تفسير إنجيل لوقا ١٣ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الثالث عشر
التوبة العاملة
يريدنا إلهنا الصالح أن نتمتع بصداقته الإلهيَّة، فأقامنا قطيعًا جديدًا يرعانا بنفسه، يهبنا السمة السماويَّة ويدخل بنا خلال شركة الألم معه إلى قوَّة قيامته. الآن يكشف لنا عن باب حظيرته التي أقامها لنا لنحيا تحت ظلاله، ألا وهو “التوبة العاملة”. هذا هو الباب الذي به ندخل إلى ملكوته، لتحيا كل نفس تحت رعايته، تتمتع بأعماله الإلهيَّة في سلوكها وعبادتها.
- دعوة للتوبة. 1-5.
- الله يطلب ثمرًا. 6-9.
- الله يحل رباطات الضعف. 10-17.
- مثل حبة الخردل. 18-19.
- مثل الخميرة والعجين. 20-21.
- التوبة والباب الضيق. 22 -30.
- إعلانه عن موته. 31-35.
- دعوة للتوبة
جاء السيِّد المسيح يطلب صداقتنا مقدَّما حياته ثمنًا لهذه الصداقة مبادرًا بالحب، لكننا لا نستطيع أن نلتقي معه ونقبل حبه فينا بطريق آخر غير التوبة. هذا ما يؤكده السيِّد نفسه، قائلاً: “إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون” [3، 5]؛ وذلك عندما أخبره قوم عن الجليليين الذين خلط بيلاطس دمهم بذبائحهم. إذ “أجاب يسوع وقال لهم: أتظنون أن هؤلاء الجليليين كانوا خطاة أكثر من كل الجليليين لأنهم كابدوا مثل هذا؟ كلا، أقول لكم، بل أن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون” [2-3].
من هم هؤلاء الجليليون؟ لم يقدَّم لنا القدِّيس كيرلس الكبير ولا القدِّيس أمبروسيوس تعليقًا على هذا الجزء من الأصحاح، ولكن في نص نُسب للقدِّيس كيرلس الكبير ورد في الـ Catena Aurea قيل أن هؤلاء الجليليين هم أتباع أفكار يهوذا الجليلي الذي يشير إليه معلمنا لوقا في سفر أعمال الرسل (5: 27). هذا الذي نادى بأنه يجب ألا يُدعى أي إنسان سيدًا، وقد التف حوله جمهور كبير رفضوا دعوة قيصر سيدًا لهم، لهذا عاقبهم بيلاطس. هؤلاء نادوا أيضًا بعدم تقديم أية ذبيحة لله لم ترد في الشريعة الموسويَّة، مانعين الشعب عن تقديم ذبائح لله من أجل سلام الإمبراطور والدولة الرومانية، الأمر الذي أثار بيلاطس، فطلب قتلهم وهم يقدَّمون ذبائحهم في الهيكل حسب الشريعة. فاختلط دمهم بذبائحهم التي قدَّموها. وجاء في نفس النص أنه وُجد اعتقاد بأن هؤلاء الجليليين قد عوقبوا بعدل لأنهم بذروا فتنة بين الشعب، وأثاروا على الثورة ضد الحكام. فأراد القوم الذين عرضوا هذه القضية أن يعرفوا رأي السيِّد المسيح فيهم.
ويرى بعض الدارسين أن السيِّد المسيح إذ تحدَّث عن الاتفاق مع الخصم حتى لا يسلمه للقاضي فيعاني من السجن حتى يوفي الفلس الأخير، أراد هؤلاء القوم أن يشكو لملك اليهود المنتظر استبداد المستعمر الروماني للشعب اليهودي، أو ربَّما أرادوا أن يعرضوا عليه “مشكلة الألم”، التي لم يجد لها اليهود حلاً عبر العصور.
ربما كان اليهود ينتظرون في السيِّد المسيح أن يثور على بيلاطس البنطي الذي انتهك حرمه الهيكل، فأرسل جنوده لمطاردة هؤلاء الجليليين الذين دخلوا بذبائحهم إلى الهيكل، وأرادوا أن يمسكوا بقرون المذبح، فلم يكف الجنود عن مطاردتهم حتى قتلوهم، وهم يقدَّمون ذبائحهم. ويرى بعض المؤرخين أن ما فعله بيلاطس بهم كان علَّة العداء بينه وبين هيردوس (لو 23: 12) لأنهم كانوا من رعاياه، ويرى البعض أن بارباس قُبض عليه بسبب هذه الفتنة (لو 23: 19).
على أي الأحوال استغل السيِّد المسيح هذا الخبر، لا ليتحدَّث عن الأحداث الخارجية، وإنما ليدخل بنفوس سامعيه إلى حياة التوبة حتى يتمتعوا بالطمأنينة لا خوفًا من بيلاطس، وإنما من الخطيَّة التي هي علَّة الهلاك. وقد جاءت إجابته تكشف الآتي:
أولاً: أظهر أن البلايا الخارجيَّة والضيقات ليست بالضرورة علَّة خطايا خاصة. فقتل هؤلاء الرجال لا يعني بالضرورة أنهم أكثر شرًا من غيرهم من الجليليين، إذ يقول: “أتظنون أن هؤلاء الجليليين كانوا خطاة أكثر من كل الجليلين لأنهم كابدوا مثل هذا؟ كلا!” [2]. إذ كان يسود اليهود الإحساس بأن كل ضيقة يجتازها إنسان إنما هي علامة غضب الله عليه.
ثانيًا: إن كان الله يسمح بالضيقة أحيانًا إنما لأجل التوبة، ليس فقط توبة الساقطين تحت الألم ولكن توبة الغير أيضًا، إذ يكمل السيِّد المسيح حديثه: “بل إن لم تتوبوا، فجميعكم كذلك تهلكون” [3]. فإن كان هؤلاء قد ماتوا، وقد اختلطت دماؤهم بذبائحهم وهم في هذا ليسوا بالضرورة أشر ممن لم يُقتلوا فليكن في قتلهم فرصة لمراجعة كل إنسان نفسه للتوبة حتى لا يهلك أبديًا.
v يعاقب الله الخطاة بقطع شرورهم (مثل قتلهم) ليصير عقابهم أخف، أو ربَّما لكي لا يسقطوا تحت عقوبة فيما بعد نهائيًا، وفي نفس الوقت إذ يرى الأحياء السالكون في الشر ذلك، يتعظون ويصححون وضعهم.
مرة أخرى لا يعاقب الله آخرين حتى إذا ما راجعوا أنفسهم بالتوبة يهربون من العقوبة الزمنيَّة والمقبلة، أما أن استمروا في خطيتهم فيسقطون تحت عقاب أشد…
هنا يظهر أنه قد سمح لهم باحتمال هذه الآلام حتى يفزع وارثو الملكوت من هذه المخاطر وهم أحياء (فيتوبون).
ربما تقول: أيُعاقب إنسان لكي يُصلح حالي أنا؟ بلى، أنه يعاقب من أجل جرائمه، وهذا يهب فرصة لخلاص ناظريه.
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
يكمل السيِّد المسيح حديثه، قائلاً: “أو أولئك الثمانية عشر الذين سقط عليهم البرج في سلوام وقتلهم، أتظنون أن هؤلاء كانوا مذنبين أكثر من جميع الساكنين في أورشليم؟ كلا، أقول لكم، بل أن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون” [4-5].
هم قدَّموا حادثة الجليليين التي ارتكبها جنود بيلاطس بنطس لبعض الجليليين، إنما يشير إلى حرب الشيطان ضد البشريَّة حتى في لحظات العبادة وهم في المقادس يقدَّمون ذبائحهم. “بيلاطس” يعني “فم من له مطرقة”، وكأنه بإبليس الذي لا يكف عن الضرب كما بمطرقة، مستخدمًا كلماته المعسولة ليفقدنا نقاوتنا حتى في لحظات العبادة. أما بالنسبة للحادث الثاني فإن رقم 18 الذين سقط عليهم البرج في اليونانية هكذا “I H“ وهما الحرفان الأولان لاسم “يسوع”، و”سلوام” تعني “المرسل”. بهذا نفهم أن هذا الحادث يشير إلى هلاك اليهود داخل برجهم أي خلال “الناموس” ذاته وذلك برفضهم ليسوع كمخلِّص الذي جاء مرسلاً من قبل الآب لخلاص العالم كله.
يمكننا أن نقول بأن السيِّد يدفعنا للتوبة برفضنا لكلمات إبليس المعسولة والمخادعة، وحذرنا لئلاَّ نتعثر في السيِّد المسيح نفسه الذي جاء يطلب خلاصنا.
2.الله يطلب ثمرًا
إذ قدَّم لنا السيِّد المسيح دعوة لقبول صداقته معنا خلال التوبة، أكدّ ضرورة التحام التوبة بالثمر الروحي المبهج لقلب الله. فقد شبّه البشريَّة بشجرة تين مغروسة في كرمه بقيت ثلاث سنوات لا تأتي بثمر. هذه السنوات الثلاث هي: فترة السقوط داخل الفردوس، وفترة ما قبل الناموس الموسوي، وفترة الناموس. وقد تعرضت الشجرة للقطع إذ أفرخت أوراقًا تستر بها آدم وحواء في عريهما دون علاج لطبيعتهما، فتدخل الكرّام الحقيقي ربَّنا يسوع طالبًا تركها سنة أخرى هي “عهد النعمة” لكي ينقب حولها ويضع زبلاً، مهتمًا بها بكونها غرسه الإلهي حتى تأتي بالثمر الحقيقي اللائق. وقد وُهب للرعاة أيضًا أن يحملوا روح سيِّدهم فيشفعون في كل شجرة لعلها تأتي بثمر روحي.
v تشفع الكرّام لأجلها، وتأجلت العقوبة حتى يتم العون.
الآن الكرّام الذي يشفع فيها هو كل قدِّيس يصلي في الكنيسة من أجل الذين هم خارجها. وبماذا يصلي؟ “يا رب اتركها هذه السنة أيضًا، أي اتركها في زمن النعمة، اترك الخطاة، اترك غير المؤمنين، اترك العاقرين غير المثمرين، فإنني سأحفر حولها واضع زبلاً، فإن صنعت ثمرًا وإلا ففيما بعد تقطعها” (راجع لو 13: 8-9).
ما هو هذا الحفر حولها إلا التعليم بالتواضع والتوبة؟ فإن الحفرة هي أرض منخفضة.
الزبل يعني الدنس الذي ينتج في فاعليته الصالحة ثمرًا. دنس الزارع هو تنهدات الخطاة الذين يتوبون لابسين ثيابًا قذرة، أن قُدَّمت التوبة بفهمٍ وبالحقٍ، فإنه لمثل هذه الشجرة يُقال: “توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات” (مت 3: 2).
القدِّيس أغسطينوس
v (في تعليقه على وضع الزبل حول الشجرة)
ليتنا نسمد هذا الحقل الذي لنا، متمثلين بالزارعين المجاهدين الذين لا يخجلون من إشباع الأرض بالسماد، ونثر الرماد والقذر على الحقل حتى يجمعوا محصولاً أوفر.
علمنا الرسول بولس كيف نسمد حقلنا بقوله: “إني أحسب كل شيء أيضًا خسارة… لكي أربح المسيح” (في 3: 8). بصيت حسن أو بصيت رديء أدرك أن يُسر السيِّد المسيح.
لقد قرأ بولس عن إبراهيم أنه اعترف بأنه ليس إلا ترابًا ورمادًا (تك 18: 27)؛ وقرأ عن أيوب أنه جلس في الرماد (أي 2: 8)، وبذلك استعاد كل ما فقده (أي 42: 10). وسمع على فم داود أن الله: “المقيم المسكين من التراب، الرافع البائس من المزبلة“ (مز 113: 7). فليتنا لا نعود نخجل من الاعتراف بخطايانا.
حقًا أنه من المخجل أن يعترف الإنسان بخطاياه، لكن هذا الخجل يكون أشبه بعملية الحرث للأرض، وإزالة العوسج منها، وتنقيتها من الأشواك، وبذا نظهر الثمار التي لم تكن موجودة.
لنتمثل إذن بهذا الذي حرث حقله باجتهاد، باحثًا عن الثمرة الأبديَّة: “نُشتم فنبارك، نُضطهد فنحتمل، يُفتري علينا فنعظ. صرنا كأقذار العالم ووسخ كل شيء إلى الآن“ (1 كو 4: 12-13).
القدِّيس أمبروسيوس
v ينطبق مثل شجرة التين علي المجمع، فقد اكتست الشجرة بأوراق كثيرة، وخدعت صاحبها الذي انتظر بدون جدوى الثمر المترقب، هكذا في المجمع يعرض معلمو الناموس أقوالهم مثل أوراق الزينة (بلا عمل).
بالتدقيق نجد أن هذا النوع من الأشجار يختلف في ثمره عن غيره من الأشجار، ففي الأنواع الأخرى تظهر الزهرة قبل الثمرة، إذ تعلن الزهرة عن الثمرة. أما شجرة التين فتحمل ثمرًا من البداية دون ظهور زهور. في الأشجار الأخرى تسقط الزهرة بتولد الثمرة مكانها، أما في هذه الشجرة فتسقط الثمرة الأولى ليحل محلها ثمرة أخرى… تسقط الثمرة الأولى ويجف الساق الضعيف تاركًا مكانًا لغيره كيف ينتفع بالأكثر من العصارة، ولكن توجد قلة نادرة من الثمار الأولى لا تسقط، لأنها توجد علي جزع ساق قصير بين الفروع. تُحفظ هذه الثمار وتنمو كما في أحضان حنان الطبيعة ويكون غذاؤها أوفر ينميها…
اليهود هم كالثمار الأولى للمجمع، ثمر ضعيف يسقط ليترك مكانًا لثمار جنسنا الذي يبقى إلي الأبد. شعب المجمع الأول لم يكن له عمق لأن أعماله كانت جافة، فلم يستطع أن ينهل من عصارة الحكمة الطبيعيَّة المخصبة، لذا سقط كثمر بلا نفع، فظهر ثمر شعب الكنيسة الجديد علي نفس الأغصان خلال عصارة التقوى القديمة…
أما أفضل الإسرائيليين الذين حملهم جزع الناموس البالغ إلي الصليب، هؤلاء الذين اصطبغوا في أحشائهم بالعصارتين، فنضجوا… وقد قيل لهم: “تدينون أسباط إسرائيل الإثنى عشر” (مت 19: 28). ليس هذا بغريبٍ، فآدم وحواء مصدر جبلتنا ومصدر سقوطنا اكتسيا بأوراق هذه الشجرة، واستحقا الطرد من الفردوس، وإذ لاحظا عريهما اختبئا من وجه الرب حين سمعا صوته ماشيًا في الجنة. هذا يكشف عن اليهودي في الأزمنة الأخيرة عند مجيء الرب والمخلِّص، إذ جاء ليدعوه أدرك أن تجارب إبليس عرته من كل فضيلة، وفي ارتعابه من تبكيت ضميره يحوّر التقوى ويخجل من عدم أمانته ويعرف أنه قد ابتعد عن الرب وحاول أن يستتر بكثرة كلامه بستار انحطاط الأعمال.
لذا فاللذان أخذا أوراق التين دون الثمر طُردا من ملكوت الله، إذ كانا “نفسًا حيَّة”، وجاء آدم الثاني يطلب الثمر لا الأوراق، لأنه كان “روحا محييًا” (1 كو 15: 45). فبالروح ننال ثمار الفضيلة، وبه نعبد الرب.
يطلب الرب الثمر، لا لأنه لا يعرف أن التينة بلا ثمر، وإنما ليشير بهذا الرمز أنه جاء وقت جمع الثمار، وأنه لم يأتِ قبل الأوان.
جاء لثلاث سنين، “هوذا ثلاث سنين آتي أطلب ثمرًا في هذه التينة ولم أجد، اقطعها، لماذا تبطل أيضًا؟” [7]. لقد جاء لإبراهيم (حيث طلب منه الختان)، وجاء لموسى (مقدَّما له الناموس)، وجاء لمريم (متجسدًا في أحشائها ليهب النعمة). بمعنى آخر جاء كختم للعهد (مع إبراهيم خلال الختان) وفي الناموس وفي الجسد.
ونحن نعرف محبيه ببركاته عليهم، فتارة يطهر، وأخرى يقدّس، وثالثة يبرر. الختان يطهر، والناموس يقدس، والنعمة تبرر… ومع ذلك لم يستطع الشعب اليهودي أن يتطهر، لأنه أخذ ختان الجسد لا الروح. ولا استطاع أن يتقدس، لأنه جهل قيمة الناموس بتمسكه بما هو جسدي لا بما هو روحي، مع أن الناموس روحي (رو 7: 14). ولا استطاع أن يتبرر، إذ لم يتب عن خطاياه فكان جاهلاً بالنعمة… لهذا صدر الأمر بقطعها، لكن البستاني الصالح تدخل هذا الذي جاء للأمم كما لأهل الختان حتى لا تُقطع الشجرة، إذ وثق أنه يمكن للشعب اليهودي (إن قبل المسيا المخلِّص) أن يخلص، لذا قال: “أتركها هذه السنة أيضًا فأنقب حولها وأضع زبلاً”. يضرب بالفأس الرسولي لينقب حولها محطمًا قسوة قلوبهم، ينقب بالسيف ذي الحدين نفوسهم المغلقة بسبب إهمالها لزمان طويل، ينقب (يفتح) قلوبهم فتحيا حواسهم وتتنسم الهواء فلا تختنق جذور الحكمة، ولا تدفن تحت ثقل الطين. يقول: “أضع زبلاً“، الذي به تصير الأرض القفر مثمرة، والمستوحشة مزروعة، والمجدبة ذات ثمر. علي الزبل جلس أيوب في تجربته فلم ينهزم، وبولس الرسول حسب نفسه نفاية (كزبل) ليربح المسيح (في 3: 8)…
فالأرض التي تُنقب جيدًا ويُوضع فيها زبل تثمر، إذ يرفع الرب البائس الجالس في التراب، يقيم المسكين من المزبلة (مز 113: 7) ليت ما قيل عن اليهود بصفة عامة يكون موضع اعتبارنا، في حياتنا، حتى لا نشغل أرض الكنيسة المخصبة بلا ثمر!
القدِّيس أمبروسيوس
هكذا يقدَّم لنا القدِّيس أمبروسيوس في هذا المثل صورة حيَّة للشعب اليهودي الذي بقى ثلاث سنوات بلا ثمر، إذ لم ينتفع بالختان قبل الناموس (من إبراهيم إلي موسى) ولا بالناموس (من موسى إلي مجىء المسيح)، ولا حتى بالنعمة إذ جاء السيِّد المسيح يقدَّمها لنا… ومع هذا فلا يكف الله عن أن يعمل لخلاص كل العالم حتى المقاومين له… مشتاقًا أن يضرب بفأس الكتابات الإنجيلية والرسولية حول الشجرة لكي تتفتح الأرض ويشتم جذر أعماقنا نسمة حياة روحيَّة، ويضع زبل الاتِضاع لكي يرفعها إلي فوق وتأتي بثمر روحي سماوي.
يمكننا أيضًا أن نرى في هذه السنوات الثلاث بالنسبة للبشريَّة ككل هكذا:
أ. الإنسان في الفردوس، فقد خرج منه حاملاً ثقل الخطيَّة وبذار الموت والفساد.
ب. الإنسان ما قبل الناموس، وقد بقى الإنسان في فساده يعبد الأصنام.
ج. الإنسان تحت الناموس، وقد أساء الإنسان استخدامه، فلم يفهمه روحيًا ولا استطاع أن يكمله بل سقط تحت اللعنة بكسره لوصاياه.
أخيرًا تقدَّم البستاني الصالح ربَّنا يسوع في ملء الزمان يمهلنا سنة أخرى هي سنة النعمة الإلهيَّة لعلنا نقبل عمله فينا فنحمل ثمر روحه القدُّوس سّر بهجة للآب صاحب الكرم.
v طُلبت طبيعتنا ثلاث مرات ولم تقدَّم ثمرًا، مرة عندما عصت الوصيَّة في الفردوس، وأخرى عندما صبت العجل تحت الناموس، وثالثة عندما رفضت المخلِّص. يمكن أيضًا أن تُفهم هذه السنوات الثلاث علي أنها مراحل الحياة الثلاث: الصبوة والنضوج (الرجولة) والشيخوخة.
الأب ثيؤفلاكتيوس
v جاء ربَّنا لشجرة التين ثلاث مرات: بحث عن طبيعة الإنسان قبل الناموس، وتحت الناموس، وتحت النعمة، منتظرًا وناصحًا ومفتقدًا، ومع هذا يشكو إذ لا يجد ثمرًا، إذ يوجد أشرار لم تُصلح قلوبهم بالناموس الطبيعي الذي فيهم، ولا تهذبوا بالوصايا، ولا اهتدوا بمعجزات تجسده…
لكن بخوف عظيم ورعدة نسمع الكلمة التالية: “أقطعها، لماذا تبطل الأرض أيضًا؟” [7]. كل إنسان ما لم يظهر ثمر الأعمال الصالحة حسب قياسه – أيا كانت مرحلة حياته – يُحسب كشجرة غير مثمرة تبطل الأرض، لأنه أيا كان موقعه يحرم غيره من فرصة للعمل…
الكرام يمثل نظام الأساقفة الذين يرعون كرم الرب بتدبير الكنيسة…
الزبل هنا يعني خطايا الجسد، فالشجرة تنتعش مرة أخرى بتذكرها الخطايا لتحيا النفس لممارسة الأعمال الصالحة. لكن كثيرين إذ يسمعون توبيخًا يستخفون العودة إلي حياة التوبة.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v ليتنا لا نضرب (بالفأس) سريعًا بل نُغلب باللطف، لئلاَّ نقطع شجرة التين وهى قادرة أن تحمل ثمرًا إن تعهدها كرّام ماهر لإصلاح حالها!
القدِّيس غريغوريوس النزينزي
v يحتمل أن يكون قد شبّه مجمع اليهود بشجرة تين، فإن الكتاب المقدَّس يقارن اليهود بزروع مختلفة: كالكرمة، والزيتونة، وأحيانا بالغابة. مرة يدعو النبي إرميا إسرائيل أو سكانها: “إسرائيل جفنة ممتدة“ (هو 10: 1) وأيضًا: “زيتونة خضراء ذات ثمر جميل الصورة دعا الرب اسمك، بصوت ضجة عظيمة أوقد نارًا عليها فانكسرت أغصانها“ (إر 11: 16). يقارنها نبي آخر من الأنبياء القدِّيسين بجبل لبنان، قائلاً: “افتح أبوابك يا لبنان فتأكل النار أرزك“(زك 11: 1). فإن الغابة التي كانت في أورشليم التي هي الشعب الكثير الذي بلا عدد قد هلك بالنار.
لهذا أقول أن شجرة التين الواردة في المثل هي المجمع اليهودي أي الإسرائيليون، أما الثلاث سنين التي كان يطلب فيها ثمرًا ولم يجد فهي – كما أظن- تعني الثلاث مراحل التي لم يقدَّم فيها المجمع اليهودي ثمرًا.
السنة الأولى يمكن أن يُقال هي التي عاش فيها موسى وهرون وأولاده الذين خدموا الله خلال العمل الكهنوتي حسب الشريعة.
الثانية هي مرحلة يشوع بن نون والقضاة الذين جاءوا بعده.
الثالثة هي التي فيها ظهر الأنبياء الطوباويون حتى يوحنا المعمدان.
خلال هذه الفترات لم يقدَّم إسرائيل ثمرًا… لذلك يقول: “هوذا الثلاث سنين أتي أطلب ثمرًا في هذه التينة ولم أجد، اقطعها، لماذا تبطل الأرض أيضًا؟” [7]. كأنه يقول: لتجعل مكان هذه الشجرة العقيمة فارغًا لكي ما تُزرع شجرة أخرى في موضعها. هذا ما قد حدث، إذ دُعي الأمم في موضع إسرائيل ونال ميراثه. صار الأمم شعب الله، زُرع الفردوس، بذرة صالحة ومكرمة، تعرف كيف تقدَّم ثمرًا، لا خلال ظلال ورموز، بل خلال خدمة طاهرة كاملة بلا عيب، تُمارس بالروح والحق، تُقدَّم لله الكائن غير المادي…
إن قال أحد أن الكرام هو الابن، فإن هذا الرأي له براهينه المقبولة اللائقة، إذ هو “شفيع لدى الآب” (1 يو 2: 1)، وهو “كفارة عنا”، وكرّام نفوسنا الذي يقضب فينا كل ما هو مضر، ويملأنا ببذور عاقلة مقدَّسة حتى نحمل ثمرة فينا، وكما قال بنفسه: “خرج الزارع ليزرع “(لو 8: 5)… قال الابن للرسل القدِّيسين: “أنا هو الكرمة، وأنتم الأغصان، وأبى الكرّام” (راجع يو 15: 1، 5)…
ليشفع إذن فينا، قائلاً: “اتركها هذه السنة أيضًا، حتى أنقب حولها، وأضع زبلاً” [8]. ما هذه السنة؟ واضح أنها السنة الرابعة، الوقت الذي يأتي بعد المراحل السابقة، الذي فيه صار الابن الوحيد كلمة الله إنسانًا، فقد جاء ككرامٍ يحث الإسرائيليين الذين جفوا بالخطيَّة بالنصائح الروحيَّة، ينقب حولهم، ويدفئهم بحرارة الروح (رو 12: 11).
لقد سبق فتوعدهم مرارًا بالخراب والدمار والحروب والقتل والحرق والسبي والسخط الذي لا يهدأ، ومن جانب آخر قدَّم لهم المواعيد أن آمنوا به، فيصيروا أشجارًا مثمرة. إذ يهبهم الحياة والمجد ونعمة التبني وشركة الروح القدس وملكوت السماوات. لكن إسرائيل كان غير قادرٍ علي التعلم حتى بهذا، وبقي شجرة تين غير مثمرة، مستمرًا علي حاله هذا. لذلك قُطع حتى لا يُبطل الأرض، وعوضًا عنه جاء زرع خصب، هو كنيسة الأمم الجميلة والحاملة للثمار، العميقة الجذور، التي لا يمكن أن تتزعزع. إذ حُسبوا أبناء إبراهيم، طُعموا في الزيتونة الصالحة، إذ بقي الجذر محفوظًا وإسرائيل لم يهلك بطريقة مطلقة.
القدِّيس كيرلس الكبير
- الله يحل رباطات الضعف
إن كانت التوبة هي طريق الدخول إلي ملكوته، بدونها لن ننعم بالعضويَّة الحقيقية في قطيعه الصغير، هذه التوبة تُعلن خلال ثمر الروح، فلا نكون كشجرة التين العقيمة التي أبطلت الأرض ثلاث سنوات، فكيف يمكننا أن نمارس التوبة؟ من هو هذا الذي يشفي جراحات نفوسنا ويحل رباطات ضعفنا؟ يقدَّم لنا الإنجيلي قصة إبراء المرأة التي كان بها روح ضعف ثماني عشرة سنة، التي انحنى ظهرها، ولم تستطع أن تنتصب البتة حتى دعاها السيِّد وهي في المجمع في السبت ووضع عليها يديه وأبرأها، كمثل حيٍّ للطبيب الحقيقي الذي يشفي النفس من جراحاتها… هو واهب التوبة وهو معطي الشفاء!
“وكان يعلم في أحد المجامع في السبت،
وإذا امرأة كان بها روح ضعف ثماني عشرة سنة،
وكانت منحنية، ولم تقدر أن تنتصب البتة” [10-11].
يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم أنه كان يعلم في المجامع بهدوء ليعلن أنه لم يأتِ ليقاوم الناموس وإنما ليكمله، أما تعليمه في السبت فلأن اليهود كانوا ينشغلون فيه بسماع الناموس.
إن كانت هذه المرأة التي كان بها روح ضعف كما يقول القدِّيس أغسطينوس هي بعينها شجرة التين العقيمة التي بقيت ثلاث سنوات لا تثمر إشارة إلي الأمة اليهوديَّة التي لم تثمر خلال المراحل الثلاث، فإن الثماني عشرة سنة تشير إلي الثلاث مراحل أيضًا كل مرحلة تضم ست سنوات إشارة إلي عمل الله في الخلقة حتى اليوم السادس… وكأن هذه الأمة قد رفضت في كل مرحلة أعمال الله معها. الله يريد أن يجدد خليقته، لكن الإنسان هو الرافض للعمل الإلهي. هكذا انقضت المراحل الثلاث ليأتي رب المجد نفسه كما في اليوم السابع، يوم راحته، ليعلن تمام راحته بتجديد خلقتنا واستقامة ظهرنا الذي أحنته الخطيَّة عبر التاريخ كله.
مرة أخرى نقول مع القدِّيس أغسطينوس: ]هذه المرأة تُفهم كرمزٍ للكنيسة التي صارت مستقيمة وسليمة بواسطة الرب بعد أن انحنت بالضعف خلال رباطات الشيطان لها. ها هي كلمات المزمور ترقى الأعداء الخفين: “أحنوا نفسي” (مز 57: 6) .]
أما بالنسبة للرقم 18 فقد سبق فرأينا في حديثنا عن الثمانية عشر شخصًا الذين سقط عليهم البرج في سلوام [4] أن هذا الرقم يكتب في اليونانية بالحرفين الأولين لاسم “يسوع” IH. وكأن اسم يسوع هو سّر شفاء كل نفس منحنية بالخطيَّة، أن قبلته بالإيمان ودفنت معه في مياه المعموديَّة لتقوم أيضًا معه وتمارس كل يوم قوَّة قيامته عاملة فيها. ويرى القدِّيس أمبروسيوس أن رقم 18 هو محصلة جمع رقمي 10و 8، فان كان رقم 10 يشير إلي الناموس الموسوي ورقم 8 يشير إلى القيامة حيث قام السيِّد المسيح في اليوم الأول من الأسبوع الجديد أو اليوم الثامن بالنسبة للأسبوع السابق، فإن هذه المرأة تشير للكنيسة التي اتَّحدت بالسيِّد المسيح متمم الناموس وواهب القيامة، لتعيش الكنيسة بعريسها غير كاسرة للناموس، بل مكملة إيَّاه بقوَّة القيامة التي لعريسها.
v تظهر في هذه المرأة المنحنية صورة الكنيسة التي بدأت تظهر بعدما أكملت مقياس الناموس وتمت بالقيامة، إذ نالت نعمة عظيمة بالراحة الأبديَّة فلا يمكن أن تُجرب بانحناءة ضعفنا. لم يكن لهذه المرأة شفاء إلا بالناموس والنعمة، بإتمام وصايا الناموس (لا أعماله الحرفيَّة) وفي معموديَّة النعمة تموت عن العالم وتحيا للمسيح. في الوصايا العشرة يتم الناموس وفي رقم 8 ملء القيامة.
القدِّيس أمبروسيوس
v يمكن أن يقال بأن هذه المنحنية كانت تعاني من هذا بسبب قسوة الشيطان… وإذ كان هذا هو حال كل البشر فإن الله الصالح بطبعه لم يتركنا هكذا نعاني من عقوبة المرض الطويل المدى والمستحيل شفائه، بل حرَّرنا من قيودنا معلنًا حضوره، وإعلان ذاته في العالم، علاجًا مجيدًا لأتعاب البشريَّة. فقد جاء ليعيد تجديد حالنا ورده إلي أصله، وكما كتب: “الله لم يخلق الموت، وهو لا يُسر بهلاك الأحياء، لأنه خلق الجميع ليدوموا، وان مواليد العالم سالمون وليس فيهم سم مميت” (حك 1: 13-14)، وأيضا “دخل الموت إلي العالم بحسد إبليس“ (حك 2: 24).
الآن تجسد الكلمة وأخذ الطبع البشرى ليحطم الموت والدمار، وينزع الحسد الذي بثته الحيَّة القديمة ضدنا، هذه التي كانت العلة الأولى للشر. هذا واضح لنا من الحقائق ذاتها، إذ حرَّر ابنة إبراهيم [16] من مرضها الطويل المدى، قائلاً: “يا امرأة إنك محلوله من ضعفك” [12]. حديث لائق جدّا بالله يحمل قوَّة فائقة للطبيعة، وبإرادته الملوكيَّة نزع المرض. أيضًا وضع يديه عليها وفي الحال قيل إنها استقامت. هنا أيضًا يمكننا أن نرى بسهولة جسده المقدَّس يحمل السلطان الإلهي والقوَّة الإلهيَّة.
القدِّيس كيرلس الكبير
v إذ كان لها ضعف بسبب روح كانت عاجزة عن رفع رأسها (لو 13: 10-11)… هكذا تحنى الخطايا رقابنا، وفي نفس الوقت تقيد أقدامنا.
v أي إنسان مريض بسبب روح ينحني ناظرًا إلى أسفل، متطلعًا إلي الأرض، لا يقدر أن يتطلع إلي السماء.
v الله نفسه بسلطان يهب راحة للمربوطين بالخطيَّة بواسطة الشيطان، كما حلّ المرأة التي في الإنجيل هذه التي ربطها شيطان ثماني عشرة سنة… الله حلّو بطبيعته، أما الذين يلزمونه بالمرارة فهم الخطاة، يجعلون الله بالنسبة لهم مرًا. الله لا يغير طبيعته لكن الخطاة هم الذين يجدون فيه مرارتهم.
القدِّيس جيروم
v [يرى القدِّيس باسيليوس أن عمل الحيَّة أي الشيطان هو إفساد طبيعتنا فلا ننظر إلي فوق بل ننحني كالحيوانات نحو التراب نطلب الأرضيات، لذا ينصحنا، قائلاً:]
لأن رأس البهائم تتطلع نحو الأرض، أما رأس الإنسان فقد خُلقت لتنظر نحو السماء، وعيناه تتجهان إلي فوق، لهذا يليق بنا أن نطلب ما هو فوق، وببصيرتنا نخترق الأرضيات.
القدِّيس باسيليوس الكبير
إذ أشارت هذه المرأة إلى الكنيسة التي برأت من انحناءة ظهرها، فاستقامت بالرب متطلعة إلي فوق نحو السماء عوض نظرتها الطويلة نحو التراب يقول الإنجيلي:” استقامت ومجدت الله” [13]. أما رئيس المجمع اليهودي، فبقي بعينيه الشرِّيرتين ينتقد عمل الرب عوض فرحه وبهجته بخلاص العالم، إذ قيل:
“فأجاب رئيس المجمع وهو مغتاظ،
لأن يسوع أبرأ في السبت،
وقال للجمع: هي ستة أيام فيها العمل،
ففي هذه ائتوا واستشفوا وليس في يوم سبت.
فأجابه الرب وقال:
يا مرائي ألا يحل كل واحدٍ منكم في السبت ثوره أو حماره من المذود
ويمضى به ويسقيه؟
وهذه هي ابنة إبراهيم قد ربطها الشيطان ثماني عشرة سنة،
أما كان ينبغي أن تُحل من هذا الرباط في يوم السبت؟
وإذ قال هذا أخجل جميع الذين كانوا يعاندونه،
وفرح كل الجمع بجميع الأعمال المجيدة الكائنة منه” [14-17].
v أجرى الرب هذا العمل في السبت ليشير إلي ما سيتم، وهو أن الإنسان يكمل الناموس متمتعًا بالنعمة (10+8)، فيستطيع برحمة المسيح التحرَّر من متاعب هذا الجسد الضعيف (ليدخل في السبت أي في الراحة).
أعطى التقدِّيس في صورة موسى (خلال سبت الراحة)، لأن التقدِّيس القادم والعمل بالروح أساسه ترك الأعمال الزمنيَّة، لذا استراح الرب (في اليوم السابع) من أعمال الدهر وليس من كل أعماله، لأن عمله مستمر بغير انقطاع كقول الابن: “أبى يعمل حتى الآن وأنا أيضًا أعمل” (يو 5: 17). ونحن أيضًا علي مثال الله نتوقف عن أعمال العالم لا عن أعمال الله.
لم يفهم رئيس المجمع هذه الحقيقة لذا لم يقبل إتمام الشفاء في السبت، مع أن السبت يشير إلي الراحة القادمة، فلا نبطل الأعمال الصالحة بل الشرِّيرة. أنه يوصينا ألا نحمل نير الخطيَّة، لكن لا نتوقف عن العمل الصالح حتى نحظى بالسبت القادم بعد رقادنا. لهذا أجابه الرب مشيرًا إلي المعنى الروحي: “يا مرائي، ألا يحل كل واحدٍ منكم في السبت ثوره أو حماره من المذود، ويمضى به ويسقيه” [15]. لماذا لم يذكر الرب حيوانًا آخر؟ أليس لكي يشير إلي أن الشعب اليهودي كما الأممي بالرغم من وجود رؤساء المجمع لكنهما في حالة عطش ومرارة إلي هذا العالم بالرغم من وفرة ينبوع الرب؟… كأن الرب يدعو الشعبين، فتخلص الكنيسة خلال إتمام الناموس والتمتع بقيامة الرب.
القدِّيس أمبروسيوس
v أسألك أن تلاحظ هنا أن المسيح مخلِّص الكل لم يقدَّم صلاة (عند إبراء المرأة) وإنما تمم الشفاء بسلطانه، شافيًا إيَّاها بكلمة وبلمسة يده. بكونه الرب الإله أعلن عن جسده أنه يحمل ذات قوَّته لخلاص البشر من أمراضهم. لقد قصد أن يفهم البشر مغزى سرّه. لو كان رئيس المجمع شخصًا فهيمًا كان يليق به أن يدرك من هو المخلِّص وكم هي عظمته خلال معجزة عجيبة كهذه، لا أن يتفوه بجهل كالعامة، ولا أن يتهم من نالوا الشفاء بكسر الناموس حسب التقليد الذي يمنع العمل في السبت.
واضح أن الشفاء هو عمل، فهل يكسر الله السبت بإظهار محبَّته في السبت؟ لمن صدر الأمر بالكف عن العمل؟ هل لله نفسه أم لك أنت؟ فلو كان الله يتوقف عن العمل لتوقفت عنايته الإلهيَّة بنا في السبت، وتوقفت الشمس عن عملها وامتنعت الأمطار عن السقوط وجفت ينابيع المياه وتوقفت مجاري الأنهار، وصمتت الرياح، لكن إن كان قد أمرك بالراحة، فِلمَ تلم الله أن أظهر سلطان رحمته في السبت؟
لماذا أمر الله الناس أن يكفوا عن العمل في السبت؟ لكي يستريح عبيدك وثورك وحصانك وكل قطيعك… فإن أعطى هو راحة للبشر بتحرَّرهم من أمراضهم وأنت تمنع ذلك، فأنت الذي تكسر شريعة السبت، إذ لا تسمح بالراحة للمتألَّمين من الأمراض والأوجاع، هؤلاء الذين ربطهم الشيطان.
إذ رأى رئيس المجمع الجاحد المرأة وقد أصاب أعضاؤها الشلل وانحنى جسمها حتى الأرض تتقبل رحمة من المسيح فصارت مستقيمة تمامًا بمجرد لمسة يده، تسير مع ذاك الذي صار إنسانًا بخطوات مستقيمة، تمجد الله علي خلاصها، اغتاظ والتهب غضبًا مقاومًا مجد الرب، وارتبك بالحسد، فأخذ يفتري مشوهًا المعجزة…
اخبرني يا من أنت هو عبد للحسد، أي نوع من العمل تمنعه الشريعة، عندما تحرم كل عمل يدوي في السبت؟ هل تمنع عمل الفم والكلام؟ إذن فلتمتنع أنت عن الأكل والشرب وعن الحوار والترنم بالمزامير في السبت. فإن كنت تمتنع عن هذه الأمور ولا تقرأ حتى الشريعة، فأي نفع للسبت؟ لكن أن حددت الامتناع بالعمل اليدوي، فهل تحسب شفاء المرأة بكلمة عملاً يدويًا؟ فإن حسبته عملاً لأن المرأة بالفعل قد شفيت، فإنك أنت أيضًا تمارس عملاً بتوبيخك علي الشفاء (لأنك تكلمت كما تكلم السيِّد المسيح).
لقد قال: “إنكِ محلوله من ضعفك” [12]، وقد صارت محلوله. حسنًا!أما تحل حذاءك وتهيئ سريرك وتغسل يديك عندما تتسخان قبلما تأكل؟ فلماذا إذن أنت غاضب على كلمة واحدة نطق بها: “محلولة”؟
أي عمل مارسته المرأة بعد نطق هذه الكلمة؟ هل هيأت عملاً لنحّاس أو نجار أو بناء؟! هل بدأت في نفس اليوم تنسخ أو تعمل بنولٍ؟ مجرد الشفاء يُحسب عملاً، ولكن بلى، فإنك لست بغاضبٍ حقًا بسبب السبت، وإنما لأنك رأيت المسيح مكرمًا، يُعبد بكونه الله، فاغتظت وضُربت بالحسد. لقد خبأت في قلبك شيئًا، وأظهرت أمرًا آخر…
“يا مرائي، ألا يحل كل واحد منكم في السبت ثوره أو حماره من المزود ويمضي به ويسقيه؟” [15]
يقول إنك تعجب لأني حللت ابنة إبراهيم، بينما أنت تعطي راحة لثورك أو حمارك وتحلها من أتعابها وتقودهما ليشربا، بينما عندما تعاني إنسانة من المرض وتُشفى بطريقة معجزية، ويظهر الله رحمته عليها، تلومهما كعاصيين، الواحد لأنه شفى والآخر لأنها خلصت من مرضها.
إنني أسأل رئيس المجمع: هل الإنسان أقل من الحيوان في عينيه، إن كان ثوره أو حماره يستحق الرعاية في السبت بينما في حسده لم يرد أن يخلص المسيح المرأة من ضعفها إذ كانت منحنية، ولا رغب لها أن تعود إلى شكلها الطبيعي؟
لقد فضل رئيس المجمع للمرأة التي استقامت لو أنها بقيت منحنية على مثال الحيوان ذي الأربعة أرجل عن أن تُشفى وتعود إلى ما يليق بها كإنسان، عن أن يتمجَّد المسيح ويعلن عنه أنه الله خلال أعماله…
“وإذ قال هذا أخجل جميع الذين كانوا يعاندونه” [17].
حلّ الخجل بالذين نطقوا بهذه الآراء الفاسدة، الذين تعثروا في حجر الزاويَّة الرئيسي فتحطموا؛ هؤلاء الذين قاوموا الطبيب، واصطدموا مع الخزّاف الحكيم الذي كان منهمكًا في إصلاح الأواني المهشمة، فلم يجدوا ما يجيبون به. لقد اقتنعوا ولم يجدوا ما يجيبون به وما ينطقون به… أما الجموع التي تمتعت بمنافع المعجزات فقد ابتهجت.
القدِّيس كيرلس الكبير
v حسنًا دُعي رئيس المجمع مرائيًا، لأنه حمل مظهر حافظ الناموس، وأما قلبه فكان مخادعًا وحاسدًا. فما أربكه ليس كسر السبت بل مجد المسيح.
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
v بطريقة سرائريَّة شجرة التين العقيمة تعني المرأة المنحنية، لأن الطبيعة البشريَّة بإرادتها اندفعت نحو الخطيَّة فلم تحمل ثمر الطاعة بل فقدت استقامتها. أيضًا شجرة التين تعني المرأة التي صارت مستقيمة.
البابا غريغوريوس (الكبير)
- مثل حبة الخردل
إن كان عمل السيِّد المسيح مع شعبه عجيبًا، إذ يقيمهم كما من الانحناءة الدائمة نحو التراب، لترتفع بصيرتهم الداخليَّة نحو السماء، إلا أنه وجد مقاومة من رئيس المجمع. هذه المقاومة أشبه بالتربة التي تحيط بحبة الخردل الصغيرة والحيَّة، التي لا تستطيع أن تحطمها بل بالحري تكون علَّة نموها، فتتحول إلى شجرة كبيرة تأوي في أغصانها طيور السماء وتحت ظلها حيوانات البريَّة.
سبق لنا الحديث في شيء من التوسع عن مثل حبة الخردل في أثناء دراستنا لإنجيل معلمنا متى البشير 13: 31، حيث عرضنا آراء بعض الآباء مثل القدِّيسين يوحنا الذهبي الفم وأمبروسيوس وجيروم وأغسطينوس وهيلاري والأب غريغوريوس (الكبير) كما عرضنا لرأي القدِّيس كيرلس الكبير في دراستنا لإنجيل معلمنا مرقس البشير (4: 30).
v أي إنسان يتقبل بذرة خردل، أي كلمة الإنجيل، مغروسة في حديقة نفسه، تصير شجرة عظيمة تحمل أغصانًا، فتستريح طيور الهواء (أي الذين يسبحون فوق الأرض) بين أغصانها (أي في التأمَّل السامي). فقد تقبل بولس تعليمًا من حنانيا (أع 9: 17) كحبة صغيرة، غُرست في جنته، فأنتجت تعاليم صالحة كثيرة سكن فيها أصحاب أفكار سمائية علويَّة مثل ديونسيوس.
الأب ثيوفلاكتيوس
- مثل الخميرة والعجين
مرة أخرى يشبه عمله الإلهي في حياة قطيعه الجديد بالخميرة الصغيرة القادرة أن تغير طبيعة العجين كله، قائلاً: “بماذا أشبه ملكوت الله؟ يشبه خميرة أخذتها امرأة وخبأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر الجميع” [20-21]. وقد سبق لنا عرض آراء بعض آباء الكنيسة في هذا المثل في أثناء دراستنا لإنجيل متى 13: 33.
v من هي المرأة إلا جسد الرب؟ وما هي الخميرة إلا الإنجيل؟ وما هي الثلاثة أكيال إلا كل الأمم الذين جاءوا من أبناء نوح الثلاثة؟
v الثلاثة أكيال دقيق التي تحدَّث عنها الرب هي الجنس البشري. تذكر الطوفان، إذ لم يبقَ سوى ثلاثة، فمنهم جاء كل البشر. كان لنوح ثلاثة أبناء بهم تجدد الجنس البشري.
المرأة التي خبأت الخميرة هي الحكمة.
ها العالم كله يصرخ في كنيسة الله: “قد عرفت أن الرب عظيم” (مز 135: 5)، لكن دون شك قليلون هم الذين يخلصون… جاهد أن تدخل من الباب الضيق (لو 13: 24)… خلاله قليلون يستطيعون الدخول منه.
القدِّيس أغسطينوس
v يليق بنا أن نفهم المرأة أنها النفس، وأما الثلاثة أكيال فهي جوانبها الثلاثة: العقل، العواطف، الرغبات. إن أخفى إنسان كلمة الله في هذه الثلاثة جوانب، يصير كل ما فيه روحيًا، فلا يدخل في حوار بعقله ولا بغضبه أو رغبته، إذ يتغير الكل بلا حدود ويتشكل حسب كلمة الله.
الأب ثيؤفلاكتيوس
يقدَّم لنا القدِّيس أمبروسيوس في تعليقاته على إنجيل لوقا عدة تفاسير لهذا المثل كانت منتشرة في عصره، نذكر منها:
أ. يرى البعض أن السيِّد المسيح نفسه هو “الخميرة”، الذي تقدَّمه الكنيسة – المرأة هنا – ليخمرنا نحن الدقيق بفضيلته، فنحمل سماته فينا… جاء كلمة الله متجسدًا يحمل طبعنا البشري، لكن بقوَّة لاهوته يعمل فينا، لا ليغير منظرنا الخارجي المجرد بل طبيعتنا الداخليَّة، إذ يقول: [الخميرة تغيّر طبيعة الدقيق وليس مجرد مظهره هكذا يعمل المسيح فينا.] [إن كانت هذه المرأة (لو 13: 20-21) تشير إلى الكنيسة المقدَّسة، فنحن دقيق الكنيسة، يجب أن يختفي الرب في أعماق نفوسنا لنقبل حقيقة الحكمة السماويَّة في داخلنا.]
ب. يرى البعض أن الثلاثة أكيال دقيق التي تقبلت الخميرة تشير إلى الناموس والأنبياء والإنجيل، حيث كان المسيح مختفيا خلال رموز الناموس ونبوات الأنبياء وظاهرًا خلال كرازة الإنجيل.. هكذا يليق بالمؤمن أن يحمل في قلبه هذه الأكيال الثلاثة ليتكشف مسيحه في داخله، أو كما يقول القدِّيس أمبروسيوس يلزمنا أن نبحث في اجتهاد وبتدقيق في الناموس والأنبياء والإنجيل ليعلن لنا المسيح.
ج. يركز القدِّيس أمبروسيوس في شيء من الإفاضة عن تفسير “الخميرة” بكونها “تعليم الكنيسة” الذي يختلف عن خمير الكتبة والفرِّيسيِّين الذي هو الرياء، (مت 16: 6). يقول الرسول بولس: لنعيد ليس بخميرة عتيقة ولا بخمير الشر والخبث بل بفطير الإخلاص والحق (1 كو 5: 8). خلال خمير الكنيسة الذي هو التعليم الإنجيلي تختمر الثلاثة أكيال الدقيق التي هي جسد الإنسان ونفسه وروحه، فيتمتع بقداسة الحياة في كل جوانب حياته. عمل الكنيسة في حياة الإنسان يمتد إلى كيانه كله، ليسلك الجسد في خضوع للنفس والروح تحت قيادة الروح القدس. هذا يؤيده قول الرسول بولس: “وإله السلام نفسه يقدسكم بالتمام ولتُحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربَّنا يسوع” (1 تس 5: 23).
تقدَّم الكنيسة خميرتها التي هي تعليم السيِّد المسيح الذي يهبنا وحدة داخليَّة، فلا يعود يشتهي الجسد ضد الروح، ولا الروح ضد الجسد (غل 5: 17). هذه الوحدة التي نتمتع بعربونها في هذا العالم حين نسلك ونحن بعد في الجسد ليس حسب الجسد بل حسب الروح كقول الرسول، لننعم بكمالها في القيامة. يقول القدِّيس أمبروسيوس: [بهذا نستطيع أن نحفظ شركة الجسد والروح والنفس معًا في القيامة بلا فساد.]
لنسلك هنا بهذا العربون كقول السيِّد المسيح نفسه: “إن اتفق اثنان منكم على الأرض في أي شيء يطلبانه فإنه يكون لهما من قبل أبي الذي في السماوات“ (مت 18: 19). إذ يرى البعض أن الاثنين هما الجسد والنفس حين يتفقا معًا تحت قيادة روح الرب، فتنزع عنهما العداوة، ويحل الحب الحق في النفس كما في الجسد، ويتجلَّى المسيح في الإنسان ككل. هذا ويؤكد السيِّد أنه إذا اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمه يكون في وسطهم… هذا الاجتماع هو علامة وحدة الإنسان وتكامله جسديًا وروحيًا ونفسانيًا في الرب.
أما القدِّيس كيرلس الكبير فيُعلِّق على هذا التشبيه بقوله: [الخميرة صغيرة في حجمها لكنها تؤثر على العجين كله، وبسرعة تهبه سماتها، هكذا كلمة الله تعمل فينا عندما تحلّ فينا، فتجعلنا قدِّيسين وبلا لوم، وتخترق ذهننا وقلبنا وتجعلنا روحيين، وكما يقول بولس: “لتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربَّنا يسوع المسيح“ (1 تس 5: 23). هذا ويظهر إله الكل أن الكلمة الإلهيَّة تنسكب في أعماق فهمنا. إذ يقول خلال أحد أنبيائه القدِّيسين: “ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا، ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدي فرفضتهم يقول الرب، بل هذا هو العهد الذي أقطعه مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام يقول الرب، أجعل شريعتي في داخلهم وأكتبها على قلوبهم“ (إر 31: 31-33). هكذا نتقبل في ذهننا وفي فهمنا الخميرة العاقلة الإلهيَّة، لكي بهذه الخميرة الثمينة المقدَّسة والنقيَّة نوجد فطيرًا روحيًا، لا نحمل في داخلنا شر (خمير) العالم. تدخل قوَّة الكرازة بالإنجيل الواهبة الحياة إلى ذهننا، فتغّير النفس والجسد والروح، لنحمل سمات الإنجيل، فنصير طاهرين وقدِّيسين وشركاء المسيح.]
- التوبة والباب الضيق
إذ قدَّم لنا الإنجيلي لوقا “التوبة” كطريق للتمتع بالخلاص من الهلاك [1-5]، ثم عاد ليكشف طول أناة الله علينا إذ يقف كمن يشفع فينا، معطيًا إيَّانا فرصًا جديدة للتوبة، كبستاني صالح يترفق بشجرة التين غير المثمرة [6-9] مهتمًا بنفسه أن ينقب حولها ويضع زبلاً لكي تثمر، أعلن أنه هو بالحق وحده سرّ شفائنا وخلاصنا. يأمر النفس المنحنية تحت ثقل شهوات الجسد لتستقيم [10-17]، مقدَّمًا إنجيله في قلوبنا كحبة خردل صغيرة تصير شجرة كبيرة تأوي طيور السماء في أغصانها. وكخميرة في أذهاننا تقدس الجسد مع النفس والروح. الآن لئلاَّ نظن أن دورنا في الخلاص سلبي يؤكد التزامنا بالجهاد لندخل بنعمته من الباب الضيق، إذ يقول الإنجيلي:
“واجتاز في مدن وقرى يعلّم ويسافر نحو أورشليم.
فقال له واحد: يا سيد، أقليل هم الذين يخلصون؟
فقال لهم: اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق،
فإني أقول لكم أن كثيرين سيطلبون أن يدخلوا ولا يقدرون” [22-24].
باب الملكوت ضيق وطريقه كرب وقليلون هم الذين يجدونه. إذ هو طريق الصليب، لا يستطيع أن يجده بحق ويدخله إلا من اختفى في المصلوب. وقد سبق لنا الحديث عن هذا الطريق في تعليقنا على إنجيل معلمنا متى 7: 13-14، مقتطفًا بعض أقوال للقدِّيسين يوحنا الذهبي الفم وكبريانوس وجيروم.
يلاحظ هنا أن الإنجيلي لوقا يعرض حديث رب المجد يسوع عن “الباب الضيق” بعد أن أعلن عنه أنه كان “يجتاز في مدن وقرى يعلم ويسافر نحو أورشليم” [22]. وكأن غاية كرازته للكل، لسكان المدن المهتمين بالمراكز الأولى والغنى وحب الظهور، ولسكان القرى البسطاء، أن يحمل الجميع فيه ومعه إلى صليبه لينعموا بملكوته خلال الباب الضيق، منطلقًا بهم لا إلى أورشليم الأرضية بل السماويَّة، ليعاينوا سلامه الحقيقي ويمارسونه.
v “اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق” [24]… الطريق المستقيم ضيق، أي انحراف عنه مملوء بالمخاطر، سواء على اليمين أو اليسار. أنه كجسرٍ، من يزل عنه من أي جانب منه يسقط في النهر.
القدِّيس باسيليوس الكبير
v إذ أراد الحديث عن الدخول من الباب الضيق بدأ بقوله “اجتهدوا”، لأنه ما لم يجاهد الذهن برجولة لا تنهزم أمواج العالم، هذه التي تسحب النفس إلي الأعماق.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v أظن أنه يليق بي أن أشير إلي الباب الضيق الذي من خلاله يدخل الإنسان إلي الحياة.
من يريد أن يدخله يلزمه بالضرورة أن يكون له أولًا الإيمان المستقيم غير الفاسد، وثانيا أن يكون سلوكه غير دنس وبلا لوم حسب قياس البّر البشرى. هكذا كان النبي داود يقول أحيانًا في توسله لله وبدقة: “اقضِ لي يا رب حسب برّى، وكنقاوتي كافئني” (راجع مز 7: 8). لأن نقاوة الملائكة القدِّيسين وبرّهم أمر بعيد للغاية عن نقاوة وبّر سكان الأرض، فما يخص الأخيرين هو من نوع أقل وأدنى من كل ناحيَّة كما أن طبيعتهم أدنى من طبيعة الملائكة. ومع هذا فإن من يرغب في العيش بقداسة لا يستطيع ذلك بدون جهاد. لأن الطريق المؤدي للفضيلة هو وعّر علي الدوام ومنحدر، يصعب علي غالبية البشر أن يسلكوه.
كثير من المتاعب تظهر أمامنا فنحتاج إلي جلد وصبر وسلوك نبيل. نعم، بل ونحتاج إلي ذهن لا يُغلب، لا يشترك في الملذّات الدنيئة ولا تحركه شهوات جسديَّة وعواطف بهيمية. من له هذا الذهن والجلد الروحي يدخل الباب الضيق بسهولة، بل ويجرى في الطريق الضيق، فقد قيل: “بالتعب يتعب الإنسان لنفسه، فتغتصب الغلبة علي هلاكه” (راجع أم 16: 26). ها أنت تسمع النبي يتكلَّم بوضوح أن الإنسان يقتنى الغلبة علي هلاكه بالاغتصاب. أيضًا يقول الرب: “ملكوت السماوات يُغتصب والغاصبون يختطفونه” (مت 11: 12).
القدِّيس كيرلس الكبير
v ماذا إذن يعني قول ربَّنا في موضع آخر: “نيري هين وحملي خفيف” (مت 11: 30)؟
بالحقيقة لا يوجد تناقض بين النصين، واحد يتحدَّث عن طبيعة التجارب (كباب ضيق)، والآخر يتحدَّث عن مشاعر الذين يغلبونها. فما يسبب متاعب لطبيعتنا يمكن أن يُحسب سهلاً أن قبلناه بطيب خاطر. بجانب هذا فإن طريق الخلاص ضيق في مدخله، ولكن إذ تدخله تجد مكانًا متسعًا (راحة)، علي عكس الطريق المؤدى للهلاك.
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
يكمل السيِّد المسيح حديثه عن “الباب الضيق” قائلاً:
من بعد ما يكون رب البيت قد قام وأغلق الباب
وابتدأتم تقفون خارجًا وتقرعون الباب، قائلين:
يا رب، يا رب افتح لنا، يجيب ويقول لكم:
لا أعرفكم من أين أنتم.
حينئذ تبتدئون تقولون: أكلنا قدامك وشربنا وعلمت في شوارعنا.
فيقول لكم: لا أعرفكم من أين أنتم،
تباعدوا عني يا جميع فاعلي الظلم” [25-27].
إن كان المتهاونون لا يقدرون أن يجدوا الطريق الضيق، لا بمعنى جهلهم له فكريًا، إنما جهلهم له خلال الخبرة الحيَّة… يقرأون عنه أو يسمعون لكنهم لا يمارسونه ولا يختبرونه، لذا يطلبونه بفمهم دون قلبهم، وبلسانهم دون حياتهم. هؤلاء يُحرمون من معرفة “الباب الضيق” أو “طريق الملكوت”. فتكون مكافأتهم من ذات نوع عملهم… هم لا يعرفون طريق الرب في حياتهم لذا لا يعرفهم الرب في مجيئه الأخير، لا بمعنى أنه يجهل أشخاصهم، وإنما يحسبهم كمن هم غير مستحقين أن يكونوا في معرفته، هم خارج نور بهائه ومجده. رفضوا الدخول من بابه وهم بعد في العالم، لذا يغلق الباب عند مجيئه ولا يستحقون الدخول، حتى أن كانوا قد مارسوا شكلية العبادة أو حملوا اسمه دون حياته فيهم.
v يعرف الرب من له، بمعنى أنه يتقبلهم في شركة قويَّة بسبب أعمالهم الصالحة.
القدِّيس باسيليوس الكبير
v لا يعرف الرب الخاطىء بل البار.
القدِّيس جيروم
v يقول للذين يفتخرون بعمل القوات دون الحياة الفاضلة: “لا أعرفكم” (مت 7: 23)، إذ لا يعرف الله طريق الأشرار.
البابا أثناسيوس الرسولي
v “تباعدوا عنى يا جميع فاعلي الظلم” (لو 13: 27). لأنه لا شركة بين النور والظلمة؛ ولا يمكن لمن أمسك بفساد الخطيَّة ولم يغتسل من دنسه أن يقترب من الله الكلي النقاوة.
يليق بنا أيضًا أن نسأل: ماذا يُفهم بالذين يقولون للمسيح: “أكلنا قدامك وشربنا وعلمت في شوارعنا” [26]؟ هؤلاء بالتأكيد هم الإسرائيليون، الذين قال لهم المسيح: “متى رأيتم إبراهيم وإسحق ويعقوب وجميع الأنبياء في ملكوت الله وأنتم مطرحون خارجًا” [28]. كيف كانوا يأكلون ويشربون قدام الله؟ أجيب بتنفيذهم الخدمة حسب الشريعة، فعندما كانوا يقدَّمون ذبائح لله بسفك الدم كانوا يأكلون ويبتهجون. أيضًا سمعوا كتابات موسى في مجامعهم وتفاسير لرسائل الله، إذ دائمًا كانوا يقدَّمون كلماته بالقول: “هكذا قال الرب“… لكن التعبد لله بسفك دم (الحيوانات) لا يكفي للتبرير، ولا يُغسل دنس الإنسان بمجرد سماعه الشرائع الإلهيَّة أن لم يمارس ما قد أُمر به. أيضًا نقول، إذ رفضوا قبول الإيمان الذي يبرر الفجار، ولم يتبعوا الوصايا الإنجيلية التي بها يمارسون الحياة السامية المختارة، كيف يمكنهم أن يدخلوا ملكوت الله؟
مرة أخرى من هم هؤلاء الذين يقولون: “أكلنا قدامك…”؟ كثيرون آمنوا بالمسيح، وكرموا الأعياد المقدَّسة لمجده، ويترددون كثيرًا علي الكنائس ليسمعوا تعاليم الإنجيل، لكنهم لا يحفظون شيئًا قط من حقائق الكتاب المقدَّس في ذهنهم، فتكون ممارسة الفضيلة بالنسبة لهم صعبة، بينما تخلو قلوبهم من الثمر الروحي تمامًا. هؤلاء أيضًا سيبكون بمرارة ويكون لهم صرير الأسنان لأن الرب يرفضهم.
القدِّيس كيرلس الكبير
- إعلانه عن موته
إذ تحدَّث عن “الباب الضيق” مظهرًا أن الأمم يأتون من المشارق والمغارب ومن الشمال والجنوب يتكئون في ملكوت الله [29] خلال هذا الباب، بينما يُطرح أبناء الملكوت خارجًا لأنهم يرفضون هذا الباب، بهذا يصير الآخرون أولين والأولون آخرين [30]. بدأ الإنجيلي لوقا يكشف لنا كيف عاش مسيحنا في هذا “الضيق”، بل جاء ليدخل من الباب الضيق، محتملاً الموت من أجلنا لكي يحملنا معه إلي قيامته.
في ذلك اليوم تقدَّم بعض الفرِّيسيِّين قائلين له:
اخرج واذهب من ههنا، لأن هيردوس يريد أن يقتلك.
فقال لهم: امضوا وقولوا لهذا الثعلب،
ها أنا أخرج شياطين وأشفي اليوم وغدًا وفي اليوم الثالث أكمل.
بل ينبغي أن أسير اليوم وغدًا وما يليه،
لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارجًا عن أورشليم” [31-33].
يرى كثير من الآباء أن الفرِّيسيِّين هنا يمثلون ذئابًا جاءت في زي حملان، تتظاهر بالحب نحو السيِّد المسيح بينما كان الدافع لتصرفاتهم هو حسدهم، لأنه يجتذب الجماهير من حولهم، فيفقدهم كرامتهم ومكاسبهم. فأرادوا طرده من المقاطعة الخاضعة لحكم أنتيباس هيرودس بنصحهم إيَّاه أن يخرج لئلاَّ يقتله هيردوس. وكما يقول القدِّيس كيرلس الكبير:
]كان قلبهم ملتهبًا بنار الحسد…
لم يريدوه أن يسكن في أورشليم حتى لا يفيد الشعب، الذي اندهش بعجائبه الإلهيَّة من ناحيَّة، ومن ناحيَّة أخرى أشرق عليهم بنور رؤية الله الدقيقة خلال تعليمه للحقائق التي تفوق ما جاء في الناموس…
لقد قاوموه بطرق مختلفة؛ تارة باستخفافهم وسخريتهم بسلطانه في عمل العجائب، وتجاسرهم علي اتهامه أن ما يفعله إنما ببعلزبول؛ وتارة بدفعه لتسليمه لأتباع قيصر تحت الاتهام أنه يمنع الإسرائيليين من دفع الجزية لقيصر (لو 20: 22)…
إذن لماذا اقتربوا منه، قائلين: أخرج واذهب من ههنا، لأن هيرودس يريد أن يقتلك” [31]. ما هي غايتهم في ذلك؟ يخبرنا الإنجيلي هذا بقوله: “في تلك الساعة تقدَّموا إليه…” ماذا يعنى بتلك الساعة التي فيها تقدَّم الفريِّسيُّون وقالوا هذا ليسوع؟ حين كان منشغلاً بتعليم جموع اليهود حيث سأله واحد إن كان كثيرون يخلصون. فقد عبر السيِّد علي السؤال ليجيب بما يليق به أن يخبرهم، وهو الطريق الذي يجب أن يسير فيه البشر ليصيروا ورثة ملكوت السماوات. إذ قال: “اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق…” واخبرهم أنهم إذ يرفضون ذلك فسيرون إبراهيم وإسحق ويعقوب وجميع الأنبياء في ملكوت الله وهم مطرحون خارجًا [28]، كما أضاف: “هوذا آخرون يكونون أولين، وأولون يكونون آخرين” [30] متحدَّثا عن دعوة الوثنيين للإيمان. هذه العلامات حركت الغضب في ذهن الفرِّيسيِّين. لقد رأوا الجموع تتوب وتتقبل الإيمان به بشغف ولم يعودوا يحتاجون إلا إلى أمور قليلة ليدركوا مجده وسّر تجسده العظيم المستحق للعبادة. بهذا إذ أوشك الفريِّسيُّون أن يفقدوا وظيفتهم كقادة للشعب، بل فقدوا فعلا سلطانهم عليهم، وخسروا ما كانوا يربحونه إذ كانوا شغوفين بمحبَّة الثروة والطمع والترف، تظاهروا بحبه، واقتربوا إليه، قائلين: “اخرج واذهب من ههنا، لأن هيرودس يريد أن يقتلك…” لقد ظنوا أنهم يستطيعون أن يخدعوا ذاك القائل: “من هذا الذي يخفي ذهنه عني؟ ويغلق على كلماته في قلبه ويظن أنه يخفيها عني؟” (أي 38: 2 الترجمة السبعينيَّة).]
ظن الفرِّيسيُّون أنهم قادرون علي خداع السيِّد، لكنه أجابهم كفاحصٍ للقلوب والكلى، وعالم بكل الأسرار والمستقبل، بهدوء في حكمة عجيبة، إجابة شاملة وقويَّة لبنيان سامعيها، إذ أظهر في إجابته الآتي:
أولاً: أظهر شجاعته بإرسالهم لهيرودس ملقبًا إيَّاه بالثعلب… فمن ناحيَّة أراد أن يعلن لهم أنه لن ينسحب عن خدمة الجماهير مهما بلغت المخاطر، إنما لينسحبوا هم أن أرادوا وينشغلوا بما هو ليس لخلاص إخوتهم؛ ومن ناحيَّة أخرى يدعو هيرودس ثعلبًا، إذ يعرف وحشية قلبه وحبه لسفك الدماء البريئة بمكر وخداع.
يرى البعض أن “هيرودس” هنا يشير إلي الهراطقة الذين يريدون قتل الإيمان بالمسيح، وانتزاعه عن أولاد الله، لذلك دُعي بالثعلب، لأنهم يستخدمون الخداع والمكر. ويرى آخرون أن هيرودس يشير إلي حب الكرامة الزمنيَّة أو الارتباط بالأرضيات، الأمر الذي يقتل إيماننا بالمسيح ويفسد شركتنا معه، لذا دُعي بالثعلب، إذ يحفر في الأرض، ويعيش في الجحور. كما يقول القدِّيس إكليمنضس السكندري: [يدعي الأشرار والأرضيون الذين ينشغلون بالغنى، إذ يحفرون الأرض، ثعالب.]
ثانيًا: أظهر أيضًا رسالته أنه ليس منافسًا لهيرودس في مملكته الأرضية، لكنه ملك سماوي يعمل لبنيان النفوس، فيطرد الشياطين ويشفي، مقدَّما نفسه برضاه للموت [32-33]… لقد جاء لكي يحطم عمل الشيطان ويشفي البشريَّة من جراحاتها المميتة، فيقيم كنيسته كمملكة روحيَّة. وكما يقول القدِّيس أغسطينوس: [لتفهم هذه الأمور التي نطق بها بمعنى سّرى، مشيرًا إلي جسده الذي هو الكنيسة. فإن الشياطين تُطرد عندما يترك الأمم الخزعبلات ويؤمنوا به، ويتحقَّق الشفاء كاملاً بواسطة وصاياه، بعدما يجحد الشيطان والعالم في القيامة وتصير الكنيسة كاملة في ملء الحياة الملائكيَّة بخلود الجسد أيضًا.]
هذه هي مملكته التي تتحقَّق بعمله كقوله: “اليوم وغدًا وفي اليوم الثالث أكمل”، قاصدًا باليوم الثالث قيامتنا معه كما في اليوم الثالث حيث يتحطم الشيطان تمامًا ولا يكون لجراحاته أثر فينا.
أراد تأكيد مملكته أنها مملكة روحيَّة لا تقوم علي أساس سياسي بتشبيه رعايته لشعبه بالدجاجة التي تحتضن فراخها تحت جناحيها [34]… علي خلاف النسر الروماني الذي كان يوضع في المستعمرات الرومانية في كبرياء وتشامخ علامة العنف والسلطة والكبرياء.
ثالثًا: أظهر معرفته للمستقبل بقوله: “اليوم وغدًا وفي اليوم الثالث أكمل” [32]، وهو تعبير عبري رمزي يعني أن أيامه علي الأرض باتت قليلة ومعدودة (هو 6: 2). وبقوله “اُكمل” كشف عن آلامه كسرّ مجد، إذ بها يكمل عمله الخلاصي من أجل شعبه.
رابعًا: كشف عن رسالته أنه قد جاء لكي يُبذل من خاصته (أورشليم)، إذ قال: “بل ينبغي أن أسير اليوم وغدًا وما يليه، لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارجًا عن أورشليم” [33]. وكما يقول القدِّيس كيرلس الكبير: [لقد ظن الفرِّيسيُّون أن سلطان هيرودس يرعبه فتذله المخاوف، لكنه هو رب القوات الذي يوّلد فينا الشجاعة الروحيَّة بكلماته: “لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد، ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها” (مت 10: 28). إنه لم يعطِ اهتمامًا للعنف البشري، بل يقول: “بل ينبغي أن أسير اليوم وغدًا وما يليه” [33]. بقوله “ينبغي” لا يعني الإلزام قسرًا، وإنما التزام به بكمال حريته، فبدون خطر يذهب أينما شاء ويتنقل في اليهوديَّة دون أن يقاومه أحد أو يخطط ضده حتى يتقبل الألم بإرادته خلال الصليب الثمين… بإرادته قبل الألم لكي يموت جسده يبطل الموت ويقوم. واذ قام من الأموات يقيم معه الطبيعة البشريَّة كلها، ويجددها واهبًا لها الحياة التي بلا فساد.]
خامسًا: أظهر رعايته الفائقة لشعبه، لكنها ليست إلزامية إذ يقدس حريتنا. لنا أن نقبلها ونتجاوب معها، ولنا أن نرفضها، إذ يقول:
“يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها،
كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، ولم تريدوا.
هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا،
والحق أقول لكم أنكم لا تروني حتى يأتي وقت تقولون فيه:
مبارك الآتي باسم الرب” [34-35].
وقد سبق لنا شرح هذه العبارة في تفسير مت 23: 37-39.
v إنه ليس فقط لا يتجاوزنا، وإنما لا يريد أن يتركنا ما لم نرد نحن ذلك…
لقد أظهر أننا نحن الذين نبدأ بهجره، فصرنا علَّة هلاكنا، أما الله فلا يريد أن يتركنا ولا حتى أن يعاقبنا، وإن عاقبنا إنما يفعل ذلك كمن هو مُلزم، إذ يقول: لا أشاء موت الخاطىء مثل أن يرجع ويحيا (حز 18: 32 الترجمة السبعينيَّة).
يحزن المسيح علي هلاك أورشليم كما نحزن نحن علي هلاك أصدقائنا.
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
إنجيل القديس لوقا: 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15 – 16– 17 – 18 – 19 – 20 – 21 – 22 – 23 – 24
تفسير إنجيل القديس لوقا: مقدمة – 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15– 16 – 17 – 18 – 19 – 20 – 21 – 22 – 23 – 24