ: «وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ!». وَهكَذَا قَالَ أَيْضًا الْجَمِيعُ.

 

ع27: في حديثه الأخير مع تلاميذه، وقبل تسليمه لذاته، بدأ السيد يُعدّهم لما هم مقبلين عليه من حروب، وعرض عليهم أولها وهي الشك فيه، إذ يروه مسَلّما لأيدى اليهود دون مقاومة، وفي مظهر الضعف. وكنتيجة لهذا الموقف، سوف يهربون ويتفرقون كغنم فقدت راعيها، وقد استخدم السيد هنا نفس المعنى الذي نطق به زكريا في (زك 13: 7).

 

ع28: لم يتركهم الرب في هذه الحالة كثيرًا -القلق والاضطراب- بل أعلن مؤكدًا أنه سيقوم من الأموات، وسيقابلهم في الجليل. وبالطبع، لم يكن كل كلام المسيح مفهوما لهم، بل تحققوا منه بعد حدوثه.

 

ع29: كعادة بطرس، وهو البادئ دائما بالكلام أو الاعتراض، وبشعور خاطئ بذاته بأنه أفضل من باقي التلاميذ، أعلن، بعاطفة مندفعة غير مدروسة، أنه الوحيد الذي لن يشك ولن يترك المسيح، حتى وإن بقى وحده وتركه باقي التلاميذ.

 

ع30-31: في مقابلة مع كبرياء بطرس وغروره، واجهه المسيح بما سوف يقوم به ويفعله، فهو الوحيد، دون التلاميذ كلهم، الذي سيقوم بإنكاره أثناء محاكمته ثلاث مرات. ويرى الآباء، في تأمل رمزي، أن صياح الديك مرتين هو رمز لإنذارات الله في العهدين (القديم والجديد)، وأن إنكار بطرس ثلاث مرات رمز لكمال إنكار الإنسان في ضعفه لله، إذ ينكره بالفكر والقول والقلب. إلا أن بطرس أعاد وشدد على ما قاله سابقا، وهكذا قال أيضًا الجميع، أي باقي التلاميذ، في تأكيد عدم شكهم ورغبتهم في الموت مع المسيح.

† يا صديقى… إن الثقة بالله وبالنفس في المسيح جيدة، دون أن يدخلها الذات… ولهذا، اُطلب دائما معونة الله باتضاع، فيسند ضعفك الإنساني، ويعضدك وينصرك في الزمن الصعب.

(7) في بستان جَثْسَيْمَانِي (ع 32-52):

32 وَجَاءُوا إِلَى ضَيْعَةٍ اسْمُهَا جَثْسَيْمَانِي، فَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: «اجْلِسُوا ههُنَا حَتَّى أُصَلِّيَ». 33 ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، وَابْتَدَأَ يَدْهَشُ وَيَكْتَئِبُ. 34 فَقَالَ لَهُمْ: «نَفْسي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ! اُمْكُثُوا هُنَا وَاسْهَرُوا». 35 ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلًا وَخَرَّ عَلَى الأَرْضِ، وَكَانَ يُصَلِّي لِكَيْ تَعْبُرَ عَنْهُ السَّاعَةُ إِنْ أَمْكَنَ. 36 وَقَالَ: «يَا أَبَا الآبُ، كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لَكَ، فَأَجِزْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِيَكُنْ لاَ مَا أُرِيدُ أَنَا، بَلْ مَا تُرِيدُ أَنْتَ». 37 ثُمَّ جَاءَ وَوَجَدَهُمْ نِيَامًا، فَقَالَ لِبُطْرُسَ: «يَا سِمْعَانُ، أَنْتَ نَائِمٌ! أَمَا قَدَرْتَ أَنْ تَسْهَرَ سَاعَةً وَاحِدَةً؟ 38 اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. أَمَّا الرُّوحُ فَنَشِيطٌ، وَأَمَّا الْجَسَدُ فَضَعِيفٌ». 39 وَمَضَى أَيْضًا وَصَلَّى قَائِلًا ذلِكَ الْكَلاَمَ بِعَيْنِهِ. 40 ثُمَّ رَجَعَ وَوَجَدَهُمْ أَيْضًا نِيَامًا، إِذْ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ ثَقِيلَةً، فَلَمْ يَعْلَمُوا بِمَاذَا يُجِيبُونَهُ. 41 ثُمَّ جَاءَ ثَالِثَةً وَقَالَ لَهُمْ: «نَامُوا الآنَ وَاسْتَرِيحُوا! يَكْفِي! قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ! هُوَذَا ابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي الْخُطَاةِ. 42 قُومُوا لِنَذْهَبَ! هُوَذَا الَّذِي يُسَلِّمُنِي قَدِ اقْتَرَبَ!». 43 وَلِلْوَقْتِ فِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ أَقْبَلَ يَهُوذَا، وَاحِدٌ مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ، وَمَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ وَالشُّيُوخِ. 44 وَكَانَ مُسَلِّمُهُ قَدْ أَعْطَاهُمْ عَلاَمَةً قَائِلًا: «الَّذِي أُقَبِّلُهُ هُوَ هُوَ. أَمْسِكُوهُ، وَامْضُوا بِهِ بِحِرْصٍ». 45 فَجَاءَ لِلْوَقْتِ وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ قَائِلًا: «يَا سَيِّدِي، يَا سَيِّدِي!» وَقَبَّلَهُ. 46 فَأَلْقَوْا أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ وَأَمْسَكُوهُ. 47 فَاسْتَلَّ وَاحِدٌ مِنَ الْحَاضِرِينَ السَّيْفَ، وَضَرَبَ عَبْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ فَقَطَعَ أُذْنَهُ. 48 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ لِتَأْخُذُونِي! 49 كُلَّ يَوْمٍ كُنْتُ مَعَكُمْ فِي الْهَيْكَلِ أُعَلِّمُ وَلَمْ تُمْسِكُونِي! وَلكِنْ لِكَيْ تُكْمَلَ الْكُتُبُ». 50 فَتَرَكَهُ الْجَمِيعُ وَهَرَبُوا. 51 وَتَبِعَهُ شَابٌّ لاَبِسًا إِزَارًا عَلَى عُرْيِهِ، فَأَمْسَكَهُ الشُّبَّانُ، 52 فَتَرَكَ الإِزَارَ وَهَرَبَ مِنْهُمْ عُرْيَانًا.

 

ع32-33: في جزء من جبل الزيتون، كان هناك بستان جَثْسَيْمَانِي ومعناه “معصرة الزيت” لوجود كثير من أشجار الزيتون به.

أمر السيد الاثنى عشر بالجلوس، ثم اختار منهم ثلاثة هم بطرس ويعقوب ويوحنا، الذين شاهدوه في مجد التجلي، حتى لا يعثروا عندما يرونه في آلام وضعف أثناء صلاته وساعاته الأخيرة قبل القبض عليه ومحاكمته وصلبه. وبالفعل، رأوا وجهه وقد بدت عليه علامات الألم والضيق البشرى.

 

ع34-35: لم يُخْفِ الرب يسوع مشاعره الإنسانية عن تلاميذه، بل صارحهم بها قائلًا: “نفسى حزينة جدًا حتى الموت”، أي بلغ الحزن أقصاه بداخله، فهو يعلم بلاهوته ما هو قادم عليه. وكان حزنه الإنساني حزنا مركبا، إذا جاز التعبير، لأن:

(1) حزن المسيح لأنه، وهو البرىء الطاهر، بدأ في حمل كل خطايا العالم الشرير، ويا له من ثِقَلٍ وَحِمْلٍ، إذ يحمل كل الشر والنجاسات.

(2) حزن المسيح أيضًا لأنه – كإنسان – سيقع عليه ظلم، إذ الفداء يتطلب موت بريء بلا خطية عن بشرية آثمة.

ولهذا، وبالرغم من خضوعه بإرادته لما هو قادم عليه ويعلمه، صلّى إلى الآب بإنسانيته طالبا أن يرفع عنه هذه الآلام، في إثبات لناسوته الكامل.

 

ع36: “أبَّا، الآب”: تعبير نُقل من اللغة الكلدانية إلى اللهجة الآرامية، وكان معروفا عند اليهود. استخدمه القديس بولس أيضًا في (رو 8: 15 ؛ غل 4: 6). والكلمتان تحملان معنًى واحدا أي “الآب”، ولكنهما كتعبير واحد يحمل معانٍ أعمق في المحبة والدالة والارتباط القوى، ولفهمه جيدا، نشبهه بالتعبير العامى “يابا، يا ابويا.”

لا زلنا في نفس المشهد بكل أحاسيسه المُرّة وآلامه، إذ يرفع الرب يسوع قلبه إلى الآب السماوي القادر على كل شىء، طالبا منه أن يجيز عنه آلام الصليب. ولكنه -في طاعة كاملة- يسلّم مشيئته للآب معلنا خضوعه لقبولها.

† ليتنا نتعلم من هذا المشهد قبول مشيئة الله في حياتنا، ونتعلم من مخلّصنا لجاجة الصلاة كما فعل، ولا نخفى عن الله مشاعرنا مهما كانت حزينة أو مُرّة، ولنثق أنه طالما سمح بها، فإنه سوف يعيننا فيها وعليها…

 

ع37-38: كان المسيح قد تقدم قليلا عن تلاميذه ليختلى بالآب في صلاته، وعند عودته وجد التلاميذ نياما، فوجّه كلامه لبطرس معاتبا: “أما قدرت أن تسهر معي في آلامى ولو ساعة واحدة؟” ولكن المسيح الرقيق الطيب، بعد عتابه، التمس لبطرس والتلميذين العذر بأن إرادتهم الروحية تريد أن تسهر وأن تكمل كل عمل روحي معه، ولكن الجسد، بثقله وإرادته الضعيفة، كثيرًا ما يكون ثقلا على الروح ويعطل اشتياقها.

† نعم يا إلهي، فنحن كثيرًا ما ندعى أن أرواحنا نشيطة ونعطى وعودا كبيرة، لكن عدم الجهاد يجعلنا لا ننفذ شيئًا منها… فلنغصب أنفسنا إذن ولو بجهاد قليل، ولا نستسلم لضعف الجسد، لئلا ندخل في تجربة.

 

ع39-40: ذهب السيد للصلاة مرة أخرى منفردا بنفس الأحاسيس الضعيفة السابقة، وعاد لتلاميذه مرة أخرى. وبسبب ثقل جسدهم ونعاسهم، وجدهم أيضًا نياما، فلم يستطيعوا الرد عليه – خجلا – إذ قال لهم سابقا: “اسهروا وصلوا.”

 

ع41: رجع الرب يسوع لثالث مرة إلى تلاميذه، وهذه المرة عاتبهم أيضًا بقوله: ناموا… واستريحوا، فقد مضى وقت جهاد الصلاة، وأتت ساعة ابن الإنسان التي يُسَلَّمُ فيها – بإرادته – إلى أيدي الخطاة والأشرار الظالمين.

 

ع42: “قوموا لنذهب”: عرف المسيح بلاهوته قدوم يهوذا ومن معه للقبض عليه، فذهب بنفسه لملاقاته ولم ينتظر القبض عليه، فبالذهاب، أراد المسيح أن يثبت لتلاميذه ولنا أنه هو من أسلم نفسه، وهو العالِم بساعته متى تكون.

 

ع43: أثناء هذا الحديث، والذي كان الأخير قبل القبض عليه، جاء يهوذا (العارف المكان) ومعه جمع كثير من عبيد ورجال رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ، وحمل كل منهم سيفا أو عصا غليظة، متوقعين شجارا مع التلاميذ قبل القبض على السيد الرب.

“يهوذا، واحد من الاثنى عشر”: استخدم كل من القديسيْن متى ومرقس هذا التعبير للدلالة على بشاعة الخيانة التي كان مصدرها أحد الخاصة المقربين من السيد المسيح طوال سنوات كرازته، ويا لها من خيانة!!!

 

ع44-45: استخدم الخائن – يهوذا – علامة يعرف بها الجمع شخص الرب يسوع، ومن السخرية العجيبة أنه استخدم التقبيل، الذي هو علامة للمحبة والصداقة البالغة، في تسليم السيد. وفي رياء فاضح أيضا، ناداه مرتين: “يا سيدى، يا سيدى”، وهو نداء احترام وخضوع من تلميذ لمعلمه، يخفى به شره وخيانته. وكلمات: “امضوا به بحرص”، قصد بها يهوذا ألا يصنع الجمع الذي معه جلبة تلفت الأنظار، وتعطل وتفسد عملية القبض على المسيح.

 

ع46-47: عندما قبّل يهوذا السيد، هجم الجمع على الرب المسالم. وفي تعجب حزين، يصف القديس أغسطينوس المشهد فيقول: “قبضوا على من جاء ليحررهم!!”

كان مع الرسل سيفين (لو 22: 38)، والمقصود بالسيف هنا سكينا لا يزيد طوله عن 30 سم كان يستخدم لتقطيع الخبز، وكان أحد السيفين مع بطرس (يو 18: 10) الذي هاله ما رآه، فأسرع وضرب عبد رئيس الكهنة، فقطع أذنه. وقطع الأذن هنا، إشارة رمزية إلى الأمة اليهودية التي قطعت آذانها عن الاستماع للرب.

 

ع48-49: وبخ السيد المسيح وعاتب من أتوا للقبض عليه، فهذه الجمهرة الليلية بدت وكأنها كمينا لأحد اللصوص الخطرين، بالرغم من وجوده وظهوره الدائميْن طوال النهار أمام الشعب، وهذا التوبيخ إشارة إلى جبنهم الحقيقي من المسيح، ومن تعلق الشعب به، فلجأوا لهذا الأسلوب. ويوضح السيد أيضًا أن ما قاموا به هو ما تنبأ به الأنبياء (مز 22؛ إش 53؛ زك 13: 7).

 

ع50: “تركه الجميع”: المقصود هنا التلاميذ، الذين، من هول المفاجأة، خافوا بضعفهم البشرى وتركوا المسيح وحده، ليتم ما تنبأ به المسيح في (يو 16: 32) أنه سيأتي وقت يتركه فيه التلاميذ وحده.

 

ع51-52: “وتبعه شاب”: هو القديس مرقس نفسه كاتب البشارة، ولم يذكر اسمه اتضاعا منه.

“إزارا”: أي اللباس الخارجي. وعندما أمسكه بعض الشبان للقبض عليه، خاف وهرب بملابسه الداخلية -أي عاريًا- إذ كان شابًا صغيرًا وضعيفًا خائفًا، وله في هذا كله عذره، إذ قد هرب التلاميذ أنفسهم.

 

(8) المحاكمة اليهودية (ع 53-65):

53 فَمَضَوْا بِيَسُوعَ إِلَى رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُ جَمِيعُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْكَتَبَةُ. 54 وَكَانَ بُطْرُسُ قَدْ تَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ إِلَى دَاخِلِ دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، وَكَانَ جَالِسًا بَيْنَ الْخُدَّامِ يَسْتَدْفِئُ عِنْدَ النَّارِ. 55 وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ يَطْلُبُونَ شَهَادَةً عَلَى يَسُوعَ لِيَقْتُلُوهُ، فَلَمْ يَجِدُوا. 56 لأَنَّ كَثِيرِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ زُورًا، وَلَمْ تَتَّفِقْ شَهَادَاتُهُمْ. 57 ثُمَّ قَامَ قَوْمٌ وَشَهِدُوا عَلَيْهِ زُورًا قَائِلِينَ: 58 «نَحْنُ سَمِعْنَاهُ يَقُولُ: إِنِّي أَنْقُضُ هذَا الْهَيْكَلَ الْمَصْنُوعَ بِالأَيَادِي، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِي آخَرَ غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِأَيَادٍ». 59 وَلاَ بِهذَا كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ تَتَّفِقُ. 60 فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ فِي الْوَسْطِ وَسَأَلَ يَسُوعَ قِائِلًا: «أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هؤُلاَءِ عَلَيْكَ؟» 61 أَمَّا هُوَ فَكَانَ سَاكِتًا وَلَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ. فَسَأَلَهُ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ أَيْضًا وَقَالَ لَهُ: «أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ؟» 62 فَقَالَ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا فِي سَحَابِ السَّمَاءِ». 63 فَمَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ ثِيَابَهُ وَقَالَ: «مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ 64 قَدْ سَمِعْتُمُ التَّجَادِيفَ! مَا رَأْيُكُمْ؟» فَالْجَمِيعُ حَكَمُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ مُسْتَوْجِبُ الْمَوْتِ. 65 فَابْتَدَأَ قَوْمٌ يَبْصُقُونَ عَلَيْهِ، وَيُغَطُّونَ وَجْهَهُ وَيَلْكُمُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ: «تَنَبَّأْ». وَكَانَ الْخُدَّامُ يَلْطِمُونَهُ.

 

ع53-54: ذهب الجمع بالرب يسوع إلى بيت رئيس الكهنة “قَيَافَا”، حيث اجتمع في بيته كل رؤساء الكهنة والكتبة والفرّيسيّون. ويلاحظ أن القديس مرقس لم يذكر الذهاب أولًا إلى بيت “حَنَّانَ” كما ذُكِرَ في (يو 18: 13)، وهو رئيس الكهنة السابق وحما “قيافا”، واكتفى بالمحاكمة التي تمت في بيت “قيافا”، وهو الرئيس الحالي والرسمى للكهنة في ذلك الوقت. ولم يذهب من الاثنى عشر إلى بيت “قيافا” سوى يوحنا، وبطرس الذي تبعه بحرص من بعيد، وظل خارجا مع الخدام يستدفئ بالنار من شدة البرد (يو 18: 18).

 

ع55-56: “ليقتلوه”: تعتبر هذه الكلمة محورا لشرح هذين العددين، فالمحاكمة كانت صورية، والحكم قد سبق واتخذه رؤساء الكهنة والشيوخ في وجوب قتل المسيح. ولكي يتم هذا المشهد التمثيلى، دعوا كثيرين ليشهدوا على المسيح شهادات تبرر قتلهم إياه؛ ولأن كل الشهادات كانت زورا، فقد اختلفت أكثر مما اتفقت، ولم يجدوا شيئًا عليه.

 

ع57-59: شهد البعض الآخر -زورًا- أن المسيح قال إنه ينقض هيكل سليمان ويبنيه في ثلاثة أيام، وحتى في هذه اختلفوا ولم يتفقوا، إذ ما قاله المسيح حقا: انقضوا أنتم هذا الهيكل، قاصدا جسده وموته (يو 2: 19) وأنا أقيمه – بذاتى – أي قيامة جسده أيضًا بعد الموت في اليوم الثالث، ولهذا تضاربت شهاداتهم.

 

ع60-61: لم يصل المجلس لشىء يتفق ومرادهم، فلهذا قام “قَيَافَا” رئيس المجمع وسأل الرب: ألا تدافع عن نفسك فيما يتهمك به هؤلاء الناس؟ أما المسيح فلم يُجِبْ بشيء وظل صامتا كما تنبأ إشعياء: “لم يفتح فاه كشاة تساق إلى الذبح” (إش 53: 7). وعندما ضاق صدر “قيافا”، سأل المسيح سؤلا مباشرا: “أ (هل) أنت المسيح ابن المبارك (الله)؟”

 

ع62: صمت المسيح ولم يدافع عن نفسه، عندما كانت الأسئلة والشهادات زورا، ليحتمل ظلم الأشرار. ولكن، عندما تعلق السؤال بشخصه وبذاته لم ينكر نفسه، بل أعلن بوضوح وقوة أنه هو المسيح ابن الله الحي، بل أعلن عن مجده العتيد أن يُستعلن في قيامته وصعوده وجلوسه عن يمين القوة (الآب)، وكذلك مجيئه الثاني المخوف على السحاب (أع 1: 11) عند نهاية العالم.

 

ع63: نزل رد المسيح على رئيس الكهنة كالصاعقة -عندما أعلن لاهوته ومجيئه على السحاب- ولهذا صرخ غاضبًا معلنًا: (أ) تجديف المسيح. (ب) عدم حاجته لشهود.

وجاء تعبيره عن غضبه بفعل تحرمه الشريعة، وهو تمزيق ثيابه (لا 10: 6، 21: 10). وبهذا الفعل، ودون أن يدرى، كان تمزيق ثيابه إشارة إلى نهاية كهنوت العهد القديم وبطلان الذبيحة الحيوانية، وبدء شريعة العهد الجديد الحية المستمرة في شخص المسيح الذي يسلّم الكهنوت بدوره إلى الكنيسة الجديدة في شخص الآباء الرسل ثم الأساقفة والكهنة.

 

ع64-65: بعد هذا طلب “قَيَافَا” رأي المجمع، فوافقوه رأيه، فحكموا على المسيح بوجوب موته؛ ولم يكن حكمهم واجب النفاذ ما لم تصدّق السلطة الرومانية عليه. أما اليهود والعبيد المجتمعون، فبدأوا يهزأون بالمسيح في تطاول واحتقار لشخصه، حتى غَطَّوْا وجهه القدّوس وضربوه، سائلينه: تنبأ، وقل لنا من الذي لطمك…

† يا إلهي الحبيب… أهكذا كلّفتك خطيئتى كل هذه الآلام والإهانات؟! كان يجدر بي أن أكون مكانك… ولكنك أخذت صورة العبد، ومن أجلى يا سيدى، لم ترد وجهك عن خزى البصاق (من القداس الغريغورى).

فتوبى يا نفسى، ولا تهينى من تحمّل كل هذه الآلام حبا فيكِ…

(9) إنكار بطرس (ع 66-72):

66 وَبَيْنَمَا كَانَ بُطْرُسُ فِي الدَّارِ أَسْفَلَ جَاءَتْ إِحْدَى جَوَارِي رَئِيسِ الْكَهَنَةِ. 67 فَلَمَّا رَأَتْ بُطْرُسَ يَسْتَدْفِئُ، نَظَرَتْ إِلَيْهِ وَقَالَتْ: «وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ!» 68 فَأَنْكَرَ قَائِلًا: «لَسْتُ أَدْرِي وَلاَ أَفْهَمُ مَا تَقُولِينَ!» وَخَرَجَ خَارِجًا إِلَى الدِّهْلِيزِ، فَصَاحَ الدِّيكُ. 69 فَرَأَتْهُ الْجَارِيَةُ أَيْضًا وَابْتَدَأَتْ تَقُولُ لِلْحَاضِرِينَ: «إِنَّ هذَا مِنْهُمْ!» 70 فَأَنْكَرَ أَيْضًا. وَبَعْدَ قَلِيل أَيْضًا قَالَ الْحَاضِرُونَ لِبُطْرُسَ: «حَقًّا أَنْتَ مِنْهُمْ، لأَنَّكَ جَلِيلِيٌّ أَيْضًا وَلُغَتُكَ تُشْبِهُ لُغَتَهُمْ!». 71 فَابْتَدَأَ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: «إِنِّي لاَ أَعْرِفُ هذَا الرَّجُلَ الَّذِي تَقُولُونَ عَنْهُ!» 72 وَصَاحَ الدِّيكُ ثَانِيَةً، فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ لَهُ يَسُوعُ: «إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ مَرَّتَيْنِ، تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». فَلَمَّا تَفَكَّرَ بِهِ بَكَى.

 

ع66-67: كان بطرس في الدار أسفل، أي في ساحة الدار، حيث أوقد العبيد نارا للاستدفاء، ومع وهج النار التي وضّحت معالم وجهه، تعرّفت عليه إحدى جوارى رئيس الكهنة أنه من تلاميذ المسيح، وأعلنت ذلك قائلة له: “وأنت كنت مع يسوع الناصرى.”

 

ع68-69: هربًا من الموقف المتأزم، خرج بطرس من المنزل إلى الممر الخارجي، بعد أن أنكر ما قالته الجارية ونفاه عن نفسه. وعند خروجه، فوجئ بالجارية – طبقا لقول مرقس هي نفس الجارية، بينما يقول متى الرسول: “رأته أخرى” (مت 26: 71) – ولا اختلاف بين القولين إذا كانت الجارية الأولى هي التي أخبرت الثانية، والثانية هي التي ذهبت وراءه إلى الدهليز لتعلن وتكرر ما قالته الأولى في أنه من تلاميذ الرب.

 

ع70-71: أنكر بطرس أيضًا. وبعد قليل من الزمن، أعلن الحاضرون وأكدوا ما سمعوه من الجارية، وواجهوا بطرس قائلين: إنك من أتباعه، لأنك جليلى ولهجتك مثل لهجة معلمك وباقي التلاميذ. وهنا، زاد بطرس على إنكاره أنه لعن وشتم وحلف، ليؤكد لهم عكس ما اتهموه به، ويُبعد عن نفسه شُبهة معرفة الرب يسوع نهائيا!!

† أخشى يا إلهي أن أعتب على بطرس تصرّفه، لأننى أجد نفسي أحيانا أكرر ما فعله، فلا أظهرك في أفعالى بل أخفيك، وأكاد أنكرك في ظلمة أقوالى وتصرفاتى.

 

ع72: صاح الديك ثانية، كالعلامة التي وضعها السيد (ع30). وعند هذا الصياح الثاني، استيقظ ضمير بطرس الغائب، وتذكر ما قاله له السيد المسيح، ولهذا بكى بكاءً شديدا، معلنا ندمه على خطية إنكاره للسيد.

† أيها الحبيب… مما لا شك فيه أن بطرس أخطأ بإنكاره السيد خطأً كبيرا… ولكن أيضا، عند العلامة تذكّر، فقدّم توبة صادقة من قلب نادم… ونحن في كثير من الأحيان قد نخطئ مثله، بسبب تسرعنا، أخطاءً مزعجة. ولكن، هل لنا هذا القلب السريع الاستجابة لنداءات الله لنا بالتوبة، وهو المنتظر دائما عودة أبنائه… أعطنا يا رب دموع توبة كالتى أتى بها بطرس نادمًا.

تفسير مرقس 13 إنجيل مرقس – 14  تفسير إنجيل مرقس تفسير العهد الجديد تفسير مرقس 15
كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة
تفاسير مرقس – 14 تفاسير إنجيل مرقس تفاسير العهد الجديد

 

زر الذهاب إلى الأعلى