أف 4:1 كما اختارنا فيه قبل تاسيس العالم
كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ،
+++
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
“كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ،
لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ“ [4].
ماذا عني الرسول بهذا الاختيار الذي شغل فكره وقلبه وكل أحاسيسه ليتكلم عنه بطرق متنوعة في مواضع كثيرة في رسائله؟
بلا شك لا يقصد تجاهل “الحرية الإنسانية” في قبول الإيمان أو رفضه، فإن الله في محبته للإنسان لا يتعامل معه كما مع آلة جامدة أو كما مع قطع من الشطرنج يحركها بإصبعه إنما يتعامل مع كائن عاقل وهبه الحرية، له أن يقبل الله ويتجاوب مع محبته ودعوته أو يرفض دون إلزام. إنما ما عناه الرسول أن الله الذي يريد أن الكل يخلصون، والذي في محبته يدعو الجميع لنوال فيض نعمته المجانية بسابق معرفته رآنا في ابنه المحبوب فعيننا بلا فضل فينا، اختارنا دون إلزام من جانبه عارفًا أننا نقبل دعوته، إذ يقول الرسول: “لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه، ليكون هو بكرًا بين إخوة كثيرين، والذين سبق فعينهم فهؤلاء دعاهمٍ أيضًا، والذين دعاهم فهؤلاء بررهم أيضًا، والذين بررهم فهؤلاء مجدهم أيضًا” (رو ٨: ٢٩، ٣٠). لقد أراد الرسول أن يؤكد حقيقة هامة وهي أنه وإن كنا قد تجاوبنا مع دعوة الله لكن الفضل ليس فينا، وإنما ما نناله هو هبة مجانية، أُعطيت لنا في استحقاقات الابن الباذل حياته عنا، الفضل كله يرجع إلي مقاصد الله الخلاصية ونعمته، كقول الرسول: “الذي خلصنا دعانا دعوة مقدسة لا بمقتضى أعمالنا بل بمقتضى القصد والنعمة التي أُعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية، وإنما أُظهرت الآن بظهور مخلصنا…” (٢ تي ١: ٩، ١٠).
هذا ما أحسه القديس إكليمنضس السكندري حينما تحدث عن الإيمان والحرية الإنسانية، مؤكدًا أن الحرية الإنسانية والعقل هما هبة إلهية، لا يقدران أن يقدما للإنسان حياة الشركة دون العون الإلهي. فإن كان الإيمان من صنع الإرادة الحرة، لكنه هبة إلهية. إنه يشبه لاعب الكرة الذي له الحرية أن يمسك بالكرة أو يرفض، لكنه لا يقدر أن يمسك بها ما لم تُقذف إليه. هكذا يمكننا أن نمسك بالإيمان أو نرفضه، لكننا في حاجة إلي يد الله تقدمه لنا. هذا الفكر استقاه تلميذه العلامة أوريجينوس الذي تحدث بفيض عن نعمة الله المجانية مؤكدًا: [ليس شيء من عطايا الله للبشرية يُعطى كوفاء لدين، بل كلها تُعطى من قبيل نعمته]. وفي نفس الوقت يؤكد: [إن نزع عنصر حرية الإرادة عن الفضيلة تدمر كيانها].
يؤكد الرسول أن اختيارنا هذا قد تحقق “فيه“، وأنه لم يحدث جزافًا بل بخطة إلهية “قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ” [٤]. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ماذا يعني: “اختارنا فيه”؟ يعني أنه تم بواسطة الإيمان فيه (به) أي في المسيح. فقد دبر هذا لنا بغبطة قبل أن نولد بل وأكثر من هذا “قبل تأسيس العالم”. ما أجمل هذه الكلمة: “تأسيس“. كأنه يشير إلي العالم على أنه ساقط من ارتفاع شاهق جدًا. نعم، إن سمو الله عالٍ جدًا بطريقة تفوق الوصف، سموه بعيد جدًا لا من جهة المكان، وإنما من جهة إمكانية الطبيعة للحديث عنه.]
ماهو غاية الإختيار؟
يجيب الرسول: “ لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ“ [4]. يمكننا أن ندرك مقاصد الله منا في هذه العبارة الرسولية العميقة، إذ نلاحظ:
أولاً: يريد فينا أمرين، أن يرانا الآب نحمل سماته، فنكون قديسين كما هو أيضًا قدوس، إذ يوصينا: “إني أنا الرب إلهكم فتتقدسون وتكونون قديسين لأني أنا قدوس” (لا ١١: ٤٤)؛ ويقول القديس بطرس: “لأنه مكتوب كونوا قديسين، لأني أنا قدوس” (١بط ١: ١٦). وأيضًا أن نكون “بلا لوم”؛ هذه السمة كانت لازمة وضرورية في ذبائح العهد القديم (لا ١: ٣، ١٠). كأنه يريدنا أن نقدم أنفسنا ذبائح حية بلا عيب خلال الكاهن الأعظم والذبيح في نفس الوقت ربنا يسوع. يريدنا “َبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ”، أي ذبيحة حب دائمة تحمل رائحة المسيح الذكية. هذه هي غاية الله فينا أن يرانا نحمل سماته (القداسة) وأن نتحد بالذبيح كذبيحة حب دائمة يشتمها رائحة رضا. لذلك يقول الرسول بولس: “فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية” (رو ١٢: ١).
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم ارتباط القداسة بالحياة التي بلا لوم تحمل إشارة إلي وحدة الإيمان مع الحياة العملية، فإن كانت القداسة هي عطية الله القدوس، خلال هذه العطية يلزمنا أن نسلك بلا لوم، بمعنى آخر نترجم عطيته في سلوكنا العملي، إذ يقول: [القديس هو ذاك الشريك في الإيمان؛ والذي بلا لوم هو ذاك الذي يسلك حياة لا غبار عليها.]
ثانيًا: يؤكد الرسول أن هذه القداسة والحياة بلا لوم، إنما تكون “قدامه“، بمعنى أن ما تحمله الكنيسة من قداسة وحياة بلا لوم هو موضع اعتزاز الله نفسه، كالعريس الذي يريد جمال عروسه وزينتها الداخلية لنفسه كما يقدم عذوبة حبه العميق لها. ما أصعب على نفس الرجل أن يجد زوجته تحمل صورتين: إحداهما مشرقة أمام الغير والأخرى كئيبة في لقائها معه على إنفراد. فإن ما يبهجه اللقاء الداخلي والعلاقة الزوجية على صعيد الوحدة العميقة الصادقة. فالله يريدنا نحن، لنكون له، كما هو لنا. هذا ما تؤكده هذه الرسالة، إذ جاء فيها: “لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ” (٥: ٢٧).
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنه لا يتطلب مجرد القداسة والخلو من اللوم، إنما يريدنا أن نظهر هكذا “أمامه”. يوجد أشخاص يبدون أمام الناس قديسين وبلا لوم مع أنهم يشبهون القبور المبيضة ولابسي ثياب الحملان. لا يكن الأمر هكذا، وإنما كما يقول النبي: “كطهارة يدي” (مز ١٨: ٢٤). أية طهارة؟ التي تكون “أمامه”، إذ يطلب القداسة التي تتطلع إليها عين الله].
ثالثًا: يؤكد الرسول أن نكون قديسين بلا لوم قدامه “فِي الْمَحَبَّةِ” [٤]. لعله يقصد أن اختيار الله تم خلال محبته الإلهية الباذلة (يو ٣: ١٨)، وأيضًا تقديسنا وسلوكنا بلا عيب يتحققان خلال نعمته المجانية التي تفيض خلال محبته الدائمة. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ما كان يمكن للفضيلة وحدها أن تخلص أحدًا بدون المحبة. اخبرني، ماذا كان ينفع بولس لو أظهر ما أظهره لو لم يدعه الله في البداية حيث أحبه واجتذبه إلي نفسه؟!]
ربما قصد بالمحبة أن ما يشتمه الله فينا، إذ نقف أمامه قديسين بلا لوم هذه هي “المحبة” بكونها علامة التصاقنا به وإتحادنا معه.، بل وعلامة تشبهنا به بكونه “الله محبة” (١ يو ٤: ٨). نقف قدامه، فيزول كل ماضينا لتبقى المحبة التي لا تسقط أبدًا (١كو ١٣: ٨).
رابعًا: تحققت محبة الآب الفائقة نحونا، كما تتحقق محبتنا لله خلال الحياة المقدسة التي بلا لوم خلال نعمة البنوة التي ننالها بالمسيح يسوع ابن الله “المحبوب”، إذ يقول:
“إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ،
حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ،
لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ“ [5-6].
تفسير القمص أنطونيوس فكري
آية4: كما اختارنا فيه قبل تاسيس العالم لنكون قديسين و بلا لوم قدامه في المحبة.
كما: الله باركنا وهذا نراه فيما يأتى أنه، اختارنا فيه: الله رتب فى تدبيره الأزلى أن ترتبط البشرية بابنه الذى سيتجسد فى وقت معين محدد، يحمل جسدها وتثبت فيه، تموت معه، وتقوم معه، وترتفع معه للسماويات وتبقى فى خلود لاتحادها بالإبن (وهذا طبعاً لمن يختار المسيح ويؤمن به ويستمر ثابتاً فيه بحياة التوبة).
اختارنا: نحن الذين آمنا. وقوله إختارنا إشارة لأنه لا فضل لنا، وليس لفضل فينا (1كو27:1ـ29). وقطعاً فالله إختار من بسابق علمه عرف أنه سيقبل الإيمان بالمسيح ولن يكون من خاصة العالم (رو29:8) فالله يختار أزلياً من يعلم بسابق علمه بتجاوبه معه. الإنسان كلاعب ألقيت له كرة فهو له الحق أن يمسكها أو يتركها، ولكن يجب أن ترمى إليه الكرة أولاً، فيد الله تقدم لنا الإيمان بالمسيح، ونحن أحرار فى أن نمسك به أو نرفضه. اختارنا فيه: على أساس الإيمان بالمسيح. قبل تأسيس العالم: إذاً فالله لم يغير قصده حينما أخطأ الإنسان، بل كان كل شىء مُعد حتى قبل خلق الإنسان. فالله قبل أن يخلق الإنسان صمم له حياته الأبدية عن طريق الفداء.
لنكون قدسين وبلا لوم: قديسين هى صفة إيجابية، وبلا لوم هى صفة سلبية وهكذا كانت صفات الذبائح التى تقدم، فيلزم أن تكون بلا عيب، وهكذا يجب أن نقدم أنفسنا ذبائح حية بلا خطية فيقدسنا المسيح، ونحمل سماته فى القداسة ويكمل ضعفاتنا فنظهر أمام الله بلا عيب وبلا لوم. لكن الله لا يقدس من لا يريد أن يتقدس، لكن من يقدم نفسه ذبيحة حية يتحد بالمسيح الذبيح المصلوب فيحمل سماته ويسير فى طريقه. بلا لوم: كيف والمسيح وحده هو الذى بلا لوم أى بلا خطية، أجاب المسيح “اثبتوا فىَّ وأنا فيكم” وهذا بالإيمان والمعمودية وأن نجاهد فى حياتنا أن نظل ثابتين فى المسيح، بأن لا نخطىء، وإذا أخطأنا نقدم توبة سريعة، ومن هو ثابت فى المسيح، الله لا يراه فى خطاياه، بل يرى المسيح الذى هو ثابت فيه، والذى هو وحده بلا لوم.
قدامه: فالله يفرح بأولاده وهم بلا عيب قدامه، بل هو الذى صالحنا لنفسه كالعريس الذى يفرح بعروسه المزينة، والكنيسة زينتها هى قداستها. فى المحبة: لا يمكن قبول التقديس إلاّ على أساس المحبة، المحبة هى علامة إلتصاقنا به واتحادنا معه وتشبهنا به، فلذلك يجب أن نحب الله والإخوة (أف17:3، 18). والمحبة هى أولاً محبة الله لنا ثم محبتنا له، لأنه أحبنا أولاً. محبة الله لنا ظهرت فى صليبه ومحبتنا له تظهر فى طاعة الوصية. الله لن يرانا قديسين وبلا لوم إلا إذا رأى فينا محبة، فالمحبة تستر كثرة من الخطايا. أما الإنسان الخالى من المحبة فهو غير ممتلىء من الروح، فلا يكون ثابتاً فى المسيح وبالتالى لا يمكن أن يكون بلا لوم. (فأول ثمار الروح المحبة، وحيث لا محبة لا امتلاء من الروح. وإذا لم يكن إمتلاء من الروح فلا ثبات فى المسيح، فالروح هو الذى يثبتنا فيه).