تفسير رسالة كورنثوس الثانية ٥ للقس أنطونيوس فكري
شرح كورنثوس الثانية – الإصحاح الخامس
آية 1:- “لأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ نُقِضَ بَيْتُ خَيْمَتِنَا الأَرْضِيُّ، فَلَنَا فِي السَّمَاوَاتِ بِنَاءٌ مِنَ اللهِ، بَيْتٌ غَيْرُ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، أَبَدِيٌّ.”
في إصحاح (4) الآيات 10، 11، 14 رأينا أنه مع الضيقات التي تصل للموت فإن هناك قيامة. وهنا نرى أن القيامة ستكون بجسد ممجد. ومعنى الآية نحن لا نتزعزع في الضيقات لأننا نعلم = أي بيقين الرجاء. أنه إذا كان هذا البيت الأرضي أي الجسد = الخيمة = الذي هو بيت وقتي تسكن فيه النفس، يمكن أن ينقض ويحل ويطوى كما تحل الخيمة عند الرحيل، وهذا التشبيه بسبب أننا بالموت يتحلل جسدنا. لكن لنا بيتًا آخر قد أعده الله، ذلك هو الجسد الممجد (في 3: 20، 21) الجسد النوراني الجديد الذي لم يصنع بيد بشرية. وهذا التشبيه مأخوذ من الخيمة التي كانت ترافق بني إسرائيل في ترحالهم في سيناء، ولكن عندما استقروا في أرض الميعاد (رمزًا لكنعان السماوية) بنوا هيكلًا ثابتًا فخمًا لا يقارن بالخيمة الأولى، والخيمة تستخدم في الترحال في أرض الغربة، والبيت يستخدم في الوطن الثابت، ونحن غرباء في هذا العالم. لكن وطننا في السماء. لو نُقض بيت خيمتنا الأرضي = أي حُلَّتْ الخيمة أي متنا والمسيح قيل عنه “والكلمة صار جسدًا وحلَّ بيننا” (يو 1: 14) كلمة حلَّ أصلها خَيَّمَ بيننا أي صار له جسد كجسدنا قابل للموت. غير مصنوع بيد = جسدي الحالي هو بإرادة أبي وأمي، وقارن مع (يو 1: 13) “الذين وُلِدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل” فالمصنوع بيد ينقض، ولكن المصنوع بيد الله لا يمكن أن ينقض. ومن يؤمن أنه سيرث مجد أبدي بجسده الممجد لا يطلب كرامة زمنية، أو راحة زمنية لجسده الحالي، ولا يتضايق من الآلام الحالية.
آية 2:- “فَإِنَّنَا فِي هذِهِ أَيْضًا نَئِنُّ مُشْتَاقِينَ إِلَى أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا مَسْكَنَنَا الَّذِي مِنَ السَّمَاءِ.”
نئن = طالما نحن في هذه الخيمة سنظل نئن من الآلام والأمراض. مشتاقين أن نلبس فوقها = فوق الخيمة أي الجسد الحالي، نلبس فوقه الجسد الممجد = مسكننا الذي من السماء = أي ننتقل من الشكل الحالي للشكل الممجد، ونحيا في حياة بلا ضيقات ولا ضعف. وهذا يحدث لنا لو ظهر المسيح الآن (1كو 15: 51، 52).
آية 3:- “وَإِنْ كُنَّا لاَبِسِينَ لاَ نُوجَدُ عُرَاةً.”
عراة = روح بدون جسد ممجد ولا جسد أرضي، فكلاهما يكونان كلباس للروح.
آية 4:- “وَلكِنَّ الَّذِي صَنَعَنَا لِهذَا عَيْنِهِ هُوَ اللهُ، الَّذِي أَعْطَانَا أَيْضًا عَرْبُونَ الرُّوحِ.”
نئن مثقلين = من فكرة الموت وما يحدث بعد الموت من عفونة للجسد.
إذ لسنا نريد أن نخلعها = لسنا نريد تحطيم الجسد، بل نكتسب القوة الروحية، قوة الجسد الممجد النوراني. نريد أن يتروحن هذا الجسد ويتمجد دون أن يموت، فالإنسان أي إنسان لا يفرح بفكرة الموت بل يكرهها وينفر منها. ولذلك قال الرسول عن الموت أنه “آخر عدو” للإنسان (1كو 15: 26).
المائت = الجسد الحالي. الحياة = الجسد الممجد. ولكن كيف نوفق بين هذه الآية وبين الآية الشهيرة ” لي اشتياق أن أنطلق وأكون مع المسيح. ذاك أفضل جدًا ” (في 1: 23). لنفهم هذا.. لنتصور مريضًا يعاني من آلام مبرحة في بطنه تجعله لا ينام، واكتشف أن هناك حل جراحي يخلصه من آلامه، هو قطعًا سيشتهي هذا اليوم الذي يتخلص فيه من آلامه، لكن كلما اقترب يوم العملية الجراحية قطعًا سيخاف من فكرة العملية ويتمنى لو وجُدت طريقة أخرى وهكذا نحن نئن من آلام هذا الزمان الحاضر (آية 2) ونشتاق لهذا المجد الذي وَعَدَنا به الله، ولكننا نئن أيضًا من فكرة الموت (4). ولاحظ أن بولس لو لم يكن يخاف الموت على الإطلاق، ولو لم يكن في داخله أي ذرة خوف من الموت، لما كان قوله في آية (2كو 4: 11) “لأننا نحن الأحياء نسلم دائمًا للموت من أجل يسوع” أي بمعنى تقديم نفسه ذبيحة حب للمسيح.
آية 5:- “وَلكِنَّ الَّذِي صَنَعَنَا لِهذَا عَيْنِهِ هُوَ اللهُ، الَّذِي أَعْطَانَا أَيْضًا عَرْبُونَ الرُّوحِ.”
الذي صنعنا لهذا عينه = أي صنعنا ليكون لنا جسد ممجد غير فاسد. وهذا نفهمه مِمّا حدث من لمعان وجه موسى إذ رأى جزءًا بسيطًا من مجد الله، بينما هو مختبئ في نقرة في الجبل، فماذا كان حال آدم وحواء في الجنة، والله يكلمهما وجهًا لوجه دائمًا. أعطانا أيضًا عربون الروح = العربون هو سداد جزء من الدفعة يضمن سداد الدفعة كلها. فنحن في السماء سنحصل على الامتلاء من الروح (رؤ 7: 17) حين يقتادنا المسيح إلى ينابيع ماء حية. وما نحصل عليه من ثمار الروح القدس الآن من فرح وسلام ما هو إلا عربون ما سنحصل عليه في السماء إذ نمتلئ من الروح. واثقون = هذا لأننا تذوقنا العربون الآن. وبواسطة نعمة الروح القدس وعمله يتخلص المؤمن من الخطية ومن نتائجها أي من الموت الأبدي، فإننا في المعمودية نتخلص من أثار الخطية الأصلية وبالتبكيت المستمر على الخطية يقودنا الروح للتوبة فنتخلص من الموت الناتج عن الخطية، أي تكون لنا حياة الآن هي عربون الحياة الأبدية. والروح القدس هو الذي يشهد لنا بالميراث السماوي ويضمن لنا حصولنا على الجسد الممجد، هو الضامن للوعد.
آية 6:- “فَإِذًا نَحْنُ وَاثِقُونَ كُلَّ حِينٍ وَعَالِمُونَ أَنَّنَا وَنَحْنُ مُسْتَوْطِنُونَ فِي الْجَسَدِ، فَنَحْنُ مُتَغَرِّبُونَ عَنِ الرَّبِّ.”
متغربون عن الرب = أي لا نراه في مجده، لا نراه وجهًا لوجه، ولا نرى ملكوته. هذا طالما نحن في هذا الجسد. نحن الآن كمن اشترى بيتًا في أمريكا ومعه وثيقة الشراء ويسمع عن البيت دون أن يراه. واثقون = (راجع الآية 5).
آية 7:- “لأَنَّنَا بِالإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِالْعِيَانِ.”
في هذه الحياة لا يمكننا أن نرى الرب عيانًا “لا يراني الإنسان ويعيش” (خر 33: 20) ولكننا نسلك في هذه الحياة الحاضرة بالإيمان، وفي السماء نرى الله عيانًا. نراه كما هو (1يو 3: 2 + 1كو 13: 12).
آية 8:- “فَنَثِقُ وَنُسَرُّ بِالأَوْلَى أَنْ نَتَغَرَّبَ عَنِ الْجَسَدِ وَنَسْتَوْطِنَ عِنْدَ الرَّبِّ.”
نحن نأمل أن تنتهي حياتنا الأرضية لكي نذهب ونقيم على الدوام قريبين عند الرب. ولكن قوله نتغرب عن الجسد = غالبًا يشير للحالة بعد الموت وقبل القيامة العامة، نكون فيها روح بلا جسد، لم نلبس بعد الجسد الممجد، فالمؤمن حين ينتقل لن يدخل المجد مباشرة بل ينتظر اليوم الأخير ليدخل المجد بجسده الممجد وتكتمل سعادته، ولكن في هذه الحالة أيضًا وقبل الحصول على الجسد الممجد سيكون أكثر سعادة من حالته على الأرض، وسيكون مستوطنًا عند الرب.
آية 9:- “لِذلِكَ نَحْتَرِصُ أَيْضًا مُسْتَوْطِنِينَ كُنَّا أَوْ مُتَغَرِّبِينَ أَنْ نَكُونَ مَرْضِيِّينَ عِنْدَهُ.”
لذلك فإننا نحاول بكل اجتهاد أن نرضي الرب لأننا فيما بعد سنظهر أمام المسيح الديان لكي يأخذ كل منا جزاؤه بحسب أعماله، ووقوفنا أمامه أكيد.
آية 10- “لأَنَّهُ لاَبُدَّ أَنَّنَا جَمِيعًا نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ، لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِالْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْرًا كَانَ أَمْ شَرًّا.”
هنا نرى حقيقة الثواب والعقاب بحسب الأعمال في القيامة العامة. ونرى هنا المسيح الله الديان.
تعليق على الآيات 6-10:- طالما هناك يوم سنجازى فيه، إذن فلنهتم بأن نرضي الله سواء ونحن في هذا الجسد = مستوطنون في الجسد. أو بعد دخولنا إلى الفردوس = بعد أن نتغرب عن الجسد ونستوطن عند الرب. أي لا يشغل بالنا سواء كنا هنا أو هناك إلا بأن نكون مرضيين عند الرب. ولكن يمكننا أن نتأمل في هذه الآيات بطريقة أخرى. ونفهم أن الذي يستوطن هذا الجسد هو من يحيا طالبًا أن يمتع جسده بما ليس خطية، وأن المتغرب عن الجسد هو من يعيش يقمع جسده ويستعبده ويذله، مانعًا عن نفسه كل لذة في العالم (كالآباء الرهبان والسواح مثلًا)، فهؤلاء يكونوا كمن استوطن عند الرب من الآن. إذ كلما يقمع الإنسان جسده يتذوق بالأكثر أفراح السماء. وسواء من تغرب أو من استوطن في هذا الجسد فعليه أن يهتم بأن يرضي الرب دائمًا. وكون أن المؤمن يحرم نفسه من كل ملذات العالم حتى يزداد فرحه بالرب هنا على الأرض أو في السماء يتفق مع قول السيد المسيح “من وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها” (مت 10: 39).
آية 11- “فَإِذْ نَحْنُ عَالِمُونَ مَخَافَةَ الرَّبِّ نُقْنِعُ النَّاسَ. وَأَمَّا اللهُ فَقَدْ صِرْنَا ظَاهِرِينَ لَهُ، وَأَرْجُو أَنَّنَا قَدْ صِرْنَا ظَاهِرِينَ فِي ضَمَائِرِكُمْ أَيْضًا.”
فإذ نحن عالمون مخافة الرب = نحن نسلك في مخافة الرب لأننا نعلم أنه سيجازي كل واحد بحسب ما كان عمله، فمن يعرف قداسة الله وعقاب الخاطئ ورعب يوم الدينونة سيخاف أن يعمل الشر، من يعلم أن قداسة الله وغضبه من الخطية وصل لصلب المسيح، فهو نار آكلة وينتقم من الخطية، كلما عرف أحد قداسة الله يرتعب من الخطية ونتائجها. وبولس يقول هنا أنه يعرف كل هذا. هو لا يمتنع عن عمل الشر فقط بل نقنع الناس =
- بتعاليمه يقنع الناس أن يتركوا الخطية حتى لا يهلكوا في ذلك اليوم.
- يرى الناس نقاوته ورفضه هو لأي خطية فيكون كقدوة لهم، والخادم النقي يكون مقنعًا في تعاليمه. فإذا حدث خلاف بين تعاليم الخادم وبين حياته الشخصية لا يكون مقنعًا للناس. وَأَمَّا اللهُ فَقَدْ صِرْنَا ظَاهِرِينَ لَهُ، وَأَرْجُو أَنَّنَا قَدْ صِرْنَا ظَاهِرِينَ فِي ضَمَائِرِكُمْ أَيْضًا = صار ظاهرًا أمام الله بحياته ونقاوته التي سيكافئه الله عليها، ويرجو أن يعرف شعب كورنثوس هذا حتى لا يتعثروا بسببه، بل ليجاوبوا الرسل الكذبة هو هنا لا يتفاخر بنفسه، بل يدافع عن نفسه ضد من يشككون فيه، وغرضه أنه يريد أن يثبت صحة تعاليمه. هو يريد أن تكون طهارته وإخلاصه ظاهرين أمامهم ليدافعوا عنه أمام الرسل الكذبة.
آية 12- “لأَنَّنَا لَسْنَا نَمْدَحُ أَنْفُسَنَا أَيْضًا لَدَيْكُمْ، بَلْ نُعْطِيكُمْ فُرْصَةً لِلافْتِخَارِ مِنْ جِهَتِنَا، لِيَكُونَ لَكُمْ جَوَابٌ عَلَى الَّذِينَ يَفْتَخِرُونَ بِالْوَجْهِ لاَ بِالْقَلْبِ.”
ليس كلامي عن إخلاصي لله ولكم هدفه الافتخار، إنما نعطيكم ما تجاوبون به على من يفترون علينا فلا تتعطل الخدمة. هؤلاء الَّذِينَ يَفْتَخِرُونَ بِالْوَجْهِ = أي بالسطحيات والمظهر الخارجي = الْوَجْهِ. والمقصود:-
1- هؤلاء الكذبة الذين يدَّعون أنهم يحبونكم ظاهريًا، وليس من قلبهم مثلي.
2- هؤلاء الذين يفتخرون بما هو منظور وما هو مكشوف للعيان ويمارسون ما يعملون لأجل محبة الكرامة بينما هم فارغون داخليًا بلا أعمال صالحة.
لاَ بِالْقَلْبِ = فيهم رياء يتظاهرون بالنقاوة وداخلهم فساد وغش وهؤلاء ضمائرهم تدينهم، فليس لديهم محبة حقيقية ، ولا ما يفتخرون به، فهم لا يهتمون بالصفات الجوهرية وراحة الضمير، فمن يهتم بهذا تكون له حياة مقدسة هي صورة المسيح.
آية 13- “لأَنَّنَا إِنْ صِرْنَا مُخْتَلِّينَ فَلِلّهِ، أَوْ كُنَّا عَاقِلِينَ فَلَكُمْ.”
إننا نفعل ما نفعله بكل إخلاص ولسنا نقصد شيئًا من النفع الذاتي. صرنا مختلين = إذا كان يبدو لكم كلامنا هذا أنه مديح لأنفسنا، كما لو كنا نعمل عمل المختلين إذ نثني على أنفسنا، فإنه على الرغم من أن عملنا هذا يمكن أن يفهم منكم هذا الفهم السيء ويمكن أن يحكم علينا منكم كمختلين إلاّ أن كل ما نفعله بغض النظر عن أحكامكم فإننا نفعله لمجد الله = فلله = فحينما تعرفون صدق رسوليتي ستؤمنون بما قلته لكم ويكون لكم هذا سببًا لخلاص نفوسكم ومجدًا لاسم الله. وإن كنا عاقلين فلكم= إذا كنا في نظركم نتصرف بحكمة واتزان وتواضع فبهذا تكونون قد عرفتم من أنا، ويكون كل ذلك من أجل نفعكم لكي تتعلموا منا كقدوة، واثقين في صحة تعاليمي.
آية 14- “لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا. إِذْ نَحْنُ نَحْسِبُ هذَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ، فَالْجَمِيعُ إِذًا مَاتُوا.”
معنى آية 13 أنه يعمل كل شيء لمجد الله. وهنا يقول لماذا… فلأن مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا أي تحيط به، يراها في كل خطوة في حياته، هذه المحبة التي أدت بالمسيح أن يموت عنا جميعًا، وكأننا متنا جميعًا في شخصه (في المعمودية) = فالجميع إذًا ماتوا ولهذا غفرت خطايانا (رو 6: 7 – 10). فبالمعمودية نتحد مع المسيح المصلوب في موته وقيامته. ومن مات لن يطلب كرامة زمنية، لذلك هو لن يهتم إن حسبوه مختل. لو كانت أعيننا مفتوحة مثل بولس سنرى أن كل حدث في حياتنا، حتى لو كان مؤلمًا، سنرى فيه محبة المسيح التي تريدني أن أصل للسماء. نحن محتاجين لخلوة يومية نسمع فيها صوت الروح القدس يحدثنا عن المسيح (يو 16: 14) فنكتشف محبته في كل تصرف. فالمسيح يعطينا الفرح “أراكم فتفرح قلوبكم” (يو 16: 22) ويعطينا السلام (يو 14: 27) والغلبة (يو 16: 33). ونتبادل الحب معه فنشبع به. هو يشبعنا روحيًا وماديًا. لكن عطايا المسيح هدفها وصولنا للسماء، وهذا قد يستوجب التأديب حتى نصلح للسماء، ولذلك فهو يسمح ببعض الآلام لمن يحبهم ليتأدبوا (عب 12: 6). ولكن لو أغدق المسيح علينا من خيرات الدنيا، مال وصحة وأملاك… إلخ لأحببنا العالم وتعلقنا به. هنا بولس يريد أن يقول “أنا أمام هذا الحب من المسيح الذي مات لأجلي، ويعطيني كل شيء، أنا مستعد أن أكون أمامكم كمختل ليتمجد اسمه”.
آية 15- “وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ الأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ.”
قصة تشرح الآية:- سفينة بدأت في الغرق فأنزلوا الركاب في قوارب النجاة حتى تبقى راكبين، وآخر قارب لم يكن فيه مكان سوى لراكب واحد. وكان أحد الراكبين قديس والآخر شرير. وأجرى قائد السفينة قرعة، فأصابت القديس فبكى الشرير خوفًا من الموت. فقال له القديس خذ مكاني وعِش بحياتي ووافق ونجا. ولما عاد لمدينته كان كلما يريد أن يصنع الشر يذكر أنه كان من المفروض أن يكون الآن ميتًا، وهو الآن يحيا ولكن بحياة الرجل القديس، فكان يمتنع عن الشر. هذا القديس الذي غرق مع المركب هو المسيح الذي مات ليعطينا حياته. وهذا الشرير هو أنا وأنت الذين خلصنا بموت المسيح، وصارت لنا حياته بقيامته (رو 5: 10) فماذا نقدم له إلاّ حياتنا كلها فهو الذي أعطى لنا الحياة. نحن لا نعيش الآن لأجل أنفسنا بل لأجل من مات وقام ليعطينا حياته. لذلك علينا أن نسلك كما يرضيه، لأننا مدينون بحياتنا للمسيح.
آية 16- “إِذًا نَحْنُ مِنَ الآنَ لاَ نَعْرِفُ أَحَدًا حَسَبَ الْجَسَدِ. وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا الْمَسِيحَ حَسَبَ الْجَسَدِ، لكِنِ الآنَ لاَ نَعْرِفُهُ بَعْدُ.”
لا نعرف أحدًا حسب الجسد = بعد ما قدمه المسيح إذ مات ومتنا فيه، لن نتعامل مع أحد على أساس جسدي، أي على أساس الجنس الذي ينتمي إليه أو غناه وفقره، حكمته أو جهله، عمومًا لن تكون لنا مقاييس جسدية، فنحترم هذا لغناه أو علمه ونحتقر هذا لفقره أو جهله. أو نجامل هذا ونحبه بسبب قرابة جسدية. والسبب هو أننا كلنا متنا مع المسيح في المعمودية، وصارت لنا جميعًا حياة المسيح، فكيف أحتقر الفقير والمسيح يحيا فيه كما يحيا فيَّ لقد صار الجميع خليقة جديدة، صرنا جميعًا صورة المسيح الذي يحيا فينا. لذلك لا بُد أن نحب كل أحد ونهتم بخلاص نفسه. وإذا كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد:
- قد تعني إذا كنا سابقًا قبل أن نؤمن قد عرفنا المسيح معرفه ظاهرية بحسب ما تقدمه لنا حياته المتواضعة. لكن الآن لا نعرفه بعد = لن نعرف المسيح بهذه الطريقة، تعالوا إذًا لنعرفه كإله جبار قادر على كل شيء. لذلك لم يَدَعْ المسيح مريم المجدلية أن تلمسه إذ كان لم يرتفع في نظرها عن مستوى الجسد. كان كل ما تريده مريم أن تكفن جسده، هي تحبه ولكن بطريقة خاطئة، تحبه كإنسان وليس كإله جبار، لذلك كان لا يمكن أن تتلامس معه. ونحن حتى نتلامس معه فليكن لنا الإيمان الصحيح بأنه ابن الله القادر على كل شيء.
- هناك من يطلب المسيح فقط لأجل بركات مادية ومثل هذا يسمع صوته “لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم” (يو 6: 26). فالمسيح يطلب أن نعرفه لشخصه المشبع لنا نفسيًا وجسديًا وروحيًا. ونهتم بالأكثر بالروحيات والسمائيات “اطلبوا أولًا ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم” (مت 6: 33). من لا يزال يعرف المسيح لما يحصل عليه من منفعة مادية في هذا العالم فهو لم يعرفه بعد.
- ما زال هناك من يتكلم عن قوة الشيطان. ومؤامراته، وأن الله لا يتدخل، كما لو كان الله ضعيفًا أمام حيل الشيطان. ومن يفكر هكذا لم بل ولن يعرف المسيح.
- من يظن في نفسه أنه ضعيف، لا حول له ولا قوة إذ هو مسيحي، هذا يتصور أن المسيح ضعيف. ولكن مثل هذا عليه أن يعرف أن المسيح حينما لا يتدخل فهو يريد الأمور هكذا. فالسفينة لا يمكن أن تغرق طالما المسيح فيها مهما كانت الأمواج عالية، وهذا ما تصوره التلاميذ أن المسيح غير مهتم بهلاكهم.
- ربما أن بعض المعلمين المتهودين إفتخروا بأنهم رأوا المسيح بالجسد، بينما أن بولس لم يراه بالجسد، فهم إذًا أفضل منه. ولكن اليهود رأوه بالجسد ولم يستفيدوا، بل صلبوه. الرؤية الجسدية لا تفيد، بل أن نراه بعيون القلب النقية، مثل هذه العيون تراه في مجده وتعرف حقيقته وليس بحسب الجسد. وهذه الرؤية الحقيقية للمسيح يعطيها لنا الروح القدس (يو16: 14).
- مَنْ يتصور أن مقياس قوة المسيح ومحبته هي أن يعطينا أموالًا وصحة ومراكز ونصرة على أعدائنا… إلخ. ومَنْ له مقاييس زمنية هو غير فاهم، فالمسيح لم يَعِدْنا بأشياء مثل هذه بل قال “في العالم سيكون لكم ضيق”، المسيح لو أراد لأعطاك أموال الدنيا، وصحة كاملة ولكن هل يساعدك هذا في أن تصل للسماء. ربما مَنْ تزيد أمواله يتعلق بالأرض ولا يريد أن يتركها. لذلك فعطايا المسيح القوية هي بحساب، وهدفها أن نصل للسماء وعطاياه الآن سلام يفوق كل عقل وسط آلام واضطهادات العالم، وفرح عجيب يعطينا اشتياق لأن يكمل فرحنا في السماء.. عطاياه عطايا روحية.
- بولس تخلى هنا عن كبريائه وفخره كيهودي بانتسابه لإبراهيم، وصار مصدر فخره هو حياته الجديدة في المسيح
إذًا فلنعرف المسيح بطريقة جديدة، كإله جبار قادر على كل شيء، ويساعدنا على هذا نقاوة قلوبنا لنراه في مجده. ولنعرف الناس ونحبهم حبًا روحيًا حتى لو كانوا أقرباء لنا جسديًا، نشتهي خلاص نفوسهم، لا تجذبنا فلسفة إنسان أو غناه ولا نخشى عظمة أحد، أو نحتقر الضعيف فالكل صار واحدًا في المسيح.
آية 17- “إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا.”
إن كنا قد متنا مع المسيح إذ آمنا به وإتحدنا بموته وقيامته في المعمودية، فقد قمنا معه كخليقة جديدة، أمّا حالتنا القديمة التي خلقها فينا ناموس الخطية فقد إنتهت، لقد حصلنا على نفس جديدة وجسد جديد وعبادة جديدة ومواعيد جديدة وحياة جديدة في عهد جديد. المؤمن وُلِدَ من جديد في عالم جديد يختلف عن عالم الخطيئة الأول ، وصار له دوافع جديدة وأهداف جديدة في الحياة. الأديان الأخرى تعطي وصايا وتعاليم، أما المسيحية فتعطي حياة جديدة غير الطبيعة الخاطئة. فكثرة التعاليم لن تُصْلِح الطبيعة الخاطئة، فالمسيحية لم تأت بتعاليم جديدة بل بحياة جديدة وطبيعة جديدة، هي تغيير جذري. الحياة الجديدة هي حياة المسيح فيَّ وهذه حَصُلنا عليها بالمعمودية “مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ” (غل 2: 20). إذًا حتى أتمتع بحياة المسيح فيَّ ، عليَّ أن اقبل أن أموت وأُصلب عن شهوات العالم، أُصلب مع المسيح فأقوم معه بحياة جديدة هي حياته الأبدية. وأقبل الصليب الذي يضعه عليَّ.
حقا إننا نخرج من المعمودية خليقة جديدة في المسيح، وعلى شكل المسيح. ولكن حريتنا ما زالت موجودة وبها نرتد كثيرا لحياة الخطية. لذلك ففي سر الميرون يسكن فينا الروح القدس الذي يبكتنا لو أخطأنا، ويعطينا قوة ومعونة (النعمة) لنتوب ونعود للصورة الأولى التي خرجنا بها من المعمودية. ونرى بولس الرسول يلخص الغرض من خدمته فيقول “يا اولادي الذين اتمخض بكم أيضًا إلى ان يتصور المسيح فيكم” (غل4: 19). الروح القدس هنا يستخدم بولس الرسول ليقود شعب الله ليرجعوا لصورة المسيح التي أخذوها بالمعمودية. ولكن الأمر قد يستدعي أن يسمح الله بعصا تأديب هي التجارب التي يسمح بها الله للتنقية كما قال القديس بطرس الرسول “من تألم في الجسد كُفَّ عن الخطية” (1بط4: 1)، وهذا ما عمله الله مع أيوب أيضا.
ولنلاحظ حالة إنسان مُعَمَّد ولكنه إرتد للعالم وعاش في الخطية. وبدأ الروح القدس في تبكيته ومعونته وربما تأديبه. هنا لا بد من أن يبدأ هذا الإنسان بأن يعلن عن إرادته للرجوع – وهذا معنى سؤال الرب لمريض بيت حسدا “هل تريد أن تبرأ” – وإعلان إرادته يكون بأن يغصب نفسه ويترك طريق الشر. قد يشعر بمرارة لفقدانه لذة الخطية، ولكن يبدأ الروح القدس بمكافأته ببعض التعزيات ليتشجع ويكمل. ويوما وراء يوم يفرح هذا الإنسان بتعزيات الروح القدس وحلاوة الحياة الطاهرة ونجده كارها تمامًا لحياة الخطية. لقد صار خليقة جديدة في المسيح، أي ثبته الروح القدس في المسيح كما كان يوم خروجه من المعمودية. ومع كل خطية ينقذه منها الروح القدس فيتركها نجده بدأ يتشبه بالمسيح ويصير على صورته، ويكون كما قال بولس الرسول “لنسلك بلياقة كما في النهار: لا بالبطر والسكر، لا بالمضاجع والعهر، لا بالخصام والحسد. البسوا الرب يسوع المسيح، ولا تصنعوا تدبيرا للجسد لأجل الشهوات” (رو13: 13 ، 14).
هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا = لقد صار لنا مفاهيم جديدة لكل شيء:-
الحياة:- كان هدفها زيادة أموالنا وكنوزنا على الأرض، وصار هدفنا أن تكون لنا كنوز في السماء، وهدف حياتي هو مجد المسيح الآن. كانت الحياة هنا على الأرض هدف ويريد الإنسان أن يحصل على كل شهواته، أما المسيحي فيعرف أن حياته هي في السماء وهو الآن في غربة. أما حياتنا الآن فهي:- 1- لنتمم عمل خلقني الله لأجله. 2- هي فترة إعداد لنا للسماء يسمح فيها الله ببعض التجارب للتنقية.
العالم:- كان هدف نجري وراءه. وصار الآن وسيلة نحيا بها بل نزهد فيه.
الفرح:- كان في الإمتلاك. فصار روحيًا، “مغبوط هو العطاء اكثر من الأخذ” (أع 20: 35 ). صار الفرح هو ثمرة للامتلاء من الروح القدس وليس هو الملذات الحسية.
الحزن:- كان لخسارة مادية وصار الآن بسبب خطيتي أو هلاك نفس أحد.
العلاقات العائلية:- كان الإنسان يتصادم مع الله لو إنتقل أحد أقاربه، وصرنا نفهم أنه لابد أن أحب الله أكثر من محبتي لأقربائي، بل هم إذا إنتقلوا فهم في السماء، وكلنا في المسيح سواء من في السماء أو من على الأرض.
الألم:- كان عقوبة وصار شركة مع المسيح في صليبه، وصار تأديب لنا.
معرفة الله :- كانت لطلب الماديات، وصارت لطلب معرفة شخص المسيح والشبع به. وصارت قبولا لأي تجربة، ولكن طلب التعزيات الروحية لتساندنا خلالها. لقد صار المسيحي منشغلًا لا بما يرى بل بما لا يرى.
آية 18:- “وَلكِنَّ الْكُلَّ مِنَ اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ،”
كل هذا جاء لنا من الله بيسوع المسيح. وأعطى لنا نحن الرسل خدمة المصالحة = أي أعطى لنا أن نكرز ونبشر لكي نخدم هدف المصالحة مع الله، التي أسسها وأتمها السيد المسيح على الصليب. وهدف كل منا أن نعمل لنصالح الناس مع الله بأن نشهد لله ولمحبته للبشر.
خدمة المصالحة:- 1- على الخادم أن يقنع الناس أن طاعة الوصية هي الطريق ليقبلني الله ويتصالح معي. 2- قبول الصليب كعلامة حب من الله.
الله يرسل رسله وخدامه ليصالحوا الناس عليه، وعجيب أن القاضي يرجو المتهم أن يقبل العفو. فالشيطان يصور أي ألم يقع علينا أنه بسبب قسوة الله ويخفي السبب الحقيقي وهو أن الألم ناتج عن خطايانا.وخدمة المصالحة هي أن نشرح للناس أن الله “حَوَّل لي العقوبة خلاصًا.. القداس الغريغوري ” لقد صار الألم علامة محبة من الله، كأب يؤدب أولاده بسبب الانحراف الموجود داخلهم. أمّا الشيطان فيصور لنا الألم أنه قسوة من الله، وأن الله لو كان يحبني لشفاني من المرض، هو يوقع بيني وبين الله. والخادم عمله أن يعلم الكل كيف يجاوبون الشيطان على هذا الفكر الخاطئ:-
1- فلنقل مع المسيح “ليس بالشفاء وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج….
2- لو كان الألم علامة عدم محبة من الله، فهل كان الله لا يحب المسيح والمسيح على الصليب؟! بعد المسيح تغير مفهوم الألم، وصار شركة ألم مع المسيح المصلوب وهل كان الله لا يحب بولس بسبب أن هناك شوكة في جسده؟! بل كان هذا ليَكْمُل بولس، وهكذا كان ألم أيوب طريقا لكمالِهِ.
3- الألم هو وسيلة أُصلب بها فأنفذ الآية “مع المسيح صلبت.. بل المسيح يحيا فيَّ”.
4- صار الصليب والألم طريق الأكاليل “من تألم معه يتمجد معه” (رو 8: 17).
صالحنا لنفسه = كل ما حصلنا عليه من بركات كان بسبب المصالحة التي عملها المسيح لنا مع الأب.
آية 19: – “أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعًا فِينَا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ.”
المسيح وحده هو الذي يستطيع أن يعمل هذه المصالحة بحكم أنه الإله المتأنس. اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ = أي أن الله كان متحدًا مع المسيح، فالمسيح لم يكن إنسانا عاديًا بل هو الله الظاهر في الجسد، فليس من حق إنسان مهما كان أن يعمل هذه المصالحة. وقوله… اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ = “حل فيه كل ملء اللاهوت جسديا” (كو2: 9) وهذه تشير إلى أن المسيح لم يتم عمل الفداء كإنسان بل تعني أن الإله المتأنس هو الذي قام بالفداء. غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ = كان هذا بالفداء أي بموت المسيح عنا، فخطايانا كانت عقوبتها الموت، والموت هو انفصال عن الله بسبب الخطية فكيف يحل الله المشكلة ويعيد الحياة للإنسان؟ هل يقول اذهب مغفورة لك خطاياك، وهل يقبل أن يعود للإتحاد بإنسان ملوث؟! لذلك كان لا بُد أن يموت المسيح ليغفر، وبعد ذلك يتحد بنا بعد أن تبرأنا فتعود لنا الحياة. وَاضِعًا فِينَا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ = يعطينا شعورًا داخليًا بالغفران فنشكره. أيضًا يضع في أفواه خدامه الكلمة المناسبة ليصالحوا الناس على الله.
آية 20:- “إِذًا نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ الْمَسِيحِ، كَأَنَّ اللهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ الْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ اللهِ.”
في الآية 19 قال واضعًا فينا كلمة المصالحة، ولأن الله أرسلنا كرسل لنخدم عمل المصالحة فنحن نسعى كسفراء = لنقنع الناس أن يتصالحوا مع الله. وهنا فالسفير المثالي هو من يحيا المسيح فيه، ويقدم صورة المسيح للناس (نش8: 6).
نطلب عن المسيح = نرجو نيابة عن المسيح. مرة أخرى عجيب أن القاضي يرجو المتهم أن يقبل العفو. والرسل عملهم دعوة الناس أن يكفوا عن الخطية ويقبلوا أن يعيشوا في الحياة الجديدة فيتصالحوا مع الله، الله قدم دمه لغفران الخطية، وقَدَّم لنا حياة جديدة، وعلينا أن نمد أيدينا لنقبلها ونعلن الموافقة على أننا نرفض الخطية. فالمسيح يحيا فينا ويعطينا حياته كحياة جديدة لنا، لكن هذا لمن قبل أن يموت مع المسيح (غل 20:2) وقرار أن نموت مع المسيح هو قرار التوبة. ومن يحمل حياة المسيح فيه يكون سفيرًا للمسيح حاملًا صورته أمام العالم.
آية 21:- “لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ.”
جَعَلَ….. خَطِيَّةً = كلمة خطية تترجم أيضًا ذبيحة خطية، فيكون المعنى أن الله جعله ذبيحة خطية. ولكن الأقرب للتصور أن الله جعله ممثلًا للخطية والخطاة. لأنه في مكان آخر يقول صار لعنة (غل 13:3). فما يقصده الرسول هو أن الله جعل المسيح ممثلاّ للبشرية في أقسى صورها، صورة الخطية واللعنة. وهذه كما قال البابا أثناسيوس الرسولي تماثل قول الكتاب “والكلمة صار جسدًا (يو 14:1) فكما أنه صار جسدًا دون أن تتغير طبيعة لاهوته أو تتحول لتصير بشرية، بل صار الجسد هو الظاهر أمامنا مخفيا مجد لاهوته “لأن على كل مجد غطاء” (إش4: 5). هكذا هو لبس كل خطية للبشر وحملها عنا، ولبس صورة اللعنة إذ قبل أن يصلب والكتاب يقول ملعون كل من علق على خشبة (تث 23:21) كل هذا دون أن يتخلى عن بره. ولاحظ أنه قال خطية ولم يقل خطايا، لأن قوله خطية يشير لحالة الانحطاط التي وصل إليها الإنسان. هذا حمله عنا المسيح وواضح أن اللعنة دخلت لنا بسبب الخطية، وكل هذا حمله عني المسيح بصليبه.
لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ = كما كان المسيح ممثلنا في الخطية صار ممثلنا في البر. حينما اتحد بنا وهو بار بررنا أي صيرنا أبرارًا. لكن برنا ليس من ذواتنا بل البر الذي في المسيح الذي أعطاني حياته ويستعمل أعضائي كآلات بر. الله يرانا في المسيح أبرارًا إذ نحمل بره.
ومعنى هذه الآية في علاقتها مع ما سبق أنه لقد أصبح من السهل علينا أن تتحقق المصالحة مع الله، لأن المسيح الذي لم يعرف الخطية، أي لم يرتكبها سمح الله أن يحاكم ويدان كخاطئ من أجلنا حتى يمكن لنا نحن أن نصير أبرارًا لدى الله، أو لكي نصير نحن بر الله بواسطة إتحادنا بالمسيح. إن عبارة بر الله تعني أن صفة البر هي من صفات الله، ولكن من ناحية أخرى قد وهبها للبشر. وكذلك فإن الرسول لم يقل هنا لكي نصير برًا بل قال نصير بر الله وذلك لكي يشير إلى عمل النعمة التي تهب لنا هذا البر. وقوله خطية مجردة أي أنه حمل كل أنواع خطايانا، وقوله بر أي أنه أعطانا كل بره.
ما معنى “بر المسيح”؟
المسيح أعطانا حياته تسكُنْ فينا. لذلك يقول بولس الرسول “لي الحياة هي المسيح” (فى21:1) ويقول “مع المسيح صُلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ” (غل20:2).
وحينما تسكُنْ فينا حياة المسيح يستخدم المسيح الساكن فينا أعضاءنا، وبهذا تصبح أعضاءنا هي أعضاء المسيح (1كو15:6). وإذا إستجبنا إيجابيًا لعمل المسيح فينا تصير أعضائنا آلات بر (رو13:6). ولكن هذا يحتاج لجهاد منّا أي تغصُّبْ أن نفعل البر. حينئذ تأتي المعونة من المسيح، فالمسيح خلقنا أحرارًا وسنظل كذلك. والجهاد في المسيحية هو أن نغصب أنفسنا على أن نفعل البر “ملكوت السموات يُغصب” (مت12:11) ومن يغصب نفسه سيجد المعونة، هذا هو مفهوم النعمة والجهاد. فالسيد المسيح يقول “بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا” (يو5:15). ولذلك يقول بولس الرسول “قَدِّمُوا أَعْضَاءَكُمْ عَبِيدًا لِلْبِرِّ لِلْقَدَاسَةِ” (رو19:6).
وإن قصرنا في صنع البر، فالروح القدس الساكن فينا “يُبكِّت على بر”(يو8:16)، وإذا شعرنا بالتبكيت نغصب أنفسنا. وإذا جاهدنا تأتي معونة من الروح القدس الذي “يُعِينُ ضَعَفَاتِنَا” (رو26:8).
الطريق إلى البر:
كان ذلك بأن أخذ المسيح جسدنا ومات وقام به حيًا. وفي المعمودية نموت مع المسيح ونُدفن معه ونقوم بحياة جديدة هي حياته فنحن في المعمودية نتحد به (رو3:6 -5). وفي المعمودية يجري عمل سري يعمله الروح القدس الذي يجعلنا نموت مع المسيح عن طبيعتنا القديمة الخاطئة (فتغفر خطايانا السابقة)، ونقوم بحياة المسيح فينا كحياة جديدة وخلقة جديدة (2كو17:5) ونكون ثابتين في المسيح.
ولكن نظرًا لحريتنا فنحن مُعرضين لأن نُخطئ لذلك يأتي سر الميرون الذي به يسكُنْ الروح القدس فينا وعمله التبكيت والمعونة حتى نظل ثابتين في المسيح (2كو21:1).وطالما نحن ثابتين في المسيح، تكون لنا حياة المسيح ساكنة فينا بالإيمان (أف17:3) وبهذا نسلك في البر بالمسيح أي بسبب سكنى المسيح فينا وبمعونة الروح القدس نظل ثابتين في المسيح. ولذلك قال السيد المسيح ليوحنا المعمدان “لأَنَّهُ هَكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَن ْنُكَمِّلَ كُلَّ بِرٍّ” (متى15:3) أي يؤسس سر المعمودية الذي به يكون بر المسيح.
ما معنى “خليقة جديدة”؟ (آية17):
ولماذا كان أقنوم الابن هو الذي قام بالتجسد والفداء؟
الخلقة هي عمل الله المثلث الأقانيم “وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا (تك26:1).
فالآب يريد والابن يخلق والروح القدس يحيي (راجع حز37). فالابن هو الذي يخلق لذلك قال القديس يوحنا “به كان كل شيء” (يو3:1). وهذا لأنه “قوة الله وحكمة الله” (1كو24:1).
ولما فسدت الخليقة الأولى، ومات الإنسان بسبب الخطية. فكان على الابن حل هذا الإشكال، وعليه أن يعيد خلق الإنسان خلقة جديدة. ولكن كيف؟ فالإنسان لا بُد أن يموت بطبيعته القديمة العتيقة، ويقيم الله خليقة جديدة حية. وكان هذا دور الابن، فهو تجسد ليموت ثم يقوم.
مات.. ليدفع ثمن الخطية + نموت معه بحياتنا القديمة (والأدق نموت فيه).
وقام.. ليعطينا حياته نحيا بها للأبد فلا نعود نموت.
لأنه إن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه فبالأولى كثيرًا ونحن مصالحون نخلص بحياته” (رو10:5).
ولكن كيف نموت معه أو فيه؟
كان هذا بالمعمودية. فالله أرسل يوحنا المعمدان ليعمد المسيح بالذات.
“لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء..” (يو33:1).
فالناس كانوا يذهبون ليعتمدوا على يد يوحنا المعمدان إعلانًا عن توبتهم عن خطاياهم.
لكن لماذا ذهب المسيح؟ هل له خطايا يتوب عنها؟ قطعًا لا.. فهو بلا خطية.
هل ليتمم الناموس؟ قطعًا لا.. فالناموس لم يطلب معمودية أحد.
لكن هو ذهب كما قال الآباء: (لأن المعمودية كانت محتاجة للمسيح ولكن المسيح لم يكن محتاجًا للمعمودية).
لذلك قال المسيح “هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر” (مت15:3).
فنزول المسيح للماء كان إعلانًا عن موته وصعوده من الماء كان إعلانًا عن قيامته.
والروح القدس الذي حلّ عليه بالجسد كان عمله:
- أن يملأ الكنيسة جسد المسيح.
- أن يجعل كل معمد بعد ذلك يموت مع المسيح أو في المسيح ويقوم معه متحدًا به. فتكون له حياة المسيح:
“أَمْ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ اعْتَمَدَ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ اعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ، فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ، حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ الآبِ، هكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ؟ لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضًا بِقِيَامَتِهِ. عَالِمِينَ هذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا الْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ الْخَطِيَّةِ، كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضًا لِلْخَطِيَّةِ. لأَنَّ الَّذِي مَاتَ قَدْ تَبَرَّأَ مِنَ الْخَطِيَّةِ. فَإِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَ الْمَسِيحِ، نُؤْمِنُ أَنَّنَا سَنَحْيَا أَيْضًا مَعَهُ. عَالِمِينَ أَنَّ الْمَسِيحَ بَعْدَمَا أُقِيمَ مِنَ الأَمْوَاتِ لاَ يَمُوتُ أَيْضًا. لاَ يَسُودُ عَلَيْهِ الْمَوْتُ بَعْدُ.” (رو3:6-9).
ويقول بنفس المعنى بولس الرسول “لي الحياة هي المسيح” (في21:1).
وأيضًا “مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ” (غل20:2).
- والروح القدس عمله في المعمودية هو أن يجعل طبيعتنا القديمة تموت مع المسيح وتقوم مع المسيح وتثبتنا في المسيح، إن في موت أو في قيامة. ولذلك نسمى سر الميرون سر التثبيت. لذلك فالأدق أن نقول “نموت في المسيح ونقوم في المسيح”+ “ولكن الذي يثبتنا معكم في المسيح وقد مسحنا هو الله. الذي ختمنا أيضًا وأعطى عربون الروح في قلوبنا” (2كو21:1، 22).
- وما يفصلنا عن الثبات في المسيح هو الخطية، لذلك فعمل الروح القدس يبكت ويعين حتى نستمر في الثبات في المسيح (يو8:16+ رو26:8).
- ظهور الثالوث يوم المعمودية لأن الخلق الجديد هو أيضًا عمل الثالوث.
- الآب في فرح بعودة أبنائه إليه ثانية يقول “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت”.
- والابن بالجسد في الماء يعلن عن موته وقيامته وتأسيس سر المعمودية.
- والروح القدس على شكل حمامة، يعيد المعمد دائمًا ليثبت في المسيح كبيت له. فالحمامة تعود لبيتها مهما بعدت عنه (الحمام الزاجل/ حمامة فلك نوح).
إذًا هناك خليقتين: الأولى خلقها الله وماتت في شخص آدم.
الثانية خلقها الله وصار لها حياة أبدية في شخص المسيح آدم الأخير.
مرة ثانية، “فالآب يريد أن الكل يخلصون” (1تي4:2) وأقنومي التنفيذ ينفذوا.. الابن يعيد الخلقة والروح القدس يثبتنا فيه وهو الحياة فنحيا.
“لأننا نحن عمله (خلقة آدم الأولى) مخلوقين في المسيح يسوع..” (أف10:2) وهذه هي الخلقة الجديدة في المسيح يسوع التي كمَّل المسيح برها لتحيا للأبد بفدائه ثم بمعموديته= نكمل كل بر.
تكميل البر= الله خلق آدم بارًا بلا خطية ليحيا حياة أبدية. وبالخطية لم يكن هناك إلاّ الموت. (مثل ورقة كتب عليها شيء بالخطأ فكانوا يرمونها إلى أن اكتشفوا الـCorrector الذي يغطي هذا التشوه فتعود الورقة بيضاء). وكان هذا عمل المسيح الكفاري (غطاء) يغسل ويبيض (رؤ14:7) فنعود أبرارًا أحياء.
إذًا المعنى= أن الثالوث يصنع هذا لتوجد طريقة لمحو أثار الخطية هذا من الناحية السلبية أما من الناحية الايجابية، فإننا باتحادنا بالمسيح في سر المعمودية أعطى لكل من يريد إمكانية أن يعمل البر.
تفسير 2 كورنثوس 4 | تفسير رسالة كورنثوس الثانية | تفسير العهد الجديد |
تفسير 2 كورنثوس 6 |
القمص أنطونيوس فكري | |||
تفاسير رسالة كورنثوس الثانية | تفاسير العهد الجديد |