تفسير سفر أعمال الرسل ١٥ للقمص تادرس يعقوب

الاصحاح الخامس عشر

رحلة القديس بولس التبشيرية الثانية

(أعمال 15 :40 – 18: 22)

1. من أنطاكية إلى لسترة (15: 40-16:1): انضم القديس تيموثاوس إلى بولس وسيلا فى لسترة.

2. من لسترة إلى ترواس (16: 6-8).

3. من ترواس إلى فيلبي ( 16: 11-12)، حيث اهتدت ليدية (16: 13-15)، بولس وسيلا فى السجن (16: 24).

4. من فيلبي إلى تسالونيكي (16: 40-17: 1)، قام الرعاع بالهجوم على بيت ياسون (17: 5).

5. من تسالونيكي إلى بيرية ( ع 17: 10).

6. من بيرية إلى أثينا (17: 14-15)، هناك وعظ على جبل آريوس باغوس (17: 22).

7. من أثينا إلى كورنثوس ( 18: 1). ضرب سوستانيس (18: 17).

8. من كورنثوس إلى أفسس (18: 18-19) عظته (18: 19).

9. من أفسس إلى أورشليم (18: 21-22).

10. من أورشليم إلى أنطاكية (18: 22).

 

 

رحلة بولس الرسول التبشيرية الثانية

 

مشكلتان في أنطاكية

قبل البدء في الرحلة الثانية حدث أمران محزنان، لكنهما سببا نموًا للكنيسة:

1. كان القديس بولس مريضًا وفي حالة ضعف، لكنه تحامل على نفسه وكرز بقوةٍ. وكما كتب إليهم: “ولكن تعلمون إني بضعف الجسد بشَّرتكم في الأول، وتجربتي التي في جسدي لم تزدروا بها ولا كرهتموها… لأني أشهد لكم أنه لو أمكن لقلعتم عيونكم وأطعمتموني” (غل 4: 13-15). إذ قبل أمميون كثيرون الإيمان المسيحي، طالب المتعصبون من اليهود بضرورة تهودهم أولاً وبعد ذلك ينالون العماد المسيحي والعضوية الكنسية. هذه الحركة دعيت بالتهود، حيث يطلبون من المسيحيين سواء من اليهود أو الدخلاء أو الأمميين أن يحفظوا الناموس الموسوي. أما اليهود أو الدخلاء الذين ارتبطوا بالثقافات الأخرى خاصة اليونانية فقد ضعف عندهم هذا الشعور. والمثل الواضح فيلون اليهودي السكندري الذي كان يرى أنه يكفي ممارسة قوانين العبادة بالمفهوم الروحي دون الحاجة إلى الحرفية.

وإذ حضر القديس بطرس فجأة إلى أنطاكية فرح لنجاح الخدمة وشارك الأمم المنتصرون طعامهم، حتى جاء قوم من أورشليم فتراجع حتى لا يعثرهم، مما اضطر الرسول بولس إلى مقاومته علانية (غل 2: 11-16)، وقد سبق لنا التعرض لهذا الحدث في تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية.

واجهت كنيسة العهد القديم ذات المشكلة، فحينما خرج اليهود من مصر صعد معهم لفيف كثير (خر ١٢: ٣٨) دخلوا العبادة اليهودية وتركوا عبادة الأوثان، وكان يلزم ختانهم (خر ١٢: ٤٨). وفي بلاد كثيرة كان لليهود تأثيرهم، فدخل بعض من الأمميين إلى الإيمان، وكان لهم طقس خاص بختانهم ونوالهم المعمودية وتدريبهم على الطقوس اليهودية، هؤلاء يدعون دخلاء. هذه الفئة كانت جادة في الاهتمام بخلاصها لذلك كثيرون منهم إذ سمعوا الكرازة بالإنجيل قبلوها.

تفاقمت هذه المشكلة حتى صارت هناك ضرورة لعقد أول مجمع كنسي رسولي عام ٤٧م يبحث في الأمور الخاصة بدخول الأمم إلى الإيمان.

2. حدثت منازعة بين بولس الرسول وبرنابا الرسول، إذ رفض الرسول بولس أن يأخذوا معهما مرقس يوحنا الرسول، لأنه تركهما في منتصف الطريق فى برجة بمفيلية، ربما بسبب المرض، وإذ تنازعا أخذ برنابا مرقس وانطلقا إلى قبرص، بينما أخذ بولس سيلا وانطلقا إلى الرحلة التبشيرية الثانية (15: 40).

الأصحاح الخامس عشر

مجمع أورشليم

يقدر البعض الفترة ما بين الزيارة السابقة للقديسين بولس وبرنابا لأورشليم والزيارة الواردة في هذا الأصحاح بحوالي خمس سنوات. فقد جاءا، لا عن حنينٍ شديدٍ وشوقٍ للدخول إلى مدينة الله، وممارسة العبادة في الهيكل، واسترجاع الذاكرة لآبائهم. إنما جاءا يحملان حصادًا هذا مقداره من الأمم الذين قبلوا الإيمانوالكنائس التي تأسست في مدن كثيرة؛ جاءا لأخذ قرارٍ جماعيٍ عن موقف الأمم القابلين للإيمان.

1. دعوة للتهود في أنطاكية 1.

2. صعود بولس وبرنابا إلى أورشليم 2-5.

3. انعقاد أول مجمع كنسي 6.

4. خطاب بولس الرسول 7-11.

5. حديث بولس وبرنابا 12.

6. حديث يعقوب الختامي 13- 21.

7. إرسالية إلى أنطاكية 22-29.

8. تعزية في أنطاكية 30-35.

9. خلاف بين بولس وبرنابا 36- 39.

10. بدء الرحلة الثانية 40- 41.

1. دعوة للتهود في أنطاكية

“وانحدر قوم من اليهودية،

وجعلوا يعلّمون الإخوة أنه إن لم تختتنوا حسب عادة موسى لا يمكنكم أن تخلصوا”. [1]

منذ بداية انطلاق الكنيسة والعدو يحاربها من الخارج كما من الداخل. في الخارج اضطهادات، وفي الداخل يبث روح الانشقاق والانحراف عن الحق.

دخول الأمم إلى الإيمان المسيحي بأعداد كبيرة في بلاد كثيرة أثار حتى المسيحيين الذين من أصل يهودي، فبعدما كان اليهود يمثلون الغالبية العظمى كأعضاء في الكنيسة، صاروا قلة أمام الأمم الداخلين إلى الإيمان، صار هذا يمثل خطرًا في نظرهم من جهة حفظ الناموس. صارت هناك معارضة قوية من اليهود المتنصرين ضد الداخلين إلى الإيمان من الأمم، وإذ لم يكن ممكنًا وقف هذا التيار الإلهي دخلوا في منازعات بالتزام الأمم ان يتهودوا أولاً، أي يختتنوا حسب عادة موسى، ويحفظوا الناموس حرفيًا (15: 1).

هؤلاء المتعصبون للناموس في حرفيته حتى بعد الإيمان المسيحي كانوا يمثلون جبهة قوية مقاومة للرسول بولس بكونه رسول الأمم الذي يطلب تحرير الأمم من حرفية الناموس. بقيت هذه الجبهة إلى آخر لحظات عمره، ففي آخر رحلة للرسول قال له الرسل: “أنت ترى أيها الأخ كم يوجد ربوة (عشرة آلاف) من اليهود الذين آمنوا وهم جميعًا غيورون للناموس” (أع ٢١: ٢٠).

والعجيب أن القديس بطرس إذ دعاه الروح القدس للكرازة في بيت كرنيليوس الأممي لم يطالبه بالختان بل حلّ الروح القدس عليه هو ومن معه ونالوا العماد. لكن خشية غضب اليهود المتنصرين في أورشليم إذ كان يأكل مع الأمم وسمع أن قومًا قادمون من أورشليم كان يؤخر ويفرز خائفًا من الذين هم من الختان (غل ٢: ١٢).

امتناع القديس بطرس من الأكل على مائدة الأمم أمام الذين من أهل الختان بمثابة اعتراف عملي بعدم أهليتهم لمعاشرة اليهود المتنصرين ما لم يختتنوا ويقبلوا حفظ الناموس في حرفيته، وإن كان الرسول لم يصرح بهذا لأنه هو نفسه كان يأكل معهم خفية. انتشر هذا الفكر في بلاد كثيرة خاصة غلاطية، بل وبلغ حتى روما فكادت الكنيسة تنقسم إلى كنيسة الأمم وكنيسة الختان، وعالج القديس بولس ذلك في رسالته إلى أهل رومية. وأيضًا هذا الفكر كان أحد العوامل في ظهور انقسامات في كنيسة كورنثوس حتى ادعى البعض أنهم لبولس وآخرون لصفا.

هذا الصراع ليس بجديدٍ، لكنه كان قائمًا بين اليهود قبل المسيحية. لاحظ د. هويتبي Dr. Whitbyما ورد في المؤرخ يوسابيوس انه عندما اعتنق ايزاتس Izates ابن هيلين لملكة أديابيين Adiabene اليهودية أعلن حنانيا بأنه يمكن تحقيق ذلك دون حاجة إلى الاختتان، أما اليعازر فحسب بقاءه أغرل شرًا عظيمًا.

يروي يوسيفوس فى تاريخ حياته أن اثنين من الشخصيات البارزة بين الأمم هربا إليه، فكان اليهود الغيورون يحثانهما على ضرورة الختان، بينما يوسيفوس نصحهم أن يكفوا عن إصرارهم على هذا. وهكذا كان الأمر عبر الأجيال بين اليهود المتعصبين واليهود المعتدلين.

انتقل هذا النزاع مع اليهود حتى بعد قبولهم الإيمان المسيحي، ويعلل المتعصبون تمسكهم بالختان الطقوس الموسوية بالآتي:

1- أنها فرائض إلهية لا يمكن تغييرها.

2- أن السيد المسيح جاء ليكمل الناموس لا لينقضه.

هؤلاء يظنون أنه لا يمكن التمتع بالخلاص بدون تنفيذ الناموس حرفيًا، خاصة الختان وحفظ السبت والأعياد اليهودية وشرائع التطهيرات. بدونها مصير الإنسان هو الهلاك الأبدي في جهنم. أما المعتدلون فلا ينكرون هاتين الحقيقيتين، لكنهم يرون أنهما لا يتعارضان مع تحقيق الختان الروحي للذي للحواس، وممارسة الطقوس بفكرٍ روحيٍ بنَّاء، لا حرفي قاتل. هؤلاء يرون أن غاية الناموس هو أن يقودنا إلى ربنا يسوع المسيح الذي يبرر المؤمنين به. فالعودة إلى الناموس حرفيًا هو نكوص وانحراف عن غاية الناموس ذاته.

2. صعود بولس وبرنابا إلى أورشليم

“فلما حصل لبولس وبرنابا منازعة ومباحثة ليست بقليلة معهم،

رتّبوا أن يصعد بولس وبرنابا وأناس آخرون منهم

إلى الرسل والمشايخ إلى أورشليم،

من أجل هذه المسألة”. [2]

هذه هي الزيارة الثالثة للقديس بولس لأورشليم، وهي الزيارة المعتبرة في رسالة غلاطية (2: 1)، جاءت بعد أربع عشرة سنة من زيارته الأولى.

زيارته الأولى: بعد أن ظهر له السيد المسيح بثلاث سنوات، حيث خدم في العربية، انتهت بهروبه من دمشق حيث أنزلوه في زنبيل من أسوارها، وقد جاء إلى أورشليم والتقى بالرسول بطرس وتعرف عليه ومكث معه خمسة عشر يوما لم يرَ فيها غيره من الرسل سوى يعقوب أخا الرب (غلا 1: 18، 19)، وكان ذلك قبل سنة 40م. ونجا من مؤامرة لقتله بصعوبة.

زيارته الثانية: كانت سنة 44م حيث جاء مع بعثة من أنطاكية لتقديم معونة لفقراء اليهودية أثناء المجاعة، عاد بعدها مسرعًا (أع 11: 30؛ 12: 25).

زيارته الثالثة سنة 49 أو 50م، جاء يحمل ثمار الكرازة المفرحة ويقدم ذبيحة شكر على عمل الله الفائق، وقد حظي بيمين الشركة من الثلاثة أعمدة في أورشليم: بطرس ويعقوب أخي الرب الملقب بالبار ويوحنا الحبيب (غل 2: 6-10). لقد تحققوا من أن الله ائتمن بطرس على إنجيل الختان وائتمن بولس على إنجيل الأمم.

إذ حدثت منازعة بخصوص تهود الأمم قبل قبولهم الإيمان المسيحي، وكان هذا الموضوع حيويًا شعر الرسول بولس أن جهود الكنيسة تضيع في مباحثات ومنازعات عوض الانشغال بالكرازة وسط الأمم. تزايدت المنازعات وأخذ بعض اليهود موقفًا متشددًا مما سبب عثرة للداخلين حديثًا إلى الإيمان، وأخذ الموضوع اتجاهًا جماعيًا لذا صارت الحاجة ملحة إلى قرار مجمعي رسولي حازم.

يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذه المنازعة بأنها آلت إلى نفع الكنيسة.

v لا تنزعجوا بسبب الهراطقة. انظروا هنا في مستهل الكرازة ذاتها كم من هجمات قد حدثت. لست أتحدث عن أولئك الذين قاموا عليهم من الخارج، فإن هذه تحسب كلا شيء، بل عن الهجوم الذي في الداخل… ليتنا لا نضطرب إذا وجد هجوم، بل نشكر الله حتى على هذه إذ هذه بالأكثر تزكينا… الإنسان لا يكون محبًا للحق بدرجة عظيمة، يتمسك بالحق عندما لا يقوده أحد إلى الانحراف عنه. أما الذي يتمسك بالحق عندما يحاول كثيرون أن يسحبوه عنه فهذا إنسان مُزكى… هذه الهجمات تأتي لكنها لن تؤذى بل تكون للمنفعة، وذلك كما يفيد المضطهدون الشهداء بسحبهم إلى الاستشهاد، ومع هذا فإن هذا السحب ليس بواسطة الله، هكذا هو الحال هنا. ليتنا لا نتطلع إلى هذا كخسارة، فإن هذا عينه علامة سمو التعليم، أن كثيرين يثورون على التعليم ليزيفوه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

لماذا اُختيرت أورشليم لانعقاد مجمع الرسل؟

1. غالبا ما كان المسيحيون فى ذلك الحين يتطلعون إلى أورشليم كمصدر سلطة كنسية، حيث هناك تحققت أحداث الخلاص، ومنها انطلقت بذار الخدمة والكرازة إلى كل العالم. تُحسب الكنيسة في أورشليم الكنيسة الأم حتى بالنسبة للمسيحيين الذين من أصل أممى.

2. كانت أورشليم تضم أغلب الرسل والمسيحيين أصحاب الخبرة، وربما كثير من الرسل كانوا يقومون بالكرازة ويعودون إلى أورشليم كمركز لكل الكنيسة. لذا فهي أفضل موقع لأخذ قرار فيما لم يستقر الأمر فيه بعد، حتى تنتهى كل المنازعات الخاصة بموقف الأمم المتنصرين.

3. كان أغلب المؤمنين من أصل يهودي، لهذا فمن الأفضل صدور القرارات هناك حتى لا يأخذوا موقف المعارضة إن صدرت قرارات فى كنيسة وسط الأمم.

4. كان بعض المسيحيين الذين من أصل يهودي يحملون نوعًا من الضيق بسبب انفتاح الخدمة على الأمم، فكان لزامًا أن يتحققوا من فرح الرسل ككل بعمل الله وسط الأمم.

“فهؤلاء بعدما شيعتهم الكنيسة

اجتازوا في فينيقيّة والسامرة يخبرونهم برجوع الأمم،

وكانوا يسبّبون سرورًا عظيمًا لجميع الاخوة”. [3]

صعد القديسان بولس وبرنابا إلى أورشليم وآخرون معهما لعقد مجمع رسولي، وفي طريقهم عبروا بفينيقية (لبنان) والسامرة، فكانوا يتحدثون عن عمل الله وسط الأمم، “وكانوا يسببون سرورًا عظيمًا لجميع الاخوة“. كانت هذه المناطق عامرة بالمؤمنين اليهود غير المتعصبين، يفرحون بخلاص الأمم وقبولهم للإيمان.

كان القديس بولس ومن معه متهللين بالروح من أجل عمل الله الفائق وخلاص الكثيرين، لهذا ففي طريقهم إلى أورشليم أرادوا أن يشركوا الكنائس في الطريق فرحهم الروحي. فالمسيحي مصدر فرح لكل من هم حوله، يقدم دائمًا الأخبار السارة المفرحة، ليختبر المؤمنون عربون السماء.

“ولما حضروا إلى أورشليم

قبلتهم الكنيسة والرسل والمشايخ،

فأخبروهم بكل ما صنع اللَّه معهم”. [4]

قبلت الكنيسة في أورشليم هذا الوفد برضى واستمع الكل لعمل الله وسط الأمم. في وسط هذا الجو الرائع من الحب والصداقة تحدث القديسان بولس وبرنابا ومن معهما عن عمل الله معهم. لم يستعرضوا مجهوداتهم، ولا تحدثوا عن أنفسهم، وعن حكمتهم وإمكانياتهم، بل كان كل الحديث حول نعمة الله الفائقة.

“ولكن قام أناس من الذين كانوا قد آمنوا من مذهب الفريسيين

وقالوا أنه ينبغي أن يختنوا،

ويوصوا بأن يحفظوا ناموس موسى”. [5]

كانت القيادات الكنسية بلا شك في حرجٍ شديدٍ بين سرورهم باتساع الخدمة في العالم وخشيتهم غضب المتعصبين من اليهود، خاصة وأن كنيسة الأمم بدأت تمتد وتتزايد جدًا.

يرى البعض أن بعض الفريسيين قبلوا الإيمان المسيحي لتأكيد مبدأهم وعقيدتهم في القيامة ضد الصدوقيين، لكن لم يكن ممكنًا لبعضهم أن يتخلوا عن التمسك بحرفية الناموس. فبعد قبولهم الإيمان المسيحي احتفظوا بالخميرة القديمة، ليس جميعهم بل بعضهم، هؤلاء رأوا في حفظ الناموس حرفيًا ضرورة ملزمة قبل دخولهم في الإيمان بالسيد المسيح.

3. انعقاد أول مجمع كنسي

“فاجتمع الرسل والمشايخ لينظروا في هذا الأمر. [6]

اجتمع الرسل مع الكهنة presbyters لبحث الأمر؛ لم يقل ليأخذوا قرارات، لكن بروح الحب المتبادل والتواضع أراد الكل مناقشة الأمر فيما بينهم. لم يرد الرسل أن يأخذوا قرارهم دون الكهنة.

4. خطاب بولس الرسول

“فبعدما حصلت مباحثة كثيرة،

قام بطرس وقال لهم:

أيها الرجال الإخوة،

أنتم تعلمون أنه منذ أيام قديمة اختار اللَّه بيننا،

أنه بفمي يسمع الأمم كلمة الإنجيل ويؤمنون”. [7]

يُعتبر هذا المجمع مثلاً رائعًا للقرارات الكنسية، إذ لم يُحكر على أحد في الرأي، بل أُعطيت الفرصة للفريقين أن يناقشا الأمر بكل صراحة وانفتاح، في جوٍ من الحب. ولم نؤخذ القرارات بطريقة تعسفية ولا بتسرعٍ. تمت مباحثات ليست بقليلةٍ بين الفريقين، وكان بولس وبرنابا يمثلان قيادة الفكر الذي يراه البعض متحررًا، وبعض المؤمنين الذين من مذهب الفريسيين يمثلون الفريق المتعصب.

وقف القديس بطرس الذي من جانبٍ يمثل كنيسة الختان، وقد عرف بحفظه للناموس حتى حسبه البعض كمن يقف في مقابل القديس بولس رسول الأمم، ومن جانب آخر فهو الذي دعاه الروح القدس للكرازة في بيت قائد المائة الأممي كرنيليوس منذ قرابة عشر سنوات، لذلك يقول: “منذ أيامٍ قديمة“. هذه هي آخر إشارة إلى القديس بطرس في سفر الأعمال، وكأن القديس لوقا بعد أن استعرض عمل الله في خدمته ختم ذلك بتهيئة الجو للخدمة بين الأمم، ليكمل السفر الدور الخطير الذي قام به رسول الأمم بالكرازة في العالم حتى بلغ العاصمة ذاتها.

يرى البعض أن الدور الذي قام به الرسول بولس حين انتهر القديس بطرس وقاومه علانية حين انسحب عن الاشتراك مع المسيحيين الذين من أصل أممي في تناول الطعام كان له فاعليته (غل 2: 11). هنا يشير القديس إلى عمل الله معه هذا الذي دعاه لقبول كرنيليوس الأممي في الإيمان، ويعمده هو وأهل بيته. فقد أظهر القديس بطرس نوعًا من التعجب، كيف يناقش أمر قد استقر فعلاً، ومع كونه ليس رسولاً للأمم فإن الله دعاه للخدمة بينهم مبكرًا، “منذ أيام قديمة“. ما يبحثونه الآن سبق أن ثار في ذهن القديس بطرس وجاءته الإجابة من السماء حين رأى الملاءة، وصدر له الأمر أن يأكل دون أن يقول عن هذا دنس أو نجس.

كأن الرسول بطرس يتساءل: لقد كرزت لأول أممي بدعوة عن الله نفسه ولم يحتج أحد على قبوله هو ومن معه الإيمان دون أن يُختتنوا، فلماذا تحتجون على أولئك الذين يكرز لهم الرسول بولس؟

يرى كثير من الدارسين أن القديس بطرس اتسم بالغيرة المتقدة نحو الخدمة وخلاص الكل: اليهود كما الأمم، لكنه لم يظهر أنه كان رئيسًا للمجمع، فإنه لم يقم بافتتاحه ولا أيضًا بختامه، بل بدأ المجمع بالمباحثات الكثيرة دون الإشارة إلى أسماء المتكلمين، ولا قدم لنا الإنجيلي تفاصيل الحوار. ربما تحدث القديس بطرس بكونه أكبر الحاضرين سنا، ولأنه اعتاد أن يتكلم (أع 2: 14؛ 3: 6، 12)، هذا بجانب أنه صاحب خبرة إذ وضع في مثل هذا الموقف حين استدعاه كرنيليوس. أخيرًا فإن كثير من المسيحيين من أصل يهودي يتطلعون إليه كرجلٍ محافظٍ على الناموس، لأنه رسول الختان، فكان لديهم استعداد أن يسمعوا له في هذا الشأن. إنه لم يُتهم قط مثل الرسول بولس أنه متحرر من جهة حفظ الناموس حرفيًا.

“واللَّه العارف القلوب شهد لهم

معطيًا لهم الروح القدس كما لنا أيضًا”. [8]

الله الفاحص القلوب وعارف بأسرارها يعلم تمامًا إن كان هؤلاء الأمم بكل إخلاص قد رجعوا إليه بكل قلوبهم وصاروا له أم لا، وإذ وهبهم روحه القدوس على نفس المستوى كما وهب اليهود، فأي اعتراض يمكن أن يقدمه الإنسان؟

“ولم يميِّز بيننا وبينهم بشيء

إذ طهّر بالإيمان قلوبهم”. [9]

جاءت هذه العبارة المختصرة جدًا أشبه بثورة داخلية يقوم بها الروح القدس نفسه لتقديم مفهومٍ عميقٍ للخلاص، يسمو فوق الحرف، ويخترق النفس، ويملك على القلب. إنه الإيمان الحي العملي بيسوع المسيح المخلص.

لقد انعقد المجمع بخصوص الأمم المتنصرين وموقفهم من الناموس الموسوي، وهوذا القديس بطرس يكشف عن التحرر من حرف الناموس ليس بالنسبة للأمم فقط بل وبكل مؤمن، حتى إن كان من أصل يهودي.

يصرح القديس بطرس أنه لا يقدم رأيًا شخصيًا، بل شهادة الروح القدس نفسه الذي ناله الأمم بواسطة الآب العارف القلوب، وأن الله لم يميز بين يهودي وأممي في تقديم عطية الروح القدس. “كما لنا أيضًا“، أي بدون أي إجراء طقسي خاص بالناموس. “ولم يميز بيننا وبينهم” [٩].

حلول الروح القدس على الأمم هو إعلان عملي عن حكم الله بخصوص الأمم أنهم قد رجعوا بكل قلوبهم، في إخلاص متمسكين بالإيمان به. حلوله هو ترحيب الله للأمم لكي يشتركوا مع اليهود في ذات الإيمان بلا محاباة أو تمييز بينهم. لماذا إذن يُستبعدون كمن هم بعيدون عن اليهود الذين يظنون أنهم أقدس منهم (إش 56: 5).

لقد صاروا شركاء معنا في ذات الميراث وشركاء الجسد (أف ٣: ٦)، شركاء في العضوية في جسد السيد المسيح حيث ليس ختان ولا غرلة.

إن كانوا لم يختتنوا ولم يتمموا ناموس موسى حرفيًا إلا أن الله أظهر أن حفظ هذه العادات ليس بالأمر الضروري لقبول الإنسان لدى الله، متمتعًا بالشركة معه. لم يعطِ اليهود أية ميزات على الأمم، بل برر الجميع وقدسهم ووهبهم عطايا الرب على وجه المساواة.

طهر بالإيمان قلوبهم“، فما عجز الناموس عن أن يفعله في حياة اليهود، إذ لم يكن قادرًا على تطهير القلوب والضمائر الخفية حققه الإيمان بالمسيح لدى كلٍ من اليهود والأمم. تطهير قلوبهم هي شهادة عملية عن عدم حاجتهم أو التزامهم بالعادات الخاصة بالشريعة الموسوية.

v تلك المعموديّة أيضًا التي توهب مرّة للجميع تطهّر بالإيمان. يقول الرسول بطرس في رسالته: “أعطانا مثالاً لفلك نوح كيف خلص ثماني أنفس بالماء”، مضيفًا: “لا إزالة وسخ الجسد، بل سؤال ضمير صالح” (راجع 1 بط 3: 20-21)، الذي احتقره الفرّيسيّون وغسلوا ما هو في الخارج، وتركوا الداخل في فساده.

v من لا يهتم ويسهر باحثًا عن الوسائل التي بها ينقّي العيون التي تعاين ذاك الذي يشتاق إليه بحبٍ عميقٍ؟ لقد عبّر الكتاب المقدس عن هذا، قائلاً: “طهّر بالإيمان قلوبهم” [9]. الإيمان باللَّه ينقّي القلب، والقلب النقي يعاين اللََّه… يلزمنا أن نميّز إيماننا غير مكتفين بالاعتقاد، فالاعتقاد لا يكفي ليكون علّة تنقية القلب. لقد قيل: “إذ طهَّر بالإيمان قلوبهم“، ولكن بأي إيمان غير ذاك الإيمان الذي عرفه الرسول، قائلاً: “الإيمان العامل بالمحبّة” (غل 5: 6). هذا الإيمان يميّزنا عن إيمان الشيّاطين وإيمان فاسدي السيرة… ذلك الإيمان الذي يرجو مواعيد اللََّه. لا يوجد تعريف أكثر دقّة أو كمالاً من هذا التعريف، ففي هذا الإيمان توجد الأمور الثلاثة التالية:

ذاك الذي إيمانه عامل بالمحبّة، والذي يترجّى مواعيد اللََّه.

الرجاء أيضًا مشارك للإيمان، إذ بقدر عدم رؤيتنا لما نعتقد به يكون الرجاء ضروريًّا لئلا نفشل بسبب عدم رؤيتنا ويأسنا من أن نراه… فعدم رؤيتنا يحزننا، لكن رجاءنا في الرؤية يعطينا عزاءْ. للرجاء موضع هنا، وهو مشارك للإيمان.

أيضًا المحبّة التي بها نشتاق ونجاهد من أجل الحصول على الشيء ونلتهب شوقًا، ونجوع ونعطش.

القديس أغسطينوس

v يؤمن الأمم أيضًا به لكي يتبرّروا، ولا يوجد فرق بين يهودي وأممي في الإيمان، فإنّه إذ يُنزع الختان والغرلة يصيرا واحدًا في المسيح.

أمبروسياستر

“فالآن لماذا تجرّبون اللَّه بوضع نيرٍ على عُنق التلاميذ،

لم يستطع آباؤنا ولا نحن أن نحمله؟” [10]

في حزم يوبخ القديس بطرس المعلمين الذين يتركون الجوهر وهو تطهير القلب بالإيمان ليتمتع بالحضرة الإلهية، وينشغلوا بتنفيذ عادات حرفية عاجزة عن أن تتسلل إلى القلب لغسله. إنه بقوة يوبخ الذين يُلزمون الأمم بناموس موسى. جاء حديثه يحمل خفية تحرر حتى اليهودي من حرف الناموس، لأنه نير لا يستطيع أحد أن يحتمله.

إن كان الله يطهر قلوبهم بالإيمان دون أن يلزمهم بناموس موسى، فلماذا يتعدون الله نفسه ويجربونه بضغطهم على الأمم، وإلزامهم ما لا يطلبه الله نفسه منهم؟ لقد قبلهم الله كما هم خلال الإيمان، فلماذا يُغضبون الله بطلب أمور قد أبطلها، لأنها كانت ظلاً لحقيقةٍ تمت فانتهى الظل.

إذ يقارن الرسول بين التزامات الناموس الحرفية ونعمة الإيمان يحسب الأولى نيرًا ثقيلاً، والثانية حرية مجد أولاد الله. الأولى دعاها الرسول بولس “نير العبودية” (غل 5: 1)، لأن النير هو رمز العبودية (1 تي 6: 1)، والحزن (مرا 3: 27)، والعقوبة (مرا 1: 14)؛ والضيق.

نير الناموس يعطل حرية الإيمان، حرية مجد أولاد الله. لقد جاء السيد المسيح ليعتق الأسرى ويبشر بالحرية (نح 5: 8).

كشف القديس بطرس بكل صراحة عن الأنين الذي في داخله من جهة ثقل حرفية الناموس على عنقه هو ومن معه كما على أعناق آبائه. فقد جاء السيد المسيح ليرفع عنا نير حرفية الناموس غير المحتمل ليهبنا نيره الهين أو الحلو (مت ١١: ٣٠). قدم لنا نير المسيح حتى البرّ الذي في الناموس بلا لوم (في ٣: ٦)، إذ أكمله تمامًا لحسابنا. لقد أظهر الصليب الفارق بين نير الناموس ونير المسيح في شخص اللص اليمين. فقد حكم الناموس عليه بالموت في أبشع صورة، لكنه إذ تطلع بإيمان للسيد، وحوَّله إيمانه إلى عمل بسيط: الشهادة له وسط ضجيج الصالبين (لو ٢٣: ٤٢)، تمتع بنير المسيح: “اليوم تكون معي في الفردوس”.

طالب القديس بطرس أن نترفق بالآخرين ولا نكون كالذين “يحزمون أحمالاً ثقيلة عسرة الحمل، ويضعونها على أكتاف الناس، وهم لا يريدون أن يحركوها بإصبعهم” (مت ٢٣: ٤).

v كان الناموس محزنًا للإسرائيليّين كاعترافهم، وكما أدرك الرسل الإلهيّون. فقد وبّخوا الذين كانوا يسعون أن يرجع الذين آمنوا (بالمسيح) إلى ممارسة الطقوس الناموسيّة…

لقد علمنا المخلص نفسه ذلك، صارخًا، قائلاً: “تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم؛ احملوا نيري عليكم وتعلّموا منّي، فإنيّ وديع ومتواضع القلب، فتجدون راحة لنفوسكم” (مت 9: 28). يقول إن الذين هم تحت الناموس كانوا في تعب وثقيلي القلب. وقد دعا نفسه وديعًا، حيث لم يكن للناموس هذه السمة. إذ يقول بولس: “من يحتقر ناموس موسى، يموت بدون رحمة على فم شاهدين أو ثلاثة شهود” (عب10: 28).

يقول (السيد) ويل لكم أيّها الناموسيّون فإنّكم تأمرون بحزم أحمالٍ مؤلمة لا يمكن احتمالها، تضعونها على من هم تحت الناموس، بينما أنتم أنفسكم لا تلمسوها.

v كان الناموس مرًا، إذ كان يعاقب بالموت، وعن هذا شهد بولس: “من يخالف ناموس موسى فعلى شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة” (عب 10: 28). فهو إذن مرّ وغير محتمل للقدماء [10]، وغير مقبول. لهذا السبب، كما كانت المياه مرّة تمامًا (خر 15: 23)، لكنها صارت حلوة بالصليب الكريم… فالآن إذ تغيّر الظل إلى التأمل الروحي، فنحن نرى بعيون العقل سرّ المسيح الذي كان مخفيًا في رموز الناموس، فبالرغم من أن الناموس كان مرًّا، فقد بطل أن يصير هكذا فيما بعد.

القديس كيرلس الكبير

v يبدو لي أن الروح كلي القداسة بدوره يحث المؤمنين أن يقولوا هذه الكلمات: “لنقطع أغلالهم، ونطرح عنا نيرهم” (مز 2: 3)، ونضع علينا نير الرب الهين. هذه هي دعوته: “احملوا نيري عليكم، لأن نيري هين وحملي خفيف” (مت 11: 29-30). الآن يُدعى الناموس نفسه نيرًا بواسطة الرسل القديسين. يقول بطرس المُلهم في سفر الأعمال: “لماذا تجربون الله بوضع نيرٍ على عنق التلاميذ، لم يستطع آباؤنا ولا نحن أن نحمله؟”… لنمنع قلوبنا من الرغبة في خضوعها لها (للقيود)، لندحض نير الناموس. ليتنا لا نعطي أية فرصة للرمز ما لم نفهمه روحيًا؛ ليت الظل يُحسب بلا نفع ما لم يهتم بسرّ المسيح.

الأب ثيؤدورت أسقف قورش

v لقد منعَُ (الرسل) من أن يكون لهم ثوبان حتى أنهم يرفضون داخليًا وبطريقة كاملة حفظ حرف الناموس هكذا، فلا يهتم التلاميذ بالخرافات اليهودية، ولا يضعون عليهم نيرًا لم يقدر هم ولا آباؤهم أن يحتملوه. إنما يكفيهم ثوب واحد، هذا الثوب الداخلي. فإنهم لا يريدون الثوب الخارجي، بل يطلبون ما هو من فوق. فإن يسوع سمح لهم أن يكون لهم ثوب واحد، وهذا الواحد هو داخلي.

العلامة أوريجينوس

v يعمل اللَّه مالا يستطيع الناموس أن يفعله، لهذا نرفض العادات اليهوديّة (الحرفيّة) على أساس أنّها لا تعنينا، وانّه يستحيل أن يعهد بها لإشباع احتياجات الأمم، بينما نقبل بفرحٍ النبوّات اليهوديّة التي تضم تنبّؤات تخصّنا.

يوسابيوس القيصري

“لكن بنعمة الرب يسوع المسيح

نؤمن أن نخلص كما أولئك أيضًا”. [11]

بينما نادى المعلمون اليهود بأن الختان ضروري للخلاص، إذا بالقديس بطرس يظهر أن الأمر مختلف عن ذلك تمامًا، فإن الأمم يتمتعون بالخلاص تمامًا على مستوى أهل الختان الذين أمنوا بالسيد المسيح، وكأن الختان لا قيمة له بالنسبة للأممي، لن ينفعه شيئًا، إنما ما يركز أنظاره عليه هو نعمة السيد المسيح للخلاص.

كشف الرسول بطرس عن ما وراء الإيمان بالسيد المسيح وهي النعمة الإلهية التي تساند الشخص وتجتذبه، فيتمتع بالخلاص. هذه النعمة المجانية مقدمة لكل طالبيها: “ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حرّ، ليس ذكر ولا أنثى، لأنكم جميعًا واحد في المسيح يسوع” (غل ٣: ٢٨).

v يقول: “لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ” لكي لا تدفعك عظمة البركات الموهوبة نحو التشامخ، لاحظ كيف نزل بك… حتى الإيمان ليس من عندياتنا، لأنه لو لم يأتِ (المسيح) ولو لم يدعنا كيف كان يمكننا أن نؤمن؟!… عمل الإيمان نفسه ليس من ذواتنا. إنه عطية الله، ليس من أعمال. ربما تقول هل يكفي الإيمان لخلاصنا؟ كلا…

v اعترف أنك بالنعمة تخلص، حتى تشعر أن الله هو الدائن… فإن أسندنا لله (أعمالنا الصالحة) تكون مكافأتنا عن تواضعنا أعظم من المكافأة عن الأعمال نفسها…

v لو كانت النعمة لا تنتظر ما يتحقق من جانبنا لانسكبت بفيض في كل النفوس، لكنها إذ تطلب ما هو من جانبنا تسكن في البعض بينما تترك البعض الآخر، ولا تظهر في البعض، لأن الله يشترط أولاً الاختيار السابق.

القديس يوحنا الذهبي الفم

5. حديث بولس وبرنابا

“فسكت الجمهور كله،

وكانوا يسمعون برنابا وبولس

يحدّثان بجميع ما صنع اللَّه من الآيات والعجائب

في الأمم بواسطتهم”. [12]

قدم القديس بطرس خدمته في بيت كرنيليوس كمثالٍ حي لعمل الروح القدس الذي لم يطالب بختان الأمم القابلين للإيمان. وأما القديسان بولس وبرنابا فقدما كمًا من أعمال الله الفائقة وآياته وعجائبه لجذب الكثيرين من الأمم في بلاد كثيرة.

سكت الجمهور pleethos ليستمع إلى عمل الله وسط الأمم. وكان جمهور الشعب حاضرين في المجمع، ولهم شركة فيه. فمع تسلم الرسل والكهنة القيادة للمجمع إلا أن الشعب كان له دوره.

لم يذكر القديس لوقا تفاصيل أحاديثهم، لأن سفر الأعمال في أغلبه هو عرض لعمل الله الفائق بين الأمم، والعجائب والآيات التي صُنعت بينهم، وكيف تمتع الأمم بمواهب الروح على قدم المساواة مع اليهود، بل كثيرًا ما أثمر الروح القدس في حياة الأمم أكثر بكثير منه فى حياة اليهود بسبب غلق الآخرين قلوبهم أمامه.

رفع القديس بطرس القضية إلى الله واهب الروح القدس بلا تمييز ومقدم النعمة الإلهية للجميع، فهو الذي دعا الأمم، وقد ألزم بطرس الرسول أن يشهد لهم بالإنجيل بغير إرادته، فمن يقدر أن يحتج؟

كان لزامًا أن يقوم بهذا الدفاع القديس بطرس رسول الختان، لأن المتعصبين ما كان يمكنهم قبول هذا الدفاع من القديس بولس أو القديس برنابا.

الآن جاء دور القديسان برنابا وبولس بعد أن مهد لهما القديس بطرس الطريق، فقدما شهادة عملية بصنع الآيات والعجائب في الأمم بواسطتهما.

v المعجزات التي تمّمها (القدّيس بولس) وطاعة الأمم هي دليل على أن بولس تمّم بغرض الإيمان الذي من أجله أُرسل… إنّه يبذل كل جهد ممكن ليظهر أن كل شيء هو من عمل اللَّه، وليس من عمله هو.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v تختلف الآيات عن العجائب في أن الآيات هي معجزات تشير إلى أمور مقبلة، بينما العجائب هي مجرّد معجزات تتم.

العلامة أوريجينوس

6. حديث يعقوب الختامي

“وبعدما سكتا أجاب يعقوب قائلاً:

أيها الرجال الإخوة اسمعوني”. [13]

لعله آخر من آمن بالسيد المسيح من عائلته حسب الجسد، وقد ظهر له خصيصًا بعد القيامة (١كو ١٥: ٧). كان معروفًا بيعقوب البار حتى في الأوساط اليهودية، إذ اتسم بالنسك الشديد والحكمة قبل إيمانه بالسيد المسيح، هذا مع تمسكه الشديد بالناموس والطقوس اليهودية. وكان له تقديره الخاص بعد أن قبل الإيمان بين اليهود المتنصرين المتعصبين لناموس موسى حرفيًا.

يبدو أن القديس يعقوب قد سبق أن سمع من القديسين برنابا وبولس عن عمل الله بين الأمم. وفي المجمع لم يقاطعهما، بل تركهما يتحدثان بكل ما في قلبيهما حتى صمتا.

تحدث بروح الأخوة المملوءة حبًا في تقدير لكل الحاضرين: “أيها الرجال الإخوة اسمعوني“.

“سمعان قد أخبر كيف افتقد اللَّه أولاً الأمم،

ليأخذ منهم شعبًا على اسمه”. [14]

أشار إلى حديث القديس بطرس وقد ذكره باسمه اليهودي “سمعان“، ليجد قبولاً أكثر لدى اليهود المتعصبين.

“وهذا توافقه أقوال الأنبياء كما هو مكتوب”. [15]

قال القديس يعقوب الكلمة الأخيرة القاطعة، وهو لا يشير فيها إلى الرؤيا التي شاهدها القديس بطرس ولا إلى الآيات والعجائب التي تحدث عنها القديسان برنابا وبولسK لكنه أشار إلى أقوال الأنبياء، فإن هذه هي الشهادة التى لن يقدر اليهودي أن يقاومها. فما حدث فى ذلك العصر ليس بجديدٍ عنهم، بل سبق فرآه الأنبياء بروح النبوة. من يقدر أن يقاوم إتمام النبوات؟ لقد تنبأوا عن دعوة الأمم (رو10: 19)، وقد نادى اليهود الأتقياء بأن المسيا قادم نورًا يشرق على الأمم (لو 2: 32).

“سأرجع بعد هذا،

وابني أيضًا خيمة داود الساقطة،

وأبني أيضًا ردْمها وأُقيمها ثانية”. [16]

هنا أورد القديس يعقوب نبوة كانت تبدو غامضة ويصعب على اليهود تفسيرها.

عندما كان اليهود يعصون الله ولا يبالون بخلاصهم وارتباطهم بالله كان الله يتحدث مع الأنبياء كمن فارق شعبه أو كزوج يطلق امرأته. الآن إذ يقول: “سأرجع“، يعلن حضوره وسط شعبه ليملك على قلوبهم، ويعلن ملكوته فيهم. وكما يقول: “ارجعوا إليّ يقول رب الجنود، فأرجع إليكم”.

استخدم القديس يعقوب الترجمة السبعينية للنص. لقد تنبأ عن سقوط خيمة داود وذلك خلال انقسام المملكة إلى مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا وسقوطهما في السبي. لم تقم هذه الخيمة حتى بعد الرجوع من السبي، إذ كانت إسرائيل تحت الاستعمار الفارسي فاليوناني ثم الروماني ولم تُبنَ خيمة داود إلاَّ بمجيء ابن داود الذي أقام كنيسة العهد الجديد عوض كنيسة العهد القديم، وقد دعا إلى عضويتها جميع الأمم. لقد مسح السيد المسيح بدمه وقيامته عار الشعب، وأعطاهم وحدة الروح والقلب والفكر، فقامت الكنيسة، إسرائيل الجديد، تبني ما تهدم، وترد المجد عوض العار. أما سرّ المجد فهو قبول الأمم الإيمان واتحادهم مع اليهود المتنصرين في قبولهم اسم الرب.

كان علامة تخلية عن شعبه الرافض الحضرة الإلهية هو خراب الخيمة، أو السماح للأمم بالاستيلاء على تابوت العهد كما في أيام الملك شاول، أو خراب الهيكل ومدينة أورشليم، وعلامة رجوعه إليهم هي عودة تابوت العهد أو إعادة بناء الهيكل ومدينة أورشليم.

واضح أن ما ورد هنا في النبوة لا يحمل المعنى الحرفي بل الرمزي، لأنه النبي يقدم الوعد الإلهي بعد بناء قصر داود، بل وبعد بناء الهيكل، مع هذا يقول: “ابني خيمة داود الساقطة”، مشيرًا إلى انهيار مملكة داود، وإقامة مملكة ابن داود الروحية في قلب كل مؤمن كما في وسط المؤمنين ككنيسة مقدسة وشعب ملوكي.

“لكي يطلب الباقون من الناس الرب،

وجميع الأمم الذين دُعي اسمي عليهم،

يقول الرب الصانع هذا كله”. [17]

يؤكد هذا الوعد الإلهي على لسان النبي دخول الأمم إلى التمتع بميزات أولاد الله.

يقصد بالباقين من الناس، أي الذين هم غير يهود، أو الأمم. في الأصل العبرى “أدوم”، وهى تشير إلى البشر أو البشرية أو الشعب.

“معلومة عند الرب منذ الأزل جميع أعماله”. [18]

ما يحدث هو تحقيق لخطة الله الأزلية من جهة خلاص العالم كله.

ذكر القديس يعقوب نبوة عاموس في القرن الثامن ق.م. حيث تربط بين مجد إسرائيل ودعوة الأمم للإيمان: “في ذلك اليوم أقيم مظلة داود الساقطة، وأحصن شقوقها، وأقيم ردمها، وأبنيها كأيام الدهر، لكي يرثوا بقية أدوم وجميع الأمم الذين دُعي اسمي عليهم يقول الرب الصانع هذا” (عا ٩: ١١-١٢). هذا العمل المجيد، أي قيام خيمة داود الساقطة لتضم في داخلها اليهود والأمم معًا لشعبٍ واحدٍ، يمثل خطة إلهية معلومة عند الرب منذ الأزل. وهي ليست من عمل إنسانٍ ما وإنما هي أعمال الرب العجيبة.

“لذلك أنا أرى أن لا يُثقَّل على الراجعين إلى اللَّه من الأمم”. [19]

جاءت الكلمة اليونانية بمعنى “أقضي”، وهي كلمة قانونية تصدر عن القاضي في إصدار حكمه.

لا يُثقَّل“: الإيمان ليس نيرًا ثقيلاً يلتزم به الشخص، لكنه هبه إلهية تعطي النفس راحة وسلامًا داخليًا.

قدم القديس يعقوب كرئيس للمجمع القرار: “أرى أن لا يُثقل على الراجعين إلى الله من الأمم” [١٩]. وضع القديس القرار الذي به فصل في القضية، فلم يعد بعد هناك مجال للمناقشة والمنازعة، ثم رفعت جلسة المجمع.

“بل يرسل إليهم أن يمتنعوا عن

نجاسات الأصنام والزنا والمخنوق والدم”. [20]

قدم المجمع أربع توصيات تمس الحياة السلوكية التي يلتزم بها الأممي الداخل الإيمان وهي:

1. الامتناع عن نجاسات الأصنام مثل أكل اللحوم وشرب الخمر المقدمة ذبائح للأوثان، فهي نجسة في نظر اليهودي. كان أكل هذه اللحوم يعتبر نوعًا من الشركة في العبادة الوثنية. لهذا كان اليهود يرفضونها تمامًا. هذا لا يعني أن هذه اللحوم في ذاتها نجسة، لكن من أجل نية الوثنيين أنها جزء من العبادة، ومن أجل نظرة اليهود إليها يمتنع المؤمن عن أكلها حتى وإن كان ضميره قويًا، متطلعًا إلى أن كل الخليقة طاهرة. فمن أجل محبته لأخيه صاحب الضمير الضعيف يرفض هذه الأطعمة متى علم أنها كانت مُقدمة للأوثان. وقد عالج الرسول هذه النقطة في شيء من التوسع (1 كو 8: 1؛ رو 14).

2. الامتناع عن الزنا، فقد عُرف كثير من الوثنيين بالإباحية الخلقية، كأن تمارس الكاهنات الزنا استرضاء للإله، ولجمع مال لحساب هيكل الوثن. وممارسة الزنا كنوع من العبادة في الأعياد الرسمية للآلهة. كانت هذه الرذيلة شائعة بين الأمم على مستوى العالم، تمارس دون خجل أو حياء، إذ لم يكن يوجد أي قانون بين الوثنيين يمنعها. لذلك كان لابد للمسيحية أن تأخذ موقفًا واضحًا وصريحًا لمقاومتها.

3. الامتناع عن أكل المخنوق من الحيوانات والطيور، إذ تحسب كجثة ميتة رميمة نجسة (لا ١٧: ١٠؛ تك ٩: ٤).

4. الامتناع عن شرب الدم، وهي تكملة للوصية السابقة، ذلك لأنه يحسب أن الدم هو الحياة، فيه النفس (لا ١٧: ١١). هذا وكان من عادة بعض الوثنيين حين ينتقمون من شخص يقتلونه ويشربون دمه. كان شرب الدم شائعًا بين الأمم، يشربونه أثناء تقديم الذبائح وفي إقامة عهود وفي الاحتفالات.

ربّما يتساءل البعض لماذا لم يشر المجمع إلى امتناع الأمم عن الخطايا والجرائم مثل السرقة والقتل، مكتفيًا بالإشارة إلى ضرورة امتناعهم عن عبادة الأوثان وأكل المخنوق والدم والزنا. ويجيب العلامة أوريجينوس بأن المجمع أشار فقط إلى ما كان الأمم يحسبونه مباحًا ولا تعاقب عليه القوانين المدنيّة والجنائيّة للدول. فإن اللَّه يريد أن هذه الجرائم يعاقب عليها القضاة في العالم وليس ممثلو الكنيسة. تتطلّع الكنيسة إلى قضاة هذا العالم وحكّامه كخدّام الله الذين يعاقبون الأشرار.

v أما من جهة الطعام، فلتكن هذه هي قوانينك، إذ توجد عثرات كثيرة من جهته. فالبعض لا يبالي بما يقدم للأوثان. بينما يدرب البعض نفسه “على عدم أكله”، لكنهم في نفس الوقت يدينون من يأكلون منه. وهكذا بطرق متنوعة تتدنس نفوس البشر في أمر الأطعمة بسبب جهلهم الأسباب المعقولة النافعة للأكل أو الامتناع عنه.

فنحن نصوم ممتنعين عن الخمر واللحوم، ليس احتقارًا لهما كأشياء دنسة، بل بسبب تطلعنا إلى المكافأة. فنستهين بالأمور المادية لكي نتمتع بالوليمة الروحية العقلية، وإذ نزرع الآن بالدموع نحصد في العالم الآتي بالفرح (مز 5:126).

احفظ نفسك في أمان فلا تأكل ما يُقدم الأوثان… فإن هذا الأمر لست أنا وحدي المهتم به، بل والرسل ويهوذا أسقف هذه الكنيسة كان مملوء غيرة من جهته. فلقد كتب الرسل والشيوخ رسالة جامعة لكل الأمم أنه ينبغي أن يمتنعوا أولاً عما ذبح للأصنام، ثم عن الدم والمخنوق (راجع أع 20:15، 29). لأن كثيرين يشربون الدم بصورة وحشية سالكين مثل الكلاب. وأيضًا يتمثلون بالحيوانات المفترسة التي تفترس المخنوق. أما أنت يا خادم المسيح فاحترس في الأكل مراعيًا أن تأكل بوقار.

القديس كيرلس الأورشليمي

“لأن موسى منذ أجيال قديمة،

له في كل مدينة من يكرز به،

إذ يقرأ في المجامع كل سبت”. [21]

يرى البعض أن القديس يعقوب يعلل التوصيات السابقة بأنها لازمة، لأنها تمس حياة اليهودي الروحية، والتي تستند على أسفار الناموس المقروءة دومًا في المجامع أينما وجدوا. لهذا يليق بالأممي أن يحمل هذه السمات ذاتها وهي لا تمس طقسًا تعبديًا بل سلوكًا روحيًا.

7. إرسالية إلى أنطاكية

“حينئذ رأى الرسل والمشايخ مع كل الكنيسة،

أن يختاروا رجلين منهم فيرسلوهما إلى إنطاكية،

مع بولس وبرنابا،

يهوذا الملقّب برسابا وسيلا،

رجلين متقدّمين في الاخوة”. [22]

منذ خمس عشرة سنة خرج شاول الطرسوسي يحمل رسائل توصية من رؤساء الكهنة لاضطهاد كنيسة المسيح ومصادرة أموال المسيحيين وقتلهم، وهوذا اليوم يخرج من أورشليم مع برنابا وبرسابا وسيلا يحملون رسائل من الرسل للترفق بالمؤمنين من الأمم العائدين إلى كنيسة المسيح حتى يرفع عنهم ثقل حرفية الناموس.

اجتمع رأي الرسل والشيوخ على إرسال بعثة مؤتمنة من يهوذا برسابا وسيلا، تنقل رأي الكنيسة، وبيدهم رسالة بخط يد الرسل، غالبًا ما كانت باليونانية. هذه البعثة ترافق الرسولين برنابا وبولس ومن سافر معهما. بهذا القرار أعطت الكنيسة الفرصة للقديسين بولس وبرنابا للعمل في الكرازة والتبشير بين الأمم بحرية عوض إضاعة الوقت في منازعاتٍ لا تنتهي.

مع كل الكنيسة“: شركة رائعة بين القادة والشعب حتى في أخذ قرارات جوهرية تمس حياة الكنيسة ومستقبلها.

رجلين متقدمين في الإخوة“: أي من بين القادة أو أراخنة الشعب، أصحاب نفوذ وخبرة في الكنيسة.

“وكتبوا بأيديهم هكذا:

الرسل والمشايخ والإخوة يهدون سلامًا

إلى الإخوة الذين من الأمم في إنطاكية وسورية وكيليكية”. [23]

ساد الكنيسة روح الحب والوحدة، فتكتب الكنيسة التي في أورشليم إلى أخواتها الكنائس التي في سوريا وكيليكية، بروح التقدير والاحترام المتبادل. لم تصدر الرسالة عن رسول معين مثل القديس بطرس أو القديس يعقوب أسقف أورشليم، كمن هو صاحب السلطان، بل صدر عن الرسل والكهنة مع الأراخنة (الإخوة).

لم تعرف الكنيسة السلطة المنفردة، مهما كانت قدسية القائد أو مركزه. فاعتماد الباباوية الرومانية على رئاسة القديس بطرس لا أساس لها، حيث لم يأخذ القديس بطرس مركز الرئاسة ولا اشتهاها، ولا أخذ يعقوب الرسول كأسقف أورشليم هذا المركز، بل ما كان يشغل الكل روح الوحدة فى تواضع لأجل مجد الله وحده وبنيان الكنيسة الجامعة (الكاثوليكية).

“إذ قد سمعنا أن أناسًا خارجين من عندنا،

أزعجوكم بأقوال،

مقلِّبين أنفسكم،

وقائلين أن تختتنوا، وتحفظوا الناموس الذين نحن لم نأمرهم”. [24]

في حزمٍ بروح الحق يوبخون المعلمين المنادين بالتهود، أي حفظ الناموس والعوائد اليهودية الخاصة بالناموس. يبدو هؤلاء انهم نسبوا هذا التعليم للرسل، لذا التزموا بتوضيح الأمر والكشف عن خداعهم لهم وعدم صدقهم.

حسبوا هؤلاء المعلمين خوارج، خرجوا عن كنيسة المسيح وانفصلوا عنا، لم يعودوا ينتسبون إليها. هؤلاء افقدوا المؤمنين سلامهم الداخلي، وسببوا لهم تشويشًا في الفكر.

مقلبين أنفسكم” أو مدمرين لها، الكلمة اليونانية تعنى “تجميع الأواني المستخدمة فى بيت بقصد التخلص منها”، وهى تُستخدم بالنسبة للناهبين واللصوص والأعداء الذين ينهبون الممتلكات. هنا تُستخدم لمن يسبب ارتباكًا وعدم استقرار للذهن، كما يسلب سلام الفكر ووعيه.

“رأينا وقد صرنا بنفس واحدة،

أن نختار رجلين ونرسلهما إليكم،

مع حبيبينا برنابا وبولس”. [25]

“رجُلين قد بذلا أنفسهما لأجل اسم ربنا يسوع المسيح”. [26]

شهادة حية للرسولين من الكنيسة أنهما قد بذلا حياتهما من أجل ملكوت الله ونشر الكلمة.

“فقد أرسلنا يهوذا وسيلا،

وهما يخبرانكم بنفس الأمور شفاهًا”. [27]

مع ذهاب الرسولين بولس وبرنابا المهتمين بالكرازة للأمم، ومع بعث رسالة من مجمع الرسل المنعقد في أورشليم، بعثا بمندوبين هما يهوذا وسيلا ليجيبا على كل أسئلتهم. فلا تكفي الرسالة وحدها، بل مع القراءة يحتاجون على الاستماع من هذه المبعوثين.

“لأنه قد رأى الروح القدس ونحن

أن لا نضع عليكم ثقلاً أكثر غير هذه الأشياء الواجبة”. [28]

هنا نرى إيمان الحاضرين جميعًا بقيادة الروح القدس للمجمع الرسولي، وقيادته للكنيسة حسب وعد ربنا يسوع المسيح (مت 18: 18- 20؛ يو 14: 26).

v قال الرسل: “لأنّه قد سُرّ الروح القدس ونحن” (أع 15: 28). وعندما يقولون: “قد سُرّ“، يشيرون ليس فقط إلى فاعل النعمة، بل أيضًا إلى مصدر تنفيذ ما أوصى به.

القديس أمبروسيوس

“أن تمتنعوا عمّا ذبح للأصنام،

وعن الدم والمخنوق والزنى،

التي إن حفظتم أنفسكم منها فنعمًا تفعلون،

كونوا معافين”. [29]

أُفتتح المجمع تحت قيادة الروح القدس، وبدأ القديس بطرس خطابه بإيضاح أن ما يستعرضه ليس رأيه الشخصي، بل ما ألزمه به الروح القدس حين طلب منه أن يكرز في بيت كرنيليوس الأممي. وها هو المجمع يختم بأن القرار قد صدر بناء على رأي الروح القدس العامل في حياة الرسل والمتجاوبين معه.

لقد شعر الرسل أن الجلسة كلها كانت تحت ظل الروح القدس وقيادته.

v كانوا كمن يقوتون أطفالاً صغار، فأعطوهم لبنًا ليشربوا وليس طعامًا (1 كو 3: 2) فلم يضعوا لهم أحكامًا خاصة بالعفة ولا قدموا تلميحا عن البتولية، ولا حثوهم على الصوم ،ولم يكرروا التوجيهات المقدمة للرسل في الإنجيل، أن لا يكون لهم ثوبين، ولا كيس ولا مال في مناطق ولا عصا في أيديهم ولا أحذية في أقدامهم (مت 10: 10، لو 10: 5). وبالتأكيد لم يأمروهم أنهم إن أرادوا أن يكونوا كاملين يبيعوا كل ما لهم ويعطوه للفقراء ويأتوا ليتبعوه (مت 19: 21).

القديس جيروم

فنعمًا تفعلون” أي تعملون ما هو صحيح وحق.

“كونوا معافين“، وهو اصطلاح وداعي يحمل معنى “كونوا أصحاء وأقوياء”.

8. تعزية في أنطاكية

“فهؤلاء لمّا أطلقوا،

جاءوا إلى إنطاكية،

وجمعوا الجمهور ودفعوا الرسالة”. [30]

“فلما قرأوها فرحوا لسبب التعزية”. [31]

قدمت هذه الرسالة الرسولية إلى الشعب فرحًا وتعزية ليست بقليلةٍ، فمن جهة وضعت حدًا للنزاعات الداخلية، بل وربما للصراعات الفكرية للشخص الواحد بين رغبته في التمتع بحرية مجد أولاد الله وخشيته أن يُحسب كاسرًا لناموس موسى الذي تسلمه من الله. ومن جانب آخر فقد شعر المؤمنون الذين من أصل أممي باتساع فكر الكنيسة واهتمامها بالروح لا بالحرف القاتل، مع الحب الحقيقي حيث شعرت كنيسة أورشليم بقيادتها بثقل النير الذى يود المعلمون المنادون بالتهود أن يضعوه على عنقهم.

جاءت الرسالة ليست في صيغة حكم صادر عن محكمة، أو قرار صادر عن صاحب سلطة، وإنما مع روح الحزم حملت الرسالة لمسات حب صادقة وأمينة، تشع بالروح المفرح.

“ويهوذا وسيلا إذ كانا هما أيضًا نبيّين،

وعظا الإخوة بكلامٍ كثيرٍ وشدّداهم”. [32]

كان يهوذا وسيلا نبيين، أي كارزين بالأمور المستقبلية والحياة الأبدية، لهما موهبة الكلمة الجذابة للنفوس. يبدو أن بولس وبرنابا قد أعطيا الفرصة لهما للحديث مع الشعب والقادة ليجيبا على كل أسئلتهم حتى لا يُتهم الرسولان بولس وبرنابا أنهما متحرران لا يباليان بالناموس.

“ثم بعدما صرفا زمانًا،

أُطلقا بسلام من الإخوة إلى الرسل”. [33]

لم يكونا في عجلة، بل صرفا زمانًا ليس فقط لإقناع المؤمنين اليهود بعدم إلزام الذين من الأمم بحمل نير الناموس، وإنما لخدمة الشعب وبنيانهم الروحي، فمزجا الفكر االلاهوتي بالحياة العملية الروحية.

نجحا فى مهمتهما وامتلأت الكنيسة سلامًا وعادا إلى أورشليم يبلغان الرسل بالأخبار السارة.

“ولكن سيلا رأى أن يلبث هناك”. [34]

هذه العبارة لم ترد في كثير من النسخ القديمة خاصة القبطية والسريانية والعربية، وجاءت في الفولجاتا: “استحسن سيلا أن يبقى، بينما ذهب يهوذا وحده إلى أورشليم”.

“أمّا بولس وبرنابا فأقاما في إنطاكية،

يعلّمان ويبشّران مع آخرين كثيرين أيضًا بكلمة الرب”. [35]

v لم يمكثا في إنطاكية ليس إلا، وإنما كان يعلمان. بماذا كانا يعلمان وبماذا كان يبشران؟ كلاهما كان يعلمان الذين كانوا بالفعل مؤمنين، ويبشران الذين لم يكونوا بعد قد صاروا هكذا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

لا نعرف المدة التي قضاها الرسولان بولس وبرنابا في انطاكية. يرى البعض أنه في هذه الفترة حدث الخلاف بين القديسين بطرس وبولس الوارد في غل 2: 11-12.

9. خلاف بين بولس وبرنابا

“ثم بعد أيام قال بولس لبرنابا:

لنرجع ونفتقد اخوتنا في كل مدينة نادينا فيها بكلمة الرب كيف هم”. [36]

لم يشغل نجاح خدمة القديسين بولس وبرنابا في أنطاكية في جو يسوده الهدوء والسلام عن اهتمام القديس بولس باخوته الذين سبق فكرز لهم مع القديس برنابا، فإشتهي أن يروي ما قد غرسه، وأن يفتقد الإخوة. إحساس القديس بولس بمسئوليته نحو الكرازة بين الأمم لم يكن يفارقه، فأراد أن ينطلق برحلة تبشيرية، مع إدراكه بالمتاعب والضيقات التي تحل به أثناء رحلاته.

مع مركز الرسول بولس الأبوي الفائق، خاصة في المدن التي أنشأ فيها الكنائس، ومع تأكيده انه ليس الكل آباء، حاسبا نفسه انه قد ولدهم في إنجيل ربنا يسوع المسيح، يدعو القديس بولس كل أعضاء الكنيسة: أساقفة وكهنة وشعب “إخوتنا”.

سأله أن يذهبا معا إلى الكنائس إلى كرزا فيها وأسساها لينظروا “كيف هم” يفتقد الكنائس، ويشاركها فرحها وتعزياتها بالروح القدس، وآلامها وضيقاتها… يمارسا شركة الحب العملي.

“فأشار برنابا أن يأخذا معهما أيضًا يوحنا الذي يدعى مرقس”. [37]

تشاور مع القديس برنابا صديقه الحميم في الكرازة، فوجد تجاوبًا من جانبه، غير أن برنابا رأى أن يأخذ معهما ابن أخته القديس مرقس يوحنا الإنجيلي.

“وأمّا بولس فكان يستحسن أن الذي فارقهما من بمفيلية،

ولم يذهب معهما للعمل،

لا يأخذانه معهما”. [38]

يبدو أن رجوع القديس مرقس في الرحلة التبشيرية الأولى (أع 13: 23) لم يكن برضا القديسين بولس وبرنابا. اعترض القديس بولس على مرافقته لهما، مهما كانت أسباب رجوعه، فالرسول بولس لا يجد أي عذر لمن ينسحب عن الخدمة.

“فحصل بينهما مشاجرة،

حتى فارق أحدهما الآخر،

وبرنابا أخذ مرقس، وسافر في البحر إلى قبرص”. [39]

أصر القديس بولس على رأيه ربما ليكون درسًا للخدام، أن من ينسحب من خدمة لا يُقبل فيها بسهولة، بينما قبل القديس برنابا عذر القديس مرقس فأراد مرافقتهما. وإذ لم يتفق الاثنان حدث نزاع ودي كان حله بركة للكنيسة، حيث انطلق القديسان بولس وسيلا إلى رحلة كرازية ثانية، بينما انطلق القديسان برنابا ومرقس إلى رحلة كرازية أخرى، فتحول الخلاف لا إلى هجوم طرف على آخر، بل انطلاق الكل للعمل، كل فريق إلى مكان ليعمل الكل بروح الحب تحت قيادة روح الله القدوس الصالح، الذي يحول حتى الاختلاف في الرأي إلى نمو الكنيسة وبنيانها.

يرى البعض في هذا الخلاف صورة للضعف البشري حتى بين الرسل الروحيين، لكنه ليس فرصة لتبرير وجود خلافات بيننا أو مشاجرات واحتداد.

هنا ندرك انه ليس بالأمر الغريب أن يحدث خلاف حتى بين الرسل الحكماء، لكن لا تتسلل الكراهية إلى قلب أحدهم، ولا ينسحب أحد عن العمل، أو يحقر من عمل الآخر، ولا تهتز وحدة القلب والروح والفكر، مادام الكل يخدم المسيح الواحد، بإيمانٍ واحد، مستنيرين بنور الروح القدس واهب المحبة.

مرة أخرى لم نرَ القديسين بولس وبرنابا قد اختلفا معًا حين حلت الضيقات من غير المؤمنين وتعرضا لاضطهادات مرة، لكن دبّ الخلاف في فترة الهدوء، وإن كان روح الرب حوله للبنيان.

أخيرًا فإن هذا الخلاف في الرأي لم يدم بل صار القديس مرقس معينًا للقديس بولس في الخدمة كما شهد بذلك في رسالته الوداعية (2 تي 4: 11)

v ما نأخذه في الاعتبار ليس أنهما اختلفا في الرأي، وإنما تكيف الواحد مع الآخر متطلعين إلى أن صلاحًا أعظم يتحقق بمفارقتهما بعضهما البعض… ماذا إذن؟ هل افترقا في عداوة؟ حاشا! ففي الواقع نرى بعد ذلك مديح كثير لبرنابا فى رسائل بولس. إنه نضال حاد ليس عداوة ولا خصام، أدى النضال إلى المفارقة بينهما. “وبرنابا أخذ مرقس…” بتعقل كل منهما رأى أن ذلك أنفع فلم يمتنع أحدهما عن الخدمة إذ وجدت شركة مع الآخر. إنني أحسب أن المفارقة قد تمت بروية، وكل منهما قال للآخر: “إذ أنا لا أرغب في هذا وأنت ترغب، لهذا لا نتخاصم، وإنما نوزع مناطق العمل”. لقد فعلا هذا وخضع كل منهما للآخر. فقد أراد برنابا أن تنجح خطة بولس لهذا انسحب، ومن الجانب الآخر أراد بولس أن تثبت خطة برنابا فانسحب.

القديس يوحنا الذهبي الفم

10. بدء الرحلة الثانية

“وأمّا بولس فاختار سيلا،

وخرج مستودعًا من الاخوة إلى نعمة اللَّه”. [40]

v حسن هو إتحاد الشيوخ مع الشبان، واحد يقدم شهادة والآخر يعطي راحة. واحد يقود والآخر يعطي بهجة. أعبر بلوط الذي التصق وهو شاب بإبراهيم إذ كان خارجًا (تك 12: 5). ربما يقول البعض أن هذا حدث بسبب القرابة وليس عن طوعٍ اختياري. ماذا نقول عن إيليا وأليشع (1مل 19: 21)؟… وفي سفر أعمال الرسل برنابا أخذ مرقس معه، وبولس أخذ سيلا وتيموثاوس (أع 16: 3) وتيطس (تي 1: 5).

القديس أمبروسيوس

“فاجتاز في سورية وكيليكية يشدّد الكنائس”. [41]

اجتاز الرسولان في سوريا وكيليكية يفتقدان الكنائس التي سبق أن قام القديسان بولس وبرنابا بغرسها بروح الله القدوس.

كيف كانا يشددان الكنائس؟ حتمًا بكلمة الرب التي تشدد الركب المنحنية وتهب قوة الروح.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن القديس بولس لم يكن في عجلة، لهذا لم يأخذ البحر بل طريق البر ليثبت الكنائس التي سبق فأسسها وكرز فيها. هذا وأنه كان يفضل تثبيت الكنائس التي كرز فيها عن الكرازة فى مناطق جديدة حتى لا تصير هذه الكنائس عائقا للكرازة بسبب الضعفات التي تحل فيها.

من وحى أع 15

مجمع مقدس تحت قيادة الروح القدس

v أعماقنا تصرخ إليك:

هل يمكن أن يعقد مجمع مسكوني مقدس بروح مجمع الرسل؟

ليس من يطلب أن يكون رئيسًا،

ولا من يحتد برأيه!

يسود الحب والتواضع مجمع القديسين.

ويتهلل الكل بأعمالك الإلهية الفائقة!

v لتوجد خلافات في الرأي، ليكن!

لكن روحك الناري يصهر الكل في وحدة رائعة!

ليس ما يشغل كنيستك سوى خلاص العالم كله!

v ليس ما تطلبه عروسك،

سوى أن يختبر الكل العرس المفرح،

فيرتفع الجميع فوق الحرف القاتل.

ويتهلل الكل بأعمالك الخلاصية!

v يا لك من إله عجيب.

روحك الناري يقدم القرارات دون تجاهل كهنتك وخدامك.

وكهنتك يفرحون، إذ يشترك الكل معهم.

يا لها من وحدة عجيبة ومبهجة!

v كنيستك يقودها روحك القدوس.

تشتهى قداسة كل مؤمن، ليتمتع بك أيها القدوس!

لا تود أن تضغط بنير الحرف القاتل،

بل أن يستعذب الكل نير صليبك الحلو،

ويتمجد الكل بحمل صليبك المجيد!

فاصل

سفر أعمال الرسل : 123456789101112131415161718192021222324  – 25262728

تفسير سفر أعمال الرسل : مقدمة1 23456789101112131415161718192021222324 25262728

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى