تفسير إنجيل لوقا أصحاح 1 للقمص تادرس يعقوب
الباب الأول
صديقنا صار مثلنا
ص 1- ص 3
v البشارة بالتجسّد ص 1.
v ميلاد الصديق السماوي ص 2.
v الإعلان عن الصديق ص 3.
الأصحاح الأول
البشارة بالتجسّد
جاء الأصحاح الأول من هذا السفر أشبه بمقدَّمة له تكشف عن غاية السفر كله ألا وهو الإعلان عن شخص المسيَّا بكونه صديق البشريّة الحقيقي، الذي يهبها البهجة، ويحول حياتها إلي أنشودة تسبيحٍ مفرحٍ. ففي هذا الأصحاح نجد الإعداد لمجيء هذا الصديق الفريد الذي يهب اليصابات ابنًا في شيخوختها ينزع عارها، ويفتح لسان زكريَّا الكاهن بالتسبيح عند ولادة السابق للمسيح، وتنعم فتاة الناصرة الفقيرة والبتول بشارة سماويّة فائقة، حتى الجنين في أحشاء اليصابات يَّتهلَّل ويرقص مبتهجًا. هذه جميعها صور تمهيديّة تكشف عن شخص السيِّد المسيح نفسه، وعمله في حياتنا كصديقٍ سماويٍ، قادر أن ينزع عقرنا ويفتح لساننا، ويردّ لنا بهجتنا.
مقدَّمة السفر 1-4.
افتتح معلِّمنا لوقا إنجيله بالعبارات التاليّة:
“إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصّة في الأمور المتيقِّنة عندنا.
كما سلّمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخدَّامًا للكلمة.
رأيت أنا أيضًا إذ قد تتبَّعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب إليك أيها العزيز ثاوفيلس.
لتعرف صحة الكلام الذي عُلّمت به” [1-4].
في هذه المقدَّمة كتبت باليُّونانيّة في أسلوب بليغ نلاحظ الآتي:
- ظروف الكتابة هي وجود كثيرين ممَّن كتبوا عن الأمور المتيقِّنة الخاصة بالسيِّد المسيح وأعماله الخلاصيّة. يرى قلَّة من الدارسين أنه يقصد بهذا الإنجيليِّين مرقس ومتّى، لكن الرأي الغالب أنه يقصد أناسًا غير مخلِّصين حاولوا الكتابة عن شخص السيِّد المسيح بفكرٍ خاطئٍ… لكن أعمالهم لم تقبلها الكنيسة الأولى كأسفار قانونيّة. ويميز العلامة أوريجينوس بين إنجيل معلِّمنا لوقا (وأيضًا بقيّة الأناجيل) التي كُتبت بوحي الروح القدس وتسلّمتها الكنيسة، وبين المحاولات البشريّة لكتابة أناجيل، فيقول: [معني كلمة “أخذوا” أنهم حاولوا، وفي هذا إتهام موجَّه ضدَّهم ضمنيًا، إذ حاولوا كتابة الأناجيل دون إرشاد الروح القدس، أما البشيرون متَّى ومرقس ولوقا ويوحنا فلم يحاولوا التأليف إنما امتلأوا بالروح القدس فكتبوا الأناجيل… أربعة أناجيل هي القانونيّة، منها وحدها نستقي إيماننا بربِّنا ومخلِّصنا.]
يقول القدّيس البابا أثناسيوس الرسولي: [ينتهر لوقا الطوباوي ما هو من صنع الناس مسلِّمًا إيَّانا ما هو مُرْوٍٍ من القدّيسين… فكل قدّيس يتسلّم التقاليد يساهم بغير تحريف أن يثبت تعاليم الأسرار. لذلك تطالبنا الكلمة الإلهيّة بالتلمذة على أيدي هؤلاء. إذ هم معلِّمون لنا بالحق، ولهؤلاء وحدهم يلزمنا أن نصغي، لأن لهم وحدهم “صادقة هي الكلمة ومستحقَّة كل قبول” (1 تي 1: 15). هؤلاء ليسوا تلاميذ سمعوا من الآخرين بل هم شهود عيان وخدَّام للكلمة إذ سمعوا منه ما قد سلَّموه.]
ب. يكتب معلِّمنا لوقا “الأمور المتيقِّنة” والأكيدة، لذلك يشبِّه القدّيس أمبروسيوس هذا السفر بالبيت الذي يُبنى علي الصخر، المرتبط بالإيمان الكامل الثابت غير المتزعزع، هذا الإيمان يقوم على الفهم الروحي والإدراك والتمييز بين الحق والباطل، وليس على المعجزات المجرّدة.
بنفس المعنى يقول العلامة أوريجينوس: [يعبِّر القدّيس لوقا عن مشاعره بقوله: “الأمور المتيقِّنة عندنا“. لقد عرف القصّة بكل يقين الإيمان والعقل فلم يتردّد في تصديقها، وهذا حال المؤمن. لقد بلغ قمَّة الإيمان كقول النبي: “ثبِّت كلامك في قلبي” (مز 119). لذلك يقول الرسول عن المؤمنين الأقوياء الأشدَّاء أنهم متأصِّلون ومتأسِّسون في الإيمان (أف 3: 18). الإنسان المتأصِّل والمؤسّس في الإيمان لا يمكن أن ينهدم أو يسقط بُناؤه حتى إن هبَّت العاصفة وهاجت الرياح ونزلت الأمطار كالسيول عليه، لأن بِناءه مؤسّس ومتين. هذا ويليق بنا ألا نعتقد بأن قوّة إيماننا تقوم على الرؤيّة الملموسة أو هي ثمرة ذكاء أو عقل. لنترك غير المؤمنين يؤمنون خلال العلامات والمعجزات الظاهرة، أما المؤمن المحنَّك القوي فيسلك ويفكِّر بالروح مميِّزًا الحق من الباطل.]
ج. ما يسجله لنا معلِّمنا لوقا البشير إنما قبِله خلال “التسليم” أو ما نسميه “التقليد”، وهو الوديعة المُعاشة في حياة الكنيسة بالروح القدس تتسلّمها الأجيال خلال التسليم الشفوي والكتابي وخلال العبادة والسلوك… هذا ما أكَّده الإنجيلي بقوله “كما سلَّمها إلينا الذين كانوا من البدء معاينين وخدَّاما للكلمة“.
علّق العلامة أوريجينوس علي العبارة السابقة مبرزًا نقطتين رئيسيَّتين في التسليم الكنسي: أولاً أن قوله “معاينين” لا يعني مجرد الرؤيا الجسديّة، إذ كثيرون رأوا السيِّد المسيح حسب الجسد ولم يدركوا شخصه ولا تمتَّعوا بعمله الخلاصي. ثانيًا أن المعاينة الروحيّة أو الإدراك الروحي تلتحم بالعمل، لذا قال “خدَّامًا للكلمة“، فلا انفصال بين الحياة الروحيّة التأمَّليّة والعمل، إذ يقول: [تأمَّل الرسل الله الكلمة لا بكونهم قد أبصروا المسيح المخلِّص المتجسّد، بل رأوا الله الكلمة (هنا لا يقصد انفصال المسيح إلى شخصين إنما يؤكِّد التزامنا إدراك حقيقة المخلِّص المتجسّد). لو كانت رؤيّة المسيح بالجسد (مجردًا) يعني رؤيّة الله الكلمة، لكان هذا يعني أن بيلاطس الذي أسلم يسوع قد رأى الكلمة، وكذا يهوذا الذي أسلمه وكل الذين صرخوا: “أصلبه أصلبه” (يو 19: 15). هذا الفكر بعيدًا عنه تمامًا، إذ لا يستطيع غير المؤمن أن يرى كلمة الله. رؤيّة الله الكلمة أوضحها المخلِّص بقوله: “الذي رآني فقد رأى الآب” (يو 14: 9).] كما يعلِّق على قوله: “كانوا منذ البدء معاينين وخدَّاما للكلمة” بقوله: [نستخلص من هذه الكلمات أن المعرفة قد تكون غاية في ذاتها، لكنه يتوِّجها العمل بمضمونها… فالاكتفاء بالمعرفة دون تطبيقها هو علم بلا نفع. وكما يرتبط العلم بالتطبيق العملي هكذا ترتبط المعرفة بخدمة الكلمة… فكلمة “معاينين” تعني المعرفة النظريّة، بينما تشير كلمة “خدَّام” للمعرفة التطبيقيّة.]
ظهر هذان الفكران للعلامة أوريجينوس بوضوح في كتابات القدّيس كيرلس الكبير والقدّيس أمبروسيوس. يقول القدّيس كيرلس الكبير: [يصف القدّيس لوقا رسل المسيح بأنهم عاينوا الرب، وفي ذلك يتّفق لوقا مع يوحنا، فقد كتب: “والكلمة صار جسدًا وحل بيننا، ورأينا مجده مجدًا كما لوحيد من الآب مملوءًا نعمة وحقًا” (يو 1: 14). كان لابد أن يظهر المسيح بالجسد، حتى نراه ونحس به، لأنه جلّ اسمه بطبيعته لا يُرى ولا يُلمس، فإنَّ يوحنا يقول أيضًا: “الذي كان من البدء، الذي سمعناه الذي رأيناه بعيُّوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة، فإنَّ الحياة أُظهرت لنا” (1 يو 1: 1). أتسمعون كيف أن الحياة ظهرت لنا فلمسناها بأيدينا ورأيناها بعيُّوننا؟ ظهر المسيح حتى ندرك أن الابن صار جسدًا، فرأيناه بصفته إنسانًا، وقبلاً لم نره باِعتباره إلهًا.]
بنفس المعنى يقول القدّيس أمبروسيوس: [رأى التلاميذ كلمة الرب وسمعوه… هؤلاء الذين شاهدوا مجد الكلمة مع موسى وإيليَّا (مت 16: 3) رأوا الرب يسوع، إذ شاهدوه في مجده، أما الآخرون (اليهود) فلم يروه هؤلاء الذين عرفوه حسب الجسد، إذ أُعطي للبصيرة الروحيّة لا للعيُّون الجسديّة أن ترى يسوع. لم يره اليهود مع أنهم أبصروه (جسديًا). أما إبراهيم فقد رآه كما هو مكتوب: “أبوكم إبراهيم تهلَّل بأن يرى يومي، فرأى وفرح” (يو 8: 56) مع أنه بالتأكيد لم يره حسب الجسد… غير أن اليهود لم يروه، إذ “اِظلم قلبهم الغبي” (رو 1: 21)… عندما نرى الرب نرى عمانوئيل، فندرك أن الله معنا، أما من لا يبصر الله معه فإنَّه لا يعرف بعد مولود العذراء.]
إذن يكتب معلِّمنا لوقا البشير خلال التسليم الذي وُهب للذين عاينوا الرب ليس حسب الجسد فحسب، وإنما عاينوه في أعماقهم وأدركوا سّر حلوله فيهم وعمله في داخلهم. ونحن أيضًا إن أردنا أن نتفهَّم الإنجيل يلزمنا أن نتسلّم معاينة الرب فينا وتلاقينا معه، على صعيد الإيمان الحّي العملي، حتى لا نسمع كلمات التوبيخ التي وجهها السيِّد لفيلبس: “أنا معكم زمانًا هذه مدَّته ولم تعرفني يا فيلبس؟!” (يو 14: 9).
د. لم يلقِّب الإنجيلي الرسل بمعايني الكلمة فحسب، وإنما دعاهم أيضًا “خدَّامًا للكلمة” [2]. فإنَّ كان العمل الرسولي يقوم على معاينة الرب ببصيرة روحيّة فتدرك أسراره الإلهيّة، لكن دون انفصال عن العمل. وهكذا تلتحم المعرفة بالخبرة الروحيّة، والإيمان بالجهاد، والتأمَّل بالخدمة. يقول القدّيس أمبروسيوس: [نال الرسل هذه النعمة… لقد عاينوا، ويُفهم من هذا جهادهم للتعرُّف على الرب، وخدموا، ويفهم منه ظهور ثمار جهادهم.]
هـ. وُجه هذا الإنجيل للعزيز ثاوفيلس، وقد سبق لنا في المقدَّمة الحديث عن هذا الشخص. فكلمة “عزيز” هو لقب يُطلق على أصحاب المراكز الكبرى في الدولة الرومانيّة، لُقب به فيلكس (أع 23: 26؛ 24: 13)، وأيضًا فستوس (أع 26: 25). أما كلمة “ثاوفيلس” فتعني “محب الله”، لذلك يعلِّق القدّيس أمبروسيوس بقوله: [إن كنت تحب الله فهذه البشارة هي مكتوبة لك، وإن كانت قد كُتبت لأجلك، فأقبلها من الإنجيلي وديعة واحتفظ بها في أعماق نفسك: “احفظ الوديعة الصالحة بالروح القدس الساكن فينا” (2 تي 1: 14). تأمَّلها في كل حين، وتحصن فيها على الدوام… فإنَّ أولى واجباتك هي الأمانة في هذه الوديعة التي لا يبليها سوس (هرطقة) ولا يفسدها صدأ.] ويقول العلامة أوريجينوس: [ربَّما يظن البعض أن الإنجيل قد كُتب لشخص يُدعى ثاوفيلس، لكن إن كنتم أيها السامعون جميعكم محبو الرب فأنتم ثاوفيلس. ثاوفيلس هو شخص صالح جدًا وقوي… فلا يوجد ثاوفيلس ضعيف. أقول أن كل “ثاوفيلس” هو قوي، مصدر قوَّته وقدرته هو كلمة الله.]
-
البشارة لزكريَّا بميلاد يوحنا 5-17
جاء السيِّد المسيح مخلِّصا للعالم، يهبه شبعًا داخليًا وفرحًا سماويًا، لذلك ففي الإعداد لمجيئه تمتَّعت اليصابات العاقر بإنجاب “يوحنا” الذي يعني “الله يتحنَّن أو يُنعم”، وانفتح لسان زكريَّا الصامت بالتسبيح. فإنَّ كانت اليصابات كامرأة تشير إلى الجسد، فبحنان الله ونعمته نُزع عن الجسد عاره، وتمتَّع بثمر روحي عجيب، بينما زكريَّا يمثِّل النفس وقد انطلقت في الداخل بروح التسبيح والفرح عوض الصمت القائم على العجز.
يحدّثنا القدّيس لوقا عن قصّة البشارة لزكريَّا بميلاد يوحنا بلغة العابد المتخشِّع، فيقول:
“كان في أيام هيرودس ملك اليهوديّة كاهن اسمه زكريَّا من فرقة أبيَّا،
وامرأته من بنات هرون واسمها اليصابات.
وكانا كلاهما باريْن أمام الله،
سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم.
ولم يكن لهما ولد، إذ كانت اليصابات عاقرًا،
وكان كلاهما متقدَّميْن في أيَّامهما” [5-7].
ويلاحظ في عرضه للقصّة الآتي:
ا. إذ كان القدّيس لوقا رجلاً علميًا كطبيبٍ، حدَّد بدقة تاريخ الحدَّث، أنه في أيام هيرودس الكبير ملك اليهوديّة، الابن الثاني لأنتيباس، الأدومي الأصل. تزوَّج عشر نساء، قتل إثنتين منهنَّ، وكان له أبناء كثيرون، أعدم أحدهم. وقتل أطفال بيت لحم، وفي فراش الموت طالب بقتل شرفاء القدس حتى لا يجد أحد مجالاً للبهجة بعد موته، لكنه مات قبل تحقيق أمنيَّته.
على أن الأحوال وسط هذا الجو القاتم سياسيًا ودينيًا، إذ توقَّفت النبوَّة أكثر من ثلاثة قرون، وعاش الكل في جوٍ من الفساد، ظهر إنسانان بارَّان أمام الله، هما “زكريَّا” ويعني “الله يذكر”، و”اليصابات” وهي الصيغة اليُّونانيّة للكلمة العبريّة “اليشبع” وتعني “الله يُقْسِم” أو “يمين الله”. أنجب الاثنان “يوحنا” أي “الله حنَّان” أو “الله يُنعم”. وكأنه وسط فساد هذا العالم، إذ نذكر الله ونلتحم بقسمه ومواعيده الصادقة ننعم بحنانه ونعمته الإلهيّة عاملة فينا.
يعلِّق القدّيس أمبروسيوس على التعبير: “كانا كلاهما بارَّيْن أمام الله، سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم” بقوله: [عبارة “بارّيْن أمام الله” لها مغزاها، فالأبرار أمام الناس ليسوا بالضرورة أبرارًا أمام الله. نظرة الإنسان تختلف عن نظرة الله، “لأن الإنسان ينظر إلى العينين، وأما الرب فينظر إلى القلب” (1 صم 16: 7). فقد يبدو لي أن إنسانًا ما يستحق أن يُدعى بارًا، لكنه عند الرب ليس هكذا، لأن الدافع لقداسته هو التملُّق لا القلب البسيط. إذن فالإنسان لا يقدر أن يميِّز الخفيَّات، والمكافأة الكاملة هي أن نُحسب أبرارًا أمام الله، وكما يقول الرسول: “الذي مدحه ليس من الناس بل من الله” (رو 2: 29). مطوّب بحق ذاك الذي يتبرَّر أمام الله! مطوّب بحق ذاك الذي يتأهَّل أن يسمع الرب يقول عنه: “هوذا إسرائيلي حقًا لا غشَّ فيه” (يو 1: 47). فالإسرائيلي الحقيقي هو الذي يرى الله ويُدرك أن الله يراه، كاشفًا خبايا قلبه.]
يوضَّح العلامة أوريجينوس معنى تعبير “بارّيْن أمام الله” بقوله: [قد لا يجد إنسان ما يشتكي به عليَّ بعد فحصه إيّاي، فإني بار أمام الناس… ولكن حكم الناس غير صحيح، فهم يجهلون إني يومًا ما أخطأت في الخفاء في داخل قلبي، ويجهلون إن كنت قد نظرت إلى امرأة واشتهيَّتها وعشت في زنا القلب. قد يراني الناس أتصدّق بحسب إمكانيَّاتي لكنهم يجهلون إن كنت أفعل ذلك لأجل وصيّة الله أم لطلب مديح الناس… طوبى للإنسان البار أمام الله، والذي مدْحه من الله، فالإنسان عاجز لا يقدر أن يحكم بعدل ووضوح. قد يمجِّد الناس من لا يستحق التمجيد، ويدينون من لا يستحق الإدانة. الله وحده عادل في المدح والإدانة.]
ويعلِّق العلامة أوريجينوس أيضًا على تعبير “بلا لوم” قائلاً: [قيل عن الكنيسة بأنها “مجيدة لا دنس فيها ولا غضَن” (أف 7: 25). ليس معنى هذا أن ابن الكنيسة لم يُخطئ قط، إنما يعيش في حياة التوبة. تعبير “بلا غضَن” يعني بغضه للإنسان العتيق وكفِّه عن الخطيّة، لذلك يكمِّل العبارة “لتكون مقدَّسة بلا عيب”، فقد ورثت النفس الخطيّة، لكنها تصير طاهرة بلا لوم إن زال عنها وسخ الخطيّة.]
هذا ويُعلن الإنجيل برِِّهما أمام الله وأنهما بلا لوم بالسلوك العملي في جميع وصايا الرب وأحكامه، وكأن البرّ الخفي يرتبط بطاعة الوصيّة وقبول أحكام الله؛ هذا هو طريق برّنا بالروح القدس الذي يهبنا في استحقاقات الدم أن ندخل إلى الوصيّة ونعيشها بالطاعة في فرح، ونتفهّم أحكام الله وتدابيره فنحمل روح التمييز فينا.
إذ عالج القدّيس أغسطينوس موضوع “البرّ في المسيح” حدَّثنا عن برّ زكريَّا واليصابات معلنًا أن رجال العهد القديم حُسبوا أبرارًا أيضًا في المسيح، خلال رجائهم في المسيَّا المنتظر الذي يقدَّم حياته مبذولة ثمنًا لبرّنا. ففي حديثه عن “الطبيعة والنعمة” يورد كلمات القدّيس أمبروسيوس، قائلاً: [بلا شك عاش رجال العهد القديم بمثل هذا الإيمان في المسيح حتى قبل موته (على الصليب). فالمسيح وحده يرسل الروح القدس المعطَى لنا، خلاله تنسكب المحبَّة في قلوبنا، وبها وحدها يُحسب الأبرار أبرارًا.] وفي موضع آخر يؤكِّد القدّيس أغسطينوس أن برّ زكريَّا قائم على عمل السيِّد المسيح الذبيحي خلال ممَّارسته الكهنوتيّة وتقديمه الذبائح الحيوانيّة كرمز لذبيحة المسيح، قائلاً: [اِعتاد زكريَّا بلا شك أن يقدَّم ذبائح عن خطاياه.]
إن كان زكريَّا يُحسب بارًا، لكن هذا لا يعني أنه لم يصنع خطيّة، فقد كرّر القدّيس أغسطينوس في مواضع كثيرة قول القدّيس أمبروسيوس: [ليس أحد في العالم بلا خطيّة.]
ب. كان “زكريَّا من فرقة أبيَّا” [5]، كلمة “أبيَّا” تعني “أبي هو يهو”. هذه الفرقة من نسل أليعازر الكاهن، تعتبر الثامنة من الأربعة والعشرين فرقة التي قُسِّمت إليها طائفة الكهنة منذ وقت داود، كل فرقة تقوم بالعمل أسبوعًا كل ستة أشهر حسب قرعتها. وكانوا يلقون قرعة أيضًا ليعرفوا من يقع عليه اختيار الله للقيام بخدمة البخور من وسط الفرقة، وكان اليهود عادة يقدَّمون البخور صباحًا ومساءً فقط.
يرى القدّيس أمبروسيوس أن زكريَّا وقد “أصابته القرعة أن يدخل الهيكل ويبخِّر” [9] إنما يشير إلى السيِّد المسيح بكونه رئيس الكهنة الذي وحده يدخل إلى الأقداس السماويّة، يكْهِن لحسابنا ويشفع فينا بدمه، وأن إصابة القرعة تشير إلى إرساليته التي لم تكن من الناس بل من قِبل الآب.
ج. يعلِّق العلامة أوريجينوس على تعبير الإنجيلي: “فظهر له ملاك الرب واقفًا عن يمين مذبح البخور”[11] بقوله أن الإنسان إذ له جسد كثيف لا يقدر أن يُعاين الكائنات الروحيّة والإلهيّة، ولا أن يشعر بها ما لم تظهر له. كأن ظهورات الله وملائكته تتوقَّف علي إرادة الله ورغبته أن نرى، فالله حاضر معنا، وأيضًا ملائكته ومع ذلك لا نراهم. فمن كلماته:
[ظهر الرب لإبراهيم ولأنبياء آخرين حسب نعمة الله، فليست عين إبراهيم الروحيّة (الداخليّة) هي علَّة الرؤيا للرب، إنما نعمة الله هي التي وهبت له ذلك.]
[يمكن أن يوجد ملاك بجوارنا الآن ونحن نتكلَّم، لكننا لا نستطيع أن نعاينه بسبب عدم استحقاقنا. قد تبذل العين المجرّدة أو الداخليَّة مجهودًا لتبلغ هذه الرؤيا، لكن إن لم يُظهِر الملاك نفسه لنا لا يقدر أن يراه المشتاقون إلى رؤيَّته.]
[هذه الحقيقة لا تخص رؤيتنا لله في هذا الزمان الحاضر فحسب، وإنما حتى حينما نترك هذا العالم، لا يظهر الله وملائكته لجميع الناس بعد الانتقال مباشرة… إنما تُمنح هذه الهبة لمن له القلب النقي الذي تأهَّل لرؤيّة الله. أما صاحب القلب المثقل بالأوحال، فقد يوجد مع صاحب القلب النقي في مكان واحد، لكن يعاين صاحب القلب النقي الله، وأما صاحب القلب غير النقي فلا يري ما يشاهده الآخر.]
[اِعتقد أن هذا حدث بالنسبة للسيِّد المسيح حين كان بالجسد علي الأرض، فإنَّه ليس كل من نظره عاين الله… فبيلاطس رأي يسوع وهيرودس الوالي رآه ومع ذلك لم ينظراه كما هو إذ لم يستحقَّا ذلك.]
وجاء تفسير القدّيس أمبروسيوس يحمل ذات الفكرتين أن الله وملائكته يظهرون حينما يريد الله كعطيّة إلهيّة، وأن القلب النقي يعاين الله… فمن كلماته:
[إننا نرى الرب عندما يريد ذلك، لكننا لا نستطيع أن نراه بطبيعته كما هو… ظهر لإبراهيم لأنه أراد ذلك. لكن إن لم يردّ الإنسان فلا يظهر له الرب. رأى القدّيس إسطفانوس السماوات مفتوحة وابن الإنسان قائمًا عن يمين الله، بينما كان الشعب يرجمه (أع 7: 9)، ولم ينظر الشعب الله. أيضًا أبصر إشعياء السيِّد رب الجنود (إش 6: 1)، لكن أحدًا غيره لم يستطع أن ينظره.]
[ما الذي يدهشنا إن كان لا يرى أحد الله في هذا العالم إذ هو غير منظور، فلا يُرى ما لم يكشف هو عن ذاته؟ إنما في القيامة لا يراه غير أنقياء القلب، لأنه “طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” (مت 5: 8). لقد طوَّب الرب الكثيرين، لكنه لم يعد بمعاينة الله إلا لأنقياء القلب.]
[لا نعاين الله في مكان ما بل في القلب النقي، لا تبحث عن الله بالعين الجسديّة… بل من يستطيع أن يدرك ما هو العرض والطول والعمق والعلو، ويعرف محبَّة المسيح الفائقة المعرفة (أف 4: 20)، فبرأفة الله علينا ورحمته يبلغ بنا إلى ملء قامة المسيح حتى نستطيع أن نعاينه.]
وقد سبق لنا الحديث عن “رؤيّة الله” في كتابنا عن القدّيس يوحنا الذهبي الفم، لكن ما يجب تأكيده أن الله وهو غير منظور يود أن يُعلن ذاته ويشتاق أن نراه، هذه عطيَّته المجانيّة يقدَّمها للقلب النقي؛ فهو يعمل فينا بلا انقطاع بروحه القدِّوس لكي تتنقّى قلوبنا فيه، وترتفع لمشاهدته، والتمتَّع بأحضانه الأبويّة، وشركة الأمجاد السماويّة.
د. ظهر ملاك الرب عن يمين مذبح البخور، أي ما بين المذبح الذهبي (الصلاة) ومائدة خبز الوجوه (سّر الإفخارستيا). وكأن من يريد أن يلتقي مع القوات السمائيّة يلزمه أن يبسط يديه بالصلاة، فيقدَّم ذبيحة حب وبخور طيب قدام الله، وأن يدخل إلى مائدة الرب، يلتقي برب السمائيِّين ويحمله في داخله.
فمن جهة الصلاة يقول القدّيس أوغريس: [اِعلم أن الملائكة القدّيسين يدفعوننا إلى الصلاة، ويقفون إذ ذاك إلى جانبنا فرحين مصلِّين من أجلنا، فإذا تكاسلنا متقبِّلين أفكارًا غريبة نغيظهم كثيرًا، لأننا بينما هم يحاربون عنَّا بهذه القوّة، لا نريد نحن حتى التضرع إلى الله من أجل أنفسنا، بل نعرض عن خدماتهم، ونبتعد عن الرب إلههم لنذهب إلى الشيَّاطين الأدناس.]
أما بخصوص الاقتراب من المائدة المقدَّسة، فيتحدَّث عنه القدّيس يوحنا الذهبي الفم قائلاً: [كأن الإنسان قد أُخذ إلى السماء عينها، يقف بجوار عرش المجد، يطير مع السيرافيم، يترنَّم بالتسبحة المقدَّسة.]
هـ. “فلما رآه زكريَّا اضطرب، ووقع عليه خوف، فقال له الملاك: لا تخف يا زكريَّا…” [12-13]. إن كانت رؤيّة السمائيِّين تجعل القلب مضطربًا لأنه ينظر أمرًا غريبًا، لكنه لا يبقى في اضطرابه، بل يجد السماء عينها تهتم به وتناديه باسمه، وتهتم به شخصيًا، وتشبعه بالسلام الداخلي مع عطايا وخيرات إلهيّة فائقة.
يقدَّم لنا القدّيس أنطونيوس الكبير تمييزًا بين الرُؤى السماويّة والمناظر المخادعة، فالأولي حتى إن بدأت بخوف أو اضطراب لأن الإنسان لم يعتد رؤيَّتها لكنها تبعث سلامًا حقيقيًا في النفس، أما الأخرى فتفقد النفس سلامها؛ الأولي تلهب القلب بالسمائيَّات أما الثانية فتشعل الذهن وتربكه بالزمنيَّات، إذ يقول: [ظهور هذه الأرواح (الملائكة) هادئ وصامت يخلق فرحًا في النفس وشجاعة، لأن الرب فرحنا. الأفكار التي تخلقها هذه الظهورات تجعل النفس غير متزعزعة حتى تُنيرها بهذا الفرح، فتعرف ما هي الأرواح التي تظهر لها، إذ أن الشوق الإلهي وشوق الخيرات العتيدة يدخلان النفس ويتَّحدان بها. إن كان يوجد من يخاف من ظهور الأرواح الشرِّيرة فهذه الأرواح (الصالحة) تطرح عنهم الخوف جانبًا بالمحبَّة التي تظهرها كما فعل جبرائيل مع زكريَّا (لو 1: 3)، وكما فعل الملاك الذي ظهر للنسوة عند قبر الرب (مت 28: 5)، وعندما ظهر للرعاة قال لهم: لا تخافوا (لو 2: 10). إن خوف هؤلاء لم يكن نتيجة الخوف بل نتيجة اليقين بظهور الملائكة الصالحين؛ هذا هو ظهور الملائكة القدّيسين.] كما يقول: [إذا ما رأينا أرواحًا وأثارت اضطرابًا وضربات خارجيّة وتخيُّلات دنيويّة وتهديدًا بالموت وكل ما ذكرناه، فلنعرف أن هذا هو هجوم أرواح شرِّيرة.]
و. لعل زكريَّا قد نسيَ طلبته من الله أو فقد الرجاء في الإنجاب، لكن اسمه “زكريَّا” يعني “الله يذكُر”، فقد ذكر الله له ولامرأته طلباتهما ووهبهما لا من يُفرح قلبيهما وحدهما، وإنما من يُبهج قلوب الكثيرين. إنه يعطي ما طلبناه بالرغم من نسياننا، ويعطينا أكثر ممَّا نسأل وفوق ما نطلب، يعطي مؤكِّدًا عطيَّته، فقد عيَّن له اسمه.
أما من جهة “يوحنا” كعطيّة الله لزكريَّا واليصابات، فقد أعلن الملاك الآتي:
أولاً: سّر فرح للكثيرين: “ويكون لك فرح وابتهاج، وكثيرين سيفرحون بولادته” [14]. قلنا أن إنجيل لوقا البشير هو “إنجيل الفرح”، فقد أرسل الله يوحنا السابق لينادي بالتوبة مهيِّئًا الطريق للرب في قلوب الكثيرين، فيفرح السمائيُّون كما يفرح المؤمنون. غاية الله أن يردّنا إلى فرحه الأبدي، ونُوجد في سلامٍ سماويٍ لا يشوبه ضيق أو مرارة، وها هو يُعد لهذا الفرح حتى بالبشارة بميلاد السابق له.
في دراستنا لسفر اللاويِّين (ص 12) رأينا في شريعة المرأة التي تلد كيف تبدأ فترة الميلاد للطفل بفترة تُحسب فيها الوالدة كمن في نجاسة، إذ التصقت الخطيّة بنا حتى في ميلادنا وموتنا، والآن إذ بدأ يُشرق شمس البرّ علي البشريّة ويصالحها مع السمائيِّين تحوّلت حياتنا فيه إلى فرح، وصار الميلاد مُفرحًا، وكما يقول القدّيس أمبروسيوس: [يوجد فرح خاص في بداية الحمل بالقدّيسين وعند ميلادهم، فالقدّيس لا يُفرِّح عائلته فحسب، وإنما يكون سببًا في خلاص الكثيرين. إن هذه العبارة تعلَّمنا أن نتهلَّل بميلاد القدّيسين.]
أقول ليتنا نحن أيضًا إن كنا قد عشنا زمانًا هذا مقداره بنفسٍ عاقرةٍ وجسدٍ بلا ثمر روحي، فلنتقبَّل وعود الله السمائيّة، ونحمل حنان الله ونعمته أي “يوحنا” في داخلنا، فنبتهج ونتهلَّل بالله، ويفرح معنا كثيرون بل والسماء عينها تشترك معنا في فرحنا (لو 15: 7).
لتكن حياتنا مثمرة في الرب فتبهج الكثيرين، ولا تكن عقيمة أو ثمرها قاتل أو مميت. يقول الأب تادرس: [الحياة والموت ليسا في ذاتهما صالحين أو شرِّيرين، ويؤكِّد هذا ميلاد يوحنا ويَّهوذا. أحدهما كانت حياته نافعة ويظهر ذلك ممَّا قيل عنه: “وكثيرون سيفرحون بولادته” (لو 1: 14). والآخر قيل عنه: “كان خيرًا لذلك الرجل لم يولد” (مت 26: 24).]
ثانيًا: “لأنه يكون عظيمًا أمام الرب” [15]. لم يكن بعد قد وُلد يوحنا، ولا حبلت به في أحشائها، يدعوه الملاك “عظيمًا أمام الرب“. فالعظمة لا بكثرة الأيام والسنين، ولا بقوّة الجسد والأعمال الظاهرة، إنما بالحياة الداخليّة القويّة.
كان العالم في ذلك الحين يحتقر الأطفال بوجه عام ولا يقدَّم لهم حقًا إنسانية. لكن إنجيل السيِّد المسيح يكشف عن صداقته للأطفال، فيتطلَّع إليهم كعظماء في عينه، الأمر الذي أكده السيِّد المسيح فيما بعد لتلاميذه حين قدَّم لهم طفًلا ليمتثلوا به من أجل بلوغ العظمة السماويَّة (مت 18: 2-3؛ لو 18: 15).
لنكن أطفالاً في الشرِّ فنحسب عُظماء وناضجين في الرب، لكن لا نسلك في ضعف الطفولة غير الناضجة، وإلا حُسبنا مُستعبَّدين تحت أركان العالم (غلا 4: 3)، وكما يقول القدّيس أمبروسيوس: [الإنسان الناضج (روحيًا) وحده يتخطَّى أركان هذا العالم.] لنكن ناضجين روحيًا في الرب فلا نحتقر الصغار كقول الرب: “اُنظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الأصاغر” (مت 18: 10).
يحدّثنا القدّيس أمبروسيوس في تفسيره لإنجيل لوقا عن عظمة يوحنا المعمدان قائلاً: [حياتنا لا تُقيَّم حسب الزمن وإنما حسب درجات الفضيلة… فقد دُعي يوحنا عظيمًا لا بسبب قوَّته الجسديّة بل الروحيّة، فإنَّه لم يقهر إمبراطوريَّات ولا وضع في برنامجه أن تكون له غنائم ونصرات، بل تطلَّع إلى ما هو أفضَّل جدًا، إذ كان الصوت الصارخ في البريّة الذي صرع الملذَات الجسديّة وتراخي الجسد بسمو روحه وقوَّتها. كان صغيرًا في الأمور العالميّة، عظيمًا في الروحيات. أخيرًا فإنَّ سر عظمته هو عدم سيطرة حب هذه الحياة الزمنيّة عليه الأمر الذي لم يعقه عن إدانة الخطيّة.]
ثالثًا: “ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس” [15]. بعد أن حدَّد اسمه وأعلن فاعليته كمُفرِّح للقلوب أوضح إمكانيَّاته، فمن الجانب السلبي “خمرًا ومسكرًا لا يشرب”، كنذير للرب لا يكون لملذَات العالم أو بهجته موضع في قلبه أو في جسده، أما من الجانب الإيجابي فإنَّه لا يعيش محرومًا بل يمتلئ من الروح القدس من بطن أمه. يُحرم من الخمر المادي المسكر ويرتوي بالخمر السماوي المفرح!
يقول العلامة أوريجينوس: [جاء رئيس ملائكة يعلن عن ميلاد يوحنا الذي يمتلئ من الروح القدس من بطن أمه…، ففي بطن أمه تهلَّل يوحنا من الفرح، ولم يستطع أن يتوقَّف عندما جاءت أم يسوع، بل كان يحاول أن يخرج من بطن أمه… “هوذا حين صار صوت سلامك في أذني اِرتكض الجنين بابتهاج في بطني” [44] .]
ويقول القدّيس أمبروسيوس: [كان يفتقر لروح الحياة (كجنين) ونال روح النعمة، فإنَّ حقيقة الحياة تسبقها النعمة للتقديس، إذ يقول الرب: “قبلما صوَّرتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدَّستك، جعلتك نبيًا للشعوب” (إر 1: 5). شتَان بين روح العالم وروح النعمة، فالأولى تبدأ بالميلاد وتنتهي بالموت، أما الثانية فلا يحدّها الزمن ولا السنين، ولا يطفئ الموت شعلتها، ولا يغلق عليها رحم الأمومة… إن من يمتلك روح النعمة لا يعود يفتقر إلى شيء، ومن نال الروح القدس بلغ قمة الفضائل.]
رابعًا: “ويردّ كثيرون من بني إسرائيل إلى الرب إلههم” [16]. هنا يؤكِّد رسالته وهي ردْ الكثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم بتمهيد الطريق بالتوبة لقبول السيِّد المسيح مخلِّص العالم. يرى العلامة أوريجينوس أن العالم في حاجة مستمرَّة إلى عمل يوحنا الذي يسمِّيه “سرّ يوحنا” ليدخل بكل نفس إلى الثبوت في المسيح، إذ يقول: [اِعتقد من جانبي أن سّر يوحنا لا يزال يتحقّق إلى يومنا هذا، فيستطيع الإنسان أن يؤمن بيسوع المسيح إن كان له روح يوحنا وقوَّته في نفسه، هذا لكي يعد شعبًا كاملاً لربِّنا، وإن كان له الخشونة ويسلك الطريق الضيق… إلى اليوم روح يوحنا وقوَّته يسبقان مجيء الرب يسوع.]
خامسًا: “ويتقدَّم أمامه بروح إيليَّا وقوَّته” [17]. يعلِّق العلامة أوريجينوس على هذه العبارة هكذا: [لم يقل بنفس إيليَّا بل “بروح إيليَّا وقوَّته”، فكان لإيليَّا روح وقوّة كسائر الأنبياء… الروح الذي سكن في إيليَّا سكن يوحنا، والقوّة التي في إيليَّا كانت في يوحنا.]
ويقدَّم لنا القديس أمبروسيوس مقارنة لطيفة بين إيليَّا ويوحنا المعمدان، جاء فيها:
[عاش إيليَّا في البريّة وكذا يوحنا،
وكانت الغربان تعول الأول أما الثاني ففي طريق البريّة قد داس كل إغراءات الملاهي، وأحبَّ الفقر مبغضًا الترف. الواحد لم يسَعََ لكسب رضاء آخاب الملك، والثاني اِحتقر رضا هيرودس الملك.
رداء الأول مزَّق مياه الأردن، بينما الثاني جعل من هذه المياه مغسلاً يهب خلاصًا.
الأول ظهر مع الرب في المجد (عند التجلِّي)، والثاني يحيا مع الرب في الأرض.
واحد يسبق مجيء الرب الأول والآخر يسبق مجيئه الثاني.
الأول أنزل الأمطار على الأرض بعد أن جفَّت ثلاث سنوات والثاني غسل تراب أجسادنا في مياه الإيمان خلال ثلاث سنوات (سنة عهد الآباء وسنة عهد موسى والأنبياء؛ ثم سنة مجيء الرب إلهنا ومخلِّصنا).]
إن سّر القوّة في القدّيس يوحنا أنه حمل روح إيليَّا، لا بمعنى روحه كشخص، إنما روح القوّة التي وُهبت له من قِبل الله، أو الإمكانيَّات التي قُدَّمت له، لهذا يقول القدّيس أغسطينوس: [يقصد بروح إيليَّا الروح القدس الذي تقبله إيليَّا.]
-
صمت زكريَّا 18-25
“فقال زكريَّا للملاك:
كيف أعلم هذا، لأني أنا شيخ، وامرأتي متقدَّمة في أيامها؟
فأجاب الملاك وقال له:
أنا جبرائيل الواقف قدام الله،
وأُرسلت لأكلِّمك وأُبشرك بهذا.
وها أنت تكون صامتًا، ولا تقدر أن تتكلَّم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا،
لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته” [18-20].
في هذا الحوار الذي تم بين رئيس الملائكة جبرائيل وزكريَّا الكاهن داخل الهيكل نلاحظ الآتي:
أولاً: لم يصدِّق زكريَّا الكاهن كلمات الملاك، بالرغم من رؤيته للملاك وسماعه للصوت الملائكي بطريقة ملموسة، في النهار، داخل الهيكل، الأمر الذي جعله يُلام عليه، خاصة وأن التاريخ المقدَّس يذكر أمثلة حيّة لأُناس شيوخ أنجبوا بينما كانت نساؤهم عاقرات كسارة امرأة إبراهيم. لكن زكريَّا كان بارًا، لم يلقِ باللوم على زوجته في عدم الإنجاب، ولم يذكر حتى بينه وبين الملاك أنها عاقر، إنما بدأ بنفسه قائلاً: “أنا شيخ وامرأتي متقدَّمة في أيامها”. أقول ما أجمل النفس البارة الرقيقة في أحاسيسها، لا تجرح مشاعر الآخرين حتى في غيبتهم! إنه لا يشكو حتى للسماء من أجل عُقر زوجته!
ثانيًا: أعلن رئيس الملائكة عن نفسه أنه “جبرائيل” ويعني “جبروت الله”، أما سرّ قوَّته أو جبروته فهو كما قال “الواقف قدام الله“. جاء يحمل الوعد الإلهي وليبشِّر، لكنه التزم أيضًا أن يؤدَّب بالصمت كأمر الله!
ثالثًا: في محبَّته وهب زكريَّا الكاهن البشارة المُفرحة بميلاد يوحنا كهبة مجََّانيَّة قُدَّمت له، بل وللبشريّة كلها، والآن إذ تمتَّع الكاهن بهذا الوعد الأكيد، وحدَّد له الرب على فم رئيس ملائكته اسم المولود وسِماته ورسالته وإمكانيَّاته، ومع ذلك لم يصدِّق، لذلك سمح الله في محبَّته أيضًا أن يؤدِّبه إلى حين. الله في أبوَّته لنا يهب كما في أبوَّته يؤدِّب لبنياننا.
والعجيب حتى الأخطاء التي نرتكبها يستخدمها الله للخير، فما حدث لزكريَّا بسبب شكِّه صار رمزًا لما يحدث للشعب اليهودي الذي لم يصدِّق السماء ولا مواعيد الله، فلم يقبل ربِّنا يسوع ملِكًا روحيًا ومخلِّصًا. لهذا سقط تحت تأديب الصمت، حتى يقبلوا الإيمان في أواخر الدهور. سقطوا تحت الصمت إذ رفضوا كلمة الله المتجسّد، فنزع عنهم الأنبياء وتوقَّفت العبادة الهيكليّة.
يقول العلامة أوريجينوس: [صمت زكريَّا هو صمت الأنبياء عند شعب إسرائيل، فلا يتكلَّم الله بعد مع اليهود بينما جاء الله الكلمة الذي من البدء. لقد صار معنا المسيح الذي لا يصمت، لكنه صامت حتى يومنا هذا بالنسبة لليهود.]
ويقول القدّيس أمبروسيوس: [الصمت هو الكف عن تقديم الذبائح وسكوت الأنبياء، فقد توقَّف صوت النبي والكاهن، إذ يقول الله “سأنزع الجبار والنبي والقاضي” (إش 1: 31)… أما بالنسبة لنا، فقد جاء إلينا كلمة الله الذي لا يمكن أن يسكت فينا، لذا لا يستطيع اليهودي أن يحاور المسيحي: “إذ أنتم تطلبون برهان المسيح المتكلَّم فيّ” (1 كو 13: 3).]
إن كان زكريَّا في صمته كان يومئ بالإشارات والحركات الجسديّة لحرمانه من موهبة الكلام، ففي هذا كان أيضًا يرمز لليهود الذين اهتموا بأعمال الناموس الجسديّة بلا فهم روحي، وكما يقول العلامة أوريجينوس: [في اِعتقادي توجد أفعال بدون أقوال أو معنى، لا تختلف عن الإيماءات التي بلا معنى… فإذا اِعتبرنا الشرائع اليهوديّة كما بدون كلام لعدم فهمها وتفسيرها… يمكننا أن نفهم ما حدث لزكريَّا صورة لما يحدث مع اليهود حتى أيامنا هذه. التطهير عندهم أشْبه بحركة بسيطة دون معنى، فإنَّ نظرنا إليه يمكننا اِعتباره إيماءة بسيطة وعملاً صامتًا. أيضًا الفصح والأعياد الأخرى ما هي إلا حركات بسيطة لا حقائق. وحتى يومنا هذا الشعب الإسرائيلي أصم وأبكم، فإنَّه إذ رفض “الكلمة” وابتعد عنه صار هكذا .]
إن كان زكريَّا الكاهن قد صمت، إنما لكي بصمته أعلن عن الحاجة إلى “الكلمة” الإلهي الذي فقده إسرائيل… وكأنه حتى بالصمت مهَّد الطريق للإعلان عن السيِّد المسيح. هذا ومن جانب آخر، فقد سمح له بالصمت كفرصة رائعة يتوقَّف فيها الكلام مع الناس لكي ينشغل قلبه بالحديث مع الله، يتأمَّل أعماله ويتلمَّس أسراره ويتفهَّم النبوَّات.
كما اِعتزل زكريَّا كلام الناس بسبب صمته، اِعتزلت اليصابات زوجته الناس بسبب خجلها، إذ يقول الإنجيلي: “وبعد تلك الأيام حبلت اليصابات امرأته، وأخفت نفسها خمسة أشهر، قائلة: هكذا قد فعل بي الرب…” كانت لهما فرصة روحيّة للحديث مع الله وحده، يتأمَّلان عمله معهما، وينتظران عطيَّته لهما.
اِستنتج العلامة أوريجينوس والقدّيس أمبروسيوس من خجل اليصابات أنها إذ لم تنجب زمانًا توقَّفت عن العلاقات الجسديّة بينها وبين رجلها، إذ كان رجال الله يلتقون بزوجاتهم جسديًا من أجل الإنجاب، فإنَّ تحقّقوا من عدم الإنجاب بقيت علاقاتهم مرتبطة بالحب الزوجي دون علاقات جسديّة… هكذا إذ حملت اليصابات خجلت من الظهور أمام الناس، حتى اِلتقت بالسيِّدة العذراء الحاملة لكلمة الله المتجسّد في أحشائها، وإذ ابتهج الجنين في أحشائها لم تعد اليصابات تخجل… إنها تحمل ثمرًا فائقًا؛ تحمل من هو أعظم مواليد النساء، يوحنا السابق.
ونحن يمكننا أن نقول بأن العلاقات الجسديّة بين الزوجين مقدَّسة وطاهرة مادامت باعتدال، لا يغلب عليها روح الشهوة والأنانيّة خلال طلب لذَّة الجسد، بل روح الحب الزوجي والعطاء. في المسيح يسوع كلمة الله المتجسّد – يجد الزوجان أنهما قد صارا جسدًا واحدًا، يعيشان بالروح حتى في لحظات لقائهما معًا، يظللهما روح الله بلا اِنقطاع، فيكونا مقدَّسين على الدوام في كل تصرفاتهما.
-
البشارة بالتجسّد الإلهي 26-38
“وفي الشهر السادس أٌرسل جبرائيل الملاك من الله
إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة،
إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف
واسم العذراء مريم…” [26-27].
أولاً: منذ خمسة أشهر سبق فبشَّر الملاك زكريَّا الكاهن، والآن مع بداية الشهر السادس جاء يبشِّر القدّيسة مريم، لكن شتَّان بين البشارتين. حقًا إن البشارة الأولى تمَّت داخل الهيكل أثناء العبادة الجماعيّة، رافقها زكريَّا أمام الجميع وتحدَّث عنها الكهنة، إذ تمَّت مع زميلهم الكاهن، لكن كانت بشارة بميلاد أعظم مواليد النساء يوحنا السابق خادم الكلمة؛ أما البشارة الثانية فتمَّت في بيت مجهول في قريّة فقيرة بطريقة سريّة لم يلمسها حتى صاحب البيت نفسه “يوسف النجار”، وقد كانت بشارة بتجسّد الكلمة ذاته! لقد أخلى الابن ذاته، حتى في البشارة به لم تتم به بين كهنة، ولا في داخل الهيكل، ولا على مستوى الجماعة، إنما تمَّت مع فتاة فقيرة في مكان بسيط.
ثانيًا: أٌرسل الملاك إلى “عذراء مخطوبة لرجل“، لماذا لم يُرسل إلى عذراء غير مخطوبة؟
أ. يجيب العلامة أوريجينوس بأن وجود الخاطب أو رجل مريم ينزع كل شكٍ من جهتها عندما تظهر علامات الحمل عليها، ويقول القدّيس أمبروسيوس: [ربَّما لكي لا يُظن أنها زانية. ولقد وصفها الكتاب بصفتين في آن واحد، أنها زوجة وعذراء. فهي عذراء لأنها لم تعرف رجلاً، وزوجة حتى تُحفظ ممَّا قد يشوب سمعتها، فانتفاخ بطنها يشير إلى فقدان البتوليّة (في نظر الناس). هذا وقد اِختار الرب أن يشك البعض في نسبه الحقيقي عن أن يشكُّوا في طهارة والدته… لم يجد داعيًا للكشف عن شخصه على حساب سمعة والدته.]
سبق لنا دراسة الخطبة والزواج حسب التقليد اليهودي، وكيف كانت الخطبة تعادل الزواج حاليًا في كل شيء ماخلا العلاقات الجسديّة، لهذا دعيت القدّيسة مريم “امرأة يوسف”.
ب. يرى العلامة أوريجينوس نقلاً عن القدّيس أغناطيوس أن وجود يوسف يشكِّك الشيطان في أمر المولود ويُربكه من جهة التجسّد الإلهي. وقد قدَّم لنا القدّيس أمبروسيوس ذات الفكر حين قال: [هناك سبب آخر لا يمكن إغفاله وهو أن رئيس هذا العالم لم يكتشف بتوليّة العذراء، فهو إذ رآها مع رجلها لم يشك في المولود منها، وقد شاء الرب أن ينزع عن رئيس هذا العالم معرفته. هذا ظهر عندما أوصى السيِّد تلاميذه ألا يقولوا لأحد أنه المسيح (مت 16: 22)، كما منع الذين شفاهم من إظهار اسمه (مت 5: 4) وأمر الشيَّاطين ألا تتكلَّم عن ابن الله (لو 4: 35). يؤيِّد ما ذكره الرسول أيضًا: “بل نتكلَّم بحكمة الله في سّر، الحكمة المكتومة التي سبق الله فعيَّنها قبل الدهور لمجدنا، التي لم يعملها أحد من عظماء هذا الدهر، لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد” (1 كو 2: 7-8)… إذن لقد توارى الرب عن إبليس لأجل خلاصنا. توارى لكي ينتصر عليه، توارى عنه في التجربة، وحين كان يصرخ إليه ويلقبِّه “ابن الله” لم يؤكِّد له حقيقة لاهوته. توارى الرب أيضًا عن رؤساء البشر. وبالرغم من تردّد إبليس حين قال: “إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل” (مت 4: 6) إلا أن الأمر قد انتهى بمعرفته إيَّاه، فقد عرفتْهُ الشيَّاطين حين صرخت: “ما لنا ولك يا يسوع ابن الله أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذِّبنا؟!” (مت 8: 29). لقد عرفتْه الشيَّاطين إذ كانت تترقَّب مجيئه، أما رؤساء العالم فلم يعرفوه… استطاع الشيطان بمكر أن يكشف الأمور المكتوبة أما الذين اقتنصتهم كرامات هذا العالم فلم يستطيعوا أن يعرفوا أعمال الله.]
ثالثًا: كرَّر الإنجيلي كلمة “عذراء” وكأنه أراد تأكيد عذراويَّتها ليعلن أن السيِّد المسيح ليس من زرع بشر. هذا ما أعلنه حزقيال النبي بقوله عن الباب الشرقي: “هذا الباب يكون مغلقًا لا يُفتح، ولا يدخل منه إنسان، لأن الرب إله إسرائيل دخل منه فيكون مغلقًا، الرئيس، الرئيس هو يجلس فيه” (حز 44: 2-3). ولذلك جاء في الطقس البيزنطي عن السيِّدة العذراء: [السلام لكَ، أيها الباب الفريد الذي عبر منه الكلمة وحده.]
إنها عذراء وزوجة (عروس) في نفس الوقت، إذ تمثِّل العضو الأول في الكنيسة العذراء عروس المسيح، وكما يقول القدّيس أمبروسيوس: [كانت مريم الزوجة العذراء تمثِّل في آن واحد الكنيسة العروس التي بلا عيب. فالكنيسة عروس المسيح البتول، حبلت بنا بالروح القدس وولدتنا بغير ألم، ومريم حبلت بالروح لا بالزواج، وهكذا صارت تمثِّل كل الكنائس التي تثمر بالروح والنعمة، وإن كانت تتَّحد ظاهريًا تحت لواء راعٍ بشري.]
يقول القدّيس أغسطينوس: [كما ولدت مريم ذاك الذي هو رأسكم، هكذا ولدتكم الكنيسة، لأن الكنيسة هي أيضًا أم وعذارء، أم في أحشاء حبنا، وعذراء في إيمانها غير المزعزع. هي أم لأمم كثيرة الذين يمثِّلون جسدًا واحدًا، وذلك على مثال العذراء أُم الكثيرين وفي نفس الوقت هي أُم للواحد.]
يقول القدّيس كيرلس الكبير: [لنُطوِّب مريم دائمة البتوليّة بتسابيح الفرح، التي هي نفسها الكنيسة المقدَّسة.]
رابعًا: يحدّد الإنجيل اسم المدينة التي جاء إليها الملاك ليلتقي بالقدّيسة العذراء مريم، وهى “ناصرة“. مدينة في الجليل بشمال فلسطين، تبعد 88 ميلاً شمال أورشليم، و15 ميلاً جنوب غربي طبريّة. عاش فيها القدّيس يوسف والقدّيسة العذراء مريم، وقد قضى السيِّد المسيح القسط الأوفر من الثلاثين عامًا الأولى في حياته فيها (لو 3: 23؛ مر 1: 9)، فدُعيَ بالناصري (مت 12: 11؛ مر 1: 24). إذ بَدَأ رسالته رفضَهُ أهلها مرّّتيْن (لو 4: 28-31؛ مت 4: 13؛ 13: 54-58؛ مر 6: 1-6). تقع على تل (لو 4: 29)، ولم يكن لها أهميّة تُذكر، فلم ترد في العهد القديم، ولا في وثائق الدول العظمى قبل مجيء المسيح، ولا في كتابات المؤرِّخ اليهودي يوسيفوس. لعلَّ كلمة “ناصرة” تعني “قضيب” أو “غصن”… ولهذا السبب كثيرًا ما دُعي السيِّد المسيح بالغُصن.
خامسًا: جاءت تحيّة الملاك: “سلامٌ لكِ أيَّتها الممتلئة نعمة، الرب معك، مباركة أنت في النساء” [28]. لم تكن بالتحيّة العاديّة وإنما جاءت تحيَّة فريدة، حملت كل معنى الفرح، فالكلمة اليُّونانيّة “شيريه” التي تُرجمت هنا “سلام” ورد فعلها حوالي 80 مرة في الترجمة السبعينيّة للعهد القديم، تُرجم نصفها “يفرح” والنصف الآخر استخدم للتعبير عن فرح شعب الله بعمل مثير يمس خلاصهم. وكأن القدّيسة مريم قد نالت باسم الكنيسة كلها التي هي عضو فيها فرحًا فائقًا خلال تجسّد الله الكلمة وحلوله فيها.
فيما يلي بعض التعليقات للآباء على هذه التحيّة الفريدة:
v انفردت بدعوتها “الممتلئة نعمة“، إذ وحدها نالت النعمة التي لم يقتنيها أحد آخر غيرها، إذ امتلأت بمواهب النعمة.
القدّيس أمبروسيوس
v هذا الميلاد مطلقًا هو نعمة، فيه تمَّ الاتِّحاد، اتِّحاد الإنسان بالله، والجسد بالكلمة… لم تكن الأعمال الصالحة هي الاستحقاق لتحقيقه.
القدّيس أغسطينوس
v التحفت بالنعمة الإلهيّة كثوب،
امتلأت نفسها بالحكمة الإلهيّة،
في القلب تنعَّمت بالزيجة مع الله،
وتسلَّمت الله في أحشائها!
الأب ثيؤدسيوس أسقف أنقرة
سمعت القدّيسة مريم الملاك يقول لها: “الرب معكِ”، وكان لهذا التعبير مفهومه الخاص بالنسبة لها، فقد ذاقت معيّة الله على مستوى فريد، إذ حملت كلمة الله في أحشائها، وقدَّمت له من جسدها ودمها!
“مباركة أنت في النساء”… وكما يقول العلامة أوريجينوس: [الفرح الذي بوَّق به جبرائيل لمريم نزع حكم الحزن الصادر من الله ضد حواء]، [كما بدأت الخطيّة بالمرأة وبعد ذلك عبرت إلى الرجل، هكذا بدأت البشارة بالنسوة (مريم واليصابات).]
سادسًا: “فلما رأتهُ اضطربت من كلامه وفكَّرت ما عسى أن تكون هذه التحيّة. فقال لها الملاك: لا تخافي يا مريم، لأنك قد وجدت نعمة عند الله” [29-30].
يقول القدّيس جيروم: [لقد اضطربت ولم تستطع أن تجاوبه، إذ لم يسبق لها أن قدَمت تحيّة لرجلٍ من قبل، لكنها إذ عرفته من هو أجابته، هذه هي التي كانت تخاف الحديث مع رجل، صارت تتحدَّث مع ملاك بلا خوف.]
هكذا يرى كثير من الآباء أن السيِّدة العذراء كنموذج حيّ للعذارى اللواتي تكرَّسن للعبادة يسلُكن بحياءٍ شديدٍ، ولا يلتقين برجالٍ، بل يقضين حياتهنَّ في بيوتهنَّ أو في بيوت العذارى، لا يتعاملْن مع الرجال. لكننا لا نستطيع أن ننكر أن مع ما اتَّسَمت به العذراء من حياء شديد وتكريس كامل لحساب الرب، وعدم رغبتها في الزواج، كما يظهر من قولها للملاك: “كيف يكون لي هذا وأنا لست أعرف رجلاً” لكنها كانت الإنسانة الفعّالة في الجماعة المقدَّسة. فعّالة بصلواتها وتقواها، وفعّالة أيضًا بقبولها عطيّة الله الفائقة (تجسّد الكلمة في أحشائها)، وفعّالة في الخدمة، ففي أول معجزة للسيِّد المسيح طلبت منه “ليس لهم خمر” (يو 2: 3)، ورافقت السيِّد حتى الصليب، وبعد الصعود كانت مع التلاميذ تسندهم. فالبتوليّة لا تعني السلبيّة، إنما إيجابيّة الحّب الباذل المُعلن خلال العبادة والعمل، في حدود مواهب الإنسان التي يتسلّمها من الرب نفسه. لذلك يقول القدّيس أغسطينوس: [لا تكرم البتوليّة من أجل ذاتها، وإنما لانتسابها لله.]
سابعًا: جاء الوعد الإلهي للقدّيسة مريم على لسان الملاك:
“وها أنت ستحبلين وتلدين ابنًا وتسمِّينه يسوع.
هذا يكون عظيمًا وابن العلي يُدعى،
ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه،
ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد،
ولا يكون لمُلكه نهاية” [31-33].
تمتَّعت القدّيسة مريم بهذا الحبل الإلهي، إذ تجسّد ابن العلي فيها، هذا الذي ترقبه رجال العهد القديم كملكٍ يجلس على كرسي داود ويملك أبديًا، وكمخلِّصٍ لذا يدعى “يسوع” الذي يعني “يهوه خلاصي”.
v ليس من يشبه والدة الإله، فإنَّك وأنت تسكنين الأرض صرِت أُمًا للخالق.
(بارالكس) لحن البركة
v إن كان ابن الله قد صار ابنًا لداود، فلا تشك يا ابن آدم أنك تصير ابنًا لله.
إن كان الله قد نزل أعماقًا كهذه، فإنَّه لم يفعل هذا باطلاً، إنما ليرفعنا للأعالي!
وُلد بالجسد، لكي تولد أنت ثانية حسب الروح.
وُلد من امرأة، لكي تصير أنت ابنًا لله.
القدّيس يوحنا ذهبي الفم
ثامنًا: إذ سمعت القدّيسة مريم الوعد الإلهي بروح التواضع وفي إيمان، دُهشت إذ كان الوعد فريدًا لم يُسمع في الكتب المقدَّسة إنسانًا ناله، لهذا تساءلت:
“كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً؟!.
فأجاب الملاك، وقال لها:
الروح القدس يحلُّ عليكِ، وقوّة العليّ تظلِّلك،
فلذلك أيضًا القدِّوس المولود منك يُدعى ابن الله” [34-35].
أ. يظهر من حديث العذراء أنها قد نذرت البتوليّة، فلو أنها كانت تود الزواج لما قالت هكذا، بل تقول: “متى يكون هذا؟!” منتظرة تحقيق الوعد خلال الزواج. لقد وضعت في قلبها أن تكون بتولاً للرب، فحلّ البتول فيها، ليُقدِّس فيها بتوليّة الكنيسة الروحيّة. وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [اليوم تحتفل الكنيسة البتول بالميلاد البتولي… فقد أكّد السيِّد المسيح بتوليّة القلب التي يريدها للكنيسة أولاً خلال بتوليّة جسد مريم. فالكنيسة وحدها هي التي تستطيع أن تكون بتولاً فقط حين ترتبط بعريس، ألا وهو ابن البتول، إذ تقدِّم له ذاتها تمامًا.]
ب. يقول القدّيس أمبروسيوس: [لم ترفض مريم الإيمان بكلام الملاك، ولا اعتذرت عن قبوله، بل أبدت استعدادها له، أما عبارة: “كيف يكون هذا؟” فلن تنم عن الشك في الأمر قط، إنما هو تساؤل عن كيفيّة إتمام الأمر… إنها تحاول أن تجد حلاً للقضيّة… فمن حقِّها أن تعرف كيف تتم الولادة الإعجازيّة العجيبة.] لذلك جاءت إجابة الملاك لها تكشف عن سرّ عمل الله فيها لتحقيق هذه الولادة: “الروح القدس يحلُّ عليك، وقوّة العليِّ تظلِّلك، فلذلك أيضًا القدِّوس المولود منك يُدعى ابن الله“.
الروح القدس يحلُّ عليها لتقديسها، روحًا وجسدًا، فتتهيَّأ لعمل الآب الذي يُرسل ابنه في أحشائها يتجسّد منها. حقًا يا له من سرّ إلهي فائق فيه يًعلن الله حبُّه العجيب للإنسان وتكريمه له!
أما هذا الإعلان أحنت رأسها بالطاعة لتقول: “هوذا أنا أَمَة الرب ليكن لي كقولك” [38]. شك زكريَّا الكاهن في إنجاب زوجته، والبتول آمنت، وفي طاعتها قبِلت عمل الله، وكما يقول القدّيس أمبروسيوس: [لقد سَمت بإيمانها على الكاهن؛ فالكاهن أخطأ وتوارى، والعذراء قامت بإصلاح الخطأ.] هكذا صمت زكريَّا بسبب شكِّه وحملت العذراء بالكلمة المتجسّد أو النطق الإلهي الذي لن يصمت.
يرى القدّيس إيريناؤس أن طاعة القدّيسة مريم قد حلَّت موضع عِصيان أُمِّها حواء؛ الأخيرة بعِصيانها عقَّدت الأمر، وجاءت ابنتها تحِل العقدة بالطاعة.
ويرى اللاهوتيون أنه في هذه اللحظات التي قدَّمت الطاعة لله والخضوع قبلت التجسُّد، إذ لم يكن ممكنًا أن يتم التجسّد بغير إرادتها وقبولها للعمل، إذ يقدِّس الله الحريّة الإنسانيّة.
يقول القدّيس أمبروسيوس: [إنها تصف نفسها أَمََة للرب مع أنها اُختيرت أُمًا له، فإنَّ الوعد الذي تحقّق لم يُسقطها في الكبرياء.] ويقول القدّيس أغسطينوس أن السيِّد المسيح المتواضع لا يُعلِّم أُمة – في الحبل به- الكبرياء بل التواضع!
-
لقاء مريم باليصابات 39-45
إن كانت القدّيسة مريم قد صارت ممثَّلة للبشريّة المؤمنة، أو ممثَّلة للكنيسة بكونها قبلت الإيمان بوعد الله وانحنت ليحل كلمة الله فيها، فإنَّها إذ تمتَّعت بالكلمة داخلها لم تستطع إلا أن تنطلق “بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا” [39]، لتلتقي بنسيبتها اليصابات… صورة حيّة للكنيسة الحاملة للعريس فيها، والتي لن تستريح، بل تنطلق عَبر الأجيال كما على الجبال لكي تقدّم عريسها لكل نفس في العالم.
حسب المنطق البشري كان يلزمها أن تتوارى، وتبحث الأمر في نفسها كما مع خطيبها، لتدبير أمر الحبل والميلاد، لكنها وقد حملت ذاك الذي يحمل هموم العالم ويدبِّر كل الأمور لم تفكر فيما هو لنفسها، بل بروح الخدمة انطلقت إلى الجبال إلى مدينة يهوذا تخدم اليصابات.
إن حملنا مسيحنا في داخلنا ننطلق بقلب منفتح ونخرج عن “الأنا” متَّسعة قلوبنا بالحب للجميع، مشتهين خدمة الجميع!
يلاحظ في هذا اللقاء المبارك الآتي:
أولاً: حسب المنطق البشري يبحث الفقير عن الغَني، والمحتاج عمن يسد له احتياجه، والتلميذ عن معلِّم، أما حسب المنطق الإلهي فالكبير يطلب الصغير ويبحث عنه، لكي يضمُّه بالحب ويحمله على منكبيه. هكذا “الله أحبَّنا أولاً”، لقد بادر بالحب ونزل إلينا، إذ لا نقدر نحن أن نرتفع إليه. هو ينحني ليحملنا من التراب وينتشلنا من الأعماق ليدخل بنا إلى أحضان الآب ويرفعنا إلى سماواته. وهكذا إذ يحل فينا نجرى نحو الضعفاء ونبحث عن الكل لخدمتهم.
يقول العلامة أوريجينوس: [الممتازون يتقدَّمون إلى من هم أقل امتيازًا لمنحهم بعض المزايا. هكذا جاء المخلِّص إلى يوحنا ليقدِّس المعموديّة. وبمجرد أن سمعت مريم رسالة الملاك أنها ستحبل بالمخلِّص، وأن ابنة خالتها اليصابات حُبلى “قامت وذهبت بسرعة إلى الجبال ودخلت بيت اليصابات” [39-40]. يسوع وهو في بطن العذراء يُسرع بتقديس يوحنا المعمدان الذي كان لم يزل بعد في بطن أُمّه.] ويقول القدّيس أمبروسيوس: [من كان أرفع منزِلة يزور الأقل؛ مريم ذهبت إلى اليصابات، ويسوع ذهب إلى يوحنا إذ أراد يسوع أن يقدِّس معموديّة يوحنا بنفسه ليعتمد.]
إن حملنا مسيحنا القدِّوس نتقدَّس فننطلق إلى كل موضع مشتاقين أن يقدِّس الكل معنا!
ثانيًا: يقول العلامة أوريجينوس: [استحقَّت مريم أن تكون والدة الإله، فصار عليها أن تصعد الجبال وتبقى في المرتفعات.] وأيضًا يقول القدّيس أمبروسيوس: [أغريب على تلك التي امتلأت بالله أن ترتفع سريعًا إلى أعلى؟!]
ثالثًا: إذ حملت القدّيسة مريم كلمة الله محب البشر، جاء لقاؤها مع اليصابات رقيقًا للغاية، تحمل روح الخدمة في تواضع، لذلك يطالب القدّيس أمبروسيوس في تفسيره لإنجيل متى أن تتعلَّم العذارى من القدّيسة مريم رقتها وتواضعها وتكريمها للكبار. ما أحوجنا اليوم إلى إدراك أن نوالنا نعم الله، خاصة الرتب الكهنوتيّة، يلزم أن يدفعنا للخدمة المتواضعة بلا حب للكرامة أو التسلُّط، إنما بشوق لغسل الأقدام برقَّة!
رابعًا: دخلت مريم بيت اليصابات تحمل عريسها في أحشائها، لذلك إذ سلَّمت عليها يقول الإنجيلي: “فلما سمعت اليصابات سلام مريم ارتكض الجنين في بطنها، وامتلأت اليصابات من الروح القدس” [41].
أقول ليتنا في زياراتنا ولقاءاتنا مع الآخرين نحمل إليهم مسيحنا القدِّوس الذي يبهج أحشاءهم الداخليّة، ويلهب روحه القدِّوس فيهم، عوض أن نحمل معنا أفكارًا شرِّيرة وكلمات إدانة فنملأهم غمًا ونطفئ الروح في داخلهم.
وقد لاحظ الدارسون أن كلمة “ارتكَض” بالعبريّة جاءت بمعنى “رقص”، هي ذات الكلمة التي استخدمت حين رقص داود النبي أمام التابوت.
v أسألك أن تقبل الحبل به وأن ترقص أمامه، إن لم يكن في الرحم كيوحنا فعند استقرار التابوت كما فعل داود.
القدّيس غريغوريوس النزينزي
v بدون شك إذ امتلأت اليصابات من الروح القدس إنما ذلك لأجل ابنها يوحنا، الذي كان لا يزال في بطن أمه امتلأ من الروح القدس. وإذا تقدَّس الابن بعد ذلك امتلأت اليصابات أيضًا من الروح القدس.
v ظهرت في الحال بركات زيارة مريم ووجود الرب، لأنه عندما سمعت اليصابات صوت سلام مريم ارتكَض الجنين بابتهاج في بطنها وامتلأت من الروح القدس.
كانت اليصابات أول من سمع صوت مريم، لكن يوحنا كان أول من تأثر بالنعمة…
عرفت اليصابات قدوم مريم، وشعر يوحنا بوجود المسيح،
المرأة شعرت بوجود المرأة، والجنين شعر بوجود الجنين،
وبينما كانتا تتحدَّثان عن النعمة، كان الجنينان يحقّقان في الداخل عمل المراحم الإلهيّة.
الطفل ارتكَض ثم امتلأت الأم، إذ لم تمتلئ قبل الطفل…
القدّيس أمبروسيوس
v إذ امتلأ يوحنا من الروح القدس تقدَّس وهو في بطن أُمِّه لكي يعمد الرب.
إنه لم يكن يمنح الروح لكنه كان يبشِّر بالذي يمنحه، إذ كان يقول: “أنا أعمِّدكم بماء للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي… هو سيعمِّدكم بالروح القدس ونار” (مت 3: 11). لماذا بالنار؟ لأن الروح القدس نزل على شكل ألسنة كأنها من نار (أع 2: 3). بهذا الخصوص قال الرب بفرح: “جئت لأُلقى نارًا على الأرض، فماذا أريد لو اضطربت؟!” (لو 12: 49).
v عمل هذا الروح في اليصابات. أنه يعرف العذارى وصديق المتزوِّجين أيضًا إن كان زواجهم شرعيًا.
القدّيس كيرلس الأورشليمي
خامسًا: إن كان ابتهاج الجنين في الأحشاء يشير إلى الثمر الروحي الداخلي في النفس، فإنَّ الجسد أيضًا يشترك مع النفس في هذا الثمر، لذلك انطلق لسان القدّيسة اليصابات يُعلن عمَّا في داخلها منسجمًا ومتناغمًا معه، إذ “صرخت بصوتٍ عظيم،ٍ وقالت: مباركة أنتِ في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك. فمن أين لي هذا أن تأتي أُم ربِّي إليّ؟! فهوذا حين صار صوت سلامك في أذني ارتكض الجنين بابتهاج في بطني. فطوبى للتي آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب” [42-45].
بينما كان العالم كله يجهل كل شيء عن البشارة للقدّيسة مريم، إذ بالقدّيسة اليصابات تُعلن أُمومة مريم لربِّها، بالرغم من عدم وجود أيّة ظاهرة لهذا الحدث الإلهي. والأمر المُدهش أن هذه الأحداث العجيبة من ارتكاض الجنين مبتهجًا وامتلاء اليصابات بالروح القدس وشهادتها لأمومتها لربِّها تمَّت بمجرد إصغاء اليصابات لسلام مريم، وكأن ابن الله الساكن في أحشاء القدّيسة مريم قد تكلَّم بنفسه على لسان أُمِّه، وعمل خلال تصرُّفاتها.
لقد طوَّبت اليصابات مريم لأنها صارت أُمًّا لله خلال تجسّد الكلمة، وقد بقيت الكنيسة عبر الأجيال تطوَّبها، فقد وقف القدّيس كيرلس الكبير يتحدَّث أمام آباء مجمع أفسس، قائلاً: [السلام لمريم والدة الإله، الكنز الملوكي للعالم كله، المصباح غير المنطفئ، إكليل البتوليّة، صولجان الأرثوذكسيّة، الهيكل غير المفهوم، مسكن غير المحدود، الأم وعذراء. السلام لك يا من حملتِ غير المُحوى في أحشائك البتوليّة المقدَّسة.]
يعلِّق العلامة أوريجينوس على كلمات اليصابات وعلى لسانها، قائلاً:
[أيُّ عمل حسن قمْتُ به؟ أو ما هي أهميّة الأعمال التي مارِسْتُها حتى تأتي أم ربي لرؤيتي؟!
هل أنا قدّيسة؟! أيُّ كمال أو أيَّة أمانة داخليّة بموجبها استحقّقتُ نيل هذا الامتياز: زيارة أم ربِّي إليَّ؟!]
ويعلِّق القدّيس أمبروسيوس قائلاً على لسانها:
[“من أين لي”، بمعنى أنها لفرصة عظيمة أن تأتي أم ربِّي إليَّ، أعترف إني لا استحقُّها.
“من أين لي”، أي فضَّل لي، أو أيّ عمل قمتُ به، أو أيّ حق هو لي… فإنَّي أشعر بالمعجزة وأتلمَّس السرّ.]
-
تسبحة العذراء 46-56
إذ انطلق لسان اليصابات يطوِّب العذراء لأنها آمنت بالمواعيد، وحملت كلمة الله في أحشائها، انطلق أيضًا لسان العذراء بالتسبيح لله. وهكذا تحوّل اللقاء إلي مُمارسة لحياة تعبُّديّة على مستوى تسبيحي ملائكي، يمجِّد الله ويُعلن أسراره الفائقة بفرح.
“فقالت مريم: تعظِّم نفس الرب،
وتبتهج روحي بالله مخلِّصي” [46-47].
يقول العلامة أوريجينوس: [قبل ميلاد يوحنا تنبَّأت اليصابات، وقبل ميلاد الرب مخلِّصنا تنبَّأت مريم. وكما بدأت الخطيّة بالمرأة ثم بلغت إلي الرجل، هكذا بدأ الخلاص في العالم بواسطة نساء العالم، تغلَّبْن على ضعف جنسهن. لننظر الآن نبوَّة العذراء وهي تقول: “تُعظِّم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلِّصي“، فإنَّ النفس والروح يشتركان في التعظيم.]
لقد أساءت حواء إلى خالقها حين شوَّهت روحها بالعصيان، وأفسدت خليقة الله الصالحة، فلم تعد حياتها تمجّد الخالق ولا أعماقها تُعلن عن بهائه. وقد جاءت القدّيسة مريم تحمل كلمة الله في أحشائها، يردّ لنفسها جمالها الأول، وتصير روحها مبتهجة بكونها صورة الله ومثاله.
يقول العلامة أوريجينوس: [يحدّث تساؤل: كيف تعظِّم نفسي الرب؟ حقًا إن كان الرب لا يقبل الزيادة ولا النقصان إنما بلا تغيير، فإلى أي مدى يمكن لمريم أن تقول هذا؟: “تعظِّم نفسي الرب”؟… كلما كبرت صورة (المسيح فيَّ) وصارت بهيّة بأعمالي وأفكاري وأقوالي، تكون قد كبرت صورة الرب وتمجّد… وكما أن صورة الرب تزداد بهاءً فينا، فإنَّنا إذ نخطئ تصغر الصورة وتبهت…]
أما قول العذراء “تبتهج روحي بالله مخلِّصي” فيحمل مفهومًا لاهوتيًا هامًا أن القدّيسة مريم مع سموِّها العظيم تحتاج إلى “الخلاص” كسائر البشر، وتبتهج به، إذ وُلدت تحمل الخطيّة الأصليّة (الجديّة) التي ورثناها عن أبوينا الأوَّلين. لقد أدركت القدّيسة سّر تمتُّعها بالنعمة الإلهيّة، إذ قالت: “نظر إلى تواضع أمته“. لم تقل أن الله نظر إلى صلواتها أو أصوامها أو سهرها أو عدلها أوحكمتها، لكنة “نظر إلى تواضع أَمَتِه”. لقد عرفت الطريق الذي به تنطلق إلى مراحم الله وتغتصب عطاياه وهو “التواضع”. فإن كان عدو الخير قد فقد مركزه خلال الكبرياء، فقد جعل الكبرياء فخًا يقتنص به كل بشر إلى ملكوت ظلمته، حارمًا إيَّاه من خالقه مصدر حياته وعلَّة بهجته.
“فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوِّبني، لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدِّوس، ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتَّقونه” [48-50]. لقد أدركت القدّيسة مريم عظمة العطيّة التي نالتها إذ تمتَّعت بواهِب العطايا نفسه، تحمله في أحشائها، لذا جميع الأجيال (جميع المؤمنين عبر العصور) يطوِّبونها من أجل عمل الله معها. وها هي الكنيسة قد امتلأت ليتورجياَّتها بتطويبها، مُعلنه عمل الله فيها ومعها بتجسُّد الكلمة مخلِّص العالم.
إننا نطوِّبها عبر العصور، لا كعذراءٍ عاشت ثم ماتت، وإنما كعذراء تجلّى في حياتها عمل الله الخلاصي الفائق. فكل مؤمن يتطلَّع إليها فيرى فيها نعمة الله الفائقة التي وُهبت للبشريّة. إن كانت العذراء قد تمتَّعت بأمومة للسيِّد المسيح إذ حملته متجسِّدا في أحشائها كما حملته بالإيمان في قلبها، فإنَّ النفس التي تتمتَّع بالشركة مع الله تنعم أيضًا بنوع من الأمومة، لذلك يقول الأب ميثودوسيوس: [الكنيسة في حالة تمخُّض إلى أن يتشكَّل المسيح ويولد داخلنا. فكل قدّيس يتمتَّع بشركة مع المسيح كأنما يولد المسيح فيه من جديد!]
ويقول القدّيس أمبروسيوس: [احرص أن تتمِّم مشيئة الآب لكي تكون أُمًا للمسيح (مر 3: 35).]
يعلِّق القدّيس كيرلس الكبير على بقيّة تسبحة العذراء، قائلاً: [صنع قوّة بذراعه، شتَّت المستكبرين بفكر قلوبهم” [51]:
[تشير مريم “بالذراع” إلى الرب يسوع المسيح الذي ولدَته، “وبالمستكبرين” إلى إبليس وجنوده الذين أغواهم الكبرياء فسقطوا في حضيض الذُل والمسكَنة، بل وتشير مريم أيضًا بالمستكبرين إلى حكماء الإغريق الذين أبوا أن يقبلوا جهالة المسيحيّة كما اِدَّعوا، وإلى جمهور اليهود الذين لم يؤمنوا بيسوع المسيح فتفرَّقوا في أطراف الأرض.
أنزل المسيح الأعزَّاء عن الكراسي، فقد تضعضع سلطان إبليس وجنوده فلم يعودوا يملكون العالم بأن يحفظوا في أسرهم جمهور الجنس البشري. وسقط الكتبة والفرِّيسيُّون اليهود من مجدهم العالي، لأنهم تكبَّروا عن قبول السيِّد المسيح.
“أنزل الأعزاء عن الكراسي، ورفع المتَّضعين” [52].
غرق جنود إبليس وحكماء الإغريق وكتبة اليهود وفرِّيسوهم في بحر العظمة الفارغة والخيلاء الكاذبة، فأذلَّهم الله ورفع عليهم قومًا اِتَّضعت قلوبهم وخلُصت ضمائرهم، فقد أُعطوا “سلطانًا ليدوسوا الحيَّات والعقارب وكل قوّة العدو ولا يضرُّهم شيء” (لو 10: 19)، ولا تؤثِّر فينا المؤامرات الدنيئة التي يحرِّك أطرافها أولئك المتكبِّرون الغادرون.
ألم تكن لليهود يومًا ما دولة واسعة الأطراف، ونظرًا لعدم إيمانهم انكمشوا حيث هم الآن، أما الأمم فقد ساعدهم إيمانهم على تبوُّء منزلة عالية ومكانة سامية.
“أشبع الجياع خيرات، وصرف الأغنياء فارغين” [53].
يقصد بالجياع الجُبْلة البشريّة، فإنَّ جميع الناس ماعدا اليهود أعوزهم مجد الله، وذاقوا مرارة الجوع. لم يكن هناك من بين الناس سوى اليهود الذين استمتعوا بلذَّة الناموس، وتثقَّفت عقولهم بتعاليم الرسل والأنبياء، إذ “لهم التبنِّي والمجد والعهود والمواعيد” (رو 9: 4). ولكن قادهم غرورهم إلى هاوية الشموخ والكبرياء، فرفضوا السجود للإله المتجسِّد، فلا عجب أن عادوا بلا إيمان ولا علم ولا رجاء ولا نعمة، فقد نُبذوا من أورشليم الأرضيّة، وطُردوا من حياة المجد والنعمة التي ظهرت، لأنهم لم يقبلوا سلطان الحياة وصلبوا رب المجد، وهجروا ينبوع الماء الحّي، ولم يقدِّروا قيمة الخبز الحّي النازل من السماء. فلا غرابة بعد ذلك إن ذاقوا مرارة جوع لا يضارعه جوع آخر، ويحرق لسانهم عطش دونه أي عطش آخر، لأن جوعهم وعطشهم لم يكونا بماديِّين ملموسين، ولكنهما معنويَّان روحيَّان، أو كما يقول عاموس: “هوذا أيام تأتي يقول السيِّد الرب أُرسل جوعًا في الأرض لا جوعًا للخبز ولا عطشًا للماء بل لاِستماع كلمات الرب” (عا 8: 11).
أما الوثنيُّون الذين آمنوا فكثيرًا ما آلمهم الظمأ الروحي وتملَّك أفئدتهم سلطان البؤس والشقاء، فقد أُشبِعت نفوسهم من دسم الكلمة الإلهيّة وارتوت قلوبهم بالماء الحيّ الشافي، لأنهم قبلوا الرب يسوع المسيح، فحظوا بالمواعيد التي كانت لليهود قبلاً.
“عضَّد إسرائيل فتاة ليذكر رحمة” [54].
لم يُعضَّد إسرائيل حسب الجسد وهو الذي امتاز بالكبرياء والخيلاء، وشمَخ بأنفه معتمدًا على حسَبه ونسبِه، بل عضَّد إسرائيل حسب الروح، ذلك الذي يُقدِّر قيمة هذا الاسم فيعمل على رِفعته وإِكرامه، وذلك بالثقة بالله وبالإيمان بابنه والحصول على نعمه التبني من الرب يسوع، طبقًا لمواعيد الله مع أنبياء العهد القديم وبطاركته.
وتُشير الآية أيضًا إلى جمهور اليهود بالجسد، وهم أولئك الذين آمنوا بالرب يسوع المسيح، فإنَّ الله جلّ شأنه وعد إبراهيم قائلاً: “ويتبارك في نسلك جميع قبائل الأرض”، لأنه حقًا “ليس يمسك الملائكة بل يمسك نسل إبراهيم” (عب 2: 16).]
أخيرًا إذ أورد التسبحة قال: “فمكثت مريم عندها ثلاثة أشهر، ثم رجعت إلى بيتها” [56].
يعلِّق العلامة أوريجينوس على هذا القول الإنجيلي هكذا: [إن كان حضور مريم عند اليصابات وسلامها له اكافيان أن يجعلا الجنين يرتكِض مبتهجًا، واليصابات تتنبَّأ بعد أن امتلأت بالروح القدس… إن كان هذا قد تّم في ساعة واحدة، يمكننا أن نتخيَّل التقدَّم العظيم الذي أحرزه يوحنا خلال الثلاثة شهور التي مكثتهم مريم عند اليصابات. فإن كان في لحظة واحدة أو على الفور ركض الطفل في أحشاء أُمه، أو بمعنى آخر قفز متهلَّلاً وامتلأت اليصابات من الروح القدس، أفليس من المعقول أن اليصابات ويوحنا قد ازدادا في النمو خلال الثلاثة أشهر، وهما بالقرب من والدة الإله، والمخلِّص نفسه حاضر! في هذه الأشهر الثلاثة كان يوحنا يتقوَّى في حلبة الأبطال، ويُعِّد وهو في بطن أُمه لميلاد عجيب وتثقيف أعجب!… إذ عاش في البريّة إلى أن حان وقت ظهوره لإسرائيل.]
بنفس المعنى يقول القدّيس أمبروسيوس: [أيّة قامة في تقديرنا يستطيع أن يبلغها الجنين من وجود مريم في بيته هذه الفترة الطويلة؟!… هكذا كان النبي يأخذ المسحة المقدَّسة ويتهيَّأ للمعركة الكبرى.]
-
ميلاد يوحنا وخِتانه 57-66
“وأما اليصابات فتمَّ زمانها لتلد، فولدت ابنًا.
وسمع جيرانها وأقرباؤها أن الرب عظَّم رحمته لها،
ففرحوا معها” [57-58].
إذ تمتَّعت اليصابات بحنان الله ونعمته (يوحنا) في أحشائها وامتلأت بالروح القدس، تُرجِم ذلك عمليًا بظهور الطفل يوحنا في الزمن المحدََّد، الذي فرَّح قلوب الكثيرين. وهكذا يلزمنا نحن أيضًا أن نترجم ما نحمله من نِعم إلهيّة في أعماقنا إلى ثمر خارجي يُفرِّح السمائيِّين والأرضيِّين.
ميلاد القدّيس يوحنا فرَّح القلوب وأطلقها نحو تمجيد الله ببهجة صادقة. يقول القدّيس أمبروسيوس: [في ميلاد القدّيسين يعِمْ الفرح بين الجميع، إذ هو بركة للكل.]
إذ جاء وقت الختان أرادوا تسميتة “زكريَّا” على اسم والده، أما والدته التي امتلأت من الروح القدس فقالت: “يوحنا”، وزكريَّا نفسه إذ طلب لوحًا من الشمع وكتب الاسم “يوحنا” دون اتِّفاق سابق مع امرأته، انفتح لسانه في الحال ليتنبَّأ. وكأنه إذ تسلّم روح الله قيادة الموقف لم يَصر للزوجين ـ زكريَّا واليصابات ـ ثمرًا مشتركًا هو يوحنا، وإنما أيضًا صار لهم الفكر الواحد في الرب.
ويمكننا أيضًا أن نقول حين يتسلَّم روح الرب قيادة حياتنا تنسجم فينا اليصابات مع زكريَّا في الفكر والعمل، أي ينسجم الجسد (اليصابات) مع النفس (زكريَّا) ليعملا معًا بفكرٍ واحدٍ مقدَّسٍ.
الآن إذ تمتَّع زكريَّا بعطيّة الله له “يوحنا”،
“في الحال اِنفتح فمه ولسانه وتكلَّم وبارك الله.
فوقع خوف على كل جيرانهم،
وتحدَّث بهذه الأمور جميعها في كل جبل اليهوديّة.
فأودعها جميع السامعين في قلوبهم قائلين:
أترى ماذا يكون هذا الصبي؟!
وكانت يد الرب معه” [64-66].
حينما ننعم بحنان الله ينفتح فمنا الداخلي، وينطق لساننا بتهليل. نبارك الرب لا بكلمات بشريّة إنما بقوّة الله، حتى يقع خوف الله على من هم حولنا. المؤمن الحقيقي خلال تلامسه مع الله يحمل فرحًا وبهجة،ٍ وتتحوّل حياته كلها إلى فم داخلي مسبِّح، هذا التسبيح يهز السمائيِّين طرَبًا ويحطِّم عدو الخير، وكأن قوّة الله تتجلّى فيه.
صار ميلاد يوحنا كرازة، وإن كانت قد بدأت في غموض لكن “يد الرب” أي الابن الكلمة صار مرافقًا له يسنده، إذ ينطلق به إلى البريَّة، وهناك يعوله ويهتم به حتى يظهر لإسرائيل في الزمن المحدَّد.
-
نبوَّة زكريَّا الكاهن 67-80
تمتَّع زكريَّا الكاهن بحنان الله ونعمته (يوحنا)، فانطلق بلسانه يبارك الرب تحت قيادة الروح القدس، إذ رأى خطة الله الخلاصيَّة لا تشمله وحده، ولا عشيرته بل تضم الكل.
“وامتلأ زكريَّا أبوه من الروح القدس وتنبَّأ قائلاً:
مبارك الرب إله إسرائيل،
لأنه افتقد وصنع فداء لشعبه” [68].
يعلِّق العلامة أوريجينوس هكذا: [عندما امتلأ زكريَّا من الروح القدس تنبَّأ نبوَّتين عامِّتين: الأولى خاصة بالمسيح، والثانية خاصة بيوحنا المعمدان وظهوره. ويظهر من كلماته أنه يتحدَّث عن المخلِّص كقائم فعلاً وموجود في العالم، يليه الحديث عن يوحنا.]
ويقول أمبروسيوس: [الرجل الصامت زمانًا طويًلا يتنبَّأ! هذا هو ملء نعمة الله التي جعلت من الناكرين (المتشكِّكين) ممجِّدين له! ليته لا يفقد أي إنسان ثقته، ولا ييأس بتأمَّله في خطاياه السابقة، متذكرًا البركات الإلهيّة.]
يتنبَّأ عن السيِّد المسيح، قائلاً:
“وأقام لنا قرن خلاص في بيت داود فتاة.
كما تكلَّم بفم أنبيائه الذين من الدهر” [69-70].
يقول القدّيس چيروم: [القرن في الكتاب المقدَّس يعني مملكة أو سلطانًا.] ويقول القدّيس غريغوريوس النزينزي: [عندما انطرحنا إلى أسفل، رُفع قرن خلاصنا لأجلنا.]
ويقول القدّيس كيرلس الكبير: [لا تشير كلمة “قرن” إلى القوّة فحسب، بل وإلى السلطان الملكي، فإنَّ المسيح مخلِّصنا الذي ظهر من أسرة داود الملك هو ملك الملوك وقوّة الآب العظيمة.] ويقول العلامة أوريجينوس: [بالحقيقة جاء قمَّة الخلاص من بيت داود، فقد جاءت النبوَّة صدى للقول بأن الكرامة قد زُرعت على القمَّة. وأيّة قمِّة. يسوع المسيح الذي كُتب عنه: “أقام قرن خلاص في بيت داود فتاة، كما تكلَّم بفم أنبيائه القدّيسين”.]
“خلاص من أعدائنا، ومن أيدي جميع مبغضينا” [71].
يقول العلامة أوريجينوس: [ليس المقصود هنا الأعداء الجسديِّين، بل الأعداء الروحيِّين، وبالفعل جاء يسوع قويًا في المعركة ليُهلك جميع أعدائنا وينقذنا من حبائلهم، ويحرِّرنا من أعدائنا وجميع مبغضينا.]
“ليصنع رحمة مع آبائنا، ويذكر عهده المقدَّس” [72].
يقول القدّيس كيرلس الكبير: [المسيح هو الرحمة والعدل، لأننا نلنا به الرحمة، فتبرِّرنا بأن محا خطايانا بإيماننا به.] ويقول العلامة أوريجينوس: [أظن أن مجيء الرب المخلِّص قد أفاد إبراهيم وإسحق ويعقوب (آبائنا) بغفران الله لهم، إذ لا يمكن بأن هؤلاء الرجال الذين تنبَّأوا عن هذا اليوم وفرحوا به لم يستفيدوا بمجيء المخلِّص والميلاد الإعجازي… لماذا نخشى من القول بأن مجيئه قد أفاد آباءنا؟!]
مجيء المخلِّص يُعلن رحمة الله مع آبائنا ويحقّق مواعيده المستمرَّة، والتي ظهرت بوضوح في أيام إبراهيم الذي دخل مع الله في عهدٍ مقدََّسٍ وبقسَم، إذ يقول:
“القسَم الذي حلف لإبراهيم أبينا.
أن يعطينا إننا بلا خوف مُنقذين من أيدي أعدائنا نعبده.
بقداسة وبرِّ قدَّامه جميع أيام حياتنا” [73-75].
هذا العهد الذي تحقّق بمجيء المسيح يحمل شقَّين: الشِق الأول هو الغلبة على أعدائنا الروحيِّين، أي قوَّات الظلمة بدون خوفٍ، فقد حطَّم السيِّد فِخاخهم وحطَّم سلطانهم تحت أقدامنا، إن حملناه في داخلنا. والشِق الثاني والملازم للأول فهو دخولنا في الميراث، نعبد الرب بقداسةٍ وبرٍّ، أي نحمل طبيعة جديدة نعيشها كل أيام حياتنا.
هذا بخصوص النبوَّة عن السيِّد المسيح، أما عن القدّيس يوحنا المعمدان، فقال:
“وأنتَ أيها الصبي نبيّ العليّ تُدعى،
لأنك تتقدَّم أمام وجه الرب لتُعد طرقة.
لتعطي شعبَه معرفة الخلاص بمغفرة خطاياهم.
بأحشاء رحمة إلهنا التي بها افتقدنا المُشرق من العلاء.
ليضيء على الجالسين في الظلمة وظلال الموت،
لكي يُهدي أقدامنا في طريق السلام” [76-79].
وفيما يلي تعليقات بعض الآباء على هذه النبوَّة:
v “وأنت أيها الصبيّ نبيّ العليّ تُدعى” [76]. أرجو أن تلاحظوا أيضًا أن المسيح هو العليّ، وأن يوحنا المعمدان يتقدَّم المسيح بميلاده وعمله، فلماذا إذن ينكرون لاهوت المسيح؟ (يعني الأريوسيين).
“ليُضيء على الجالسين في الظلمة وظلال الموت” [79].
كان يوحنا المعمدان نورًا ساطعًا وسط اليهوديّة، فقد ورد “رتَّبْت سراجًا لمسيحي” (مز 132: 171).
وفي شريعة موسى أُضيءَ أحد الأسرجة في خيمة الاجتماع على الدوام كرمزٍ ليوحنا.
ولكن اليهود بعد أن اجتمعوا حول معموديّة يوحنا ردْحًا من الزمن هجروه وتركوه… وبذلوا ما في وسعهم في إطفاء السراج المنير الساطع. فلا غرابة إن كان المسيح يصف يوحنا المعمدان بالقول: “كان هو السراج الموقَد المُنير، وأنتم أردتم أن تبتهجوا بنوره ساعة” (يو 5: 35).
“لكي يهدي أقدامنا في طريق السلام” [79].
كان العالم يتخبَّط في دياجير الظلام الحالك والجهل الفاضح، ومنعت سحابة الجهل جمهور الناس من رؤية السيِّد المسيح الفادي، إله الحق والعدل، إلا أن رب الجميع ظهر للإسرائيليُّين نورًا لهم وشمسًا لنفوسهم.
v اِعتقد أن زكريَّا أسرع بتوجيه الكلام إلى الطفل، لأنه كان يعلم أن يوحنا سوف يذهب ليعيش في البراري، وأنه لن يتمتَّع بعد ذلك بوجوده، وبالفعل “كان في البراري إلى يوم ظهوره لإسرائيل” [80].
موسى أيضًا عاش في البراري، لكن بعد هروبه من مصر وكان عمره أربعين عامًا… أما يوحنا فمنذ ولادته ذهب إلى البراري، هذا الذي قيل عنه أنه أعظم مواليد النساء، وقد استحق أن يثقَّف بتربية ممتازة.
v قد يظن البعض أن في هذا مبالغة، إذ يوجَّه الحديث إلى طفلٍ ابن ثمانية أيام، لكننا نستطيع أن نُدرك أن هذا في الإمكان، إذ سمع الجنين صوت مريم قبْل ولادته. ولما كان يوحنا نبيًا فإنَّ للأنبياء آذانًا أُخر يفتحها روح الله ولا يفتحها نُموّ الجسد. كان يوحنا قادرًا على الفهم إذ سبق فركض بابتهاج في بطن أُمّه.
القدّيس أمبروسيوس
إنجيل القديس لوقا: 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15 – 16– 17 – 18 – 19 – 20 – 21 – 22 – 23 – 24
تفسير إنجيل القديس لوقا: مقدمة – 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15– 16 – 17 – 18 – 19 – 20 – 21 – 22 – 23 – 24
المقدمة |
تفسير إنجيل القديس لوقا |
الأصحاح الثاني |