تفسير سفر أعمال الرسل ٢١ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الحادي والعشرون

في أورشليم

يقدم لنا الإنجيلي لوقا تكملة الرحلة الكرازيّة الثالثة للقدّيس بولس. وقد ركّز الكاتب على استخدام اللَّه الأحداث التي تبدو مرة للغاية ليدفع ببولس إلى روما حتى يشهد هناك في القصر الإمبراطوري، في عاصمة العالم في ذلك الحين.

ابرز الكاتب تحدّي الرسول بولس للضيقات حتى الموت من أجل الكرازة، وخضوعه للمشورة المقدّمة له في أورشليم والتي كانت تدفع إلى قتله عند الهيكل، لكن اللَّه استخدمها لينطلق إلى روما.

  1. إلى صور 1-3.
  2. مشورة الإخوة له 4-6.
  3. نبوّة أغابوس في قيصريّة 7-14.
  4. صعوده إلى أورشليم 15.
  5. مشورة الإخوة له في أورشليم 16-26.
  6. شغب في الهيكل 27-30.
  7. تدخّل أمير الكتيبة 31-40.
  8. إلى صور

“ولمّا انفصلنا عنهم،

أقلعنا وجئنا متوجهين بالاستقامة إلى كوس،

وفي اليوم التالي إلى رودس ومن هناك إلى باترا”. [1]

إذ ودع القديس بولس الكهنة الذين جاءوا من أفسس إلى مليتس لكي ينطلق إلى أورشليم، صار على كل فريق أن يترك الآخر. لم يكن من الهين عليه أو عليهم أن يتركهم بسبب رباط الحب القوي. لذا يقول القديس لوقا: “لما انفصلنا“، وقد جاء التعبير كما لو كان انطلاق الرسول ومن معه قد تم بالقوة.

انطلق القديس بولس ومن معه مبحرين في قارب بين الجزائر والشواطئ، فكوس ورودس جزيرتان. هذا وأن رودس هو أيضا اسم مدينة على شاطئ الجزيرة التي تحمل ذات الاسم.

كوس: جزيرة صغيرة في المجموعة الجزرية البحرية واليونانية وهي قريبة من جنوب غرب آسيا الصغرى، تدعي الآن ستانكو Stanco، مشهورة بخصوبة أرضها وإنتاجها للخمر والحرير، تبعد حوالي 40 ميلاً من ميليتس.

رودس: وهي أيضًا من مجموعة الجزر البحرية اليونانية تضم مدينة تحمل ذات الاسم، مشهورة بتمثالها النحاسي الضخم، قام ببنائها شاريس لينديوس Chares Lyndus تًعرف بارتفاعها الشاهق، تسير السفن في وسطها كما بين أقدامها. دامت 56 عامًا، ودمرها زلزال. كانت تحسب أحد عجائب الدنيا السبع. عندما استولى عليها العرب المسلمون باعوا التمثال الساقط لرجلٍ يهوديٍ حمل نحاسه على عدة جمال، وكان ذلك عام 600 م أي بعد دمارها بحوالي 900 عامًا. اسمها استيريا Asteria، أما تسميتها رودس، فجاء من كثرة إنتاجها للورود.

باترا: مدينة بحرية لليسيا Lycia، بآسيا الصغرى.

“فإذ وجدنا سفينة عابرة إلى فينيقية،

صعدنا إليها وأقلعنا”. [2]

في بترا وجدوا سفينة مبحرة إلى فينيقية، تاركين جزيرة قبرص على شمالهم بهذا لم يعد الرسول بولس يتعجل السفر إلى أورشليم لكي يبلغها في عيد الخمسين.

“ثم اطلعنا على قبرس،

وتركناها يَسرةً،

وسافرنا إلى سورية،

وأقبلنا إلى صور،

لأن هناك كانت السفينة تضع وسقها”. [3]

تركوا قبرص مبحرين إلى سوريا حيث نزلوا في صور لتفريغ البضائع. فقد كانت صور إحدى المدن التجارية الرئيسية في العالم، وقد بقيت هكذا حتى في أيام القديس بولس.

  1. مشورة الإخوة له

“وإذ وجدنا التلاميذ مكثنا هناك سبعة أيام،

وكانوا يقولون لبولس بالروح

أن لا يصعد إلى أورشليم”. [4]

لم يعد يتعجل الرحلة، ففي صور حيث كان يلزم الانتظار سبعة أيام لتفريغ السفينة من البضاعة وجدوا تلاميذ قبلوا الإيمان، تعبير “وجدنا” يشير إلى اهتمام القديس بولس ومن معه بالبحث عن المؤمنين أينما وُجدوا، ليلتصقوا بهم ويتعبدوا معًا، ويتعزوا بعمل الله الدائم في كل موضع.

في عصر السيد المسيح لم تكن صور مستعدة لقبوله إذ قال: “ويل لكِ يا بيت صيدا، لأنه لو صنعت في صور وصيدا القوات المصنوعة فيكما لتابتا قديمًا جالستين في المسوح والرماد، ولكن صور وصيدا يكون لهما في يوم الدين حالة أكثر احتمالاً مما لكما” (لو 10: 13-14). الآن صار في صور تلاميذ للرب يسوع، التصقوا بالرسول بولس وترجوه أن يبقى معهم ولا يصعد إلى أورشليم.

يرى البعض أنه قد تحققت النبوة عن صور: “وتكون تجارتها وأجرتها قدسًا للرب” (إش 23: 18).

لعله بقي سبعة أيام حتى يجد فرصة للعبادة مع جميع المؤمنين في يوم الرب والكرازة بينهم.

نال بعض مؤمني صور مواهب معينة حتى استطاعوا أن يتنبأوا بالروح عن متاعب القديس بولس التي سيلاقيها في أورشليم، إذ كان الروح القدس يشهد بهذا في كل مدينة (أع 20: 23).

ماذا يعني: “يقولون لبولس بالروح أن لا يصعد إلى أورشليم“؟

  1. كانوا يتنبأون بالروح عن المتاعب التي ستلاقيه في أورشليم، متوسلين إليه ألا يصعد، حاسبين أن كثيرين محتاجين إلى خدمته وكرازته.
  2. لا يفهم من هذا أن الروح قد أصدر إليه أمرًا بعدم الصعود إلى أورشليم. وقد أدرك الرسول بولس أن ما فعلوه هو من قبيل غيرتهم وحبهم له، فالروح كشف المتاعب، أما عدم الصعود فكان رجاء من الشعب حفظًا على حياته من المخاطر.

العجيب إن الروح القدس الذي وهب بولس أن يصنع عجائب فوق العادة في أفسس (أع 19: 11) نراه هنا في صور وقد مكث معه التلاميذ، وتنبأوا له بالروح عن المتاعب التي سيلاقيها في أورشليم، وطلبوا منه ألا يصعد إليها. لم يكشف الروح لبولس الرسول مباشرة عما سيلاقيه بل اخبره خلال التلاميذ. فمع ما ناله القديس بولس من مواهب وعطايا ونعم وما تمتع به من نجاحٍ فائقٍ، لكن ما أخفي عنه (أع 20: 22) أعلنه الروح للتلاميذ، حتى يشعر الكل بالحاجة إلى بعضهم البعض. لقد تنبأ عن ذلك أغابوس بعد ذلك في بيت فيلبس المبشر (أع 21: 10-11).

“ولكن لمّا استكملنا الأيام خرجنا ذاهبين،

وهم جميعًا يشيعوننا مع النساء والأولاد إلى خارج المدينة،

فجثونا على ركبنا على الشاطئ، وصلينا”. [5]

لم يقبل التلاميذ في صور الإيمان على يدي بولس الرسول، ومع هذا فقد اظهروا تقديرًا وحبًا شديدًا له، حتى أنه بعد خدمته بأسبوع واحد خرج الكل رجالاً ونساء وأطفالاً يودعونه، يطلبون بركة الرب خلاله، كما يصلون من أجله. هنا أظهر هذا الشعب حبًا لخدام الكلمة دون تعصبٍ لخادمٍ معينٍ؛ وشعروا بالالتزام أن يصلوا من أجل الخدام والخدمة. هذا وقد نجحوا في تدريب أطفالهم على حمل ذات الروح والشركة في ذات العمل. لقد تحققت فيهم النبوة: “بنت صور أغنى الشعوب تترضى وجهه بهدية” (مز 45: 12). ما هذه الهدية التي قدمتها الكنيسة “بنت صور” الغنية لعريسها سوى الحب الصادق للكلمة والخدام، والوحدة للعمل بروحٍ واحدٍ، وتقديم صلوات حتى على الشاطئ من أجل الخدمة والخدام، وأخيرًا قدموا أروع عملٍ وهو أنهم قدموا أطفالهم للرب شركاء معهم في ذات الروح وذات العمل!

في ميلتيس جثا رجال الكهنوت على ركبهم يصلون عند توديعهم للرسول بولس ومن معه (أع 20: 36)، وهنا في صور جثا الشعب الرجال مع النساء والأطفال يمارسون ذات العمل، وبذات الروح.

ركع الكل على شاطئ الميناء الذي بلا شك كان مرصوفًا بالحجارة، وقد امتلأ ترابًا بسبب نقل البضائع، لكن الكنيسة تحول كل موضع، أيا كان حاله، كما إلى مقدس للرب بالركوع للصلاة في كل حين وفي كل موضع.

الركوع للصلاة عمل لا يفارق الكنيسة، يمارسه المؤمن أينما وجد. يقول جورج هربرت: “الركوع لن يفسد الجوارب الحريرية”.

v إنّنا نحني ركبنا، لأن الركب المنحنية تهيئ للإنسان نوال المغفرة من الله، وتنزع غضبه، ويتمتع بقبوله النعمة، أكثر من جميع حركات الجسم الأخرى.

القديس أمبروسيوس

v كان (قسطنطين) يدخل مخدعه الخاص في القصر في ساعات معيّنة من النهار، ويغلق على نفسه ليناجي الله، ويظل راكعًا متضرّعًا من أجل شئون مملكته.

يوسابيوس القيصري

v تأمرنا الكنيسة أن نرفع الصلوات لله بلا انقطاع وبكل توسّل، راكعين في الأيّام المحدّدة ليلاً ونهارًا!

القدّيس أبيفانيوس

v تحوّل من مضطهد إلى كارز ومعلّم للأمم (2 تي1: 11)، يقول: “كنت قبلاً مجدّفًا ومضطهدًا ومفتريًا”. أمّا سبب نوالي الرحمة فهو “ليُظهر يسوع المسيح فيّ أنا أولاً كل أناة، مثالاً للعتيدين أن يؤمنوا به للحياة الأبديّة” (1 تي 1: 16). إننا بنعمة الله كما ترون نخلص من خطايانا، التي فيها نحن نضعف. الله وحده هو الدواء الذي يشفي النفس. فالنفس قادرة بحق أن تؤذي نفسها، هكذا أيضًا الناس في قدرتهم أن يصيروا مرضى، لكن ليس ليهم ذات القدرة لكي يصيروا إلى حال أفضل.

القديس أغسطينوس

“ولمّا ودّعنا بعضنا بعضًا صعدنا إلى السفينة،

وأمّا هم فرجعوا إلى خاصتهم”. [6]

في جوٍ من الحب الروحي العجيب تم الوداع لينطلق القديس بولس ومن معه في السفينة بشكرٍ وفرحٍ مع ما ينتظرونه من مضايقات، ورجع الشعب، كل إلى بيته بروح الفرح والشكر على عمل الله الدائم بواسطة خدامه وشعبه. وكما قال موسى النبي وهو يبارك الأسباط: “افرح يا زبولون بخروجك، وأنت يا يساكر بخيامك” (تث 33: 18). فقد انطلق بولس الرسول ومن معه متهللين بصلوات الشعب من أجلهم، وعاد الشعب إلى بيوتهم حاملين بركة الرسول بولس وصلواته عنهم.

  1. نبوّة أغابوس في قيصريّة

“ولمّا أكملنا السفر في البحر من صور،

قبلنا إلى بتولمايس،

فسلَّمنا على الإخوة،

مكثنا عندهم يومًا واحدًا”. [7]

بتولمايس: عكا، وهي مدينة قديمة منذ أيام حكم القضاة (قض 1: 31)، إحدى مدن سبط أشير، لها سمعتها منذ العصور الوسطى، وهي أحد محطات الحروب الصليبية، وقد دعوها باسم القديس يوحنا St. Jeane d’Acre ، أي أكرا، حيث بنوا فيها قلاعًا وحصونًا بحرية ضخمة، وهي متاخمة لجبل الكرمل.

حين زارها الرسول بولس كانت تُدعى بتولمايس، نسبة لأحد ملوك البطالسة، حيث قام بتجميلها، وكانت في أيام الرسول حائزة على الحكم الكولوني.

نزل الرسول بولس فيها، وسلم على الإخوة، مما يشير إلى وجود كنيسة لها علاقة بالرسول بولس؛ وقد بقي عندهم يومًا واحدًا ثم فارقها إلى قيصرية.

“ثم خرجنا في الغد نحن رفقاء بولس،

وجئنا إلى قيصرية،

فدخلنا بيت فيلبس المبشّر،

إذ كان واحدًا من السبعة،

وأقمنا عنده”. [8]

إذ جاء القديس بولس ورفقاؤه إلي قيصرية استضافهم فيلبس الذي كان مشهورًا بالمبشر، وهو أحد السبعة شمامسة الذين اختارهم الشعب لخدمة الأرامل (أع 6: 3 الخ). وهو الذي بشّر في السامرة (أع 8: 55 الخ)، وبشّر الخصي الأثيوبي (أع 8: 26)، وفي المدن التي على الساحل في طريقه من أشدود إلى قيصرية (أع 8: 40). وقد جعل مقره في قيصرية. دُعي المبشر ربما تمييزًا له من فيلبس الرسول.

يندر أن نجد الرسول بولس ينزل في مكان عام؛ لكنه غالبًا ما كان ينزل ضيفًا لدى أحد أحبائه أو أصدقائه، إذ كان الكل يجدون راحة في نزوله عندهم لا للاستضافة، ولكن كان يحول البيت إلى كنيسة ومركز عمل كرازي روحي وتعبدي.

كان لدى فيلبس المبشر بيت يمكن للقديس بولس ورفقائه أن يقيموا معه فيه، كما يمكن استيعاب القادمين للقاء معهم، وكأن بيته كان مركز خدمة.

المبشر“: أي الكارز بالأخبار السارة أو بالإنجيل، وقد ورد هذا التعبير مرتين أيضًا (أف 4: 11، 2 تي 4: 5). لم يُذكر عن بقية الشمامسة السبعة أنهم حملوا هذا اللقب. لكننا رأينا في حياة القديس استفانوس أنه كان كارزًا في المجامع يحاور اليهود الذين من مناطق أخرى مثل الإسكندرية وكيليكية وروما الخ. لا يمكننا القول بأن التبشير ليس من عمل الشمامسة، فإن كل مؤمنٍ ملتزم بالشهادة لإنجيل المسيح متى حانت له فرصة.

“وكان لهذا أربع بنات عذارى كن يتنبأن”. [9]

تمتعت بنات فيلبس العذارى بموهبة النبوة. لقد سبقهن البعض وتنبأوا له عما سيحل به من متاعب في أورشليم. هذا التكرار في أكثر من موضع كان لتشجيع الرسول بولس وراحته، حيث يؤكد له الروح القدس أن ما سيحدث هو بسماحٍ إلهيٍ. كما يزكيه أمام الكنيسة في بلاد كثيرة لكي لا يضطرب المؤمنون حين يسمعون ما يحل به؛ مدركين أنه وهو عالم بما سيحدث ذهب بكامل حريته متهللاً من أجل شركته في صليب الرب.

كأننا في عهد الأنبياء، فقد تتلمذت الأربع بنات العذارى على يدي أبيهن فيلبس الرسول، ونلن موهبة النبوة.

v لقد أعجبت بغيرة حنة ابنة فينوئيل التي استمرت حتى شيخوخة متأخرة تخدم الرب في الهيكل بالصلوات والأصوام (مت 11: 7- 14). عندما فكرت في الأربع عذارى بنات فيلبس (أع 21: 9) اشتاقت أن تلحق بجماعتهن، وأن تحسب مع أولئك الذين بطهارتهن البتولية نلن نعمة النبوة.

القديس جيروم

v إن كان الأمر هكذا (أن تصمت النساء في الكنيسة 1 كو 14: 34)، فماذا نفعل بخصوص الحقيقة أن فيلبّس كان له أربع بنات تنبّأن؟ فإن كنّ قادرات على فعل هذا، فلماذا لا نسمح لنبيّاتنا أن يتكلّمن؟ نجيب على هذا السؤال هكذا: أولاً إن كانت نبيّاتنا يتنبّأن، فليظهرن علامات النبوّة فيهنّ. ثانيًا حتى إن كانت بنات فيلبّس قد تنبّأن، فإنهنّ لم يفعلن هذا داخل الكنيسة. هكذا كان الحال في العهد القديم، فمع أن دبّورة قد اشتهرت كنبيّة (قض 4: 4)، لا توجد إشارة أنها خاطبت الشعب المجتمع معًا بنفس الطريقة التي فعلها إشعياء أو إرميا. نفس الأمر حقيقي بالنسبة لهلدة (2 مل 22: 14؛ 2 أي 34: 22).

العلامة أوريجينوس

v الآن أيضًا النساء يتنبّأن. في القديم مريم أخت موسى وهرون، وبعدها دبّورة (قض4: 4)، وبعدهما هلدة (2 مل 22: 14)، ويهوديت (يهوديت 8: 11) – الأولى في ايّام يوشيا والأخيرة في أيام حكم داريوس. تنبّأت والدة الرب أيضًا، ونسيبتها أليصابات وحنّة (لو1: 46؛ 2: 38)؛ وفي أيامنا بنات فيلبّس. لكن هؤلاء لم يكن يتشامخن على أزواجهنّ، بل يحفظن قدرهن.

قوانين الرسل القدّيسين

“وبينما نحن مقيمون أيامًا كثيرة،

انحدر من اليهودية نبي اسمه أغابوس”. [10]

كان الوقت لدى الرسول بولس ثمينًا للغاية، فكان يحسب خدمته في أية مدينة بالأيام، ليس في أيامه يوم واحد بلا عمل، حتى وإن كان داخل السجن، أو أثناء تفريغ سفينة الخ.

كان لأغابوس موهبة النبوة، فقد سبق أن نزل من أورشليم إلي أنطاكية وتنبأ عن المجاعة العامة (أع 11: 27-28).

“فجاء إلينا،

وأخذ منطقة بولس،

وربط يديّ نفسه ورجليه، وقال:

هذا يقوله الروح القدس:

الرجل الذي له هذه المنطقة،

هكذا سيربطه اليهود في أورشليم،

ويسلمونه إلى أيدي الأمم”. [11]

لم يعد بعد الرسول متعجلاً في الذهاب إلى أورشليم، لذلك أقام أيامًا كثيرة في قيصرية. وقد جاء إليه أغابوس النبي، كما كان يفعل أنبياء العهد القديم. ربط نفسه بمنطقة بولس الرسول وتنبأ أيضًا عما سيفعل به اليهود في أورشليم. هذا عادة الأنبياء أن يمارسوا أعمالاً رمزية للكشف عن أحداث مقبلة. كمثال دفن إرميا النبي منطقته عند الفرات إشارة إلى سبي اليهود (إر 13: 4)، كما صنع لنفسه أربطة وانيارًا ووضعها على عنقه، ثم بعث بها إلى ملوك أدوم وموآب وبني عمون وصور وصيدون، ليعلن لهم أن نبوخذنصر سينتصر عليه ويستعبد هذه الأمم (إر 27: 2-7). وأيضًا إذ نزل إرميا النبي إلى بيت الفخاري، وصنع إناءً من الطين قد فسد ثم أعاد تشكيله إشارة إلى ما سيحل على أمة اليهود من دمارٍ (إر 18: 4). تعرى أيضا إشعياء من ثوبه الخارجي، وسار حافي القدمين، رمزًا لسبي مصر وكوش (إش 20: 3-4). أما حزقيال فيُدعى النبي الرمزي من كثرة أعماله وتصرفاته الرمزية التي تحمل نبوات.

“فلما سمعنا هذا،

طلبنا إليه نحن والذين من المكان،

أن لا يصعد إلى أورشليم”. [12]

هنا نلاحظ أن القديس لوقا نفسه ومن معه من مرافقي الرسول بولس وأيضًا من المؤمنين المقيمين في قيصرية قد اتفقوا معًا في الطلب من الرسول بولس ألا يصعد إلى أورشليم. مع تأكيد القديس لوقا والذين معه أن الرسول يتحرك بتوجيه إلهي، لكن من أجل محبتهم للرسول واستمرارية خدمته طلبوا هذا. وحسب الرسول ذلك حبًا، لكنه يحمل ضعفًا، فهو مستعد لا أن يُقيد فقط بل وأن يموت من أجل اسم الرب يسوع بفرحٍ وسرورٍ.

v حاولوا أن يحفظوه، لا بقصد إقناعه أن يعدل عن ذهابه (حيث يتعرض للضيق)، وإنما ليظهروا له الحب، فهم يشتاقون أن تحفظ حياة الرسول (للخدمة) لكنهم لا يشيرون عليه أن يرفض الاستشهاد.

العلامة ترتليان

“فأجاب بولس:

ماذا تفعلون؟ تبكون وتكسرون قلبي،

لأني مستعد ليس أن أربط فقط،

بل أن أموت أيضًا في أورشليم لأجل اسم الرب يسوع”. [13]

إنه يعلم بصدق محبتهم الملتهبة نحوه وشوقهم الشديد لاستمرارية عمله، لكنه انتهرهم لأنه يطلب إتمام مشيئة الله فيه بالشركة مع المصلوب في آلامه بل وفي موته. لم يحتمل أن يرى دموعهم من أجله فحسب قلبه منكسرًا، لكنه لم يجارهم تصرفهم بل بالحب والشجاعة في الرب رفعهم ليدركوا قيمة الألم من أجل الرب.

كان القديس بولس رقيق المشاعر جدًا، لا يحتمل رؤية دموع أحدٍ، لكنها رقة في الرب. لقد مزقت الدموع قلبه، لكنها لم تقدر أن تحوله عن طريق الصليب.

حمل القديس أغناطيوس الأنطاكي ذات الروح حين كتب إلى أهل رومية طالبًا منهم ألا يظهروا المحبة في غير أوانها، حيث كانوا يبذلون كل الجهد لمنع استشهاده.

v لا أطلب إليكم سوى أن أكون سكيبًا لله مادام المذبح معدًا… أطلب إليكم ألا تظهروا لي عطفًا في غير أوانه، بل دعوا الوحوش تأكلني، التي بواسطتها يوهب لي البلوغ إلى اللَّه. أنّني حنطة اللَّه. اتركوني أُطحن بأنياب الوحوش لأصبح خبزًا تقيًا للمسيح. هيِّجوا هذه الوحوش الضارية لتكون قبرًا لي، ولا تترك شيئًا من جسدي، حتى إذا ما مُت لا أُتعب أحدًا، فعندما لا يعود العالم يرى جسدي أكون تلميذًا حقيقيًا للمسيح.

v أرجو أن أحظى بمعونة صلاتكم، بمجابهة الوحوش في روما لأتمكّن من أن أكون حقًا تلميذ المسيح.

v هيِّجوا هذه الوحوش الضارية لتكون قبرًا لي، ولا تترك شيئًا من جسدي… حينئذ أصير تلميذًا حقيقيًا ليسوع المسيح عندما لا يرى العالم جسدي… صلّوا إلى المسيح من أجلي حتى عندما أعدّو بفضل الوحوش الضارية ضحيّة إلهي.

القديس أغناطيوس الأنطاكي

لم يجد الرسول بولس في هذا الوصف ما يفزعه، ولا ما يستحق التفكير فيه، إنما بروح القوة التي يتمتع بها خلال النعمة الإلهية حسب ذلك تكميلاً لآلام المسيح ومشاركة حب مع المصلوب. إنها فرصة ممتعة أن ينفتح الباب لينطلق ويكون مع المسيح، ذاك أفضل جدًا (في 1: 23).

في رسالة إلى هيليودورس Heliodorus كتب القديس جيروم معبرًا عن ضرورة السمو فوق العواطف البشرية خلال محبة الله. [أجاب بولس على الإخوة الذين جاهدوا في منعه من الصعود إلى أورشليم: “ماذا تفعلون؟ تبكون وتكسرون قلبي. لأني مستعد ليس أن أربط فقط، بل أن أموت أيضًا في أورشليم لأجل اسم الرب يسوع” (أع 21: 13). فالعاطفة الطبيعية التي غالبًا ما تتلف الإيمان، يلزم أن ترتد بلا قوة من حصن الإنجيل “أمي واخوتي هم الذين يعملون مشيئة أبي الذي في السماوات” (لو 8: 21؛ مت 12: 50). إن كانوا يؤمنون بالمسيح فليأمروني إذ أذهب لأحارب باسمه، وإن كانوا لا يؤمنون “دع الموتى يدفنون موتاهم” (مت 8: 22).]

v يا لروعة أن يوصيهم أن يتغلّبوا برجولة على كل اضطهاد، وأن يجتازوا التجارب بجسارة… إن كان إنسان ما مستعدًا أن يحتمل مخاوف الموت ويزدري بها، فهل لو وضع نفسه ورحل أفلا يبقى له شيء مذخّرًا له؟ لأنه فيما هو يضع نفسه يجدها بنوعٍ ما، بينما لو وجد حياته يجلب الهلاك لنفسه. لهذا أي خوف يمكن أن يشعر به القدّيسون إن كان ما يبدو قبلاً أنه صعب يكون لهم مفرحًا أن يحتملوه.

القديس كيرلس الكبير

“ولمّا لم يقنع، سكتنا قائلين:

لتكن مشيئة الرب”. [14]

واضح أنهم كانوا يلحون على الرسول بولس ألا يصعد إلى أورشليم، لكنهم إذ رأوا إصرار الرسول بولس مع قبوله هذه النبوة بفرحٍ أدركوا أن هذه هي مشيئة الله، فخضعوا لها. لقد أدركوا أن قرار الرسول ليس عن اعتداد في نفسه أو كبرياء ولا عن تهورٍ، لكنه دخول في طريق الصليب بفرحٍ مع تسليم كل شيء في يدي الله. كما لم يتلمسوا أدنى تردد أو تخوف مما سيحدث، فلمسوا يد الله العاملة في قلبه وفكره وكل حياته.

  1. صعوده إلى أورشليم

“وبعد تلك الأيام تأهبنا وصعدنا إلى أورشليم”. [15]

أعدوا أنفسهم للرحلة، إنهم أشبه بجنودٍ حملوا ما يلزمهم للضرورة، وربما كان معهم ما جمعوه من مالٍ من كنائس مكدونية وأخائية لحساب فقراء أورشليم. انطلق معه من كان في صحبته وهم يتوقعون ما سيحل بالرسول من ضيقات، وقد أرادوا أن يكونوا في رفقته وسط الآلام.

v إذ سمع بولس أنه سيحتمل مخاطر كثيرة أسرع لا ليضع نفسه في المخاطر، لكنه حسب ذلك أمرًا من الروح.

القديس يوحنا الذهبي الفم

  1. مشورة الإخوة له في أورشليم

“وجاء أيضًا معنا من قيصرية أناس من التلاميذ،

ذاهبين بنا إلى مناسون،

وهو رجل قبرسي تلميذ قديم لننزل عنده”. [16]

ذهب معهم أيضا مجموعة من مؤمنى قيصرية، وكان من بينهم مناسون القبرصي، له منزل في أورشليم، ينزلون فيه، إذ يصعب أن يجد أحد مسكنًا يستأجره في أورشليم في وقت العيد.

لقد سمع مناسون ما سيحل ببولس من ضيقات في أورشليم، ومع هذا لم يمتنع عن أن يستضيفه هو ومن معه مرحبًا بهم دون اعتبار لأية متاعب قد تحل به بسببهم.

جاء النص اليوناني غير واضح إن كان مناسون جاء معهم من قيصرية ليستضيفهم في بيته في أورشليم، أو جاءوا هم إلى بيته ولم يكن معهم في قيصرية وأنه كان معروفًا للمؤمنين في قيصرية. يرى البعض أنه كان في الطريق ما بين قيصرية وأورشليم مروا به وجاء معهم.

بعد غيبة طويلة عاد القديس بولس إلى أورشليم بعد أن تعرض لمخاطر كثيرة في بلاد كثيرة.

“ولمّا وصلنا إلى أورشليم قبلنا الاخوة بفرح”. [17]

في عشية عيد الخمسين في 27 مايو من سنة 57م، لأن العيد في تلك السنة كان في 28 مايو، التقى الرسول بتلاميذه القدامى في بيت مناسون وقد ساد الفرح على الكل، وكان معه القديس لوقا وبقية زملاء سفره.

v وإن كان (القادم) ليس بولس بل مؤمن أو أخ، وإن كان الأخير فإن المسيح يدخل إليك به. افتح بيتك واستقبله، إذ يقول: “من يقبل نبيًا فأجر نبي يأخذ” (مت 10: 41)… هكذا من يقبل المسيح يقبل أجر من يستضيف المسيح.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“وفي الغد دخل بولس معنا إلى يعقوب،

وحضر جميع المشايخ”. [18]

يبدو أن يعقوب كان في ذلك الحين الرسول الوحيد المقيم قي أورشليم، قام القديس بولس ومن معه بزيارته.

“فبعدما سلّم عليهم،

طفق يحدثهم شيئًا فشيًئا بكل ما فعله اللَّه بين الأمم،

بواسطة خدمته”. [19]

بروح التواضع لم يستعرض الرسول إنجازاته الفائقة، إنما حدثهم شيئًا فشيئًا، في هدوء وروية عن أعمال الله الفائقة بين الأمم بواسطة خدمته. وكما كان يؤكد “أنا ما أنا، ولكن نعمة الله العاملة بي”. كان يؤمن أنه كان يزرع، وآخرون يسقون مثل أبلوس، لكن الله هو الذي ينمي.

“فلما سمعوا كانوا يمجّدون الرب، وقالوا له:

أنت ترى أيها الأخ كم يوجد ربوة من اليهود الذين آمنوا،

وهم جميعًا غيورون للناموس”. [20]

بالرغم من سرور القادة بعمل الله على يدي بولس لكنهم أرادوا تحذيره بأن ربوة من اليهود قبلوا الإيمان المسيحي مع غيرتهم على الناموس، وقد بلغهم أن الرسول بولس يكرز بإنجيل النعمة متجاهلاً الناموس. فيطالب اليهود أن يتركوا تهودهم، ويكفوا عن أن يحسبوا أنفسهم يهودًا، أي يصيرون من الأمم، وأنه لا حاجة للختان ولا للعادات اليهودية.

يرى البعض أنه كان من بين المشايخ الحاضرين من قبلوا الإيمان المسيحي لكنهم لازالوا يعتزون بالفكر الفريسي، يحسبون المسيح والكرازة به لخدمة الناموس ومجد إسرائيل مع الاعتزاز بحرف الطقوس والعوائد اليهودية. لقد مجدوا الرب لانتشار الإيمان في مدنٍ كثيرةٍ بصورة فائقة وسريعة، لكن ما أقلقهم هو ما سمعوه عن الرسول بولس أنه مقاوم للطقوس الناموسية.

v لاحظوا بأي تواضع تحدثوا. “قالوا له” ولم يتكلم يعقوب كأسقف له سلطان، بل تحدثوا مع بولس كشريكٍ معهم في وجهة نظرهم: “أنت ترى أيها الأخ” كما لو كانوا في الحال يعتذرون عن أنفسهم قائلين: “لسنا نريد هذا، ألا ترى ضرورة هذا الأمر؟” قالوا: “كم يوجد ربوة من اليهود الذين جاءوا“، ولم يقولوا: “كم يوجد ربوة من اليهود جعلناهم نحن موعوظين”، إنما هم جاءوا. روى بولس لهم ما حدث مع الأمم ليس لنوال مجد باطل، حاشًا! وإنما لإظهار رحمة الله، ولكي يملأهم فرحًا. انظروا إذ قيل: “فلما سمعوا كانوا يمجدون الله” لم يمدحوا بولس ولا أعجبوا به، فقد روى لهم بحكمة ناسبًا كل شيء لله.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“وقد أخبروا عنك،

أنك تُعلم جميع اليهود الذين بين الأمم الارتداد عن موسى قائلاً:

أن لا يختنوا أولادهم،

ولا يسلكوا حسب العوائد”. [21]

ربما يتساءل البعض: ألم يقرر المجمع المنعقد في أورشليم ألا يُثقل على الأمم، ويكفي الامتناع عن الزنا وأكل الدم (أع 15)؟ يجيبون أن هذا القرار يتضمن الآتي:

v أن الطقوس الخاصة بالشريعة، وان كان يجب تطبيقها روحيًا لا حرفيًا، لكنها صدرت بتشريعٍ إلهيٍ.

v أن ما أصدره المجمع خاص بالذين خارج أورشليم.

v أنه يُطبق على الأمم وحدهم دون اليهود حتى الذين في الشتات.

v لم يتعرض المجمع لما سيحدث عند نمو الكنيسة وتزايد عدد القادمين من الأمم، خاصة عندما يُطرد المسيحيون من الهيكل، وعندما تخرب أورشليم.

فالإشاعات التي بلغت أورشليم كانت غير صحيحة، لأن الرسول بولس لم يكن يطالب كل اليهود بهذا، وإنما سمح للأمم القادمين للإيمان بهذا. هذا ومن جانب آخر فقد أكد أن الخلاص لا يقوم على الممارسة الحرفية للطقوس اليهودية بل على الإيمان بالمسيح العامل بالمحبة. فالناموس بحرفيته عاجز عن التبرير.

كانت القيادات الكنسية تدرك أن ما قد بلغ أورشليم من إشاعات كاذبة، لكن لإرضاء هذه الألوف من المؤمنين يلزم تقديم برهان عملي على كذب هذه التقارير.

إننا نقف مع القديس يوحنا الذهبي الفم في دهشة أمام هذه الشخصية العجيبة في حبها الفائق للمقاومين، واتساع فكرها وحكمتها. فبينما وقف اليهود حتى الذين تنصروا موقف العداء منه طوال فترة خدمته إلى آخر نسمة من حياته يتهمونه كمقاوم للناموس، بروح الحب يكتب إليهم في رسالته إلى العبرانيين: “صلوا لأجلنا. لأننا نثق أن لنا ضميرًا صالحًا، راغبين أن نتصرف حسنًا في كل شيء” (عب 13: 18). [إنه يطلب من الذين يبغضونه ما يطلبه كل الآخرين ممن يحبونه، أي الصلاة من أجله، قائلاً: “لأننا نثق أن لنا ضميرًا صالحًا”. فلا تخبرونني عن اتهامات، فإن ضميرنا، كما يقول، لن يسيء إليكم في شيء، ولن نشعر من نحو أنفسنا أننا ندبر مكائد ضدكم. يقول: “لنا ضمير صالح”، ليس فقط من نحو الأمم، بل وأيضًا من نحوكم. لم نفعل شيئًا بخداعٍ، ولا في رياءٍ. إذ يبدو أنه قد بلغ إليهم هذا… أكتب إليكم هذا، ليس كعدوٍ، ولا كخصمٍ، بل كصديق.]

إنه أمر طبيعي أن يجتمع اليهود الذين قبلوا الإيمان، إذ سمعوا أن بولس قد حضر إلى أورشليم، وأنهم سيحتجون بشدة على موقفه كما صورته التقارير الخاطئة.

“فإذا ماذا يكون لابد على كل حال أن يجتمع الجمهور،

لأنهم سيسمعون أنك قد جئت”. [22]

“فأفعل هذا الذي نقول لك،

عندنا أربعة رجال عليهم نذر”. [23]

اظهروا للرسول كمن لا يصدقون ما قيل ضده، أنه يبرأ نفسه بأن يحتضن العمل الناموسي بالنسبة لليهود المتنصرين، وإن كان الأمم الذين تنصروا هم في حل من هذه الطقوس. يرى البعض انه وُجد بينهم من كانوا خبثاء، لأنهم يعلمون تمامًا فكر الرسول بولس، وهم وأمثالهم تعقبوه في أكثر البلاد ليثيروا اليهود المتنصرين وغير المتنصرين ضده، بكونه مقاومًا للناموس.

v نقول هذا كنصيحة وليس أمرًا… ليكن دفاعك بالعمل لا بالكلام.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“خذ هؤلاء وتطهر معهم،

وأنفق عليهم ليحلقوا رؤوسهم،

فيعلم الجميع أن ليس شيء ممّا أخبروا عنك،

بل تسلك أنت أيضًا حافظًا للناموس”. [24]

“وأمّا من جهة الذين آمنوا من الأمم،

فأرسلنا نحن إليهم،

وحكمنا أن لا يحفظوا شيئًا مثل ذلك،

سوى أن يحافظوا على أنفسهم،

مما ذٌبح للأصنام ومن الدم والمخنوق والزنى”. [25]

يؤكد يعقوب الرسول أن ما يطلبونه من الرسول بولس لا يتعارض مع قرارات مجمع أورشليم (أع 15) حيث أنها خاصة بالأمم وحدهم.

v هنا بنوع من الاحتجاج يقولون “نحن” أمرناهم، مع أننا كارزون لليهود، هكذا فلتفعل أنت مع أنك كارز للأمم، فلتتعاون معنا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“حينئذ أخذ بولس الرجال في الغد،

وتطهّر معهم،

ودخل الهيكل،

مخبرًا بكمال أيام التطهير إلى أن يُقرب عن كل واحدٍ منهم القربان”. [26]

لكي يصالح كنيسة أورشليم ويكسبهم ويدخل بهم تدريجيًا إلى المفاهيم الروحية العالية مارس بعض الطقوس الخاصة بالتطهير. وكما سبق فكتب: “صرت للذين بلا ناموس كأني بلا ناموس، مع إني تحت ناموس المسيح، لأربح الذين هم بلا ناموس” (1 كو 9: 21). وهكذا صار أيضًا للذين تحت الناموس كأنه تحت الناموس ليحرر المستعبدين للحرف لحساب المسيح.

كمال أيام التطهير” هي شريعة النذر، فإذا نذر اليهودي نذرًا من أجل ضيقة أو طلبٍ يطلبه يترك خصل شعره لمدة ثلاثين يومًا، ولا يذق خمرًا أو مسكرًا (عد 6: 2-5)، لأنه مقدس للرب. وفي نهاية المدة يأتي بذبائح النذير، وإن كان الشخص غير قادر على تقديمها يلجأ إلى من هو مقتدر لينفق عليه. لهذا قيل لبولس: “تطهر معهم وانفق عليهم” وقد وردت ذبائح النذير وتقدمانه في عد 6: 14-21.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أنه كان يمكن للقديس بولس أن يُحضر القديس تيموثاوس كمثلٍ، إذ قام هو بختانه بنفسه، لكنه أذعن لرأيهم وفعل كل ما طلبوه، فإن هذا نافع لإزالة كل شيء، متحملاً كل النفقات.

بحسب الشريعة فإن الذين عليهم نذور يلزمهم ملاحظة الآتي في وقت تطهريهم: أن يمتنع الشخص عن الخمر والمسكر، ولا يأكل عنبًا طازجًا أو جافًا، ولا يقترب من جثمان (لشخصٍ ميتٍ) حتى وإن كان الشخص أباه أو أمه أو أخاه أو أخته (عد 6: 3-7)، وأن يقدم تقدمات حتى تكمل أيام نذره. وأن يحلق رأسه في فترة نذره (عد 6: 5)

يشير القديس بولس إلى مثل هذا الإجراء الذى مارسه بقوله: “صرت لليهودي كيهودي لأربح اليهود؛ وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس لكي يربح الذين تحت الناموس” (1 كو 9: 20). فكما في كرازته للأمم رأى ألا يعارضهم في الأمور غير الضرورية، تاركًا لهم حرية اللبس واللغة وعادات الأكل والشرب وغيرها مادامت لا تتعارض مع الإيمان، هكذا يرى ألا يقاوم اليهود فيما هم متمسكون به مادام ليس ضد الإيمان بالسيد المسيح.

v لم يتظاهر بولس بما هو ليس عليه، بل أظهر حنوًّا.

v من يقوم بتمريض شخص مريض، يصير كما لو كان هو نفسه المريض، لا بأن يتظاهر أنّه مصاب بحمّى، بل بالتفكير المتعاطف ماذا يود أن تكون المعاملة معه لو كان هو مريضًا.

القديس أغسطينوس

v في كل موضع يصير المخلّص… “كل شيء لكل أحدٍ”. فللجائع يصير خبزًا، وللعطشى ماءً، وللموتى القيامة، وللمرضى الطبيب، وللخطاة الخلاص.

القديس كيرلس الأورشليمي

v هل تظاهر بولس أن يكون كل شيء لكل البشر، بطريقة تحمل مداهنة؟ لا، بل هو رجل اللَّه، وطبيب الروح، القادر أن يشخّص كل ألمٍ، وباجتهادٍ عظيم يهتم بهم ويتعاطف مع جميعهم. جميعنا لدينا بطريق أو آخر شيء مشترك مع كل أحدٍ. هذا التعاطف هو ما تبنّاه بولس في تعامل مع كل شخصٍ بصفة خاصة.

أمبروسياستر

  1. شغب في الهيكل

“ولمّا قاربت الأيام السبعة أن تتم،

رآه اليهود الذين من آسيا في الهيكل،

فأهاجوا كل الجمع،

وألقوا عليه الأيادي”. [27]

قبلاً كان شاول الطرسوسى معروفًا في الهيكل، أما بعد هذه السنوات الطويلة فكثيرون، خاصة من الشعب، لم يعرفوه، بل صار غريبًا عنهم. بقي تقريبًا كل السبعة أيام في أيام التطهير داخل الهيكل ولم يشعر به أحد من المقاومين للإيمان المسيحي.

دخل الرسول الهيكل ومعه الأربعة ذوو النذر، وقد تطهر الجميع، متجها نحو رواق الكهنة للاتفاق معهم على أثمان الذبائح. وكان يظن أنه بهذا يهادن المتعصبين ضده من جهة الناموس. وإذ كان الوقت هو عيد الخمسين، وقد جاء اليهود من كل العالم، رآه الذين هم من آسيا، خاصة الذين من أفسس، وكانوا قد امتلأوا حقدًا ضد هذا الإسرائيلي المقاوم للناموس. تعرف عليه لا اليهود الذين في أورشليم وإنما الذين في الشتات، في آسيا الصغرى. لم يذهبوا إلى رئيس الكهنة، ولا إلى قضاة المدينة، ليقدموا اتهامات ضده، لأنهم ربما شعروا أن هذا التصرف الحكيم لن يحقق لهم اشتياقهم من جهة الخلاص من بولس، إنما لجأوا إلى شغب شعبي. إذ أحدثوا شغبًا داخل الهيكل دنسوه، وأفسدوا هدوءه وقدسيته تحت ستار الغيرة على الناموس وعلى قدسية الهيكل.

الآن صار في وسطهم بين أيديهم، داخل الهيكل، ليس من أعوان له من الأمم المتنصرين، ولا من قانون روماني يحميه داخل الهيكل، فوثبوا عليه وهيجوا الجمع اليهودي ضده بكونه مدنسًا للموضع المقدس. إنها ساعتهم وسلطان الظلمة (لو 22: 53).

“صارخين: يا أيها الرجال الإسرائيليون، أعينوا،

هذا هو الرجل الذي يُعلّم الجميع في كل مكان،

ضدًا للشعب والناموس وهذا الموضع،

حتى أدخل يونانيين أيضًا إلى الهيكل،

ودنّس هذا الموضع المقدس”. [28]

صارخين يا أيها الرجال الإسرائيليون“، أي يا أصدقاء ناموس موسى والمؤتمنون على حفظ الشريعة. “هذا هو الرجل“… هو بعينه الذي يشغل أذهان الكل حتى وإن لم يعرفوه بالوجه، هذا هو المقاوم للأمة الإسرائيلية ولناموس موسى والهيكل.

v قالوا: “أيها الرجال الإسرائيليون أعينوا“، كما لو كان هناك وحش ضخم يصعب اصطياده، ويصعب التغلب عليه، وقد سقط بين أيديهم. قالوا: “يعلم الجميع في كل مكان“، وليس هنا فقط. فالاتهام صار متفاقمًا للغاية في الظروف الحاضرة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“لأنهم كانوا قد رأوا معه في المدينة تروفيمس الأفسسي،

فكانوا يظنّون أن بولس أدخله إلى الهيكل”. [29]

رأوا تروفيموس معه في مدينة أورشليم، وظنوا أنه مرافق له أينما وجد، حتى داخل الهيكل. ما رآه الشعب هو بولس الرسول، لكنهم صدقوا أن في صحبته تروفيموس داخل الهيكل. كثيرا ما يصدق الشعب أكاذيب خلال رؤيتهم لنصف الحقيقة دون التأكد من الحقيقة كاملة. نصف الحقيقة أن بولس في الهيكل والنصف الكاذب أنه أدخل معه تروفيموس إلى الهيكل.

“فهاجت المدينة كلها،

وتراكض الشعب،

وأمسكوا بولس وجرّوه خارج الهيكل،

وللوقت أُغلقت الأبواب”. [30]

سرعان ما ثارت الجماهير التي في المدينة فسحبت الرسول بولس من دار إسرائيل إلى دار الأمم، ثم أغلقت الأبواب لمنع أي شغب متزايد داخل الهيكل.

إذ جروه خارج الهيكل وأغلقوا الأبواب بين رواق الأمم وباقي الهيكل ليقتلوه، نما الخبر إلى أمير الكتيبة، فأخذ عسكرًا وقواد مئات وركض إليهم. وبكل جهد أنقذوه وحموه بدروعهم وحملوه على أكتافهم.

يمكننا أن نتصور كيف أن اليهود القادمين من كل بلاد العالم قد حضروا إلى الهيكل كأقدس موضع على وجه الأرض، ليحتفل الكل بالعيد، وها هم يمسكون برجلٍ يدنس الهيكل كمن أُمسك في ذات الفعل. لا يمكن لإنسان أن يتصور مشاعرهم وقد أرادوا الفتك بمرتكب هذه الجريمة، إذ في ذهنهم أنه يود أن يجرد الكل من أعز ما لديهم: الهيكل والناموس والعوائد الدينية.

لقد ألقوا القبض عليه، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لم يحتاجوا بعد إلى شرائع ولا إلى المحاكم للعدالة، فقاموا بضربه، أما هو فاحتمل بصبر لكي يقدم دفاعه فيما بعد وحججه، لأنهم لم يسمعوا له.]

  1. تدخّل أمير الكتيبة

“وبينما هم يطلبون أن يقتلوه،

نما خبر إلى أمير الكتيبة أن أورشليم كلها قد اضطربت”. [31]

كانت قلعة أنتونيا Antonia حيث تقيم فيها الكتيبة العسكرية الرومانية، شمال غرب الهيكل، مرتبطة بالهيكل بمجموعتين من السلالم حتى يمكن سرعة تحركها عند الضرورة. كانت الكتيبة تضم ألفا من الجند. إذ سمع أمير الكتيبة بمحاولة قتل بولس أخذ معه على الأقل قائدي مئة ومائتين جنديا وتدخل لإنقاذ حياته.

بُنيت قلعة أنتونيا بواسطة رئيس الكهنة يوحنا هيركانوس Hyrcanus ودعاها باريس Baris، وقام هيرودس الكبير بتجميلها وتقويتها، ودعاها أنتونيا نسبة إلى صديقه مرقس أنطوني Mark Anthony، يصفها يوسابيوس بأن لها أربعة أبراج، أحدها يبلغ ارتفاعه 70 ذراعًا، تكشف كل ما يجري داخل الهيكل، تطل على الهيكل. وهي تحوي قشلاقات تسع لحوالي ألف جندي، كل منهم يتواجد بصفة دائمة على أهبة الاستعداد في أية لحظة.

الكلمة المترجمة “أمير كتيبة” وردت عدة مرات في العهد الجديد (مت 27: 65-66؛ يو 18: 12؛ أع 5: 26)، تشير إلى من يقود 1000 شخصًا. اسم أمير الكتيبة هو كلوديوس ليساس (أع 23: 26).

“فللوقت أخذ عسكرًا وقواد مئات وركض إليهم،

فلما رأوا الأمير والعسكر،

كفّوا عن ضرب بولس”. [32]

“حينئذ اقترب الأمير وأمسكه،

وأمر أن يقيد بسلسلتين،

وطفق يستخبر تُرى من يكون وماذا فعل”. [33]

لعله أراد بهذا أن يهدئ من روع الجماهير، بأنه لن يفلت أحد من يد العدالة، وفي نفس الوقت إذ يكون مقيدًا بعسكريين يكون في ذلك حماية له حتى تتم محاكمته. وربما قًيدت أيضًا رجلاه ولكن بطريقة تسمح له بالحركة، وبهذا تحققت نبوة أغابوس (أع 21: 11).

إذ كان الأمير قد خُدع من قبل من ذلك المصري الذي قام بثورة سابقًا، وهرب من بين يدي الجنود،احترس ليسياس هذه المرة، وقيد بولس بسلسلتين، كل منهما مربوطة بيد جندي، فاقتاده جنديان وهو مربوط من كلتا يديه، وقد أحاط به الجند حوله.

“وكان البعض يصرخون بشيء،

والبعض بشيء آخر في الجمع،

ولمّا لم يقدر أن يعلم اليقين لسبب الشغب،

أمر أن يذهب به إلى المعسكر”. [34]

إذ سأل الأمير الشعب الثائر: “من هو هذا الإنسان؟ وما هي جريمته؟” كانت الإجابة صرخات بلا معنى. لم يعرفوا حقيقة بماذا يتهمون الرسول؟ كان البعض يصرخ بشيء, وآخرون بشيء آخر. ولم يستطع الأمير ولا رجاله أن يتحققوا الأمر.

“ولمّا صار على الدرج اتفق أن العسكر حمله بسبب عنف الجمع”. [35]

حُمل بولس إلى القلعة، وقد تزايدت الصرخات، ولم يعرف أمير الكتيبة ماذا وراء هذا كله.

تشجعت الجماهير المحتشدة المتعصبة بلا فهم حين رأت فريستهم قد صارت في القيود. وإذ كان كثيرون منهم قد وضعوا في قلوبهم أن يسحقوه خدمة لله ولشعبه هجموا عليه وهو في وسط الجنود، وصاروا يضربونه ويلكموه بكل عنف من كل جانب وهم يصرخون: اقتله, اقتله. ولولا أن العسكر حملوه إلى الدرج لمزقته الجماهير.

“لأن جمهور الشعب كانوا يتبعونه صارخين: خذه”. [36]

كانت الجماهير في حالة هياج شديد, تساندهم بل وتدفعهم القيادات اليهودية الدينية لقتله. وارتبك الأمير ورجاله, إذ لم يجدوا تفسيرًا منطقيًا لما يحدث.

كان العسكر في حيرة بين ثورة الجماهير وعدم مبالاتهم بوجود الحراسة المشددة وبين ترقبهم للأوامر التي تصدر إليهم من الأمير. وفي وسط هذا كله لم يوجد شخص واحد يلتزم بالهدوء مع السلام الداخلي سوى الرسول بولس نفسه. إذ قارب أن يدخل المعسكر أومأ إلى الأمير ليسأله.

موقف غريب لم يره من قبل الأمير ولا توقعه, خاصة وقد لاحظ ما على سمات الرسول من هدوء, لذا اقترب منه يسمع إليه.

“وإذ قارب بولس أن يدخل المعسكر،

قال للأمير: أيجوز لي أن أقول لك شيئًا؟

فقال: أتعرف اليونانية”. [37]

تحدث الرسول مع أمير الكتيبة باليونانية، فدُهش لأنه كان يظنه يهودي مصري سبق أن صنع فتنة مدعيًا أنه نبي، خرج وراءه أربعة آلاف شخص إلى جبل الزيتون. وكما يقول يوسيفوس أنه قال لهم سيظهر لهم كيف تتساقط حصون أورشليم، وأنه سيعبر بهم خلال هذه الحصون الساقطة. كما يقول أنه جَمع 30000 نسمة ضللهم وذهب معهم إلى جبل الزيتون، وقال لهم أنه مستعد أن يدخل أورشليم بالقوة. قام فيلكس الوالي بإثباط هذه الحركة بقوى عسكرية قتلت 400 شخصًا منهم وأسروا 200 شخصًا. هرب المصري ولم يظهر بعد. لهذا كان طبيعيًا أن يظن أمير الكتيبة أنه المصري الهارب، قد عاد فثارت الجماهير عليه.

“أفلست أنت المصري الذي صنع قبل هذه الأيام فتنة،

وأخرج إلى البرية أربعة الآلاف الرجل من القتلة؟” [38]

إن كان يوسيفوس قد ذكر أنه خدع 30000 شخصًا، بينما يقول الأمير أنه خرج وراءه 4000 شخصًا، فإن ما ذكره القديس لوقا هو ما نطق به الأمير، وربما كان الأمير لا يود ذكر العدد كاملاً حتى لا يعطي لهذا المصري تقديرًا عظيمًا وقدرة على جذب هذا العدد.

يرى البعض أن تقدير الأمير أقرب إلى الحقيقة من تقدير يوسيفوس، لأن الأخير ذكر أن القتلة 400 والمقبوض عليه أحياء 200 شخصًا، وهذا العدد يكون قليلاً جدًا لو أن اتباع المصري 30000 نسمة.

“فقال بولس: أنا رجل يهودي طرسوسي،

من أهل مدينة غير دنية من كيليكية،

والتمس منك أن تأذن لي أن أُكلم الشعب”. [39]

حولت العناية الإلهية هذا الاضطراب للخير، فقد وجد الرسول بولس فرصته للحديث معهم، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أنه استطاع أن يجتذبهم للاستماع إليه بحديثه معهم بلغتهم المحلية هذا مع رقته ولطفه في الحديث.

اضطر الرسول أن يعلن عن موطنه فهو رجل يهودي شريف المولد، ولد في طرسوس التي اشتهرت بالعلم، وكانت تنافس الإسكندرية وأثينا. دعاها اكسنفون Xenophon مدينة عظيمة مزدهرة. وقال عنها يوسابيوس إنها العاصمة أكثر المدن شهرة بين البلاد الكليليكية. كيهودي من حقه الدخول في الهيكل، وممارسة العبادة فيه، وكرجل متعلم قادر أن يتحدث مع الشعب.

“فلما أذن له،

وقف بولس على الدرج،

وأشار بيده إلى الشعب،

فصار سكوت عظيم،

فنادى باللغة العبرانية، قائلاً:” [40]

وقف القديس بولس وهو قليل في جسمه, لكن كان الجميع يرونه وهو على أعلى درجات السلم. يقف بين العسكر وقد حملوا أسلحة برّاقة. كان مربوط بالسلاسل, لكنه كان سيد الموقف كله. هدوءه العجيب وسلامه الداخلي أدهش الكثيرين حتى من الثائرين ضده.

لم يحسب هذا الموقف مخزيًا له, بل كان في قمة المجد, كأنه قد صعد على سلم يعقوب, وارتفع إلى حيث الرب واقف, يحوط به العسكر السمائيون. ويتطلع بقلب ينبض حبًا نحو مقاوميه, لعل نعمة اللَّه تقتنصهم فيختبروا ما يتمتع به من أمجاد داخلية.

إذ وقف على الدرج المؤدي إلى القلعة أشار بيده للجموع، والعجيب أنه صار سكوت عظيم. هذه نعمة إلهية فائقة أن يصمت الثائرون ليسمعوا له. لم يكن يحلم الرسول بولس بهذه الفرصة الرائعة ليشهد لمسيحه أمام جميع طبقات الأمة اليهودية بكافة علمائها ورؤسائها وأتقيائها، أقام اليهود الذين من أورشليم والقادمين من كل أنحاء العالم. لقد وهبه الرب نعمة، فما أن أشار بيده حتى صار سكوت عظيم. يا له من أسير مربوط بسلسلتين صاحب سلطان، لكنه إذ يشير إلى الشعب ينصت منتظرًا أن يسمع منه كلمة.

تحدث معهم لا بالآرامية، لغة عامة الشعب، وإنما بالعبرانية العامية والتي يدعى سريانية-كلدانية، التي لا يتقنها سوى علماء اليهود والكهنة، لغة العبادة والطقس. سمعوه يتحدث بلغتهم الأصلية، لغة الكتاب المقدس، لغة الهيكل والعظماء، فصار سكوت عظيم.

 

من وحي أع 21

قيود الحريّة الماسيّة!

v كان رسولك بولس في طريقه إلى أورشليم،

وقد التهب قلبه شوقًا للشهادة لك في روما.

اشتهى العمل بين الأمم،

وإن كان سجينًا ومقيّدًا بالسلاسل.

لم يشغله ما سيعانيه في طريقه إلى روما

مادام روحك القدّوس قائدًا له.

v في صور توسّل إليه الإخوة،

ألاّ يصعد إلى أورشليم.

إنّهم مُدركون ما تنتظره من شدائد خطيرة حتى الموت.

والعالم كلّه في حاجة إلى كرازته!

v لم تشغله آلام الطريق،

إنّما بلوغ إنجيلك إلى عاصمة العالم!

في حب خرجت الجماهير رجالاً ونساء مع أطفال،

ليجثوا مع الرسول على الشاطئ،

ويقدّموا صلاة شكر لك يا مدبّر حياة الكنيسة وخدمتها.

v وفي قيصريّة تنبّأت بنات فيلبّس العذارى،

وربّما أعلن عمّا سيحلّ بالرسول.

جاء أغابوس يؤكّد تسليم الرسول للأمم لمحاكمته.

توالت المشورات والنبوّات،

أمّا قلب بولس فكان متعلّقًا بالشهادة لك.

انكسر قلبه بسبب إلحاح الجمع ألاّ يصعد إلى أورشليم.

إنّه مستعد لا أن يُربط فقط،

بل ويموت في أورشليم من أجل إنجيلك.

أحبته الجماهير في كل بلدٍ،

وأدرك الكل أنّهم في حاجة إلى كل دقيقة من حياة رسولك.

وأحبّهم رسولك مشتهيًا أن ينفَق ويُنفِق من أجلهم.

لكن حبّه لأجل نشر الكلمة يسمو فوق كل عاطفة!

v في تواضعٍ قبل رسولك مشورة الإخوة في أورشليم.

هاجت الجماهير في الهيكل ضدّه.

كثيرون اشتهوا قتله مع أنّهم لم يروه من قبل،

لكن تعصبّهم الأعمى أفسد بصيرتهم.

ليهج الكل،

وأمّا رسولك فيقف في سلامك العجيب ليشهد لك.

هب لي يا ربّما قلب بولس الناري للعمل لحساب ملكوتك!

v اسمح لي يا سيدي أن أرى بعينيك ما هو عليه رسولك.

أراه معك ليس واقفًا على درج الحبس,

بل محمولاً على الأذرع الأبدية.

قيوده أبرع جمالاً من كل حلىِ ذهبي.

قيوده كأنها مرصعة بالماس وكل حجارة كريمة.

يحيط به الجنود بعنفهم,

لكن حوله الملائكة يتهللون فرحًا وبهجة بقديسك!

يقف ليتكلم,

ولكن روحك القدوس هو الموجه لكل أحاديثه!

أي ملك أعظم من بولس؟

وأي رئيس أكثر منه قوة وسلطاناً؟

v تطلعت إليه القيادات اليهودية فرأته مستحق الرجم أو الصلب,

حتى يطهروا الأرض منه!

وتطلعت الجماهير إليه، تود أن تفتك به،

لأنه في نظرهم مجرم،

ولكن لا يدرون ما هي جريمته.

وتطلع إليه الأمير وقد انحنت نفسه أمام هدوءه العجيب وسلام قلبه الفائق.

وتطلع إليه العسكر في حيرة, إذ لم يروا سجينًا مثله!

وتطلعت إليه الطغمات السمائية وهي تطّوبه،

لأنه بفرحٍ يُصلب معك!

وتتطلع إليه أنت يا سيدي,

لترحب به في الملكوت!

طوباك يا بولس العجيب!

فاصل

سفر أعمال الرسل : 123456789101112131415161718192021222324  – 25262728

تفسير سفر أعمال الرسل : مقدمة1 23456789101112131415161718192021222324 25262728

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى