تفسير رسالة تيموثاوس الأولى أصحاح 6 للقديس يوحنا ذهبي الفم

الموعظة السابعة عشرة 1تي6: 2-12

“علم وعظ بهذا إن كان أحد يعلم تعليما آخر ولا يوافق كلمات ربنا يسوع المسيح الصحيحة والتعليم الذى هو حسب التقوي. فقد تصلف وهو لا يفهم شيئا بل هو متعلل بمباحثات ومماحكات الكلام التي فيها يحصل الحسد والخصام والإفتراء والظنون الردية، ومنازعات أناس فاسدى الذهن وعادمى الحق يظنون أن التقوى تجارة تجنب مثل هؤلاء. وأما التقوى مع القناعة فهى تجارة عظيمة. لأننا لم ندخل العالم بشئ وواضح اننا لا نقدر أن نخرج منه بشئ.” (6: 2 – 7 حتى 12)

التحليل

1- المكلف بالتعليم يلزمه السلطة والرقة – الكبرياء تولد الجهل

2- الطمع عدو الإيمان والخلاص.

3- هو أصل لكل الشرور.

١- المكلف بالتعليم يلزمه السلطة والرقة :-

الذي يعلم لا يحتاج فقط للسلطان، بل لقدر كبير من الرقة، كما أن الرقة وحدها لا تكفى، بل يلزم معها أيضا السلطان. كل هذا يعلمه الطوباوى بولس بقوله تارة علم وعظ بهذا وتارة أخرى علم بهذا وشجع على إتمامه لأنه إذا كان الأطباء يحثون مرضاهم على الشفاء، هكذا نحن يلزمنا بالأكثر أن نحث الذين نعلمهم الطوباوي بولس في الواقع لا يرفض الخدمة عندما يقول : فإننا لسنا نكرز بأنفسنا بل بالمسيح يسوع ربا ولكن بأنفسنا عبيدا لكم من أجل يسوع (2كو 4: 5) وفى موضع آخر: “أبولس أم أبلوس كل شئ لكم ” (1كو 3: 22) هكذا هو يخدم بقلب كبير، لأن الخدمة ليست عبودية، بل هي حالة أفضل من الحرية، يقول الكتاب “من يعمل خطية هو عبد للخطية (يو 8: 34).

إن كان أحد يعلم تعليما آخر ولا يوافق كلمات ربنا يسوع المسيح الصحيحة والتعليم الذي هو حسب التقوى فقد تصلف وهو لا يفهم شيئا إذن ليس العلم هو الذي يقود إلى الكبرياء بل الجهل. لأن الذي يعرف التعليم الصحيح الذي هو حسب التقوى، يعرف كيف يكون معتدلا تماما. الذي يعرف التعاليم الصحيحة نفسه ليست مريضة . وكما تصاب الأجساد بالإلتهاب هكذا تصاب النفوس بالكبرياء، وكما لا يمكننا القول عن إنسان مريض بالإلتهاب إنه سليم هكذا لا يمكن القول عن المتكبر أنه سليم، ونرى هنا بوضوح أن الكبرياء ينشأ من الجهل. السيد المسيح بذل ذاته ومن يعرف ذلك لا ينتفخ أبدا. لأن كل ما يملكه الإنسان هو من الله وأى شئ لك لم تأخذه (1كو 4: 7) المسيح نفسه غسل أرجل تلاميذه من يعرف ذلك وينتفخ بالكبرياء ؟ لهذا قال متى فعلتم كل ما أمرتم به فقولوا أننا عبيد بطالون (لو 17: 1) مدح العشار لأجل تواضعه فقط، والفريسي هلك بسبب كبريائه. إذن الذى يستكبر لا يعرف شيئا من ذلك. والسيد المسيح قال أيضا: “إن كنت قد تكلمت ردينا فأشهد على الردى وإن حسنا فلماذا تضربني” (يو 18: 23) .

يقول الرسول: “هو متعلل بمباحثات ومماحكات الكلام إذن الذي يتعلل بالمباحثات هو مريض؛ نعم بلاشك، لأن النفس المحمومة هي التي تتعلل بالبحث؛ أما إذا كانت بصحة جيدة تقبل الإيمان بثقة. المباحثات ومماحكات الكلام لا توصل لشئ لأن الذى يعلنه الإيمان، تعمل المباحثات على اخفائه عنا فهى لا تظهره لنا ولا تدعنا نفهمه. إذا أراد شخص ما أن يبحث عن شئ ليجده وهو مغلق العينيين يسقط في حفرة، ويفقد مكان البحث ولا يستطيع أن يجد شيئا، هكذا من كان بعيدا عن الإيمان لا يكتشف شيئا ، ولابد أن تولد الاضطرابات.

الإفتراء والظنون الرديئة أى الآراء والتعاليم الفاسدة الناتجة عن هذه المباحثات، وحينئذ نشك بالنسبة لله فيما لا يجب أن نشك فيه. منازعات أناس فاسدى الذهن أى المشادات الكلامية غير المفيدة أو ربما يريد أن يقول أيضا : مثل الحملان السقيمة التي تنقل مرضها للصحيحة . فهكذا أيضا بالنسبة للرجال الفاسدين. وعادمى الحق يظنون أن التقوى تجارة تلاحظون مدى المصائب التي يذكرها الرسول الناتجة عن مماحكات الكلام الشراهة المخجلة للربح، الجهل، الكبرياء الناشئ عن الجهل. إبعدوا عن هؤلاء الناس لا تلتقوا بهم قط. “الرجل المبتدع بعد الإنذار مرة ومرتين أعرض عنه (تى 3: 10) يريد الرسول أن يوضح لنا أن جهلهم ناتج على الأخص عن عدم اكتراثهم. هل يمكنكم أن تجذبوا أناسا يكافحون من أجل الغنى ؟ كلا لن تستطيعوا إلا بإعطائهم المزيد ومع هذا لن تقدروا أن تشبعوا رغباتهم.

“عين الشره جشعه لا تسر بنتيجة جزئية” ( يشوع بن سيراخ 14: 9) يجب الابتعاد عن غير القابلين للإصلاح. وإذا كان الرسول ينبه من هو بالضرورة ملتزم بالنضال أن يتحاشاهم ولا يكون على علاقة بهم، فكم بالحرى ينبهنا نحن الذين في مرتبة التلاميذ البسطاء.

وإذ قال إن هؤلاء الناس عادمى الحق يظنون أن التقوى تجارة وخشى أن تلميذه يخور ويقع فى الوهن بسبب فقره. أضاف أن التقوى مع القناعة فهى تجارة عظيمة نعم هي نوع منها ولكن من طبيعة أخرى أسمى وأعظم، وعظمتها ليست بامتلاك الثراء، بل بعدم امتلاكه، وبذلك قد قلل من قدر الأولى ومزاياها، ممجدا الأخرى ورافعا من شأنها. الغني هنا لا يساوي شيئاً : هو يبقى على الأرض، لا يتبعنا ولا يرحل معنا. وما هو البرهان على ذلك ؟ أننا دخلنا العالم بلا شئ، وواضح أننا سنخرج منه بلا شئ عريانا جاء جسدنا، وعريانا سيذهب إذن لسنا في حاجة لفائض، مادمنا لم نحضر للعالم بشئ وسوف نغادره أيضا دون شي، كما يقول الرسول: “فإن كان لنا قوت وكسوة فلنكتف بهما ويجب أن نأكل فقط ما يلزم لغذائنا ونلبس فقط ما يلزم لتغطية عرينا، ليس أزيد من ذلك.

2- الطمع عدو الإيمان والخلاص :-

يدفعنا الرسول بعد ذلك إلى التخلص من الارتباطات الأرضية بقوله: أما الذين يريدون أن يكونوا أغنياء لم يقل الذين هم أغنياء، بل الذين يشتهون الغنى. لأنه من الممكن أن يمتلك شخصا مالا ويسـتـخـدمـه استخداما حسنا ، دون أن يبالغ فى تقييمه له، بتوزيعه على الفقراء، مثل هذا لا يلام، إنما يلام من يرغب فى الغنى. ويقول عن الذين يريدون أن يكونوا أغنياء إنهم يسقطون فى تجربة وفخ وشهوات كثيرة غبية ومضرة تغرق الناس” نعم تغرقهم بحيث لا يستطيعون أن ينهضوا في العطب والهلاك في هذا العالم وفى العالم الآخر لأن محبة المال أصل لكل الشرور الذي إذا ابتغاه قوم ضلُّوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة وهنا يشير الرسول إلى مصيبتين، ولكنه يضع في المؤخرة تلك التي تظهر لهم أكبر وهي الأوجاع الكثيرة. ولا يمكن معرفة مدى أنين وبكاء الأغنياء دون القرب منهم.

أما أنت يا إنسان الله هنا وقار عظيم لأنه إذا كان كل البشر يخصون الله بالخلقه، إلا أن الصالحين منهم لا يخصونه فقط بالخلقه؛ بل برابطة المحبة أيضا يقول له : إذا كنت أنت إنسان الله، فلا تبحث وراء ما هو زائد عن حاجتك، ولا يقود قط إلى الله. ويضيف إهرب من هذا واتبع البر والإثنين إفعلهما بحماس لأنه لم يقل له : ابتعد ولا اقترب، بل : اهرب واتبع البر حتى لا ترتكب غشا؛ والتقوى في العقيدة والإيمان”، وهو على عكس المباحثات المحبة والصبر والوداعة” جاهد جهاد الإيمان الحسن، وامسك بالحياة الأبدية (هذا هو الثمن)، التي إليها دعيت أيضا واعترفت الإعتراف الحسن”، أملاً في الحياة الأبدية.

أمام شهود كثيرين” أي لا تخزى اعترافك الكريم. ولماذا كنت قد تكبدت متاعب لا فائدة منها؟

وماهي التجربة والفخ اللذان يقصدهما الرسول والمعرضون لهما الذين يريدون أن يكونوا أغنياء ؟ هى الشهوات التي تحولهم عن طريق الإيمان، حيث تحيق بهم المخاطر، وتصيرهم في خجل.

والرسول عبر عن ذلك بكل دقة: ضلوا عن الإيمان” لأن الطمع جذب أنظارهم، ولم يسمح لهم أن يعرفوا طريقهم، وشيئا فشيئاً أبعدهم عن الحق. كإنسان يسلك طريقا سليما ، ثم إنشغل فكره بشئ ما فانحرف لا إراديا وبلا شعور عن طريقه؛ هكذا يفعل الجشع متى أصاب إنسانا . طعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة تلاحظون ما يقصده الرسول بكلمة طعنوا كالأشواك من يمسكها تجرح يديه وتدميها. هذا يبرهن على أن الذي يستسلم للطمع: يضع نفسه داخل شبكة مؤلمة مليئة بالأحزان. كم من الهموم والآلام يعاني منها هؤلاء. ولذا يضيف الرسول اهرب من هذا واتبع البر والتقوى والإيمان والمحبة والصبر والوداعة من المحبة تنشأ الوداعة. والرسول يمدح أيضا الإخلاص الجرئ وشجاعة تلميذه واعترافه الحسن أمام شهود كثيرين. ويذكره بتعليمه ويقول له: “امسك بالحياة الأبدية”.

فلا يكتفى إذن بالإعتراف بالإيمان؛ بل بممارسته بالصبر والمداومة عليه وأن نحتمل من أجله الدخول طوعا في معركة شرسة، نجاهد فيها بالعرق، والكفاح، ونصمد حتى لا نرتد عن الإيمان، فالشكوك والعوائق والعثرات كثيرة. ولهذا فإن الطريق ضيق وكرب، فيجب أن يكون متاعنا فيه خفيفا حتى تتسنى لنا سرعة الحركة من كل جانب آلاف اللذات تعرض لتغرى أعين النفس لذات الحواس، الثراء التكاسل الرخاوة الشهرة السلطة، الغضب، الطموح كل هذه اللذات تظهر بشكل براق وجذاب يمكن أن يسحر ويستميل الذين لا تتوافر لديهم الرغبة الحقيقية للحق، والمحبة للحقيقة ذاتها. لأن الحقيقة فى ذاتها جافة وليس فيها ما يجذب ويغرى لماذا؟ لأنها لا تعد راغبيها سوى بأمجاد بعيدة يتحقق نوالها في المستقبل، بينما هذه اللذات التى تنافسها تقدم لنا الشرف والكرامه والملذات والراحة ، وإن كانت ليست حقيقية، بل مغطاة بالوان زائفة والإنسان اللين والضعيف ينجذب إليها ويرتبط بها تاركا حياة الجهاد ورافضا حياة العمل. هكذا في معارك عبادة الأوثان، فالذي لا يرجو بحرارة أن يحصل على الأكاليل يستسلم للولائم والخمر، وهذا ما يفعله الملاكمون الذين ليس لهم عزيمة ولاشجاعة. أما من كانت عينه مركزة على الإكليل فهو يفضل أن يحتمل ويتقبل الضربات الكثيرة من أجل المكافأة إذ أن رجاء المواعيد بهذه المكافأة المستقبلة يقويه وينهض به.

3- هو أصل لكل الشرور

لنبتعد عن أصل الشرور، ولنرفضها كلها. يقول الرسول: “لأن محبة المال أصل لكل الشرور” إن بولس هو الذي قال ذلك أو بالأحرى السيد المسيح. ونرى أن الحياة نفسها تبرهن على هذا وتؤكده. وفي الواقع أى شر لا ينتج عن الغنى، أو بالأحرى ليس عن الغنى في حد ذاته بل عن الإرادة الرديئة للذين لا يعرفون كيفية استخدامه؟ كان من الممكن استخدامه في القيام بما هو عليهم من واجبات ويحصلون بواسطته على ميراث ملكوت السموات ولكن اليوم فإن ما أعطى لنا لمواساة الفقراء ومساعدتهم، ولتخفيف ثقل الخطايا عنا، ولإكرام الله ومرضاته، نحن نستخدمه ضد الفقراء والبوساء، بل وضد نفوسنا ، ولإهانة الله. الإنسان الذي يجرد قريبه مما يملكه ملقيا به فى الشقاء، هو يلقى بنفسه في الموت؛ فالذي سلب يقاسى من البؤس، والسالب يعاقب بالهلاك الأبدى. أليس هو أيضا بائس؟ وما هي الشرور التى لا تنشأ من ذلك ؟ أليست العواقب هي الغش والإغتصاب والبكاء والكراهية والصراع والشجار؟ تمتد يده حتى إلى الأموات، وإلى أبيه وأخيه، يحتقر وصايا الله وقوانين الطبيعة، كل شئ يصير منقلبا عنده. وبإختصار أليس هو الطمع الذي يستبد بالناس هكذا؟ أليس هو السبب فى قيام المحاكم ؟ أزيلوا محبة الثراء وحينئذ ستنتهى الحرب والصراع والكراهية والمشاحنات والشجار كل هذا يصبح لا وجود له. إن مثل هؤلاء الناس يجب طردهم من الأرض كالكوارث العامة والذئاب . كما أن الرياح العاصفة والمضادة التي تقع على بحر هادئ تثيره وتعكره إذ تخلط مياهه بالرمال الموجوده في قاعه هكذا المحبون للغنى يعكرون صفو العالم. مثل هذا الإنسان الطامع لا يعرف له صديقا، ولماذا أقول صديقا؟ وهو لا يعرف الله نفسه !! تحت سيطرة شهوته أصبح عديم الإحساس.

مالذي يمكن عمله؟ كيف نطفئ هذا اللهيب؟ حقا أنه قارب أن يصل إلى السماء، فإذا أردنا أن نتحكم فيه فالإرادة تكفى لذلك، فكما أن الإرادة هى التى أشعلت هذه النار فهي قادرة وحدها على إطفائها، أليست إرادتنا الحرة هي التي أوجدتها ؟ فهى تقدر أيضا أن تطفئها فقط علينا أن نوقظها . ولكن كيف تتولد فينا هذه الإرادة ؟ إذا فكرنا في تفاهة هذه الشهوة وبطلانها، وأن الغنى سوف لا يتبعنا في الحياة الأخرى، بل قد يتركنا ونحن لا نزال في هذه الحياة، وأن هذه الشهوة سوف نتركها وراعنا هنا، ولكن الجراح التى تسببها لنا، سوف نحملها معنا فى العالم الآخر؛ وأيضا إذا قارنا غنى السموات بغنى الأرض فسوف يظهر لنا أن غنى الأرض أكثر خسة من الطين وينطوي على مخاطر كثيرة، وأن الشهوة زائلة ومخلوطة بالإشمئزاز، وإذا تأملنا في غنى الحياة الأبدية، فسوف نحتقر غنى هذا العالم، لاسيما حينما نراه ضارا بسمعتنا وصحتنا ، وكثيرا ما يؤدى إلى الهلاك والدمار.

اللؤلؤة جميلة، ألا تفكرون أنها من مياه البحر، وكانت قبلا مطروحة فيه ؟ الذهب والفضة بشكلهما الجميل أما فكرتم في أنهما من التراب والرماد؟ الملابس الحريرية الزاهية ألا تفطنوا أنها من نتاج الديدان؟ إن هذا الإحساس وذلك التقدير لهذا الجمال يستوليان على أفكاركم وتتأثرون بهما إعتباطا ، وبناء على أحكام مزيفة قد سادت على عقولكم بصورة زائفة مغشوشة رأيتم من خلالها هذا الجمال. إذا رأيتم مثلا قطع من النحاس مغشاة بقشرة رقيقة من الذهب فسوف تعجبون بها وتقدرونها، معتبرين إياها ذهبا خالصا؛ ولكن متى نبهكم أرباب المهنة وكشفوا لكم عن هذا الغش سيزول إعجابكم وإنبهاركم. وهكذا في حياتكم تبهرون بأمور كثيرا ما تكون غاشة ومخادعة على مثال قطعة النحاس هذه المطلاة بالذهب، ومثيلتها قطعة القصدير المطلاة بالفضة لذلك يجب أن تتفطنوا وتتعلموا حتى تعرفوا ماهو جدير حقا بالإعجاب والتقدير فالعيون بنظرتها السطحية لا تكفى للمعرفة وللحكم الصائب على طبيعة الأشياء. ألا تلاحظون أن هذا الجمال الزائف والمخادع ليس له وجود في الطبيعة بصفائها ونقائها ؟ فإذا شاهدتم مثلا وردة أو زهرة، فأنتم لستم في حاجة إلى من يعرفكم نوعها ،وإسمها ، وتعرفون أن تميزوا جيدا وبحق بينها وبين أى وردة أو زهرة أخرى فهذه زهرة الريح، وأخرى زهرة الياسمين وثالثة زهرة البنفسج ، وهكذا دون أي لبس أو شك.

فلنفيق إذا من هذا السكر، ونفكر، فيما هو حقا جميل ماهو جميل بطبيعتة التقوى، الصلاح، حتى ننال الخيرات الموعودة التي أتمناها لكم جميعا بنعمة ورأفة ربنا يسوع المسيح الذى له مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور أمين.

الموعظة الثامنة عشرة 1تي6: 13-22

“أوصيك أمام الله الذي يحيى الكل والمسيح يسوع الذي شهد لدى بيلاطس البنطى بالإعتراف الحسن أن تحفظ الوصية بلا دنس ولا لوم إلى ظهور ربنا يسوع المسيح. الذي سيبينه فى أوقاته المبارك العزيز الوحيد ملك الملوك ورب الأرباب الذي وحده له عدم الموت ساكنا في نور لا يدنى منه الذي لم يره أحد من الناس ولايقدر أن يراه الذي له الكرامة والقدرة الأبدية. آمين.” ( 6: 13- 16إلى آخر الإصحاح)

التحليل

1- الرسول يلجأ إلى الله ليعطى وزنا أكبر لنصائحه ولكي يكون لها أثر أكبر على ذهن تلميذه.

2- الإلتصاق بالإيمان لا بالعلم البشرى – عدم ثبات الأشياء هذا العالم.

1- الرسول يلجأ إلى الله ليعطى وزنا أكبر لنصائحه :-

الرسول هنا أيضا يُشهد الله كما فعل من قبل، حتى يجعل كلامه أكثر خوفا ، ويؤكد أكثر لتلميذه، أن هذه الأوامر ليست أوامر بشرية، يريد في الواقع أن يشعره أن هذه الوصية من السيد نفسه، أوصيك أمام الله الذي يحيى الكل” هنا تشجيع له لمواجهة المخاطر وتذكره له برجاء القيامة والمسيح يسوع الذي شهد لدى بيلاطس البنطى” هنا أيضا تشجيعا مشتقا من السيد المسيح نفسه. إنه يريد أن يحثه أنه كما سلك السيد ينبغي هكذا أن نسلك نحن مقتفين آثاره. وهذا يطابق ما قاله الرسول في رسالته إلى العبرانيين: ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمله يسوع الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينا بالخزى فجلس عن يمين عرش الله فتفكروا فى الذى احتمل من الخطاة مقاومة لنفسه مثل هذه لئلا تكلوا وتخوروا في نفوسكم (عب 12: 2، 3) والذي كان الرسول يسير بمقتضاه، كان يلقنه لتلميذه تيموثيئوس، كما لو كان يقول له: لا تخف من الموت لأنك خادم الله الذي يحيى الكل.

“أجاب يسوع لهذا أتيت إلى العالم لأشهد للحق” (يو 18: 37) وما هي هذه الشهادة العظيمة؟ لما قال له بيلاطس “أفأنت إذا ملك” (يو 18: 37) أجاب يسوع: “لهذا قد ولدت أنا” (يو 18: 37) وقال لرئيس الكهنة “إسال الذين قد سمعوا ماذا كلمتهم” (يو 18: 21) ولما سأله عما إذا كان هو ابن الله كان يجيب “أنت قلت” (مت 26: 64) توجد أشياء كثيرة أكدها وأعلنها :-

“أن تحفظ الوصية بلا دنس ولا لوم إلى ظهور ربنا يسوع المسيح” أى حتى موتك، حتى خروجك من هذا العالم لكنه لم يوضحها له هكذا بل قال: إلى ظهور حتى يحفز تلميذه بالأكثر وكيف تحفظ الوصية بلا دنس؟ أى لا ينكمش لا في الإيمان ولا في سلوكه. إلى ظهور ربنا يسوع المسيح الذي سيبينه في أوقاته المبارك، العزيز الوحيد، ملك الملوك ورب الأرباب الذى له وحده عدم الموت، ساكنا فى نور لا يدنى منه عمن يقول الرسول هذا ؟ هل عن الآب؟ هل عن الأبن؟ نعم عن الأبن الظهور الذي سيبيبنه فى أوقاته المبارك العزيز الوحيد هذه الأقوال لتعزية تيموثيئوس حتى لا يوحى له ملوك الأرض بالخوف ولا الرهبة. وفي أوقاته أي في الوقت المناسب، واللازم، حتى لا يحزن تيموثيئوس حينما يرى أن هذا الظهور لم يتم بعد. “المبارك” الذى هو مطوب وسعيد بذاته، لأنه لا يوجد في السماء أى شئ مؤلم أو متعب المبارك العزيز الوحيد” خلافا لوضع الناس، لأنه لابداية له. الذي له وحده عدم الموت” هل الابن يملك ذلك وبذاته كيف لا يمتلكه وهو من جوهر الآب؟ ساكنا في نور لا يدني منه وهل النور الذي يسكنه مخالفا لنوره هو؟ هل هو محدد في مكان ما ؟ كلاً، وهذه الفكرة بعيدة عنا . والرسول بكلامه هذا لا يوحى لنا بها، وإنما يريد أن ندرك عمق الله، لهذا قال معبرا ساكنا في نور لايدني منه الرسول يتكلم عن الله بقدر ما تسمح له إمكانياته البشرية . أنتم تلاحظون كيف أن اللسان يعجز وتنقصه القوة حينما يتكلم عن الأمور السامية غير المدركة – “الذي لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه الذي له الكرامة والقــدرة الأبدية أمين”

إنها فلسفة لاهوتية جميلة كان لابد أن تذكر هنا . وبما أنه اتخذ الله شاهدا ، فالرسول يحيل إلى هذا الشاهد، حتى يكون لحديثه تأثير قوى على تلميذه المجد لله، هذا كل ما نقدر أن نقوله ونعمله، دون أن نبحث بفضول ما هو إذن مادامت قوته أبدية، لاتخافوا لو أن ظهوره لم يتم بعد، له الكرامة والقدرة الأبدية.

“أوص أغنياء الدهر الحاضر أن لا يستكبروا” الرسول قال بحق الدهر الحاضر” لأنه يوجد أيضا أغنياء فى الدهر الآتي. لا يوجد شئ قدر الغنى يسبب التشامخ وجنون الكبرياء، والغطرسة. وفي الحال يحط من قدر الغنى بقوله: ولا يلقوا رجاءهم على غير يقينية الغني” لأن من هنا يأتي جنون الكبرياء، لأن الذي يضع رجاءه في الله لا يستكبر قط. كيف يضع الإنسان رجاءه في الغنى الذى يتغير ويتنقل باستمرار؟ كيف نلقى رجاءنا على ما لا يوحى بالثقة؟ وكيف يتسنى للأغنياء ألا تنتفخ قلوبهم؟ يمكنهم ذلك إذا أيقنوا أن الغنى متقلقل وسريع الزوال، وأن الرجاء بالله أفضل، إذ هو الذي منحهم هذا الغنى … بل على الله الحي الذي يمنحنا كل شئ بغنى للتمتع نعم كل شئ للتمتع يريد أن يتكلم عن مختلف فصول السنة، عن الهواء، عن النور، عن المياه، وعن كل ما يتبقى. أنتم ترون عظمة وسخاء هباته. إذا بحثتم عن الثراء، ابحثوا عن الثراء الدائم الراسخ الذى نحصل عليه بالأعمال الحسنة.

وما هي هذه الأعمال ؟ يلخص الرسول هذه الأعمال بقوله: “أن يصنعوا صلاحا وأن يكونوا أغنياء في أعمال صالحة وأن يكونوا أسخياء في العطاء كرماء في التوزيع مدخرين لأنفسهم أساسا حسنا للمستقبل حيث كل شئ مؤكد وثابت وأساسه متين، وله الرسوخ والدوام. لكي يمسكوا بالحياة الأبدية لأن ممارسة الأعمال الصالحة هي التي تجعلنا نمسك بالحياة الأبدية ونتمتع بها .

2- الإلتصاق بالإيمان لا بالعلم البشرى :-

يا تيموثيئوس احفظ الوديعة” لا تتهاون ولا تفرط فيها، فهي ليست ملكك وحدك، إنما هي وديعة تخص الآخرين أودعت بين يديك فاحرص عليها واحفظها كاملة معرضا عن الكلام الباطل الدنس” “مخالفات العلم الكاذب الإسم نعم فحيث لا يوجد الإيمان لايوجد العلم الحقيقي، لأن كل ما ينتج عن أفكار بشرية ليس هو بالمعرفة الحقة، ومثلنا على ذلك أولئك الناس الذين يعتقدون أن الخلاص يكتسب بالمعرفة فقط دون الحاجه إلى الإيمان. ومع ذلك يلقبون أنفسهم بالعارفين كما لو كانت معرفتهم مميزة عن معرفة الآخرين. “الذى إذ تظاهر به قوم زاغوا من جهة الإيمان تلاحظون أنه يأمر أيضا بعدم التلاقى بهم، أو الدخول في مجادلات معهم، إذ أن مناقشتهم قد تعود علينا بالأضرار، فقد تفقدنا إيماننا، وتهز يقيننا وسلامنا . ليتنا لا نتصل بهذه المذاهب بل نلتصق بصخرة إيماننا الذى لا يتلاشى. لا تصادم الأنهار ، ولا عواصف الهواء تقدر على إتلافه، نحن راسخون على هذه الصخرة. فإذا اخترنا في حياتنا هذا الأساس الحقيقى نثبت راسخين دون مخاوف، لأن الهدف من هذا الأساس إنما هو غني ومجد وعظمة الحياة الأخرى، وهذه كلها ثابتة ومؤكدة، وغير قابلة لأى تغيير خلافا لملذات هذه الحياة القابلة دائما للتغيير والتبديل. إذن فما الذي ترغبونه فيها ؟ المجد؟ يقول الكتاب: “لأن عند موته كله لا يأخذ ولا ينزل وراءه مجده” (مز 49: 17) وغالبا ما يكون هذا المجد الدنيوي غير وفي لصاحبه حتى في حياته. ولكن ليس الأمر كذلك فيما يختص بالفضيلة حيث كل شي ثابت ودائم.

ما الغني تهاجمه اللصوص والخونة فيصبح فجأة فقيراً. ولكن في وجود الفضيلة ليس الأمر كذلك الرجل الساهر على حياته يعيش معتدلا قانعا لا يستطيع أحد أن يسلبه اعتداله، أو أن يحرمه من أن يكون سيدا لنفسه. وبالفحص الدقيق قد تدركون أن هذه السلطة أعلى من الأخرى. قولوا لي هي الفائدة في أننا نتسلط على شعب بأكمله، ونعيش مستعبدين لرغباتنا ؟ أية خسارة تصيبنا إذا نحن تخلينا عن أن نكون سادة أمرين وناهين غيرنا، وألا نكون مستبدين ؟ إنها ليست خسارة على الإطلاق إنما هي الحرية والسلطة، والملك، والقوة؛ أما هناك فإنها العبودية حتى لو كانت الرأس محملة بالتيجان لأنه عندما تسيطر على النفس حشود من الطغاة أقصد محبة المال ومحبة اللذات والغضب والشهوات الأخرى فما هي فائدة التيجان ؟ إن استبداد الشهوات هو الأقوى. وحتى التاج لا يمكنه أن يخلصنا من تسلطها . مثل رجل صار عبدا عند البرابرة، وهؤلاء إمعانا في إذلاله والسخرية منه، تركوا له لباسه الأرجواني والتاج، في الوقت الذي سخروه فيه بالقيام باحضار المياه معهم، وتجهيز الطعام والقيام بكافة أعمال العبودية الأخرى، وذلك لكى يضاعفوا من كرامتهم ويزيدونه خجلا، إن مثل هذا الرجل لهو أقل استعباداً من عبوديتنا نحن حينما نكون خاضعين لنير شهواتنا ومستعبدين لسلطانها . الذي يحتقر الشهوات سيسخر أيضا من البرابرة؛ أما الذى يخضع لها سيقاسي من وضع أفظع بكثير مما كان البرابرة سيخضعونه له ولكن مهما كانت قوة هؤلاء البرابره فهى لا يمكن أن تمس سوى الجسد؛ أما الشهوات هي التي تعذب النفس وتمزقها من كل ناحية ومهما بلغت قوة البربري فإنها لا يمكن أن تؤدى سوى إلى الموت المؤقت، أما الشهوات فهى تؤدى إلى الموت الأبدى. كل من يتحرر من عبودية هذه الشهوات ولا يخضع لها يتمتع حقا بالحرية الحقيقية مهما كان السيد عديم الإنسانية فلن يستبد بعبيده بالقدر الذي تستبد به هذه الشهوات التي تقودنا إلى كل ماهو بدي، وفي سفاهة تقول: إهتك نفسك دون سبب أو باعث، أهن الله، تمرد على الطبيعة بإهانتك لأبيك وأمك، ضعهما تحت قدميك.

كن معاديا للكل وعدوا للجميع، للطبيعة نفسها ولله؛ قدس الذهب ليس لكى تتمتع به، بل لاكتنازه ولزيادة العذاب لأنه لا يمكن للإنسان أن يكون بخيلا وأن يتمتع بثروته، فالبخيل يخشى دائما أن ينقص ذهبه وتنضب كنوزه والبخل يوسوس قائلا اطرد النعاس، الق الشكوك على الكل أصدقاء وخدم، اقتن لنفسك ما للآخرين، وإن رأيت فقيرا يموت من الجوع لا تعطيه صدقة، وإن أمكنك جرده من جلده، إكذب، إحلف، إتهم، لا ترفض السير في النار ، ولا ما يعرض نفسك للموت، ولا الموت من الجوع، ولا الكفاح ضد المرض. أليست هذه هي الشرائع التي يسنها البخل ؟ كن وقحا وقليل الحياء دون خجل، جرينا، خبيثا، وشريرا، بلا وفاء أو إحساس، غير ملتزم بصداقة كن بلا إيمان، بلا قلب، قاتلاً، حيوانا متوحشا أفضل من أن تكون إنسانا ، كن أكثر شرا من الثعبان أكثر إفتراسا من الذئب، وأكثر نفورا من هذه الحيوانات. لا ترفض إذا لزم الأمر أن تحاكي فساد الشيطان، تنكر لمن صنع معك خيرا. أليس هذا ما يقوله وما نسمعه ؟

أما الله فيقول العكس تماما كن صديقا للكل ومحبوبا من الجميع، لا تهن أحدا ، أكرم أباك وأمك، إحرص على اقتناء السمعة الحسنة، لاتكن إنسانا بل ملاكا لا تنطق بلفظ كاذب أو بذى بل إطرده من فكرك، ساعد الفقراء، لاتعتقد بأنه للحصول على الثراء يلزم النهب، لا تكن ظالما ولا سفيهاً، ولكن لا يستمع أحد إليه.

أليس هؤلاء المخالفين مستحقين لعذاب نار جهنم التي لا تطفأ وبدودها الذى لا يموت؟ إلى متى سنجرى إلى الهاوية ؟ إلى متى نستمر في السير على الأشواك، وفى تثقيب أنفسنا بالمسامير ونرغب في هذه الآلام؟ إلى متى نظل خاضعين للطغاة المتوحشين ونرفض سيدنا الطيب الذي لا يعرف اللغة البغيضة قط، وليس عنده غضب ولا استبداد، ولا بربرية متعسفة، وخدمته دائما مثمرة لحياتنا ، وتعود علينا بفوائد وخيرات جزيلة.

لنستيقظ ونهتد ونعد أنفسنا لحياة أفضل لنحب الله كما يليق به أن يُحب، فنحصل على مواعيده الخيرة التي وعد بها الذين يحبونه، بنعمة وصلاح ربنا يسوع المسيح الذى له مع الآب والروح القدس المجد والقوة والعزة الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.

تفسير رسالة تيموثاوس الأولى 5 رسالة تيموثاوس الأولى 6 تفسير رسالة تيموثاوس الأولى  تفسير العهد الجديد فهرس
القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير 1 تيموثاوس 6 تفاسير رسالة تيموثاوس الأولى  تفاسير العهد الجديد
 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى