تفسير إنجيل لوقا ١٠ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح العاشر

الإرساليَّة الثانية

إن كانت الإرساليَّة الأولى الخاصة بالإثنى عشر تلميذًا تمثِّل خدمة اليهود فإن الإرساليَّة الثانية الخاصة بالسبعين رسولاً تمثِّل خدمة الأمم. فإن ربَّنا يسوع المسيح يرسل لليهود كما للأمم طالبًا صداقتهم بلا تمييز. ولهذا السبب نرى السيِّد المسيح متهلِّلاً بالروح من أجل تمتَّع البسطاء بنعمة المعرفة، أيَّا كان جنس هؤلاء البسطاء، كما يقدِّم لنا مثَل السامري الصالح ليعلن عن مفهوم الأخوة للبشريَّة كلها، كما يقدِّم لنا قصَّة مرثا ومريم ليكشف لنا عن قبوله كل خدمةٍ وعبادةٍ!

  1. تعيين السبعين رسولاً وكرازتهم 1-20.
  2. تهلَّل السيِّد المسيح بالروح 21-24.
  3. مثَل السامري الصالح 25-37.
  4. مرثا العاملة ومريم المتألِّمة 38-43.
  5. تعيين السبعين رسولاً وكرازتهم

في الإرساليَّة الأولى كانت وصيَّة السيِّد المسيح للاثنى عشر: “إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريِّين لا تدخلوا، بل اذهبوا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة” (مت 10: 5)، أما للسبعين فجاءت الوصيَّة بالكرازة غير محصورة في شعب معيَّن أو أُمَّة خاصة، إذ قال: “وأيَّة مدينة دخلتموها وقبلوكم فكُلوا ممَّا يقدَّم لكم، واشفوا المرضى الذين فيها، وقولوا لهم: قد اِقترب منكم ملكوت الله” (لو 9: 8). وقد جاءت الكلمات: “كُلوا مما يقدَّم لكم” تعني أنهم لا يستنكفون من الطعام الذي يقدِّمه الأمميُّون ولا يخشون من التنجُّس حسب ما جاء في الشريعة الموسويَّة، ليأكُلوا ما يقدِّمه هؤلاء الأمم حتى يستطيعوا باتساع فكرهم أن يقدِّموا لهم كلمة الكرازة بالملكوت بلا عائق، فإنه ليس وقت للأطعمة المحلَّلة والمُحرَّمة، إنما لسحب النفوس من الهلاك الأبدي.

كانت الإرساليَّة الثانية في الغالب تمثِّل الكرازة للأمم، فمن المعروف أن سكان بيريَّة التي ذهب إليها السيِّد المسيح بعد الجليل هم أمميُّون، ولعلَّ الإنجيلي لوقا نفسه كان من بين هؤلاء السبعين رسولاً.

على أي الأحوال إذ كتب متَّى البشير – وهو من الاثنى عشر- لليهود لم يَشِر إلى هذه الإرساليَّة، بينما لوقا البشير وهو يكتب للأمم يُشير إليها.

إن كان الاثنا عشر يمثِّلون الاثنى عشر نبعًا، فإن السبعين يمثِّلون السبعين نخلة في إيليم الجديدة (خر 15: 27). إن كان الاثنا عشر يقابلون الأسباط الاثنى عشر فإن السبعين يقابلون السبعين شيخًا الذين اِختارهم موسى (عد 11: 16-25) أو السبعين عضوًا في مجمع السنهدرين.

لعلَّه اِختار السبعين رسولاً قُبيل عيد المظال حيث كان اليهود يقدِّمون 70 ذبيحة… كأنه أراد أن يقدِّم للعالم عيدًا جديدًا، فيه يقدِّم الرسل كذبائح حيَّة مقدَّسة مرضيَّة عند الله (رو 12: 1)، على مذبح الحب خلال الكرازة في العالم كله.

ويلاحظ في هذه الإرساليَّة الآتي:

أولاً: “وبعد ذلك عيَّن الرب سبعين آخرين أيضًا وأرسلهم اثنين اثنين أمام وجهِه إلى كل مدينة وموضوع حيث كان هو مزمعًا أن يأتي” [1]. يرى بعض الآباء مثل القدِّيس أمبروسيوس أن عدد الرسل اثنان وسبعونk وأن الإنجيلي ذكر الرقم الدائري. وقد أرسلهم اثنين اثنين كما سبق فأرسل الإثنى عشر (مر 6: 7)، إذ “اثنان خيْر من واحد، لأن لهما أجرة لتعبهما صالحة، لأنه إن وقع أحدهما يقيمه رفيقه، وويل لمن هو وحده، إن وقع إذ ليس ثانٍ ليُقيمه” (جا 4: 9-10). وكما قال القدِّيس أغسطينوس إن رقم 2 يشير إلى الحب لله والناس، وكأن إرساليَّته لم تكن كرازة كلام ووعظ فحسب بل كرازة حب وشركة مع الله والناس.

أرسلهم أمام وجهُه، ليكونوا ممهَّدين له في الطريق، ولكي يعملوا أمامه، فيكونوا تحت رعايته فيما هم يرعون الآخرين!

ثانيًا: أكَّد لهم أن الكرازة هي من صميم عمله هو. فهو الذي عينهم، وهو الذي يسندهم بإرسال فعله يعملون معه لحساب حصاده، إذ يقول: “الحصاد كثير والفَعَلة قليلون، فاُطلبوا من رب الحصاد أن يرسل فَعَلة إلى حصاده[2]… وكما يقول القدِّيس أغسطينوس: [الرب نفسه هو الذي يبذر، إذ كان (قاطنًا) في الرسل، وهو أيضًا الذي يحصد، فبدونه يحسبون كلا شيء… إذ يقول: “بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا” (يو 15: 5).]

ثالثًا: جاءت وصيَّته لهم: “ها أنا أُرسلكم مثْل حِملان بين ذئاب” [3]، تكشف عن أنه هو المرسل “أنا أرسلكم”. لذا فهو العامل فيهم والمسئول عنهم، وأن إرساليَّته ليست بالمهمَّة السهلة طريقها مفروش بالورود، إنما هي إرساليَّة قلَّة من الحملان تُلقي بين ذئاب. وكما يقول القدِّيس أغسطينوس إن الذئاب تلتهم الحملان فتتحوَّل الذئاب إلى حملان. إنها ليست إرساليَّة لافتراس رُسله، وإنما لتحويل الذئاب إلى حملان، خلال وداعة حملانه أي رسله. وكما يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [أنه فوق كل شيء يعرف طبيعة الأشياء: أن الشراسة لا تُطفأ بالشراسة وإنما باللطف.]

يُعلِّق القدِّيس أمبروسيوس على هذه الوصيَّة، قائلاً: [لا يخشى الراعي الصالح على رعيَّته من الذئاب، لذا أرسل تلاميذه لا ليكونوا فريسة وإنما ليكرزوا بالنعمة. عناية الراعي الصالح لا تسمح للذئاب القيام بأي عمل ضد خرافه، إنما يرسل الخراف وسط الذئاب لتتم هذه الكلمة: “ويرعى الذئب مع الحمل” (إش 65: 27).]

إن كان كلمة الله صار حَملاً لأجلنا، فقد قيل عنه بلسان القدِّيس يوحنا المعمدان: “هوذا حمل الله الذي يرفع خطيَّة العالم” (يو 1: 29)، ووصفه القدِّيس يوحنا اللاهوتي: “لأن الخروف الذي في وسط العرش يرعاهم، ويقتادهم إلى ينابيع ماء حيَّة، ويمسح الله كل دمعة من عيونهم” (رؤ 7: 17)، فلا عجب أن يجعل من كنيسته قطيعًا صغيرًا يُسر الآب أن يعطيهم الملكوت (لو 12: 32). فإن كان حَمَل الله أقامنا حِملان لنحمل سماته فينا، فإنه هو مرسل الحِملان، والآب يُسر أن يهبهم ملكوته الأبدي.

رابعًا:لا تحملوا كيسًا ولا مزودًا ولا أحذية” [4]. سبق فقدَّم مثْل هذه الوصيَّة للاثنى عشر تلميذًا، وقد قدَّمنا لبعض الآباء تعليقات عليها (لو 9: 3؛ مت 10: 9؛ مر 6: 8)، موضِّحًا أنها لا تحمل حرمانًا، إذ قدَّم نفسه مصدر شبع لهم قبل أن يسألهم التخلِّي عن هذه الأمور الزمنيَّة، نضيف إليها التعليقات التالية:

يقول القدِّيس أمبروسيوس: [لكي نتجنَّب الذئاب يوصينا الرب: لا تحملوا مزودًا ولا أحذية، ويعني بالمزود ألا نحمل فضَّة ولا مالاً (مت 10: 9). إن كان الرب يمنعك عن حمل الذهب فماذا يكون إن كنت تسلبه وتسرقه؟ إن كان قد أوصاك أن تُعطي مالك، فكيف تُكدِّس ما هو ليس لك؟ أنت الذي تكرز ألا يُسرق أتسرق؟ الذي تقول أن لا يزني أتزني؟ الذي تستكره الأوثان أتسرق الهياكل؟ الذي تفتخر بالناموس أبِتعدِّي الناموس تهين الله؟ لأن اسم الله يُجدَّف عليه بسببكم (رو 2: 21-24). كان الرسول بطرس أول من نفَّذ وصيَّة الرب موضحًا أن وصيَّة الرب لم تُعط باطلاً، فعندما طلب منه الفقير صدقة، قال: “ليس لي فضَّة أو ذهب” (أع 3: 6)؛ أنه يفتخر بأنه ليس له فضة أو ذهب، وأنت تخجل لأنك لا تملك ما تشتهيه ؟… كأنه يقول للفقير: أنك تراني تلميذًا للرب وتطلب منِّي ذهبًا، لقد وهبني أشياء أخرى أثْمَن من الذهب إيَّاك أُعطي: “باِسم يسوع الناصري قم وامش“ِ.]

يكمل القدِّيس حديثه: [لا كيسًا ولا مزودًا”؛ عادة يُصنع الاثنان من جلد الحيوانات الميِّتة، والرب يسوع لا يريد لنا شيئًا ميِّتًا، لهذا يقول لموسى: اِخلع نعْليْك لأن الموضع الذي أنت فيه مقدَّس” (خر 3: 5)، أمَرَه أن يخلع عنه نعليّ الموت والأمور الأرضيَّة في اللحظة التي أرسله فيها ليُنقذ الشعب. فالخادم الذي وضع على عاتقه هذا العمل ينبغي ألاَّ يخشى شيئًا (الموت أو الأرضيَّات)، فلا يتراجع عن رسالته التي استلمها خوفًا من الموت… فقد سبق فهرب موسى من رسالته خوفًا من الموت وهرب إلى أرض مِديان، وقد عرف الرب نيَّته، ورأى ضعفه، لذا رأى أن يحرَّر روحه ونفسه من الارتباطات المائتة.]

يقول القدِّيس أغسطينوس: [ماذا يعني: لا تحملوا كيسًا؟ أي لا تكونوا حكماء بذواتكم بل اقبلوا الروح القدس، فيكون فيكم ينبوعًا لا كيسًا، منه تُنفقون على الآخرين دون أن ينضب، وهكذا أيضًا بالنسبة للمزود.] [ما هي الأحذية؟ نستخدم الأحذية من جلد الحيوانات الميِّتة فتغطِّي أقدامنا. لهذا يأمرنا أن نجحد الأعمال الميِّتة. هذا هو ما أوُصى به موسى كما في رمز، عندما تحدَّث مع الرب: “اخلع حذاءك من رجليْك، لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدَّسة” (خر 3: 5). ما هو الموضع المقدَّس مثل كنيسة الله؟! لنقف فيها، لنخلع أحذيتنا، لنمجِّد أعمالنا الميِّتة.]

يرى العلامة أوريجينوس أن خلع الأحذية يُشير إلى ترك الجلود الميِّتة التي منها تصنع الأحذية والطبول، فلا نطلب الأمور الميِّتة ولا نهتم بالمظاهر الخارجيَّة كالطبول التي تعطي صوتًا عاليًا بلا عمل.

ويرى القدِّيس إكليمنضس السكندري أن الأحذية هنا تُشير إلى الارتباك بكثرة الخيل والعبيد الحاملين لمَتاع الغني في رحلاته المستمرَّة، وكأنها في عينيه أشبه بأحذية تحمل جسده وممتلكاته.

خامسًا:ولا تسلِّموا على أحد في الطريق” [4]. يقصد بذلك ألا يرتبك الكارز بالمجاملات الكثيرة التي بلا هدف روحي.

يقول القدِّيس أغسطينوس: [لا يؤخذ هذا بالمعنى الجسدي؛ وبذلك فهو لا يقصد كيسًا ولا أحذية ولا مزودًا، وفوق هذا كله لو أننا مارسنا ببساطة في غير فحص ألا نقول لأحد سلام في الطريق نسقط في الكبرياء.] [يمكننا ببساطة أن نفهم ذلك بمعنى أن نتمِّم ما أمَرَنا به بسرعة… وكأنه يقول: “اترك كل الأمور الأخرى حتى تتمِّم ما قد أُمِرت به”.]

ويرى القدِّيس أغسطينوس أن كلمة “التحيَّة Salutation” مشتقَّة من كلمة الخلاص “Salvation”، كأنه يليق بنا ألا نقدَّم الخلاص في الطريق، أي بطريقة عشوائيَّة، إنما نقدَّمه خلال أعمال المحبَّة.

يُعلِّق القدِّيس أمبروسيوس على هذه الوصيَّة بأن السيِّد لم يمنعنا من تحيَّة السلام، إنما من تقديمها في الطريق، بمعنى ألا تكون معطَّلة للعمل، وذلك كما أمر إليشع النبي خادمه (2 مل 4: 29) لكي يُسرع ويتمِّم الأمر، [المراد بهذا الأمر لا منع السلام بل إزالة العقبات. السلام عادة جميلة، لكن إتمام الأعمال الإلهيَّة أجمل، وهي تستلزم السرعة، تأخيرها غالبًا ما يجلب عدم الرضا.]

سادسًا:عدم الانتقال من بيت إلى بيت” [5-7]، فقد أراد أن ينزع عنهم مظاهر الكتبة والفرِّيسيِّين في ذلك الحين حيث كانوا يقضون جل وقتهم في الولائم لتكريمهم، ومن جانب آخر أراد لهم أن يشعروا في البيت الذي يقيمون فيه أنهم أعضاء في ذات الأسرة. (راجع تفسير لو 9: 4).

سابعًا: بقيَّة الحديث سبق لنا تفسيره… يمكن الرجوع إليه، فمن جهة نفض الغبار الذي لصق بأرجلهم بالنسبة لرافضيهم يشير إلى رفض كل ما التصق بهم منهم كترابٍ لا يستحق إلا نفضِه تحت الأقدام (راجع تفسير مر 6: 11). وأيضًا من جهة سدوم، فإنها لن تُعاقب بذات العقاب المُر الذي يسقط تحته كورزين وبيت صيدا.. لأن الغرباء لا يعاقبون مثل المقرَّبين، والذين يعرفون أقل تكون دينونتهم أقل.

يُعلِّق القدِّيس أغسطينوس على كلمات السيِّد هنا: “الذي يسمع منكم يسمع منِّي، والذي يرذُلكم يُرذِلني، والذي يُرذلُني يُرذل الذي أرسلني” [16]، قائلاً: [جاء (السيِّد) في أشخاص تلاميذه، فيتكلَّم معنا بواسطتهم. أنه حاضر فيهم. بواسطة كنيسته يأتي، وبواسطتها يتحدَّث مع الأمم. في هذا نشير إلى الكلمات التي نطق بها: “من يقبلكم يقبلُني” (مت 10: 40)… ويقول الرسول بولس: “برهان المسيح المتكلِّم فيّ” (2 كو 13: 3) .]

ثامنًا:فرجع السبعون بفرح قائلين: يا رب حتى الشيَّاطين تخضع لنا باسمك.

فقال لهم: رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء.

ها أنا أُعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيَّات والعقارب وكل قوَّة العدُو ولا يضرُّكم شيء.

ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم،

بل افرحوا بالحري أن أسماءكم كتبت في السماوات” [17-20].

فرح الرسل إذ رأوا الشيطان ينهار أمام الإنسان خلال الكرازة بالملكوت، وقد أكَّد السيِّد المسيح اِنهيار الشيطان الذي صار بالصليب ساقطًا من السماء كالبرق، كما أكَّد سلطان الإنسان بالصليب. لكن ما يفرحنا ليس اِنهيار العدو ولا القدرة على صنع المعجزات بل تمتُعنا بالملكوت السماوي خلال الحياة الفاضلة التي ننالها بنعمة الله. وكما يقول القدِّيس أنطونيوس: إننا نفرح بكتابة أسمائنا في ملكوت السماوات إشارة إلى الحياة الفاضلة (في الرب)، أما إخراج الشيَّاطين فهي موهبة من الرب يمكن أن يتمتَّع بها إنسان منحرف فيهلك.

v الآن يا أحبائي قد ذبح الشيطان، ذاك الطاغية الذي هو ضد العالم كله… لا يعود يملك الموت بل تتسلَّط الحياة عوض الموت، إذ يقول الرب: “أنا هو الحياة” (يو 14: 6)، حتى امتلأ كل شيء بالفرح والسعادة، كما هو مكتوب: “الرب قد ملك فلتفرح الأرض”… الآن إذ بطل الموت، وتهدَّمت مملكة الشيطان، امتلأ الكل فرحًا وسعادة!

القدِّيس أثناسيوس الرسولي

v نال الشيطان سلطانًا على الإنسان خلال الارتداد، هذا السلطان يُفقد برجوع الإنسان مرَّة أخرى إلى الله.

v خلال الآلام صعد الرب إلى العُلى وسبى سبيًا، وأعطى الناس عطايا (مز 68: 18؛ أف 4: 8)، ووهب الذين يؤمنون به سلطانًا أن يدوسوا على الحيَّات والعقارب وكل قوَّة العدو، أي سلطان على قائد الارتداد.

القدِّيس إيريناؤس

v أيّ انحطاط أكثر من الشيطان الذي انتفخ؟ وأيّ علو للإنسان الذي يريد أن يتواضع؟ صار الأول يزحف على الأرض تحت أقدامنا، وارتفع الثاني مع الملائكة في العُلى.

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

v [يُعلِّق على ضرورة فرحنا كأعضاء في ملكوت السماوات، أو أعضاء في الجسد، وليس لأنه قد صار لنا السلطان على العدو.]

خير لك أن تكون إصبعًا في الجسد عن أن تكون عينًا خارج الجسد!

القدِّيس أغسطينوس

v مجيئه (المسيح) قد سكب على البشريَّة عطيَّة عظمى للنعمة الأبويَّة.

القدِّيس ايريناؤس

v لما كان من الضروري تحطيم رؤوس التنِّين نزل السيِّد في المياه وربط القوي (مت 12: 29)، لكي يولينا سلطانًا ندوس به على الحيَّات والعقارب (لو 10: 19).

إنه ليس وحشًا صغيرًا، فمنظره كافٍ لإثارة الرعب، ولا يستطيع أي قارب صيد أن يقاوم ضربة واحدة من ذيله، وأمامه يعدو الهول، وهو يسحق كل الذين يقتربون منه (أي 41: 13).

لقد أقبلت الحياة لتُكَمِّم الموت، حتى نستطيع نحن المخلَّصون جميعًا أن نقول: “أين شوكَتَك يا موت؟ وأين ظفْرك يا جحيم؟” (1 كو 15: 55)، فبالعماد سُحِقت شوكة الموت.

القدِّيس كيرلس الأورشليمي

v [تحذير السيِّد المسيح من فرح التلاميذ بسلطانهم على الشيطان وعمل الآيات وتوجيههم للفرح بالتمتُّع بملكوت السماوات.]

يحذِّرهم ذلك الذي وهبهم بنفسه هذا السلطان لصُنع المعجزات والأعمال العجيبة لئلاَّ ينتفخوا…

لا نطلب أن تخضع لنا الشيَّاطين بل بالحري أن نَملك ملامح الحب التي يصفها الرسول…

v لا يتحقَّق هذا بقوَّتهم وإنما بقوَّة الاسم الذي يستخدمونه، لهذا حذَّرهم من أن ينسبوا لأنفسهم أي تطويبٍ أو مجدٍ من هذه الجهة، إذ يتحقَّق هذا بسلطان الله وقدرته، أما النقاوة الداخليَّة التي تخص حياتهم وقلوبهم، فبسببها تُكتب أسمائهم في السماء.

الأب نسطوريوس

  1. تهلَّل السيِّد المسيح بالروح

في النص المشابه للنص الذي بين أيدينا (مت 11: 25-30) رأينا السيِّد المسيح وهو يشتاق أن يقدِّم المعرفة الحقيقية لكل نفس، لا يتمتَّع بهذه المعرفة السماويَّة إلا البسطاء كالأطفال خلال ربَّنا يسوع المسيح الابن الوحيد الجنس البسيط. إنه يوَد ألاَّ يُحرم أحدًا من المعرفة، لكن الذين حسبوا في أنفسهم أنهم غنوسِيُّون (أصحاب معرِفة) وحكماء لا يستطيعوا اللقاء معه للتعرف على الأسرار الإلهيَّة.

v أخيرًا يكشف ابن الله السرّ السماوي، معلنًا نعمته للأطفال وليس لحكماء هذا الدهر (مت 11: 25). يذكر الرسول بولس ذلك بالتفصيل: “لأنه إذ كان العالم في حكمة الله لم يُعرف الله بالحكمة استحسن الله أن يُخلِّص المؤمنين بجهالة الكرازة” (1 كو 1: 21).

من يعرف أن ينتفخ أو يعطي كلماته رنين الحكمة فهو حكيم (هذا الدهر)، أما الطفل فيقول: “يا رب لم يرتفع قلبي، ولم تستَعْلِ عيناي، ولم أنظر في العجائب والعظائم التي هي أعلى مني” (مز 1:131)، هذا يظهر صغيرًا لا في السن ولا في الفكر وإنما بِتواضعه، خلال ابتعاده عن المديح، لذا يضيف: “لكن رفعتُ عينيَّ مثل الفطيم من اللبن من أُمِّه”. تأمَّل عظمة مثل هذا الإنسان في كلمات الرسول: “إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر فلْيصر جاهلاً لكي يصير حكيمًا، لأن حكمة هذا العالم هي جهالة عند الله” (1 كو 3: 18-19).

القدِّيس أمبروسيوس

“كل شيء قد دُفع إلىّ من أبي،

وليس أحد يعرف من هو الابن إلا الآب،

ولا من هو الآب إلا الابن، ومن أراد أن يُعلِن له” [22].

v يتحدَّث هنا عن نوع معين من المعرفة (معرفة خلال وحدة الجوهر) لا يملكه آخر.

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

v لم يقل “يعلن” بخصوص الإعلان في المستقبل فقط، إنما بدأ الابن يعلن عن الآب عندما وُلد من مريم، وأُعلن عنه بطرق متنوِّعة عبر الزمن. الابن حاضر… يعلن عن الآب للكل، لمن يريد، وحينما يريد الآب.

القدِّيس إيريناؤس

v لم يتعلَّم بولس الإيمان بالكلمات فحسب (معرفة كلاميَّة) وإنما تمتَّع بغنى الروح، حتى ينير الإعلان كل نفسه ويتكلَّم المسيح فيه.

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

v صارت الأذهان الجديدة حكيمة بحكمة جديدة، جاءت هذه الأذهان إلى الوجود خلال العهد الجديد حيث نزعت الغباوة القديمة.

القدِّيس إكليمنضس السكندري

من هذا نُدرك أن الحكمة الجديدة التي من أجلها تهلَّل يسوع توهب لنا في المسيح يسوع بخلع إنساننا القديم، وتمتُّعنا بالإنسان الجديد الذي على صورة خالقنا، صورة المسيح. خلال هذا الإنسان الجديد، أي اتحادنا مع الله في المسيح يسوع، نصير أولاد الله أو أطفاله نتعرَّف على أسراره الإلهيَّة. لهذا السبب يُعلِّق القدِّيس إكليمنضس السكندري على تمتَّع الأطفال بالحكمة بقوله: [بالحق هل نحن أطفال الله، تركنا الإنسان القديم، وخلعنا ثوب الشر، ولبسنا خلود المسيح، فنصير شعبًا جديدًا مقدَّسًا خلال الميلاد الجديد، ونحفظ إنساننا غير دنس، وكأطفال لله نغتسل من الزنا؟]

إذن لنكن أطفالاً حقيقيِّين، بخلع لباس الشرّ والسلوك كأبناء الله، فيكشف لنا الرب أسراره، ويتهلَّل من أجل الحكمة التي يهبنا إياها.

  1. مثَل السامري الصالح

إن كان الله في حبِّه يشتاق إلى كل نفسٍ، فقد رأينا ربَّنا يسوع المسيح يتهلَّل بالروح من أجل تمتَّع البسطاء بنعمة المعرفة الروحيَّة، ولئلا يظن اليهود أن هذه النعمة حِكْر على بني جنسهم، قدَّم لنا السيِّد مثل “السامري الصالح” ليُعلن مفهوم الأُخوَّة العامة أو الجامعة بالنسبة للإنسان طيب القلب، فكم بالحري يليق بالله أن يحب كل البشريَّة التي هي من صنع يديه، دون تمييز بين جنس أو لغة.

وإذا ناموسي قام يجُرِّبه، قائلاً:

يا معلِّم ماذا أعمل لأرث الحياة الأبديَّة؟

فقال له: ما هو مكتوب في الناموس، كيف تقرأ؟

فأجاب وقال:

تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قدرتك، ومن كل فكرك،

وقريبك مثل نفسك.

فقال له: بالصواب أجبت، افعل هذا فتحيا.

وأما هو فإذا أراد أن يبرِّر نفسه،

قال ليسوع: ومن هو قريبي؟” [25-29]

بلا شك مثل السامري الصالح هو أحد المعالم الهامة في إنجيل معلِّمنا لوقا البشير، لِما حواه من مفاهيم روحيَّة ولاهوتيَّة عميقة، لكن معلِّمنا لوقا لم يرد أن يورده إلا من خلال الظروف التي أحاطت بالنطق به، إذ تزيد الظروف من المثل بهاءً، وتكسبه جمالاً أعظم، فإننا لا نقدر أن ندرك قيمة النور ما لم نتحسَّس الظلام، ولا يعرف قيمة الصحَّة إلاَّ الذي ذاق المرض. يمكننا أن نُلخص ملابسات هذا المثَل في النقاط التالية:

أولاً: يقول الإنجيلي “وإذا ناموسي قام يجُرِّبه“؛ لعل الناموسي قد حسد السيِّد لِما رآه فيه كصاحب سلطان في أعماله وفي كلماته، الأمر الذي بهر الشعب، فالتفوا حوله، مع أنه لم يتخرج في مدرسة المدارش التقليديَّة، وقد اقتحم صفوف المعلمين دون استئذان وفاقهم، بل وصار يمثِّل خطرًا عليهم بتعاليمه الروحيَّة ومفاهيمه الفائقة. والعجيب أن هذا الناموسي، وهو معلِّم في الشريعة أو الناموس اليهودي في أدب اجتماعي “قام” يسأل السيِّد، أما في قلبه فقد أراد أن “يجُرِّبه”، وقد ورد هذا التعبير عن إبليس (لو 4: 22)… حمل الناموسي صورة التقوَّى وقلب إبليس في داخله! لكن السيِّد يخرج من الآكل أُكلاً ومن الجافي حلاوة.

ثانيًا: جاء سؤال الناموسي: “يا معلِّم ماذا أعمل لأرث الحياة الأبديَّة؟” [25] يكشف في أعماقه ما أصاب الأُمَّة اليهوديَّة، فمع ما لديهم من الكتب المقدَّسة التي تضم الناموس والنبوَّات لكن المعلِّمين أنفسهم يشعرون بالعجز العملي عن بلوغ الراحة الداخليَّة، أو التمتُّع بالحياة، لهذا لم يقل: “ماذا أتعلَّم؟” أو بماذا أُعلِّم الآخرين؟ إنما قال: “ماذا أعمل؟” يمارس اليهود الكثير من الطقوس والعبادات بما فيها من ذبائح وتقدِّمات وصلوات، لكن بسبب العطش بقيَ السؤال: “ماذا أعمل؟” هكذا لن يتمتَّع أحد بالشبع ما لم يقبل السيِّد المسيح نفسه بكونه “الحياة الأبديَّة”. هو سرّ الشبع!

لعل الناموسي بسؤاله أراد أن يُسقط السيِّد في فخْ، إذ حسبه أنه سيقدِّم وصايا جديدة مستهينًا بالشريعة الموسويَّة والوصايا العشر، فيتَّهمه بالاستهانة بالشريعة، أو بكسر الناموس.

ثالثًا: لم يعطِ السيِّد المسيح للناموسي فرصة ليتَّهمه ككاسر الناموس، إذ سأله عمَّا جاء في الناموس، مشدِّدًا على الوصايا، معطيًا إيَّاها مفهومًا جديدًا عميقًا. يعرف السيِّد المسيح أن الناموسي قد جاء ليجُرِّبه، ومع هذا لم يصدُّه، بل في رقَّة يمتدحه قائلاً: “بالصواب أجبت”. فإنه لا يرُد الشرّ بالشرّ بل يغلبه بالخير، مستخدمًا اللطف لكي يكسبه.

رابعًا: قدَّم لنا آباء الكنيسة الكثير من التفاسير لهذا المثَل “السامري الصالح”، فمن الجانب السلوكي أراد الرب إبراز التزامنا باتِّساع القلب، لنقبل البشريَّة بكل أجناسها كأقرباء، وكما يقول القدِّيس جيروم: [نحن أقرباء، كل البشر أقرباء لبعضهم البعض، إذ لنا أب واحد.] ويرى العلامة أوريجينوس أن القرابة لا تقف عند حدود الدم ولا عند العمل، وإنما تقوم على تنفيذ وصيَّة الحب والرحمة، إذ يقول: [يعلَم يسوع أن هذا الرجل الذي نزل من أورشليم لم يكن قريبًا إلا للذي يريد أن يحفظ الوصايا، والمستعد أن يقدِّم المساعدة. لخَّص هذا بقوله: “فأي هؤلاء الثلاثة تُرى صار قريبًا للذي وقع بين اللصوص؟” [36] فلا الكاهن ولا اللاوي كان قريبًا له، وإنما بحسب إجابة الناموسي نفسه: “الذي صنع معه الرحمة” هو قريبه. “فقال له يسوع: “اذهب أنت أيضًا واصنع هكذا” [37].] ويقول القدِّيس ساويرس الأنطاكي: [كثيرًا ما تظن عن جهلٍ أن الذي يشترك معك في ديانتك أو جنسيَّتك هو قريبك، أما أنا فأقول إن الذي يشترك في نفس الطبيعة البشريَّة هو قريبك، وكما رأيت الذي كان يرفع رأسه معتزًا بالملابس الكهنوتيَّة والذي كان يفتخر بتسميته لاويًا… لم يفكِّر أن ذاك الذي من بني جنسهما وهو عريان وقد تغطَّى بجراحات لا شفاء لها ومُلقى على الأرض، وقد أوشك أن يموت في لحظة، كان إنسانًا! لكنهما احتقروه كحجرٍ أو قطعةٍ من الخشب المرذول. أما السامري الذي لم يكن يعرف وصايا الناموس، والذي اشتهر بينهم (اليهود) بالغباء والجهل، إذ يقول الحكيم: “الجالسون في جبال السامرة والفلسطينيُّون والشعب الجاهل الساكن في سخيم (حكمة يشوع 50: 28). هذا السامري عرف الطبيعة البشريَّة وفهم من هو القريب. من كان في نظركم أيها القضاة بعيدًا جدًا قد صار قريبًا جدًا لذاك الذي احتاج إلى علاج. فلا تُقصِر تعريف القريب عند الفكر اليهودي الضعيف الذي يقف عند مقاييس ضيِّقة خاصة بالجنس… إنما كل شخص نبسط عليه روح المحبَّة هو القريب.]

وفي حديث القدِّيس أمبروسيوس عن “التوبة” يرد على أتباع نوفاتيوس الذين رفضوا قبول الراجعين بعد إنكارهم الإيمان، يقول: [السامري الصالح لم يعبُر تاركًا الإنسان الذي ألقاه اللصوص بين حيّ وميِّت، بل ضمَّد جراحاته بزيت وخمر. صبَّ عليه أولاً زيتًا لتلطيف آلامه، وأتكأه على صدره، أي اِحتمل كل خطاياه، هكذا لم يحتقر يسوع الراعي خروفه الضال… لقد جعلت من نفسك إنسانًا غريبًا عنه بكبريائك، إذ اِنتفخت عليه باطلاً من قِبل ذهنك الجسدي وعدم تمسكك بالمسيح الرأس (كو 2: 18-19). لأنك لو كنت قد تمسَّكت بالرأس لما كنتَ تترك ذاك الذي مات المسيح عنه. لو كنت قد تمسَّكت بالرأس لاِهتممت بالجسد كله، واهتممت بالارتباط بين الأعضاء بدون انقسام، ناميًا بالله (كو 2: 19) برباط المحبَّة وخلاص الخطاة. إنك عندما ترفض قبول التوبة، إنما بذلك تقول: لن يدخل في فندقنا جريح، ولا يُشفى أحد في كنيستنا. أننا لا نهتم بالمرضى، فنحن كلنا أصحَّاء، ولسنا في حاجة إلى طبيب، لأنه هو نفسه قال: لا يحتاج الأصحَّاء إلى طبيب بل المرضى.]

هذا عن التفسير السلوكي، أما بالنسبة للتفسير الروحي والرمزي فقد أفاض فيه الآباء، لذلك رأيت تقديمه مختصرًا ما استطعت.

فأجاب يسوع وقال:

إنسان كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا،

فوقع بين لصوص، فعرُّوه وجرحوه،

ومضوا وتركوه بين حيّ وميِّت” [30].

أ. إنسان: يقول القدِّيس ساويرس: [لم يقل مخلِّصنا “أناس كانوا نازلين، بل قال “إنسان كان نازلاً”. إن المسألة تخص البشريَّة جمعاء، فبالحقيقة بسبب تعدي آدم للوصيَّة سقطت من مسكن الفردوس العالي المرتفع الهادئ، الذي دُعي بحق “أورشليم”، ومعناها “سلام الله”، إلى أريحا التي هي مدينة في وادٍ منخفضٍ يخنقه الحر.] فقصَّة الساقط بين اللصوص هي قصَّة كل نفس بشريَّة انحدرت من الفردوس خلال آدم الأول، فقد سلام الله ورؤيته، إذ يقال أن “أورشليم” أيضًا تعني “رؤية السلام”.

ب. كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا: يقول العلامة أوريجينوس: [حسب تفسير أحد السابقين: الإنسان النازل يمثِّل آدم، وأورشليم تمثِّل الفردوس، وأريحا هي العالم، واللصوص هو القوَّة العدوانيَّة، الكاهن هو الناموس، واللاوي هو الأنبياء، والسامري هو المسيح، الجراحات هي العصيان، والدابة هي جسد المسيح، والفندق المفتوح لكل من يريد الدخول فيه هو الكنيسة، والديناران يمثِّلان الآب والابن، وصاحب الفندق هو رئيس الكنيسة الذي يدبِّرها، ووعد السامري بالعودة هو تصوُّر لمجيء المسيح الثاني.]

هذه الرموز التي قدَّمها العلامة أوريجينوس في القرن الثاني معلنًا أنه قد استقاها عن أحد القدامى، ربَّما معلِّمه الروحي القدِّيس إكليمنضس السكندري أو سابقه القدِّيس بنتينوس، يكشف لنا عن إدراك الكنيسة الأولى للمثل بوجه عام وعن مفهوم أورشليم والتي نزلنا منها متَّجهين نحو أريحا.

تلقَّف القدِّيس أمبروسيوس هذا التفسير ليحدِّثنا في شيء من الإفاضة عن أريحا التي نزلت إليها البشريَّة منحدرة من أورشليم، أي من الفردوس، متَّجهة نحو “العالم”، فإن أريحا هي العالم، فهي مدينة كانت محاطة بأسوار وحواجز لم يَخلُّص منها إلا الذين احتضنتهم راحاب الزانيَّة التي قبلت الجاسوسين بالإيمان وخبَّأتهما على سطح منزلها بين عيدان الكتان.

ج. فوقع بين لصوص: هؤلاء اللصوص يمثِّلون إبليس بجيشه من ملائكة أشرار، أو بإغراءاته إذ يترقَّب النفس التي تخرج من أسوار أورشليم ولو بالفكر إلى لحظات، لكي يقتنصها لحسابه، مهاجمًا إيَّاها بملائكته الأشرار، وناصبًا لها كل أنواع الفخاخ المناسبة لتحطيمها.

v الإنسان الذي ينزل من أورشليم إلى أريحا يقع في أيدي اللصوص، لأنه بإرادته قد نزل… يقول المخلِّص: “جميع الذين أتوا قبلي هم سراق ولصوص” (يو 10: 8)…

ما هي هذه الجروح التي أصابت الإنسان؟ أنها رذائل الخطيَّة.

العلامة أوريجينوس

v سبْي طبيعة الإنسان لم يكن بتغيير المكان، وإنما بتغيير السلوك، فما انحدر إلى خطايا العالم حتى قابله اللصوص، وإذ اِنحرف عن الوصايا السماويَّة تعرَّض للقاء معهم.

اللصوص هم ملائكة الليل والظلمة الذين يغيِّرون شكلهم أحيانًا إلى ملائكة نور (2 كو 11: 14)، ولكن لا يقدرون أن يبقوا هكذا ثابتين (كملائكة نور)، بل يبدأون في تجريدنا من ثياب النعمة الروحيَّة التي نلناها، وهكذا يصيبوننا بجراحات. لأننا إن حفظنا الثوب الذي نلناه بلا دنس لا يمكننا أن نشعر بضربات اللصوص.

اِحذر لئلا تُجرَّد من ثوب الإيمان، فإن هذا قد كان الضربة القاضية العنيفة التي كان يمكن أن تُهلك الجنس البشري كله لولا نزول “السامري” لشفاء الجراحات القاسية.

القدِّيس أمبروسيوس

v يعلِّمنا أن حياة الأهواء في هذا العالم تفصل (البشرية) عن الله، وتسحبها إلى أسفل، وتسبب لها اختناقًا بحرارة الشهوات المُخزية، وتنتج قلقًا وتدني بها إلى الموت.

إذ سقطت البشريَّة هكذا، وانقلبت انجذبت إلى أسفل، انقادت رُويدًا رُويدًا إلى هِوَّة السقوط، هاجمها جمع من الشيَّاطين، فجرَّدها من ثياب الكمال على نحو ما تفعل عصابة من اللصوص، ولم يتركوا لها بقيَّة من قوَّة أو مسحة من الطهارة أو البر أو الحكمة أو أي شيء ممَّا يمثِّل الصورة الإلهيَّة، وهكذا وئدت بجراح الخطايا المختلفة المتكرِّرة، وبالجملة قاتل الشيَّاطين البشريَّة وتركوها بين حيَّة وميِّتة.

هذا بالحقيقة يبيِّن جيِّدًا ما اختصَّ به هذا المثَل من عُمق تدركه بالتأمَّل، لأن من عادة اللصوص والسُرَّاق أن يُحدِثوا أولاً الإصابات والجروح، حتى يجَرِّدوا الجريح بعد ذلك من ملابسه، ليس هناك في أغلب الأحيان ما يدعوهم إلى إحداث إصابة بعد ذلك. ولكن الشيَّاطين، وهم بمثابة اللصوص لا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً، ما لم يرفعوا عنه ثياب الفضائل أولاً، وبعد ذلك يجرحونه بدون شفقة حتى الموت، لأنهم لا يريدون منَّا ملابسنا، بل ما يريدونه بالحقيقة هو خسارتنا وموْتنا، لذلك قال ربَّنا بحكمة: “فعرُّوه وجرحوه”.

القدِّيس ساويرس الأنطاكي

د. الكاهن واللاوي والسامري: إن كان الكاهن يمثِّل الشريعة واللاوي يمثِّل النبوَّات، فإنه لم يكن ممكنًا للناموس أو الشريعة أو النبوَّات أن تضمد جراحاتنا الخفيَّة، وتردِّنا إلى طبيعتنا التي خلقنا الله عليها، لكن “السامري الصالح” الذي يمثِّل السيِّد المسيح وحده ينزل إلينا، ويحملنا في جسده، مباركًا طبيعتنا فيه، مقدِّما لنا كل شفاءٍ حقيقيٍ يمس تجديد حياتنا.

v الكاهن كما أظن هو الناموس، واللاوي أيضًا يمثِّل الأنبياء، الاثنان ينظران إلى الجريح ويتركانه هناك. تركت العناية الإلهيَّة هذا الرجل بين حيّ وميِّت ليكون تحت اهتمام من هو أقوى من الناموس والأنبياء. إنه “السامري” الذي اِسمه يعني “الحارس”، فإن حارس إسرائيل لا ينعس ولا ينام (مز 121: 4). لكي يساعد هذا الرجل الذي بين حي وميِّت نزل السامري إلى الطريق، لكنه لم ينزل من أورشليم إلى أريحا مثل الكاهن واللاوي، إنما نزل إليه يقصد خلاص هذا المنازع والسهر عليه. فاليهود قالوا له: “إنك سامري وبك شيطان” (يو 8: 48)، وإذ أكَّد لهم أنه ليس به شيطان لم يرد يسوع أن ينكر أنه السامري إذ هو الحارس.

العلامة أوريجينوس

v لم يكن السامري هو أول من جاء، فالذي احتقره الكاهن واللاوي لم يحتقره السامري بدوره. لا تحتقره من أجل جنسه. فإنك إن عرفت تفسير اِسمه تعجب به، فإن اِسمه يعني “حارسًا”. هذا الحارس قيل عنه: الرب يحفظ الصغار” (مز 116: 6)… تُرى من نزل من السماء إلا الذي صعد إلى السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء (يو 3: 13)؟ هذا الذي رأى الإنسان بين حيّ وميِّت، لم يستطع أحد أشقَّائه أن يشفيه… فاقترب منه بقبوله الآلام معنا واقترابه منَّا وسكب رحمته علينا، فصار قريبنا.

القدِّيس أمبروسيوس

v عندما كانت البشريَّة ملقاة على الأرض، وما هي إلا لحظات لتفقد الوعي وتنتهي، رآها الناموسي المعُطَى بواسطة موسى. هذا في الواقع ما تشير إليه بعد ذلك بالكاهن واللآوي أيضًا، لأن الناموسي هو طبيب الكهنوت اللاوي. رآها لكن كان ينقصه النشاط والقوَّة، فلم يستطع أن يجلب لها الشفاء الكامل، ولم يقم البشريَّة التي كانت ملقاة على الأرض… يقول بولس الرسول: “الذي هو رمز للوقت الحاضر الذي فيه تقدَّم قرابين وذبائح لا يمكن من جهة الضمير أن تكمل الذي يخدم” (عب 9: 9). “وليس بدم تيوس وعجول، بل بدم نفسه دخل مرَّة واحدة إلى الأقداس فوجد فداءً أبديًا” (عب 9: 12). لذلك لم يقل ربَّنا: “إن الكاهن واللاوي بعدما رأيا الرجل بين حيّ وميِّت ملقى على الأرض، “جازا عنه”، لكنه قال “فعرض أن كاهنًا نزل في تلك الطريق فرآه وجاز مقابله. وكذلك لاوي أيضًا، إذ صار عند المكان جاء ونظر وجاز مقابله” [31-32].

كل منهما لم يتخطَّ الرجل فيتركه جانبًا دون أن يراه؛ بل وقف أمامه ورآه وفكر في شفائه ولمسه، ولما وجد أنه غير قادر على شفائه وقد غلبته خطورة جراحاته أي الأهواء، حينئذ رجع إلى الوراء راكضًا. وهذا هو ما تظهره عبارة: “جاز مقابله“.

وأخيرًا يقول: “ولكن سامريًا مسافرًا جاء إليه، ولما رآه تحنَّن. فتقدَّم وضمّد جراحاته، وصبّ عليها زيتًا وخمرًا وأركبه على دابَّته، وأتى به إلى فندق اعتنى به” [33-34].

هنا يدعو المسيح نفسه بحق سامريًا وهو يخاطب ناموسيًا يفتخر في ذاته كثيرًا بالناموس؛ اهتم بأن يبين بقوله أنه ليس بالكاهن ولا اللاوي وعلى وجَّه العموم ليس الذين كانوا يعتقدون أنهم يسلكون حسب وصايا موسى عندهم القدرة. بل هو ذاته الذي أتى لكي يكمل إرادة الناموس مبيِّنًا بالوقائع ذاتها من هو القريب بالحقيقة، وما تنطوي عليه العبارة “تحب قريبك كنفسك” وهو الذي كان اليهود يقولون له شاتمين: ألسنا نقول حسنًا إنك سامري وبك شيطان (يو 8: 48)، وهو الذي كانوا يتَّهمونه كثيرًا بتعدِّي الناموس.

وبمعنى آخر لا يرى أحد في تسمية المسيح بالسامري ما هو غير جدير، ولو أنها تبدو بطريقة ما أنها تسمية غير مناسبة لجلاله القدُّوس.

القدِّيس ساويرس الأنطاكي

v صلِ من أجلي لكي أرى أورشليم مرَّة أخرى تاركًا بابل… فقد نسيت تحذير الإنجيل لي أن من ينزل من أورشليم يسقط في الحال بين أيدي اللصوص، فيحطِّمونه ويجرحونه ويتركونه للموت. وبالرغم من أن الكاهن واللاوي قد يهملانني، لكن لا يزال يوجد السامري الصالح الذي لما قال له الناس: “إنك سامري وبك شيطان” (يو 8: 48) فنَّد قولهم الخاص بأن به شيطان لكنه لم يدافع عن القول بأنه سامري.

القدِّيس جيروم

v “سامري” معناه “حارس”. فإنه يعرف أنه حارسنا، إذ “حارس إسرائيل لا ينعس ولا ينام ” (مز 121: 4)، “وإن لم يحرس الرب المدينة فباطلاً يتعب الحراس” (مز 127: 1). حارسنا هو نفسه خالقنا.

القدِّيس أغسطينوس

v ليته لا يخف إنسان ما من الهلاك، مهما كان سقوطه، فإن السامري الصالح الذي هو حارس النفوس، أقول أنه لن يجتازه، بل يحنو عليه ويشفيه.

القدِّيس أمبروسيوس

هـ. “وضمد جراحاته وصب زيتًا وخمرًا” [34].

حينما ينهار إنسان تحت ثقل الخطيَّة وتُصاب نفسه بجراحات عميقة لا يحتاج إلى كلمات توبيخ جارحة بالرغم من مسئوليَّته عن هذه الجراحات، لكنه يحتاج من يضمِّد جراحاته أي يستر ضعفاته أمام الآخرين، ولا يكشفها للغير، كما يحتاج إلى الزيت لتلطيف حِدَّة الألم، لا إلى مواد تلهب الجراح، أما الخمر فربَّما يشير إلى التأديب، فيمتزج الزيت بالخمر، أي اللطف بالتأديب، والحنان بالحزم. وربَّما يشير الخمر إلى الفرح، فإن كانت النفس قد انكسرت بالخطيَّة، وفقدت سلامها وتحوَّلت حياة الإنسان إلى دموع، فإن طبيبنا يود أن يرد إلينا “بهجة خلاصنا” من جديد.

v لم يترك السامري الصالح المُلقى بين حيّ وميِّت، لأنه رأى فيه نسمات حياة، فترجَّى شفاءه.

أما يبدو لك الإنسان الساقط في الخطيَّة بين حيّ وميِّت ؟ يستطيع الإيمان أن يجد فيه نسمة حياة!

إن كان الساقط بين حيّ وميِّت صبّ عليه زيتًا وخمرًا، لا تصب خمرًا بلا زيت حتى تكون له راحة مع آلام التطهير. اِتْكئه على صدرك، قدِّمه لصاحب الفندق، واِدفع الدينارين لأجل شفائه وكن له قريبًا!

v لهذا الطبيب أدويته الكثيرة، فقد اعتاد أن يهب بها الشفاء… يضمِّد الجراحات بوصايا حازمة ويبعث الدفء عندما يغفر الخطايا. وينخس القلب كما تفعل الخمر، عندما يعلن دينونته. وأركبه على دابَّته؛ تأمَّل كيف يُصعدك (فيه) إذ حمل خطايانا وتألَّم لأجلنا (إش 53: 4). حمل الراعي أيضًا الخروف الضال على منكبيْه (لو 15: 5).

القدِّيس أمبروسيوس

v كان أيضًا يسكب النبيذ، أي الكلمة التي تعلِّم، وتضمِّد القروح. وقد أعطانا فعلاً لنشرب نبيذ التوبة، كما يقول النبي في المزامير: “أريت شعبك عُسرًا، سقيتنا خمر الترنُّح” (مز 60: 3). ولم نكن بالحقيقة نستطيع تحمله صرفًا، لأن خطورة الجراح الخبيثة وحالتها التي لا شفاء منها كانت لا تتحمَّل مثل هذا اللذع، ولذلك خلطه بالزيت.

كان أيضًا يأكل مع العشَّارين والخطاة، وكان يقول للفرِّيسيِّين الذين كانوا ينحون باللائمة، يتَّهمونه وينتقدون: فاذهبوا وتعلَّموا ما هو، إني أريد رحمة لا ذبيحة، لأني لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة” (مت 9: 13).

وقد حمل على دابَّته من كان موضوع مثل هذا الاهتمام والعناية.

القدِّيس ساويرس الأنطاكي

v يمكننا أن ندعو جسد المسيح كحيوانه، عليه أقام ذاك الذي جرحته اللصوص.

القدِّيس أغسطينوس

v النفس التي سقطت بين لصوص تُحمل على كتفيْ المسيح.

القدِّيس جيروم

و. وأتى به إلى فندق واعتنى به

v الفندق هو الكنيسة التي تستقبل جميع الناس، ولا ترفض أن تسند أحدًا، إذ يدعو يسوع الكل:

تعالوا إلىّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم” (مت 11: 28)

العلامة أوريجينوس

v الفندق هو الكنيسة التي أصبحت تستقبل وتأوي كل الناس، فإننا لم نعد نسمع حسب ضيق الظل الناموسي والعبادة الرمزيَّة: “لا يدخل عمُّوني ولا موآبي في جماعة الرب” (تث 23: 3)، “في ذلك اليوم قُرئ في سفر موسى في آذان الشعب ووجد مكتوبًا فيه أن عمُّونيًّا وموآبيًّا لا يدخل في جماعة الله إلى الأبد” (نحميا 13: 1) بل نسمع : “فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (مت 28: 19)، وأيضًا “بل في كل أمة الذي يتَّقيه ويصنع البرّ مقبول عنده” (أع 10: 35).

وبعد أن أتى به إلى الفندق، “اعتنى به” [34]. أي بعد أن تشكَّلت الكنيسة من اجتماع الأمم التي كانت تموت في عبادة الآلهة العديدة، أصبح المسيح نفسه هو الساكن فيها ويسير، كما هو مكتوب، ويمنح كل نعمة روحيَّة.

“فإنكم أنتم هيكل الله كما قال الله أنِّي سأسكن فيهم وأسير بينهم وأكون لهم إلهًا وهم يكونون لي شعبًا” (2 كو 6: 16).

القدِّيس ساويرس الأنطاكي

v الفندق هو المكان الذي يحلو لمن تعبوا من جراء السفر الطويل الاختلاء فيه. إذن صحبنا الرب إلى الفندق، إذ هو يرفع البائس من المزبلة، ويقيم المسكين من التراب (مز 122: 7).

القدِّيس أمبروسيوس

ترك الدينارين لحساب الجريح

كان يليق بهذا الصالح وقد أدخلنا إلى كنيسته بكونها فندقه الذي فيه نستريح، أن يتركنا حسب الجسد ويصعد إلى السماوات يُعد لنا موضعًا. لكنه لا يتركنا في عوز، إنما ترك دينارين. ما هما هذان الديناران؟

في دراستنا السابقة لأسفار العهدين القديم والجديد رأينا أن رقم 2 عند القدِّيس أغسطينوس يشير إلى “الحب”، بكونه قد أعلن خلال وصيَّتين: حب الله وحب الناس، ولأنه يجعل الاثنين واحدًا. وكأن السيِّد المسيح ترك لنا في كنيسته كنز “الحب الإلهي”، به نحب الله والناس.

ويرى بعض الآباء في الدينارين اللذين تركهما السامري لصاحب الفندق رمزًا للتلاميذ والرسل الذين يعملون في الكنيسة لحساب السيِّد المسيح، والكتاب المقدَّس بعهديه.

v بعدما قاد الصريع إلى الفندق لم يتركه حالاً، بل بقى معه يومًا كاملاً يضمِّد جراحاته، ليس في النهار فحسب بل وبالليل أيضًا مكرِّس له إرادته وإمكانيَّته. وفي الغد إذ كان يستعد للرحيل قدَّم من ماله، “أي من أعماقه الخاصة” دينارين وأعطاهما لصاحب الفندق، الذي هو بلا شك ملاك الكنيسة الملتزم بالرعاية… أما الديناران فيمثِّلان معرفة الآب والابن على ما اعتقد، قدَّم له سرّ الآب في الابن والابن في الآب.

العلامة أوريجينوس

v أعطي لصاحب الفندق دينارين، “وفي الغد لما مضى أخرج دينارين، وأعطاهما لصاحب الفندق” [35]، ويُفهم من هذا أنه يرمز للرسل وكذلك الرعاة والمعلِّمين الذين خلفوهم، حينما صعد إلى السماء بعد أن خوَّلهم الأمر بالاهتمام بصفة خاصة بالمريض. وأضاف قائلاً: “اعتنِ به مهما أنفقْت أكثر فعند رجوعي أوفيك” [35].

ويسمَّى العهدين القديم والجديد دينارين. الأول مُعطى بواسطة ناموس موسى والأنبياء، والثاني بواسطة الأناجيل وتعاليم الرسل، وهما كلاهما ملك الله الواحد، كالدينارين يحملان صورة واحدة لهذا الملك العلي، ويطبعان نفس الصورة الملكيَّة في قلوبنا ويثبِّتانها بالكلمات المقدَّسة، لأن الناطق بها هو بالحقيقة أيضًا روح واحد.

القدِّيس ساويرس الأنطاكي

v ما هما هذان الديناران؟ ربَّما كانا العهدين اللذين خُتما بختم الآب الأبدي وبثمنهما نُشفى من جراحتنا، إذ اُشترينا بثمن (1 بط 1: 19)…

صاحب الفندق هو الذي قال: “أرسلني المسيح لأبشِّر” (1 كو 1: 17).

أصحاب الفندق هم الذين قيل لهم: “أذهبوا إلى العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها، من آمن واعتمد خلص ومن لم يؤمن يُدَن” (مر 16: 15-16).

القدِّيس أمبروسيوس

أخيرًا يرى القدِّيس إيريناؤس أن الدينارين يشيران إلى الروح القدس الذي وُهب للكنيسة لكي ينقش على النفس التي سبق فجرحها اللصوص كتابة الآب والابن يكونها عُمْلة الله وديناريه.

  1. مرثا العاملة ومريم المتأمَّلة

إن كان السيِّد المسيح في كل يوم يحمل الجرحى على كتفيه كالسامري الصالح ليدخل بهم إلى كنيسته – الفندق السماوي – مقدِّما لهم الروح القدس (الدينارين) يسندهم ويعولهم حتى يرجع إليهم في مجئيه الأخير، فماذا يفعل هؤلاء الداخلون إلى الكنيسة؟ هذا ما تجيب عليه قصَّة لقاء مرثا ومريم بالسيِّد المسيح في قرية بيت عنيا.

قلنا أن بيت عنيا تعني “بيت الطاعة” أو “بيت العناء”، وكأنه في الكنيسة حيث يمتثل الأعضاء بالطاعة لله، محتملين كل عناء كشركة آلام مع المخلِّص، يعمل الكل كمرثا مجاهدين، ويجلسون معه يسمعون صوته ويتأمَّلون أسراره كمريم، وما نوَد أن نؤكِّده هنا أنه وإن مثَّلت مريم جماعة العاملين في الكنيسة خاصة الخدَّام ومريم وجماعة المتأمِّلين، فإن المسيحي يحمل في قلبه فكر مرثا ملتحمًا بفكر مريم، فلا جهاد حق خارج حياة التأمُّل، ولا حياة تأمُّل صادقة بلا عمل! حقًا لكل عضو موهبته، فمن الأعضاء من يحمل طاقة عمل قويَّة قادرة على الحركة في الرب على الدوام. ومنهم من يحب الهدوء والسكون ليحيا في عبادة وتأمُّل. ولكن يلزم على الأول وسط جهاده أن يتمتَّع بنصيب من الحياة التأمُّليَّة اليوميَّة حتى لا ينحرف في جهاده، ويليق بالثاني أن يُمارس محبَّته عمليًا بالجهاد، إن لم يكن في خدمة منظورة، فبالصلاة على لسان الكنيسة كلها بل ومن أجل العالم كله.

أوَد أن أترك الحديث عن الحياة العاملة والحياة المتأمِّلة في كتاب خاص، إنما اَكتفي هنا بتقديم مقتطفات لبعض الآباء في هذا الشأن:

v صالح هو ما فعلته مرثا بخدمتها للقدِّيسين، لكن الأفضل هو ما فعلته أختها مريم بجلوسها عند قدَّميْ الرب واستماعها كلمته.

v كانت مرثا ومريم أختين، قريبتين حقًا ليس بالجسد، وإنما أيضًا بالتقوى، كانتا ملتصقتين بالرب، تخدمانه حين كان حاضرًا بالجسد.

استقبلته مريم كما تستضيف الغرباء، كخادمة تستقبل سيِّدها، ومريضة تستقبل مخلِّصها، وكخليقة نحو خالقها. قبلته لتطعمه جسديًا، فتقتات بالروح، لقد سُرّ الرب أن يأخذ شكل العبد (في 2: 7)، لذلك صار الخدَّام يطعمونه، بتنازله سمح لنفسه أن يقوته الآخرون. صار له جسد يجوع حقًا ويعطش، ولكن هل تعلم أنه إذ جاء في البرِّيَّة كانت الملائكة تخدمه (مت 4: 11)؟

هكذا إذ سُر أن يطعمه الآخرون، أظهر لطفًا لمن يطعمه. أي عجب في هذا إذ أظهر ذات اللطف للأرملة التي احتكَّت بإيليَّا القدِّيس، الذي سبق فأعاله الله خلال خدمة غراب (1 مل 17: 6)؟ فهل عجز عن أن يعوله حين أرسله إلى الأرملة؟ لا لم يكن يعجزه السلطان في أن يعوله عندما أرسله إلى الأرملة، لكنه أراد أن يبارك الأرملة التقيَّة خلال خدمتها التقويَّة لخادمه. هكذا أيضًا أُستقبِل الرب كضيف، هذا الذي جاء إلى خاصته، وخاصته لم تقبله، أما الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله (يو 1: 11-12)، متبنِّيًا الخدَّام ليجعل منهم إخوة، ومحرِّرا المسبِّبين ليجعل منهم شركاء في الميراث. ومع ذلك ليته لا يُقل لأحدكم: طوبى للذين نالوا هذه النعمة، واستضافوا المسيح في بيتهم! لا تحزنوا ولا تتذمَّروا لأنكم لم تولدوا في تلك الأوقات لتروا الرب في الجسد، فإنه لا يحرمكم هذه الطوباويَّة، إذ يقول: “بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم(مت 25: 40).

v إذ كانت مرثا تدبِّر الطعام وتعدُّه لتُطعم الرب، كانت منهمكة في الخدمة جدًا، أما مريم أختها فاختارت بالحري أن يطعمها الرب. إنها بطريقة ما تركت أختها المرتبكة بأعمال الخدمة وجلست هي عند قدميْ الرب تسمع كلماته بثبات. لقد سمعت أذنها الأمينة: “كفُّوا واعلموا إني أنا الله” (مز 46: 10).

مرثا ارتبكت أما مريم فكانت متمتِّعة (محتفلة)؛ واحدة كانت تدبِّر أمور كثيرة، والأخرى ركَّزت عينيها على الواحد.

v صالحة هي الخدمات التي تقدَّم للفقراء، خاصة الخدمات الضروريَّة والأعمال الورعة التي تقدَّم لقدِّيسي الله… ولكن الأفضل منه هو ما اختارت مريم أن تفعله. فإن الأعمال الأولى لها متاعب كثيرة تمارس بسبب الضرورة، أما الثانية فلها عذوبتها تمارس بالمحبَّة.

لو أن مرثا قد تمتَّعت بالشبع خلال ممارسة هذه الأعمال لما طلبت معونة أختها. هذه الأعمال متعدِّدة ومتنوِّعة إذ هي أعمال جسدانيَّة مؤقَّتة. حقًا إنها أعمال صالحة، لكنها زائلة. لكن ماذا قال الرب لمرثا؟ “مريم اختارت النصيب الصالح”. لستِ أنتِ شرِّيرة، إنما هي أفضل. اسمعي، لماذا هي أفضل؟ “لن ينزع عنها” في وقت أو آخر ثِقَل الواجبات الضروريَّة يُنزع عنك، أما عذوبة الحق فأبديَّة… أنه لن ينزع منها، لا بل يزداد. في هذه الحياة يزداد لها، وفي الحياة الأخرى يكمل لها ولا ينزع عنها.

v كانت مرثا تهتم أن تُطعم الرب، وأما مريم فاهتمت أن يُطعمها الرب. بواسطة مرثا أُعدَّت الوليمة للرب، هذه الوليمة التي ابتهجت فيها مريم.

v أقول أنه في هاتين الامرأتين مُثِّلت الحياتين: الحياة الحاضرة والحياة العتيدة؛ حياة الجهاد وحياة الراحة؛ حياة الحزن وحياة الطوباويَّة؛ الحياة الزمنيَّة والحياة الأبديَّة…

ماذا تحمل هذه الحياة؟ لست أتكلَّم عن حياة شرِّيرة، رديئة، خبيثة، مترَفة جاحدة، بل هي حياة جهاد مملوءة آلامًا، ومخاوف، تُفقدها التجارب سلامها… وأقول أن الحياتين غير ضارِّتين، بل ومستحقَّتان المديح، لكن واحدة مملوءة تعبًا والأخرى سهلة…

في مرثا نجد صورة للأمور الحاضرة، وفي مريم الأمور العتيدة.

ما تفعله مرثا نفعله نحن الآن، ما تفعله مريم نترجَّاه لنفعل العمل الأول حسنًا فننال الثاني كاملاً.

القدِّيس أغسطينوس

v كوني كمريم تفضِّلين طعام النفس عن طعام الجسد.

اتركي أخواتك يجرين هنا وهناك ليدبِّرن بلياقة كيف يستضيفن المسيح، أما أنتِ فإذ تتركي ثِقل العالم اجلسي عند قدميْ الرب، وقولي له: “وجدت من تحبُّه نفسي، فأمسكتُه ولم أرْخه” (نش 3: 4).

القدِّيس جيروم

v يأمر الرب أن يترك (الإنسان) حياته المرتبكة ويلتصق بالواحد، يقترب من نعمة ذاك الذي يقدِّم الحياة الأبديَّة.

القدِّيس إكليمنضس السكندري

v الخير الأعظم لا يكمن في الأعمال في ذاتها مهما بلغ شأنها، وإنما في التأمَّل في الرب، الذي هو بالحقيقة هو “الأمر الواحد”… أما قوله “لا ينزع عنها”، فقد كشف أن نصيب الأخرى يمكن أن يُنزع عنها، لأن الخدمات الجسديَّة لا يمكن أن تبقى مع الإنسان أبديًا، أمًا اشتياق مريم فلن يكون له نهاية.

الأب موسى

v جاهدت الأولى في الخدمة العاملة، واهتمَّت الأخرى بالعمل الروحي بكلمة الله.

اختارت مريم النصيب الصالح الذي لم ينزع عنها، فليتنا نجاهد نحن أيضًا ليكون لنا ما لا يستطيع العدًو أن ينزعه عنَّا، لتكن لنا الأذن الصاغية غير الشاردة، لأن بذار الكلمة الإلهيَّة معرَّضة للسرقة إن سقطت على الطريق (لو 8: 5، 12).

لنتمثَِّل بمريم التي تاقت إلى الامتلاء بالحكمة، وهذا هو عمل أعظم وأكمل يليق بنا ألا تعوقنا الاهتمامات اليوميَّة عن معرفة الكلمة السماويَّة…

لا يعيب الرب على مرثا أعمالها الصالحة، لكنه يفضل عليها مريم لأنها اختارت النصيب الصالح، فعند يسوع توجد كنوز الغنى وهو كريم في عطاياه الوفيرة، لذا اختارت الحكمة الأساسي. هكذا لم يترك الرسل كلمة الله ليخدموا الموائد (أع 6: 2).

أساس العمليَّة “الحكمة”، فقد كان استفانوس مملوء حكمة وقد اُختير للخدمة… جسد الكنيسة واحد وإن اختلفت الأعضاء، وكل منهم يحتاج إلى الآخر، “لا تقدر العين أن تقول لليد لا حاجة لي إليك، أو الرأس أيضًا للرجلين(1 كو 12: 21)، ولا تستطيع الأذن أن تنكر أنها من الجسد، فإن وُجِدت أعضاء أساسيَّة لكن الأخرى لها أهميَّتها. فالحكمة موضعها الرأس، والعمل يقوم به اليدان، لأن أعين الحكيم في رأسه (جا 2: 14). فالحكيم الحقيقي هو من له فكر المسيح، ويرتفع ببصيرته الروحيَّة إلى الأعالي، لذا عينا الحكيم في رأسه والجاهل في كفِّه.

القدِّيس أمبروسيوس

فاصل

إنجيل القديس لوقا: 1234567891011 12131415161718192021222324 

تفسير إنجيل القديس لوقا: مقدمة123456789 101112131415161718192021222324 

فاصل

الأصحاح العاشر

تفسير إنجيل القديس لوقا
القمص تادرس يعقوب

الأصحاح الحادي عشر

تفسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى