الأنبا برسوم العريان

الاضطراب الناتج عن الحروب

كان تورانشاه آخر الملوك الأيوبيين . وكان الشرق الأوسط في عهده وعهد أبيه الملك الصالح يسوده الاضطراب الناشىء عن الحروب الصليبية ولما كانت الحروب التي قام بها الصليبيون لم تنته بانتصار حاسم فقد ظلت نيرانها تصلي الشرق فترة طويلة . 

وفي سنة 1260 م انتصر الملك الصالح على الصليبين انتصارا أتاح له أن يسيطر على المنطقة الواقعة من غزة جنوبا إلى القدس شمالاً ، فحفزه هذا الانتصار على الزحف نحو حمص ولكنه اضطر إلى البقاء في دمشق لمرضه . وبينما هو هناك بلغه أن امدادات جديدة في طريقها إلى الشرق ، وأن خمسين ألفا من الجنود الفرنسيين بقيادة ملكهم لويس التاسع يزحفون على دمياط . فنسى الملك الصالح مرضه وبدأ يستعد للمعركة . ولم يلبث أن وصل إلى دمياط وقام بتحصين المنطقة التي عرفت فيما بعد باسم مدينة المنصورة للنصر الذي تم فيها على لويس التاسع غير أن المنية عاجلت الملك الصالح قبل أن يصطدم فتولى ابنه تورانشاه – المعركة . وبعد جزر و مد انتصر المصريون انتصارا ساحقا وأسروا الملك لويس التاسع والضابط الذي يليه في القيادة وهو السنيور دی جوانفیل وسجنوهما في دار بن لقمان ثم اضطروا الفرنسيين إلى دفع فدية عن ملكهم مقدارها مئة ألف جنيه ، وإلى الأجلاء تماماً عن الأراضي المصرية بلا قيد ولا شرط . وكان هذا النصر المبين نهاية الحروب الصليبية في مصر . وفي فترة المفاوضات مع الجيوش المغيرة تأمر المماليك البحريون على الملك تورانشاه وقتلوه بالاتفاق مع زوجته شجر الدر . فأخفت خبر مقتله وأتمت المفاوضات وبعد انسحاب الفرنسيين أعلنت النبأ وتولت الملك بنفسها .

 وبين الرجال الذين ائتمنهم شجر الدر على خدمتها قبطي اسمه الوجيه مفضل الذي اتخذته كاتما لأسرارها ( سكرتيراً ) وكان الوجيه مفضل وزوجته يتقيان الله ويحفظان وصاياه ، فكانا يوزعان المال الوفير على المعوزين والمسجونين . وكان لهما ولد وحيد اسمه برسوم .

زهد برسوم العريان

 ولما بلغ برسوم سن الشباب فقد والديه . ولاحظ أن خاله طامع في الثروة التي خلفاها له فتنازل له عنها وعاش في مغارة خارج الفسطاط مدة خمس سنين قضاها في النسك والعبادة . ولتقشفه لم يستتر بغیر منطقة من جلد الماعز حول حقويه فأطلق عليه مواطنوه لقب « العريان » ثم ترك المغارة وقصد إلى كنيسة القديس مرقوريوس ( المعروف بأبی السيفين ) لأن بها حجرة مربعة أشبه بالمغارة واقعة عن شمال الداخل إلى الكنيسة وهي منخفضة عن سطح الكنيسة يصلها الزائر بهبوط خمسة عشر درجة ، وحينما دخلها الأنبا برسوم لأول مرة وجد بها ثعباناً ضخماً . فرسم بعلامة الصليب المقدس وهتف مع داود النبي: « على الأفعی وملك الحيات تطأ وتسحق الأسد والتنين … الرب نوری وخلاصی ممن أخاف” ولبد الثعبان في ركنه في سكون تام وعندها وجه القديس إليه الخطاب قائلا : « من الآن تكف عن ايذاء الناس وتخضع لى للسلطان الذي منحه إيای ربی عليك ، وقد خضع الثعبان له بالفعل وعاش مع القديس في المغارة عينها عشرين سنة . ولقد أقيم مذبح في هذه المغارة بعد حياة الأنبا برسوم ، وتقام عليه شعائر القداس الإلهي مرة في السنة في يوم ذکری نیاحة القديس . 

الأنبا برسوم ومعلم الأطفال

 ولقد ذاع صيت برسوم العريان في كل الأرجاء فقصد إليه المصريون – قبطاً ومسلمين – لينالوا بركته وليسترشدوا بحكمته الروحية في أمورهم الخاصة . ومن بين الذين جاءوا إلى المغارة طلباً لنصحه وتوجيهاته معلم أطفال اسمه مكين . وكان هذا المعلم قد سئم مهنة التدريس لما فيها من عناء ولما يتعرض له القائم بها من مضايقات تأتيه من أولياء الأمور أكثر مما تأتيه من تلاميذه . ولما سئمها فكر في أن يستبدلها بمهنة أخرى . ولكنه قرر أن يستشير القديس قبل أن ينفذ رغبته فعلاً . فلما وصل إليه وجلس بين يديه تفرس فيه القديس في هدوء وابتسام وابتدره بالحديث قائلا : « حضورك في هذه الساعة من قبل الله ، وشعر مكين بشيء من الدهشة وتعلقت عيناه بوجه القديس الذي استطرد يقول : ” انسان يبتغي أن يبنى كنيسة مثل هذه البيعة التي للشهيد العظيم أبی السيفين – ترى كم من المال والجهد ينبغي عليه أن يصرف في هذا السبيل ، أجابه مكين : «لا ياسيدي الأب – أنها تحتاج إلى مال كثير ولا يستطيع أن ينهض واحد بمفرده باقامتها . فكرر الأنبا برسوم العريان السؤال عينه على مكين مرتين أخرتين وهو يجيبه نفس الأجابة . وبعد ذلك قال له القديس : « إذا حفظہ طفل « أجيوس ، التي تفسيرها قدوس الله إلى آخرها وسبح بها وبغيرها من الألحان الكنسية في البيعة المقدسة كان معلمه عند السيد المسيح أبر وأكثر قبولاً ممن يصرف الأموال الجزيلة على عمارة الكنائس . لأن صناعة التعليم والمداومة على تلاوة كتب الله وأغاني الروح أفضل من سائر الصنائع . ولقد تعزي قلب المعلم مكين بهذه الكلمات . فنهض و عاد إلى تدریسه هانیء النفس.

الضيق يعقبه فرج

ثم اشتعلت إذ ذاك فتنة أثارها بين الرعاع مغربي كان ماراً بمصر في طريقه إلى الحج . ونتج عن هذه الفتنة أن قبض الوالي على عدد كبير من القبط من بينهم برسوم العريان الذي ما أن وجد نفسه داخل السجن حتى أخذ يضرع إلى الله لكي يرفع عن شعبه ما حل بهم من بلاء . فاستجاب الآب السماوي إذ صدر الأمر بالافراج عنه وعمن معه من المسجونين القبط ، كما صدر أمر بالكف عن مضايقة القبط ، وتأمينهم على أعمالهم.

ولما خرج القديس من السجن قصد إلى دير شهران حيث عاش فوق سطحه مداومة على نسکه وتأملاته واستشفاعه في شعبه . ثم انتقل إلى بيعة الأبكار في الستين من عمره .

وقد بنى القبط كنيسة على اسم الأنبا برسوم العريان في المعصرة – حوالي منتصف الطريق بين القاهرة وحلوان . ولا تزال هذه الكنيسة قائمة حتى الآن يذهب إليها مئات الزائرين في أيام تذکار هذا القديس . .

ومن الملاحظ أن هذا القديس يذكر اسمه على المذبح المقدس وقت رفع الذبيحة مع زميل له هو القديس رويس الملقب «تیجی» وهما لم ينالا أي رتبة كنسية ولا قبلا الطقس الرهباني ولا نالا الشهادة ، ولكن سيرة حياتهما وزهدهما الشديد وحبهما للتجرد من مظاهر الدين والدنيا معا أهلتهما لدى الكنيسة الواعية اليقظة لينالا كرامة كأعظم القديسين .

زر الذهاب إلى الأعلى