تفسير إنجيل لوقا – المقدمة للقمص تادرس يعقوب

 

لوقا البشير

v كلمة “لوقا” غالبًا اختصار للكلمة اللاتينية “لوقانوسLucanus ” أو “لوكيوس” وتعني “حامل النور”، أو “المستنير”. غير أنه يجب التمييز بين لوقا الإنجيلي ولوكيوس المذكور في (أع 13: 1)، وأيضًا لوكيوس المذكور في (رو 6: 21).

v هو الوحيد بين كتَّاب العهد الجديد الذي كان أمميًا ولم يكن يهوديًا بل، غالبًا من إنطاكية سوريًا؛ قَبِل الإيمان المسيحي دون أن يتهوّد. ويعلّل الدارسون ذلك بأن الرسول بولس حين أشار إليه في رسالته إلى كولوسى (كو 4: 14). لم يضمُّه إلى من هم من أهل الختان (4: 10-11) مثل أرسترخس ومرقس ابن أخت برنابا ويسوع المدعو يسطس .

v رأى البعض أنه كان أحد السبعين رسولاً، بل وأحد التلميذين اللذين ظهر لهما السيد بعد قيامته في طريقهما إلى عمواس (لو 24: 12)، وأن الرسول لم يذكر اسمه بروح التواضع؛ غير أن الرأي الغالب بين الدارسين المحدثين أنه لم يكن من الرسل، بل قَبِل الإيمان على يديّ الرسول بولس، مدلّلين على ذلك أولاً بافتقار السند التاريخي، وثانيًا لأن هذا الفكر يبدو متعارضًا مع مقدمة الإنجيل، إذ يقول الكاتب عن الأمور المختصة بالسيد المسيح: “كما سلّمها إلينا الذين كانوا من البدء معاينين وخدامًا للكلمة” (لو 1: 2)، وكأن الكاتب لم ينظر السيد المسيح بل سجّل ما تسلمه خلال التقليد بتدقيقٍ شديدٍ وتحقق من الذين عاينوا بأنفسهم. ولعلّه لهذا السبب يُعلق أحد الدارسين على هذا الإنجيل بقوله: “إنه عمل وليد إيمان الجماعة، قام على التقليد، وليس عملاً فرديًا”.

v كان القديس لوقا طبيبًا (كو 4: 14)، ورسّامًا، جاء في التقليد أنه رسم أيقونة السيدة العذراء.

v ارتبط القديس لوقا بالقديس بولس رسول الأمم بصداقة قوية، ففي سفر الأعمال أقلع الإنجيلي لوقا مع الرسول بولس من تراوس إلى ساموتراكي ثم إلى نيابوليس، ومن هناك إلى فيلبي (أع 16: 10-39 الرحلة التبشيرية الثانية). مرة أخرى في رحلة الرسول بولس التبشيرية الثالثة عند رجوعه تبعه الإنجيلي لوقا من فيلبى إلى أورشليم (أع 20: 5-21: 18). كما نراه مرافقًا له في روما عند الأسر (28: 30). وكان معه في لحظاته الأخيرة، إذ يقول في رسالته الوداعية: “لوقا وحده معي” (2 تي 4: 11).

v هكذا ارتبط الاثنان معًا، فسجل لنا الإنجيلي لوقا الكثير من عمل الله الكرازي خلال الرسول بولس في سفر الأعمال؛ ودعاه الرسول بولس: “الطبيب الحبيب” (كو 4: 14)، كما دعاه بالعامل معه (فل 24).

v قيل أنه عاش بتولاً، عمل في أخائية (باليونان)، استشهد في الرابعة والثمانين من عمره وأن الإمبراطور قسطنطينوس الثاني نقل رفاته إلي القسطنطينية عام 357م، وفي عام 1177م نقلت إلى Padau بإيطاليا.

نسبة السفْر إليه

  1. جاءت شهادة الكنيسة في القرون الأولى واضحة أن الكاتب هو لوقا البشير، كاتب سفر الأعمال ورفيق الرسول بولس، كما يظهر من كتابات الآباء يوستين الشهيد وإيريناؤسوأوريجينوس وترتليان.
  2. بجانب هذه الأدلة الخارجية، السفر نفسه يحمل دلائل علي أن كاتبه هو معلمنا لوقا. فمنها أن هذا السفر موجّه إلى “ثيؤفيلس” نفس الشخص الذي وُجّه إليه سفر أعمال الرسل، بل وجاءت مقدمة سفر الأعمال تكمل خاتمة إنجيل لوقا، فالكاتب واحد. والسفران متشابهان في اللغة والأسلوب والأفكار. هذا والتعبيرات الدقيقة التي استخدمها في وصف الأمراض التي شفاها السيد المسيح تدل على أن الكاتب طبيب، فكطبيب احترامًا منه لمهنة الطب لم يقل ما ذكره مرقس الرسول عن نازفة الدم: “قد تألمت كثيرًا من أطباء كثيرين وأنفقت كل ما عندها، ولم تنتفع شيئًا، بل صارت إلى حال أردأ” (مر 5: 26)، إنما اكتفى بالقول: “قد أنفقت كل معيشتها للأطباء، ولم تقدر أن تُشفي من أحد” (لو 8: 43).

تاريخ كتابته

لا يوجد تقليد ثابت بخصوص تاريخ كتابته أو مكان كتابه، فالقديس إيريناؤس يرى أنه كُتب قبل استشهاد القديس بولس، بينما القديس جيروم معتمدًا على المؤرخ يوسابيوس القيصري يراه كتب بعد استشهاد الرسول بولس.

لما كان هذا الإنجيل قد كُتب قبل سفر الأعمال، و كُتب الأعمال قبل استشهاد الرسول بولس حتى أنه لم يشر إلى هذا الحدث، لهذا اعتقد كثير من الدرسين أنه كتب ما بين عام 63 و67م. كتبه غالبًا في روما، وإن كان قد رأى البعض أنه كُتب في أخائية أو في الإسكندرية.

غايته

إن كان معلمنا متى البشير كيهودي كتب لليهود ليعلن أن يسوع هو المسّيا الملك، الذي طالما ترقّب الآباء والأنبياء مجيئه، ليكون لهم نصيب في ملكوته الروحي الأبدي، فإن مار مرقس كتب للرومان ليُعلن أن يسوع هذا هو الخادم العامل، لا بروح السلطة الزمنية والتشامخ والعنف، بل بروح البذل، فيخلص بأعمال محبته لا بجيوش وقوات زمنية. أما معلمنا لوقا البشير فكأممى طبيب مثقف أراد أن يخدم أصحاب الفكر الهيليني، فكتب لليونان عن السيد المسيح بكونه “صديق البشرية كلها”، يقدم لها أعماله الإلهية الخلاصية، لتحقيق ما عجزت عنه الفلسفة اليونانية والحكمة البشرية.

لهذا يُدعى هذا الإنجيل: “إنجيل الصداقة الإلهية” أو “إنجيل المسيح المخلص“. كما دُعي بالإنجيل المسكوني بكونه يمثّل دعوة للبشرية كلها لتقبل نداء صديقها السماوي، لتتجاوب مع عمله الخلاصي خلال الحب. هذه الغاية سنراها واضحة خلال حديثنا عن سمات هذا السفر.

كتب القديس لوقا هذا الإنجيل لصديقه العزيز ثاؤفيلس (1: 3). لقَب “العزيز” وهو لقب شرف، لهذا جاء الرأي الغالب أنه أحد أشراف الإسكندرية، من أصل إنطاكي كلوقا البشير نفسه، فكتب إليه كأممى مثله، لا لينتفع منه وحده، وإنما كما قال العلامة أوريجينوس لينتفع به المنتصرون من الأمم بوجه عام.

لقد ظن البعض أن لوقا هذا كان عبدًا لسيده ثاؤفيلس الأممي، وإذ عالجه كطبيب وشُفي كافأه بالعتق من العبودية، فبعث إليه الطبيب لوقا هذا الإنجيل علامة امتنانه وشكره. وآخرون قالوا أن كلمة “ثاؤفيلس” وهي تعني “المحب لله” إنما هو اسم استنكاري لأحد أشراف الإسكندرية لم يفصح عنه الإنجيلي حتى لا يتعرض لمتاعب بسبب مسيحيته. على أي الأحوال، فإن هذا السفر موجه للأمم بوجه عام ليتمتعوا بصديقهم السماوي كمخلص لنفوسهم.

سماته

  1. إذ قدّم لنا الإنجيلي السيد المسيح بكونه “المخلص صديق البشرية“، كثيرًا ما حدثنا عن “ابن الإنسان” جاء إلينا يحمل إنسانيتنا لكي يهبنا شركة الطبيعة الإلهية. فإن كانت الفلسفات اليونانية قدمت أفكارًا مجردة، لكنها لا تستطيع أن تحتل القلب وتُغير الأعماق، أما ابن الإنسان فجاء صديقًا للإنسان حتى يقبله في داخله، فيهبه خلال هذه الصداقة الفريدة إمكانيات فائقة تعمل في أعماقه وتنعكس على تصرفاته. دعوته للسيد “ابن الإنسان” تحطّم شعورنا بغربتنا عن الله، أو غربته عنّا إذ نزل إلينا ليرافقنا طريقنا.
  2. أهم سمة لهذا الإنجيل إنه إذ يقدم “المخلص الصديق” يقدمه للبشرية كلها، فهو إنجيل مسكوني. هو دعوة للجميع وليس لليهود فقط. لهذا نلاحظ فيه الآتي:

أ. إذ كان اليهود يتطلعون إلى أنفسهم أنهم أبرار وبقية الشعوب خطاة، يعلن الإنجيلي أن السيد المسيح هو “صديق الخطاة”، فانفرد بقوله أن ابن الإنسان، قد جاء يطلب ويخلص ما قد هلك (19: 10)، كما قدّم لنا مجموعة كبيرة من أقوال السيد وأمثاله توضح صداقة يسوع المسيح وحنوّه على الخطاة، مثل المثل الخاص بطول الأناة على شجرة التين العقيمة (13: 6-9)، مثل الخروف الضال، والدرهم المفقود، والابن الضال (15)؛ كما قدّم لنا قصة المرأة الخاطئة (7: 36-50)، وتوبة زكا العشار (19: 1-10)، والوعد للّص التائب على الصليب (23: 40-43) الخ.

ب. اقتبس العبارات والأحداث التي تفتح أبواب الرجاء للأمم، كقول إشعياء النبي: “كل جسد يرى خلاص الرب”، ورسالة إيليا النبي إلى أرملة صرفة صيدا الأممية (4: 25)، ورسالة إليشع إلى نعمان السرياني الوثني الأممي (4: 27).

ج. ذكر إرسالية السبعين رسولاً، فإن كان الإثنا عشر تلميذًا يمثلون دعوة اليهود (الإثني عشر سبطًا) فإن رقم 70 يشير إلى ملء الأمم.

ء . في نسب السيد المسيح لم يبدأ بإبراهيم بل بآدم أب كل البشرية (3: 38).

  1. إذ هو سفر الصداقة الإلهية المتّجهة نحو الإنسان، فإن هذه الصداقة مقدّمة أيضًا للأطفال والنساء، مقدسًا الطفولة، ورافعًا من شأن المرأة ودورها الإيجابي، كما أعطى اهتمامًا خاصًا بالفقراء والمعوزين والمطرودين والمنفيين:

من جهة الأطفال انفرد بذكر ميلاد يوحنا المعمدان وطفولته، وأيضًا بشارة العذراء بميلاد الطفل يسوع في شيء من التفصيل، وابتهاج الجنين في أحشاء أليصابات عند دخول القديسة مريم وسلامها على اليصابات، وختان الطفل يسوع، ودخوله الهيكل مع القديسة مريم في يوم الأربعين، وذهابه الهيكل في الثانية عشر من عمره الخ.

من جهة المرأة فقد لاحظ بعض الدارسين أن لوقا البشير إذ قدّم إنجيله المسكوني (الجامعي) أعطى اهتمامًا خاصًا بالمرأة أكثر من بقية الإنجيليين. ففي العالم الهيلينى يبدو أن مركز المرأة اجتماعيًا وقانونيًا أفضل منه عند اليهود في ذلك الحين، لذلك أراد الإنجيلي إظهار أن الرسالة الإنجيلية لا تحدّها التقاليد اليهودية. انفرد الإنجيلي بذكر حنّة الأرملة المتعبدة في الهيكل (2: 36)، كما سجّل لنا خدمة مرثا وجلوس مريم أختها عند قدميّ المخلص تنعم بكلماته.

اهتم الإنجيلي بالفقراء والمعوزّين والمطرودين والمنفيين. فأُرسلت البشارة إلى فتاة الناصرة الفقيرة، واهتمت الملائكة بالرعاة البسطاء، وحدّثنا السيد عن الغني ولعازر المسكين، ووليمة العُرج والعُمي والعُسم، ومثل السامري لصالح، ومثل العشار، وقصة الزانية في بيت سمعان الفريسي، ومثل الابن الضال، وقصة مريم المجدلية، وقبول اللص التائب على الصليب الخ. يقول أحد الدارسين: [لقد ظهر اهتمامًا بالأقلّيات والجماعات المعزولة والمنبوذة، مثل السامريين والبرص والعشارين والجنود، وعامة الخطاة الذين في خزي، والرعاة الأممين والفقراء، وهؤلاء جميعًا يجدون تشجيعًا في هذا الإنجيل].

  1. يرى البعض مثل Leon-Dufour أنه يمكن إطلاق تعبير “الإنجيل الاجتماعي” على إنجيل معلمنا لوقا البشير في شيء من التحفظ، معلّلاً ذلك بأنه قد عرض الكثير عن الالتزام بالعطاء للفقراء (3: 10؛ 14: 12-14)، معلنًا عقوبة من لا يساهم في احتياجاتهم (16: 25)، كما أبرز الالتزام بعدم الظلم أو الوشاية (3: 10-14).

يصعب أن ندعو إنجيلاً بأنه اجتماعي وآخر أنه روحي، فإن الحياة الإيمانية وحدة واحدة لا تتجزأ. إن قُدّم العمل الروحي فلا يتجاهل الجانب الاجتماعي، والعكس إن قُدّم عمل اجتماعي فمن واقع روحي. فما أبرزه الإنجيل بخصوص الاهتمام بالفقراء والمعوزين والمتألمين والمظلومين، إنما هو ثمر طبيعي لتذوقنا صداقة السيد المسيح لنا، بكونه الصديق المهتم بالجميع خاصة المحتاجين روحيًّا أو ماديًّا أو اجتماعيًّا أو نفسيًّا. فيليق بنا كأصدقاء للسيد المسيح أن نردّ حبه بالحب، ونحمل سماته فينا، فما يُقدمه لنا يحملنا أن نقدّمه بصورة أو بأخرى لإخوتنا.

  1. كصديقٍ لنا ليس فقط يقدم لنا السيد المسيح الخلاص على الصليب، إنما خلال هذا الحب الذي يدخل إلى حياتنا اليومية، نراه يشاركنا حتى في ولائمنا ويدخل بيوتنا. فنجده يتناول العشاء في بيت سمعان الفريسي، ويقبل وليمة زكا العشار، ويستجيب لدعوة تلميذي عمواس واستضافتهما له.

وكصديق لنا لا يطلب العنف ولا يقبل التعصب، فنراه يوبِّخ يوحنا لأنه طلب نارًا تأكل أهل السامرة (9: 54)، وزجر التلاميذ قائلاً: “من ليس علينا فهو معنا” (9: 50). إنه “إنجيل الرحمة” أي “إنجيل الغفران العظيم“.

وكصديق لنا يشتاق أن نقبل صداقته ونتجاوب مع حبه، لذا كثيرًا ما يثيرنا لقبول هذه الصداقة بتقديم مقارنات مثل:

* سمعان الفريسي والمرأة الخاطئة، فقد قدّم الأول بيته ومائدته دون قلبه، أما المرأة بالرغم من عطاياها الكثيرة لكنها عرفت بالحب أن تتمتع بالصداقة والغفران.

* الفريسي والعشار، الأول دخل الهيكل وله أعمال ناموسية يعتز بها، لكن في كبريائه لم يقدر أن يصادق الرب، بينما استطاع العشّار وهو في آخر صف أن يدخل إلى قلب الصديق الأعظم خلال التواضع.

* السامري الصالح واللاوي والكاهن، تمتع الأول بالدخول في هذه الصداقة والتجاوب معها خلال اتساع قلبه للبشرية، بينما خسر رجلي الدين الصداقة خلال ضيق قلبيهما.

* الابن الضال والابن الأكبر، نال الأول البركة وتمتع بالصداقة خلال التوبة والرجوع، بينما فقد الابن الأكبر علاقته بالأب بسبب كبريائه.

* اللص التائب واللص الهالك، اغتصب الأول الملكوت في اللحظات الأخيرة.

* التطويبات والويلات.

  1. إن كان الفكر اليوناني قد ساد العالم في ذلك الحين، لكنه لم يقدّم للبشرية شعبًا صادقًا، وفرحًا حقيقيًا، وعاش الإنسان يطلب كل يوم فلسفة جديدة أو فكرًا لم يُسمع عنه من قبل. لذلك كتب الإنجيلي لوقا هذا السفر ليعلن أن المسيح صديق البشرية، هو واهب الفرح الداخلي والتسبيح. فقد ضمّ الكثير من التسابيح التي تعتز بها الكنيسة وتستخدمها في عبادتها وليتورجياتها، مثل تسبحة الميلاد الملائكية (2: 14)، وتسبحة زكريا (1: 68-79)، وتسبحة القديسة مريم (1: 46-55)، وتسبحة سمعان الشيخ (2: 29-32).

مجيء الصديق المخلص خلق جوًا من الفرح. فقد افتتح السفر بحديث الملاك لزكريا الكاهن عن القديس يوحنا السابق لهذا الصديق المخلص، قائلاً: “ويكون لك فرح وابتهاج وكثيرون سيفرحون بولادته” (1: 14). كما يروي أن ولادته قد أصبغت فرحًا على الكثيرين (1: 58). أما ميلاد السيد فرافقه انفتاح السماء على الأرض للكرازة بها: “ها أنا أبشركم بفرحٍ عظيمٍ يكون لجميع الشعب” (2: 10). وعندما عاد الرسل السبعين من كرازتهم يقول: “فرجع السبعون بفرح قائلين: يا رب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك” (10: 17)، بل قيل: “وفي تلك الساعة تهلل يسوع بالروح، وقال: “أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض، لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال، نعم أيها الآب هكذا صارت المسرة أمامك” (10: 21). وكأن الكرازة بهذا الصديق الفريد قد هلّلت قلب المخلص نفسه من أجل البسطاء، وهي موضع سرور الآب، بل أعلن أنه يكون فرح حتى في السماء عند توبة الخطاة (15: 7، 10، 32).

إنه فرح داخلي يملأ قلب الخاطئ التائب، عندما يجد في صديقه كل الشبع، إذ قيل عن زكا: “فأسرع ونزل وقبله فرحًا” (19: 6). وفرح للجماعة كلها، إذ قيل: “وفرح كل الجمع بجميع الأعمال المجيدة الكائنة منه” (13: 7). كما قيل عن دخوله أورشليم: “ابتدأ كل جمهور التلاميذ يفرحون ويسبحون الله بصوت عظيم لأجل جميع القوات التي نظروا” (19: 37). وقد ختم السفر بالفرح بالصديق القائم من الأموات والصاعد إلى السماوات، إذ قيل عن التلاميذ حين ظهر لهم صديقهم العجيب: “وبينما هم غير مصدّقين من الفرح ومتعجبون…” (24: 41). وأيضًا بعد صعوده مباشرة: “رجعوا إلى أورشليم بفرحٍ عظيمٍ” (24: 51).

هكذا جاء السيد المسيح يحقق سرور الآب، ويفرح هو بالبشرية المخلََّصة بدمه، وتفرح معه السماء، كما ملأ تلاميذه ورسله فرحًا وسكب على كنيسته بهجته، وأيضًا على الخطاة التائبين. ولكي يميز بين هذا الفرح وفرح العالم المؤقت ضرب لنا مثل الغني الغبي الذي قال لنفسه: “استريحي وكلي واشربي وافرحي” (12: 19)؛ لكنه لم يستطع أن يفرح، إذ سمع الصوت الإلهي: “يا غبي هذه الليلة تُطلب نفسك منك” (12: 20). هذا كله دفع البعض إلى تلقيبه “إنجيل الفرح المسيحاني“.

  1. إذ جاء السيد المسيح صديقًا لنا، قدّم لنا نفسه مثالاً، فظهر كمصلّي في مواقف كثيرة منها عند عماده (3: 21)، وبعد تطهير الأبرص، وقبل دعوة الإثني عشر تلميذًا (6: 12)، وعند التجلي (9: 28)، وعلى الصليب من أجل صالبيه، وفي اللحظات الأخيرة من حياته على الأرض. لقد أراد أن يعلن “الصلاة” كسِرّ لصلتنا بالله وصداقتنا معه. ظهور السيد كمصلّي إنما يعني أيضًا أنه حملنا فيه لننعم بالاتصال بالآب.

في هذا السفر يحدثنا السيد عن الصلاة أكثر من بقية الأسفار، فوَرد فيه الصلاة الربانية، وشدّد على ضرورة الاستمرار في الصلاة والمثابرة فيها، مقدمًا مثَل الصديق المحتاج لثلاثة أرغفة يذهب إلى صديقه ويطلب بلجاجة، ومثَل قاضي الظلم الذي استمع للأرملة من أجل لجاجتها.

  1. يرى البعض أن الأناجيل بوجه عام، وإنجيل لوقا بوجه خاص، لم تهدف إلى مجرد عرض لحياة السيد المسيح أو تاريخه، قدر ما هدفت إلى تقديم الكنيسة التي عاش فيها السيد المسيح حيًّا يعمل لأجلها. فهي تتحدث عن مسيح الكنيسة كما تتذوقه بالتفافها حوله وثبوتها فيه. فالقديس لوقا في إنجيله يعرض بوحي الروح القدس حياة الكنيسة خلال وجوده على الأرض بالجسد، بينما في سفر الأعمال يعرض حياتها بعريسها خلال وجوده عن يمين الآب بعد الصعود، واهبًا إيّاها روحه القدوس. إنه الصديق العامل بلا انقطاع، كان يعمل حين وُجد بالجسد هنا، ولا يزال يعمل بعد صعوده حتى يلتقي بنا على السحاب.

ساد في الكنيسة الأولى إحساس بأن قدوم السيد المسيح اقترب جدًا، وأنه يتحقق في العصر الرسولي، الأمر الذي عالجه الرسول بولس في رسالته الثانية إلى أهل تسالونيكي، مؤكدًا أن السيد لن يأتي إلا بعد ظهور إنسان الخطية، وتحقق حركة الارتداد. فإن معلمنا لوقا حمل ذات الاتجاه معلنًا في هذا السفر كما في سفر الأعمال أن موت السيد وقيامته وصعوده المجيد، لا يعني مجيئه الثاني في الحال. ولا بعد خراب أورشليم مباشرة، إذ أساء البعض فهم كلمات الإنجيلي مرقس (14: 62؛ 9: 1)، فقد أعلن أن ملكوت المسيا حقيقة واقعة تتم أولاً في الكنيسة هنا، وتتحقق في القلب، وينضم إلى الكنيسة كل يوم الذين يخلصون. كأن مجيء السيد يتحقق أولاً بحلوله في قلوب المختارين، وإذ يكمل عمله هنا في العالم يأتي على السحاب.

  1. يرى بعض الدارسين أن إنجيل لوقا جاء مطابقًا للأسفار الستة الأولى من العهد القديم هكذا:

ا. سفر التكوين الجديد يصف ميلاد السيد المسيح وطفولته، هذا الذي به تتحقق الخليقة الجديدة، فبظهور آدم الثاني انطلقت البشرية إلى عالم جديد.

ب. الخروج الجديد تحقق بتجربة السيد المسيح في البرية أربعين يومًا، حيث غلب لحسابنا، مقابل تيه شعب إسرائيل أربعين سنة بعد خروجهم وسقوطهم المستمر في التذمر.

ج. سفر اللاويين الجديد هو إقامة الإثني عشر تلميذًا، وتقديم العظة الخاصة بسيامتهم كسفر اللاويين آخر (6: 20).

د. سفر العدد الجديد هو إرسالية السبعين رسولاً.

هـ. القسم الخاص بسفر التثنية يمثل النصيب الأكبر من الإنجيل حيث يضم أجزاء كثيرة من تعاليم السيد خاصة في (9: 51- 18: 14).

و. سفر يشوع الذي قدمه معلمنا لوقا هو قصة آلام السيد المسيح وقيامته، فقبول راحاب الزانية يقابله زكا العشار (لو 19: 1-2).

  1. أبرز الإنجيلي لوقا دور الروح القدس، فأعلن الملاك عن يوحنا المعمدان أنه يمتلئ من الروح القدس من بطن أمه (1: 15). كما أبرز عمل الروح القدس في التجسد الإلهي (1: 35)، وعمله أيضًا في الأحاديث النبوية (1: 67؛ 2: 25-27)، وفي المعمودية (3: 16)، وظهوره في عماد السيد (3: 22). هكذا يربط عمل السيد المسيح بعمل روحه القدوس (4: 1، 14، 18؛ 10: 21؛ 11: 13؛ 10: 12).
  2. دُعي هذا السفر بإنجيل الشمول، إذا حوى الكثير من القصص التي لم ترد في الأناجيل الأخرى وأيضًا الأمثال، يسنده في هذا علاقته الوثيقة بالقديسة مريم.

انفرد بذكر المعجزات التالية: صيد الأسماك (5: 4-11)، إقامة ابن أرملة نايين (7: 11)، المرأة التي بها روح الضعف (13: 11-17)، الرجل الأبرص (14: 1-6)، العشرة برص (17: 11-19)، شفاء أذن ملخس (22: 50-51).

انفرد أيضًا بذكر الأمثال التالية: المديونان (7: 41-43)، السامري الصالح (14: 25-37)، الصديق اللجوج (11: 5-8)، الغني الغبي (12: 16-20)، شجرة التين غير المثمرة (13: 6-9)، الدرهم المفقود (15: 8-10)، الابن الضال (15: 11-32)، الوكيل الخائن (16: 1-13)، الغني ولعازر (16: 19-31)، الفريسي والعشار (18: 10-14).

كما انفرد بذكر أحداث معينة مثل إجابة يوحنا المعمدان على الشعب، بكاء المسيح على أورشليم، موضوع حديثه مع موسى وإيليا عند التجلي، العرق الذي نزل من جبينه كقطرات الدم، خطابه لبنات أورشليم، لقاء السيد مع تلميذيّ عمواس، وأيضًا تفاصيل خاصة بصعوده.

  1. من جهة الأسلوب فكما سبق فتحدثنا في أكثر من موضع أن الروح القدس إذ يعمل في الكاتب ويلهمه بالكتابة لا يفقده شخصيته، بل يستغل قدراته ويلهمه ويحصّنه من الخطأ. وقد ظهرت قدرات معلمنا لوقا البشير من جهة الأسلوب، فكطبيبٍ اتسم بالفحص الدقيق، فجاء محققًا للأمور. وأيضًا كطبيبٍ ورسام في نفس الوقت جاء رقيقًا في أسلوبه، يحمل لمسات شعرية لطيفة وعذبة، حتى صار إنجيله مصدرًا للفنانين يستوحون منه أيقوناتهم.

وأيضًا كصديق ورفيق للقديس بولس في كثير من أسفاره أوجد شيئًا من التشابه بين كتاباتهما، مما جعل العلامة ترتليان يقول بأن الإنجيلي لوقا قد استنار بالرسول بولس.

(راجع لو 4: 22 مع كو4 : 6؛ لو 4: 32 مع 1 كو2: 4؛ لو6: 36 مع 2 كو 1: 3؛ لو 6: 39 مع رو 12: 19؛ لو 9: 56 مع 2 كو 10: 18؛ لو 10: 8 مع 1 كو 10: 23؛ لو 11: 41 مع تي 1: 15؛ لو 18: 1 مع 2 تس 1: 11؛ لو 21: 36 مع أف 6: 18؛ لو 22: 19-20 مع 1 كو 11: 23-29؛ لو24: 34 مع 1 كو 15: 5).

أقسامه

  1. صديقنا صار مثلنا 1-3.
  2. صديقنا يجرَّب مثلنا 4.
  3. صديقنا يشعر بآلامنا 5-18.
  4. صديقنا المخلص 19-23.
  5. صديقنا القائم من الأموات 24.

فاصل

إنجيل القديس لوقا: 1234567891011 12131415161718192021222324 

تفسير إنجيل القديس لوقا: مقدمة123456789 101112131415161718192021222324 

فاصل

 

تفسير إنجيل القديس لوقا
القمص تادرس يعقوب

الأصحاح الأول

تفسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى