تفسير إنجيل لوقا ٧ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح السابع

صديق الجميع

في الأصحاح السابق أبرز الإنجيلي شخص السيِّد المسيح كصديقٍ معلِّمٍ، يود أن يرفعنا معه إلى سماواته لنحيا بالناموس السماوي. ولئلاً يظن البعض أنه جاء لفئةٍ معينةٍ خاصةٍ كما فعل كثير من الغنوسيِّين الذين احتقروا البسطاء والعامة ليقيموا فئة أرستقراطيّة فكريًا حولهم، يكشف الإنجيلي عن هذا الصديق السماوي كيف يهتم أن يقتنص بحبُّه الغرباء (عبد قائد المائة)، ويهتم بالأرامل (إقامة ابن أرملة نايين)، ويترفَّق بالخطاة (قصَّة المرأة الخاطئة). يود تقديم صداقته لكل إنسانٍ بغض النظر عن جنسه أو إمكانيَّاته أو سلوكه الحالي، ليرفع الكل بروحه القدُّوس إلى العضويّة الحقيقية في جسده المقدَّس.

1. شفاء عبد قائد المائة 4-10.

2. إقامة ابن أرملة نايين 11-17.

3. إرساليّة يوحنا للمسيح 18-23.

4. شهادته عن يوحنا 24-35.

5. قصة المرأة الخاطئة 36-50.

1. شفاء عبد قائد المائة

في دراستنا لإنجيل متَّى (ص 8) رأينا قائد المائة يبعث بإرساليّة للسيِّد تشفع فيه بكونه غريب الجنس لكي يشفي الرب غلامه، وهو في هذا يمثِّل جماعة الأمم التي كانت تعاني من العذاب خلال هذا العبد الأسير لعدو الخير، وقد أظهر الأمم إيمانًا أعظم ممَّا لليهود، مع أن السيِّد لم يظهر بالجسد في وسطهم كما ظهر وسط اليهود، إذ حلّ بينهم كواحدٍ منهم بتجسُّده من القدِّيسة مريم. وفي إيمانه مملوء تواضعًا اِستحق غريب الجنس أن يسمع مديحًا من فم السيِّد المسيح لم يسمعه أصحاب الناموس والنبوَّات والمواعيد الخ.

على أي الأحوال إن كان السيِّد المسيح أعلن صداقته بتجسُّده من القدِّيسة مريم اليهوديّة الجنس، فإنَّه يُعلن صداقته للأمم أيضًا بمدحه لقائد المائة غريب الجنس. إنه يفتح ذراعيه للعالم كله ليضُم الجميع بذات الحب!

ربَّما يتساءل البعض: لماذا ذكر الإنجيلي متَّى أن القائد التقى مع السيِّد في الطريق يعلن عدم استحقاقه أن يدخل السيِّد بيته، مظهرًا إيمانه بكلمة السيِّد القادرة بسلطان أن تشفي دون حاجة إلى دخول السيِّد بيته، بينما يذكر الإنجيلي لوقا أن جماعة من شيوخ اليهود انطلقوا يسألون السيِّد أن يشفي عبد قائد المائة، وأن إرساليّة أخرى قد جاءت من قبل القائد تتحدّث بلسانه لتُعلن عدم استحقاقه لدخول بيته مع إيمانه بسلطان كلمة السيِّد في إبراء العبد؟

يوضِّح القدِّيس الذهبي الفم أنه قد تمَّت اللقاءات الثلاثة، لقاء الجماعة من شيوخ اليهود وإرساليّة القائد نفسه، وأن الإنجيلي متَّى اِكتفي باللقاء الثالث، أما لوقا فاكتفى باللقاءين الأول والثاني. ويعلِّل ذلك بأن قائد المائة في إيمانه بالسيِّد المسيح أراد الانطلاق إليه يسأله شفاء عبده، لكن شيوخ اليهود بدافع الحسد لئلاَّ يُعلن قائد المائة إيمانه أمام الجماهير، ذهبوا هم إليه ليأتوا به إلى بيت القائد تحت مظهر عمل الرحمة، قائلين: “لأنه يحب أُمَّتنا، وهو بنَى لنا المجمع” [5]. لكن الرب العارف بأسرار القلوب اِنتظر حتى تأتي الإرساليّة، بل ويأتي القائد نفسه ليمجِّده بسبب إيمانه!

ويلاحظ في هذا اللقاء بين السيِّد والقائد أو من جاءوا عنه الآتي:

أولاً: إن افترضنا حتى في هؤلاء الشيوخ من اليهود حسن النيّة، فإنَّ شفاعتهم عن القائد تكشف عن اهتمامهم بالذات “يحب أُمَّتنا“، وتركيزهم على الأمور المنظورة “بنى لنا المجمع“، أما السيِّد المسيح فمدحه من أجل ما حمله قلبه من إيمان خفي مملوء تواضعًا.

ثانيًا: إن كان قائد المائة يشير إلى الأمم القادمين إلى السيِّد المسيح بالإيمان لشفاء العبد، أي نفوسهم التي اِستعبدها عدو الخير زمانًا، حتى كادت أن تموت أبديًا كما يقول القدِّيس أمبروسيوس، فإنَّ قبول هذا القائد أيضًا يشير إلى قبول كل الفئات إلى الإيمان. فقد اِتَّسم القوَّاد والجند الرومان بالعنف الشديد والاستبداد، حتى تساءل كثير من مسيحيِّي القرون الأولى إن كان يمكن أن يبقى القائد أو الجندي في موقعه بعد قبول الإيمان المسيحي، فقد تشكَّكوا إن كان لمثل هذا الإنسان أن يحيا كمسيحي في مركزه. فقبول السيِّد المسيح لطلبه هذا القائد، ومدْحه أمام الجمهور معلنًا أنه لم يجد في إسرائيل إيمانًا كهذا يكشف عن إمكانيّة الحياة في شركة مع الرب، أيًا كان عمل المؤمن أو مركزه. يقول العلامة ترتليان: [جاء جند إلى يوحنا وقبلوا منه تدبيرًا لنظامهم (لو 3: 12-13)، وآمن قائد المائة… فليس لبس ما (مثل الزي العسكري) غير شرعي بيننا مادام الإنسان لا يقوم بعملٍ غير شرعيٍ.]

ثالثًا: يعلّق القدِّيس أمبروسيوس على اهتمام السيِّد المسيح بشفاء عبد قائد المائة وانطلاقه نحو البيت، ليهبه عطيّة الصِحَّة، قائلاً: [تأمَّل معي تواضع رب السماء الذي لم يستنكف من افتقاد عبد صغير لقائد المائة معبِّرًا عن أعمال رحمته الإلهيّة وعن مشاعر تحنُّنه. فكان انطلاقه نحو بيت قائد المائة ليس عن عجزِه عن شفاء العبد من بعيد، وإنما ليُعطيكم مثالاً في التواضع نمتثل به، ويعلِّمكم احترام المساكين كالعظماء.]

رابعًا: أبرز القدِّيس أمبروسيوس دور قائد المائة نحو عبده، فقد آمن وجاهد خلال هذا الإيمان ببعث إرساليّة للسيِّد وذهابه بنفسه… [نال العبد الشفاء خلال إيمان القائد، الذي شفع في العبد لا بالإيمان فقط، وإنما خلال الجهاد أيضًا.] هكذا يخجلنا هذا الأممي بإيمانه بالرب مع جهاده من أجل عبده المريض!

خامسًا: يقارن القدِّيس كيرلس الكبير بين إيمان شيوخ اليهود الذين جاءوا يشفعون في قائد المائة وإيمان قائد المائة نفسه، قائلاً: [ترون إذن شيوخ اليهود وهم يتوسَّلون إلى يسوع بأن يزور قائد المائة في منزله طبقًا لمشيئة، اعتقادًا منهم أنه لا يمكن شفاء المريض إلا بهذه الوسيلة. فبينما ترون من جهة أخرى رجلاً يجاهر على ملأ من الناس بأن المسيح يمكنه شفاء المريض من على بعد! فقط يقول كلمة فيبرأ الغلام، لم يطلب قائد المائة إلا أن ينطلق المسيح بكلمة. أن يعلن قبوله للرجاء، أن يفوه بالنطق السامي، أن يظهر رغبته ومشيئته، ولذلك كان هذا القائد جديرًا بتهنئة المسيح له بالقول المأثور: “لم أجد ولا في إسرائيل إيمانًا بمقدار هذا” فإنَّ في سلوك هذا الرجل دليلاً على سلامة إيمانه وقوّة عقيدته. وقد كافأه السيِّد وأجزل مكافأته وشفي عبده في اللحظة عينها وخلَّصه من قبضة الموت، وكان قد نشب أظافره فيه فكاد يخرج نفسه من بين أضلاعه.]

2. إقامة ابن أرملة نايين

إن كان السيِّد قد فتح قلبه للغرباء، فتقدَّم قائد المائة الروماني من أجل عبده الغلام ليحتل بإيمانه مركز الصدارة في عيني الرب، ويحسب صديقًا أقرب إلى الله من بني إسرائيل نفسه، فإنَّنا الآن نراه يترفَّق بأرملة فقدت وحيدها الشاب، وكأن السيِّد في صداقته اِلتقى بالأرامل والمساكين كما التقى بالغرباء. صداقته جامعة تضم كل البشر.

من جانب آخر، فإنَّ قائد المائة كما يقول كثير من الآباء كالقدِّيسين كيرلس الكبير وأغسطينوس وأمبروسيوس يشير إلى الكنيسة القادمة من بين الأمم، الذين نالوا الكثير من الزمنيَّات، لكنهم وقفوا في عجز أمام مرض الغلام العبد، غير قادرين على إبراء نفوسهم الداخليّة التي أسَرَها العدوْ كعبدٍ مسكينٍ، وحطَّمتها الخطيّة كمرضٍ يدفعها نحو الموت، أما الأرملة فتشير إلى البشريّة بوجه عام ترمَّلت وها هي تفقد وحيدها الشاب الذي صار في الطريق يحمله الرجال في نعش. إنها البشريّة التي صارت كأرملة بفقدها الله نفسه رجلها الحق، أما وحيدها الشاب الميِّت، فيُشير إلى كل نفس وقد أفقدتها الخطيّة حياتها فصارت ميَّتة، يحملها الجسد الذي أفسده الشرّ، وكأنه بالرجال حاملي النعش، وقد خرجت إلى الطريق إذ لم يعد للنفس موضع في بيت الرب، أو في الفردوس البيت الأول للإنسان.

ويلاحظ في إقامة هذا الشاب الآتي:

أولاً: في أيام السيِّد المسيح، بلا شك مات كثيرون كأطفال بيت لحم، والقدِّيس يوحنا المعمدان الذي استشهد ومئات وربَّما آلاف من رجال ونساء وشيوخ وأطفال، ولا نعلم إن كان السيِّد قد أقام كثيرين أم اكتفى بإقامة هؤلاء الثلاثة الذين ذكرهم الإنجيليُّون: لعازر، والشاب ابن أرملة نايين، والصبيّة ابنة يايرس. فإنَّ السيِّد المسيح لم يأتِ لينزع عنَّا موت الجسد، إنما لكي يحطِّم موت النفس، ويرفعنا فوق سلطان الموت، فنجتازه معه غالبين ومنتصرين لنبلغ اللقاء معه وجهًا لوجه أبديًا.

لم يعدْنا السيِّد بطرد الموت عنَّا وإنما إذ مات معنا وعنَّا، حوَّل الموت إلى جسر للعبور بنا إلى الفردوس على انتظار يوم الرب العظيم، لذلك نسمع عن والدة القدِّيس غريغوريوس النزينزي أنها ارتدت ثياب العيد عندما حضرت دفن جثمان ابنها قيصريوس.

تهتم الكنيسة بقيامة النفس أولاً، فإنَّ الجسد سيقوم حتمًا، فإن كانت النفس متمتِّعة بالقيامة ينعم معها بالمجد الأبدي، لهذا يقول القدِّيس أغسطينوس: [أنه لعمل مُعجزي أعظم أن يقوم شخص ليحيا إلى الأبد عن أن يقوم ليموت ثانية.] كما يقول: [لقد فرحت الأم الأرملة عند إقامة الشاب، وها هم البشر يقومون كل يوم بالروح، والكنيسة كأم تفرح بهم. ذاك كان ميتًا حقًا بالجسد، أما هؤلاء فهم أموات بالروح. موته المنظور جلب بكاءً منظورًا، موتهم غير المنظور لم يكن موضع سؤال الآخرين ولا موضع إدراكهم، فبحث عنهم ذاك الذي يعرف أنهم أموات، هو وحده يعرفهم هكذا وقادر أن يهبهم حياة، فلو لم يأتِ الرب ليقيمهم لما قال الرسول: “استيقظ أيها النائم وقم من الأموات، فيضيء لك المسيح” (أف 5: 14)… لا يستطيع أحد أن يوقظ أخرًا من سريره بسهوله مثلما يقدر المسيح أن يوقظ من في داخل القبر.]

ثانيًا: إن كانت الكنيسة تركِّز على قيامة النفس أولاً بطريقة غير منظورة، فإنَّها لا تتجاهل أيضًا قيامة الجسد، الأمر الذي أنكره بعض الهراطقة خلال احتقارهم للجسد، فقد أقام الرب هؤلاء الثلاثة ليُعلن أنه واهب القيامة للنفس والجسد معًا. يقول القدِّيس كيرلس الكبير: [أولئك الأموات الذين أحياهم المسيح أكبر شاهد على قيامة الأموات… وقد أشار الأنبياء المقدَّسون إلى هذه الحقيقة، إذ قيل: “تحيا أمواتك، تقوم الجثث، استيقظوا، ترنَّموا” (إش 26: 19). يراد بالاستيقاظ حياة المسيح التي يهبها بقوّة الروح القدس. وأشار أيضًا المرنِّم إلى ذلك بعبارات خاطب بها الله مخلِّص العالم: “تحجب وجهك فترتاع، تنزع أرواحها فتموت، وإلى ترابها تعود” (مز 104: 29). كانت معصية آدم سببًا في إقصاء وجوهنا عن رؤيّة الله والتصاقها بتراب الأرض، لأن الله حكم على الطبيعة البشريّة بالقول: “لأنكَ تراب وإلى تراب تعود” (تك 3: 19). ولكن عند نهاية العالم يتجدَّد سطح الأرض، لأن الله الآب يهب بابنه حياة لجميع ما في الكون. الموت جلب على الناس الشيخوخة والفساد… أما المسيح فهو المحيي والمجدِّد، لأنه هو الحياة.]

إذن إقامة المسيح لهؤلاء الأموات كانت إعلانًا عن عمله الحالي بإقامة نفوسنا خلال الاتِّحاد معه بكونه الحياة، وإقامة أجسادنا في يوم الرب العظيم على مستوى يليق بالحياة السماويّة الأبديّة.

ثالثًا: في دراستنا لإقامة ابنة يايرس (مت 9: 18-26) رأينا كيف حمل إقامة هؤلاء الثلاثة (لعازر، والشاب ابن الأرملة، والصبيّة ابنة يايرس) رمزًا لعمل السيِّد المسيح للنفوس، في مراحل ارتكابها للخطيّة المختلفة، أو كقول القدِّيس أغسطينوس: [هذه الأنواع الثلاثة من الموتى هم ثلاثة أنواع من الخطاة لا يزال يقيمهم المسيح إلى اليوم]، فالصبيّة ترمز لمن يخطئ داخليًا في القلب، والشاب لمن ارتكب الشرّ عمليًا بطريقة واضحة، ولعازر لمن تحوَّلت الخطيّة في حياته إلى عادة، وقد جاء ربَّنا يقيم الكل!

رابعًا: أبرز الإنجيلي جانبًا رئيسيًا لإقامة هذا الشاب، إذ يقول: “فلما رآها الرب تحنَّن عليها” [13]، وكأن السيِّد لم يُقِمْ الشاب استعراضًا لسلطانه على الموت وقدراته على وهْب الحياة، إنما تقدَّم ليهب “حنانه”. يتعامل الله معنا على مستوى السلطة والسيادة، مع أنه الخالق وسيِّد الكل، لكنه يتعامل مع الإنسان على مستوى الحب والرحمة، بكونه الأب والعريس والصديق والحبيب لكل إنسان يقبله.

يقول القدِّيس أمبروسيوس: [نؤمن أن الأحشاء الإلهيّة تحركها دموع أُم أرملة أضناها الألم لموت وحيدها وهي أرملة. مشاركة الجموع لها في آلامها لم يسد الفراغ الذي تركه موت ابنها وحرمانها من الأمومة… لكنها ببكائها نالت قيامة ابنها الشاب، الابن الوحيد.]

ليتنا نكون كهذه الأرملة، إذ نفقد رجلنا الذي اخترناه خلال العصيان، أي إبليس، هذا الذي دفع بابننا الوحيد أي نفسنا إلى الموت، فصارت محمولة في الجسد كما على نعش، خارج البيت الإلهي بلا حياة. نلتقي مع واهب الحياة إذ وحده يتحنَّن علينا، فينزع عنَّا ثقل هذا الموت، ويردّ لنا نفوسنا حيّة فيه، وأجسادنا مقدَّسة بروحه القدِّوس.

خامسًا: يعلّق أيضًا القدِّيس أمبروسيوس على القول الإنجيلي: “ثم تقدَّم ولمس النعش فوقف الحاملون” [14]، ناظرًا إلى النعش الخشبي بكونه الشجرة التي من خلالها حُملنا إلى القبر، فقد لمسها السيِّد بارتفاعه على خشبة الصليب لتصير لنا سِرْ حياة. وكأن الخشبة التي كانت لنا نعشًا تحملنا إلى الهاويّة، صارت بالمسيح يسوع ربَّنا “قوّة الله (1 كو 1: 18).

سادسًا: يرى القدِّيس أمبروسيوس في هذا المنظر صورة حيّة للكنيسة التي لا تتوقَّف عن البكاء من أجلنا متضرِّعة إلى مسيحها ليردّ لها وحيدها ينطق بكلمة الحياة، إذ قيل “فجلس الميِّت، وابتدأ يتكلَّم، فدفعه إلى أُمّه” [15].

يقول القدِّيس أمبروسيوس: [إن أخطأت خطيّة مُميتة لا تستطيع أن تغسلها بدموعك، فاجعل أُمَّك تبكي عليك، التي هي الكنيسة، فإنَّها تشفع في كل ابن لها كما كانت الأرملة تبكي من أجل ابنها الوحيد. إنها تشترك في الألم بالروح، وهذا أمر طبيعي بالنسبة لها حينما ترى أولادها يدفعهم الموت في الرذائل المُهلكة، فإنَّنا نحن أحشاء رأفتها. حقًا توجد أحشاء روحيّة كتلك التي لبولس القائل: “نعم أيها الأخ ليكن لي فرح بك في الرب، أرحْ أحشائي في الرب” (فل 20). نحن أحشاء الكنيسة، لأننا أعضاء جسدها من لحمها وعظامها. لتبكِ إذن هذه الأم الحنون ولتشاركها الجموع لا الجمع وحده، حينئذ تقوم أنت من الموت وتخرج من القبر. يتوقَّف حاملو الموت الذي فيك وتنطق بكلمات الحياة، عندئذ يخاف الجميع ويرجع الكل وهم يباركون الله الذي قدَّم لنا مثل هذا الدواء الذي يخلصنا من وطأة الموت.]

سابعًا: يتساءل القدِّيس كيرلس الكبير عن سِرْ لمس السيِّد المسيح للنعش مع أنه كان قادرًا أن يقيمه بكلمة، ويجيب، قائلاً: [كان ذلك يا أحبائي لتعلموا أن لجسم المسيح تأثير في خلاص الإنسان، لأن جسد الكلمة، المسيح العظيم، هو جسم الحياة المتسربل بالقوّة والسلطان، وكما أن الحديد إذا ما لمس النار بدت فيه مظاهر النار وقام بوظائف النار، كذلك جسد الكلمة المسيح تجلَّت فيه الحياة، وكان له السلطان على محو الموت والفساد.]

هكذا أظهر السيِّد ما كان لجسده من قدرات على إعطاء الحياة، خلال الاتحاد الذي للاهوت مع الناسوت أبديًا… بهذا رفع من شأن الجسد الذي كان موضع عداوة الإنسان والازدراء به، مباركًا طبيعتنا فيه.

3. إرساليّة يوحنا للمسيح

القدِّيس يوحنا المعمدان الذي سبق فركض في أحشاء أمه متهلَّلاً بقدوم المخلِّص المتجسِّد في أحشاء البتول، والذي أعلن عن أزليَّته (يو 1: 30)، وعن رسالته كحمل الله الذي يرفع خطيّة العالم (يو 1: 29)، وقد رأي الروح القدس نازلاً عليه والآب يشهد له في لحظات العماد… الآن يبعث إرساليّة إلى السيِّد المسيح تقول: “أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟” [20].

لم يكن يوحنا يشك في شخص السيِّد المسيح، لكنه أراد أن يعطي للسيِّد المسيح المجال ليقتنص تلاميذه له. فالقدِّيس يوحنا لا يريد لنفسه تلاميذ يعملون لحسابه، إنما يودْ في تلمذته للآخرين أن يبعث بهم إلى مخلِّصه، دافعًا إيَّاهم إلى “الصداقة الإلهيّة”. وقد رأي ألا يدخل في حوارٍ مع تلاميذه في شأن المخلِّص، إنما يبعث بإرساليّة إليه ليقدِّم السيِّد نفسه باجتذابهما إليه، فيجتذبان معهما بقيّة التلاميذ.

أقول ما أنجح الراعي الذي يدفع بشعب الله إلى التلاقي مع السيِّد المسيح نفسه لكي يسحب قلوبهم إليه وينعمون بالصداقة الإلهيّة، بهذا يكون عمل الراعي هو مجرد تلاقي شعب الله بالمخلِّص نفسه. مثلَ هذا الراعي لا يعمل لحساب كرامته أو شعبيَّته، وإنما لحساب ملكوت الله.

يحدّثنا القدِّيس كيرلس الكبير عن سبب هذه الإرساليّة في شيء من الاسترسال، قائلاً:

[لا تظنُّوا إذن أن المعمدان المغبوط عجز عن معرفة كلمة الله، المسيح المتجسِّد – فقد كان واثقًا من المسيح ومن شخصيَّته. وأما سؤاله عن المسيح فقد أملاه له روح الحكمة والفراسة ليجعل من السؤال درسًا مفيدًا لتلاميذه. كان هؤلاء التلاميذ في عزلة عن المسيح، فلم يُدركوا مجده وسلطانه، بل واشتعلت فيهم نيران الحقد، إذ سمعوا بتفوُّقه على سيِّدهم يوحنا في إجراء المعجزات والعجائب، وقد ظهرت نيَّاتهم السيِّئة هذه في إحدى المرَّات، إذ اقتربوا من المعمدان، وسألوه عن المسيح قائلين: “يا معلِّم هوذا الذي كان معك في عبْر الأردن الذي أنت قد شهدتَ له هو يعمِّد، والجميع يأتون إليه” (يو 3: 26). أجاب يوحنا وقال: “لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئًا إن لم يكن قد أعطيَ من السماء. أنتم أنفسكم تشهدون إني قلت لست أنا المسيح بل أنا مرسل أمامه، من له العروس فهو العريس، وأمَّا صديق العريس الذي يقف ويسمعه، فيفرح فرحًا من أجل صوت العريس، إذن فرحي هذا قد كمُل، ينبغي أن ذلك يزيد وإنِّي أنا أنقص” (يو 3: 27-30).

إننا لا نقول أن المعمدان انحطَّ مقامه في الوقت الذي زاد فيه مجد المسيح بأن التفَّ حوله عدد كبير من الناس، ولكن يُراد بنقص يوحنا وزيادة المسيح أن يوحنا كان إنسانًا فلابد من أن يصل إلى درجة ما بعدها من مزيد، أما المسيح فهو إله متأنِّس فلا حد لنموُّه ولا نهاية لعظمته ولذلك يقول المعمدان: “ينبغي أن ذلك يزيد وأنِّي أنا أنقص“. إن كل من وقف في مستوى واحد ينقص، وذلك بالنسبة لمن لا يقف أمامه عائق عن النمو والتقدُّم، وحتى يُثبِت المعمدان أنه على حق في قوله هذا أشار إلى لاهوت المسيح، وبرهن لهم أنه لابد من أن يفوق جميع الناس، إذ قال: “الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع والذي من الأرض هو أرضي ومن الأرض يتكلَّم” (يو 3: 31). من الذي أتى من فوق، ومن ذا الذي يفوق جميع الناس؟ من الواضح هو كلمة الله المتجسِّد، هو مثال الآب ومساوٍ له في الجوهر، ونظرًا لمحبَّته شاء فنزل وتواضع ليصير مثلنا. فالمسيح إذن يفوق كل من في الأرض، ولما كان المعمدان أحد سكان الأرض، ويتَّفق معهم في الإنسانيّة، لزم أن يفوقه المسيح الإله.

لا ننكر أن يوحنا كان حميد الخصال. مقطوع النظير فضلاً ونُبلاً، بلغ درجة عظيمة في البرّ والصلاح يستحق عليها المدح والثناء، إذ وصفه السيِّد بالقول المأثور: “لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان” (مت 11: 11) ولكن رغمًا عن كل هذا لم يكن المعمدان من فوق، بل كان أرضيًا مثله مثلنا.

فترون إذن أن تلاميذ يوحنا إذ لم تتطهَّر قلوبهم بعد من أمراض اليهود الوبيلة، نسبوا ليوحنا ما رأوه في المسيح من قوّة إلهيّة… أما يوحنا فقد أدرك مكانة المسيح السامية، وسُِرَّ كل السرور بالإشارة إلى مجد السيِّد العظيم، وحتى يطهِّر يوحنا قلوب تلاميذه من أدران الشكوك والريب، ويقرِّبهم إلى شمس البرّ إله المجد الرب يسوع المسيح، قبِل أن يتنكَّر يوحنا تحت زي الجهل والسذاجة، وأوفد رسله إلى المسيح ليسألوه: “أنت هو الآتي أم ننتظر آخر”.]

الآن نتساءل: لماذا أورد الإنجيلي لوقا هذه الإرساليّة بعد ذِكره شفاء عبد قائد المائة وإقامة الشاب ابن أرملة نايين؟

إن كان قائد المائة يمثِّل الغرباء الذين اِحتضنهم الصديق السماوي بحبِّه نازعًا عنهم موت الخطيّة، وإن كانت الأرملة تشير إلى قبول السيِّد المسيح للأرامل والمساكين أصدقاء له، يرُدّ لهم بهجة خلاصهم، فالآن إذ يلتقي بتلميذيّ يوحنا، ويصطادهم في شباك محبَّته، يُعلن شوقه لاقتناء الشعب اليهودي للتلمذة له. فيوحنا يمثِّل الناموس، وتلميذاه أو إرساليته تشير لتلاميذ الناموس أو الذين تحت الناموس. بعث يوحنا تلميذيه ليعلن أن “غاية الناموس هي المسيح” (رو 10: 4). وقد بعث تلميذين، إذ رقم 2 يشير إلى المحبَّة. فإنَّنا لن نلتقي بمسيحنا خلال الناموس بدون المحبَّة!

يقول القدِّيس أمبروسيوس: [يوحنا يمثِّل الناموس، كان من الطبيعي أن هذا الناموس الذي يتكلَّم عن المسيح وقد صار سجينًا في قلوب المؤمنين، ووُضع في الحبس أن يفتقر للنور، فقد قاسى عذابات خلف قضبان عدم الفهم، لهذا فهو لا يقدر أن يسير إلى النهاية كشاهد للمقاصد الإلهيّة ما لم تسنده بشارة الإنجيل… لذلك بعث يوحنا اثنين من تلاميذه ليزداد معرفة، لأن المسيح هو كمال الناموس… وكان التلميذان رمزًا لشعبين، آمن الأول لأنه من اليهود، وأمن الثاني حينما سمع لأنه كان من الأمم.]

أما موقف السيِّد المسيح تجاه هذه الإرساليّة فقد اِنصبَّ على الكشف عن أعمال محبَّته الفائقة، تاركًا أعماله تجيب كل تساؤل. يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [إذ يعرف المسيح غاية يوحنا، لم يقل: “أنا هو”… وإنما تركهم يتعلَّمون خلال أعماله… فإنَّهم بالطبع يحسبون شهادة أعماله أكثر تأكيدًا فوق كل شك عن شهادة الكلمات.] ويقول القدِّيس أمبروسيوس: [يؤمن الإنسان كل الإيمان بشهادة الأعمال أكثر من دعوة الكلمات.]

يوحنا كمُمثِّل الناموس والنبوَّات أرسل التلميذين، أما السيِّد المسيح فدخل بهما إلى العمل الإلهي عينه، ليقولا مع الرسول يوحنا: “الذي رأيناه بعيُّوننا، الذي شاهدناه، ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة” (1 يو 1: 1).

قدَّم لهما الأعمال التي طالما تنبَّأ عنها الأنبياء، إذ قال لهما: “إن العمي يُبصرون، والعرج يَمشون، والبرص يُطهَّرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يُبشَّرون، وطوبى لمن لا يعثُر فيّ” (لو 7: 22-23). وكما يقول القدِّيس أمبروسيوس: [هذه هي الشهادة الكاملة التي بها يمكن معرفة الرب من أجل النبوَّة التي خُصِّصت لشخصه وليس لآخر: “المعطي خبزًا للجياع، الرب يطلق الأسرى، الرب يفتِّح أعين العميان، الرب يقوِّم المنحنين” (مز 146: 7-8)، “الذي يفعل هذا يملك إلى الأبد”. إذن فعلامات السلطان الإلهي لا البشارة (بالعمل لا بالكلام) فهي تجعل ظلمة الليل الذي لا ينتهي تنقشع عن أعين العميان، فينالوا شفاءً عندما يُسكب النور على جراحات أعينهم الفارغة، ويجعل الصم يسمعون، وتقوم الأيدي المسترخية والرُكَب المخلَّعَة، وينجذب الأموات إلى النور، وتنبعث منهم قوّة الحياة.]

حذرهما السيِّد بقوله: “طُوبى لمن لاَ يعثُر فيّ“، لأن الصليب قادم، هذا الذي فيه يتعثَّر كثيرون، كقول الرسول بولس: “فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، أما عندنا نحن المخلَّصين فهي قوّة الله” (1 كو 1: 18). فإنَّ كان السيِّد قد جاء ليفتح الأعين على معاينة أسراره والآذان لسماع صوته الإلهي، ويطلق النفوس من أسر الخطيّة، ويطهِّرها من النجاسة الداخليّة، ويُقيم النفوس من الموت، فإنَّ ثمن هذا كله “الصليب” الذي هو “لليهود عثرة ولليونانيِّين جهالة” (1 كو 1: 23).

4. شهادته عن يوحنا

إذ فرح يوحنا أنه ينقص بينما السيِّد المسيح يزداد (يو 3: 30)، بعث بإرساليته بهدف سحب كل تلاميذه إلى التلمذة على يديّ المخلِّص نفسه. لم يقلِّل هذا العمل من شأن يوحنا المعمدان، بل بالأكثر وقف السيِّد المسيح نفسه يمجِّده متحدّثًا مع الجموع عنه، هكذا:

ماذا خرجتم إلى البريّة لتنظروا،

أََقَصَبة تُحرِّكها الريح؟

بل ماذا خرجتم لتنظروا أإنسانًا لابسًا ثيابًا ناعمة؟

هوذا الذين في اللِباس الفاخر والتنعُّم في قصور الملوك.

بل ماذا خرجتم لتنظروا؟

أنبيًا! نعم أقول لكم وأفضل من نبي…” [24-26].

في دراستنا لإنجيل معلمنا متَّى (لو 11: 7-14) قدَّمنا الكثير من تعليقات الآباء في هذا المديح الربَّاني، لذا أكتفي بعرض بعض التعليقات الأخرى: مكملاً ما سبق عرضه:

أولاً: رأينا أن السيِّد المسيح لم يمدح القدِّيس يوحنا في حضرة تلميذيه، بل بعد رحيلهما حتى لا يبدو متملِّقًا. ليتنا نحن أيضًا لا نهتم بمديح الآخرين في وجوههم، بقدر ما نمدحهم من ورائهم، فنظهر بالحق محبِّين لهم بلا رياء ولا بهدف زمني لنوال مكافأة أدبيّة أو ماديّة.

ثانيًا: يقدِّم لنا القدِّيس كيرلس الكبير تفسيرًا لمدح السيِّد المسيح القدِّيس يوحنا المعمدان يختتمه بإعلان أن الأصغر في ملكوت السماوات أعظم منه؛ بأن السيِّد المسيح انتقى هذا القدِّيس بكونه أعظم من نال برّ الناموس، فهو أفضل مَنْ ولَدَتْه امرأة من بين اليهود، نبي فاق غيره من الأنبياء، شهد عنه ملاخي النبي (3: 1) أنه ملاك الرب. ومع هذا فإنَّ قورنت هذه العظمة التي في الناموس ببشارة الإنجيل حُسبت كلا شيء، فخلال الناموس مهما جاهد الإنسان يبقى “من مواليد النساء“، أما عطيّة العهد الجديد فترفعنا فوق اللحم والدم لننال البنوَّة لله.

فيما يلي مقتطفات من كلمات القدِّيس كيرلس السكندري في هذا الشأن:

[كان غرض المسيح مخلِّص العالم من كلامه إذن بيان ما في الناموس من فضل وميزة، ولكن رغمًا من مزاياه وخصائصه… ليس له في ميدان البنيان الروحي شأن يقربه له. أما نعمة الإيمان بالمسيح ففيها ضمان البركات والخيرات، فيها من القوّة ما يتوج الهامات بأكاليل لا نهاية لجمالها وحسنها…

هذا ما نتعلَّمه من دراسة أقوال بولس المغبوط، فقد أعلن أنه قد تحرَّر من جهة البِرّ الذي في الناموس فكان بلا لوم، ومع كل ذلك يصرخ قائلاً: “لكن ما كان لي ربحًا فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة، بل إني أحسب كل شيء أيضًا خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربِّي، الذي من أجله خسرت كل الأشياء، وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح” (في 3: 7-8). وقد اِعتبر بولس الإسرائيليِّين جديرين باللوم والتقريع بقوله: “لأنهم إذ كانوا يجهلون بِرّ الله، ويطلبون أن يُثبتوا بِِرّ أنفسهم لم يخضعوا لبِِرّ الله، لأن غاية الناموس هي المسيح للبِرّ لكل من يؤمن به” (رو 10: 3-4). ويقول في موضع آخر: “نحن بالطبيعة يهود، ولسنا من الأمم الخطاة، إذ نعلم أن الإنسان لا يتبرَّر بأعمال الناموس، بل بإيمان يسوع المسيح، آمنا نحن أيضًا بيسوع المسيح لنتبرَّر بإيمان يسوع لا بأعمال الناموس” (غل 2: 15).

وعليه فكل من يؤمن بالمسيح يحظى بأمجاد تفوق أمجاد البِرّ الذي يمنحه الناموس، ولهذا اِعتبر المعمدان في موضع من بِرّ الناموس لا يدانيه فيه أحد غيره، ولكن اُعتبر من جهة أخرى أصغر بكثير من أصغر إنسان في ملكوت السماوات، والمراد بملكوت السماوات كما ذكرنا آنفًا نعمة الإيمان بالمسيح، فبها نصبح جديرين بكل بَركة روحيّة تأتي من فوق من الله أبينا، لأنها هي التي تحرِّرنا من كل لوم وتمنحنا حق البنوَّة لله، وتجعلنا شركاء في موهبة الروح القدس ووارثين للكنز السماوي…

يصف السيِّد يوحنا أنه بين المولودين من النساء ليس نبي أعظم من يوحنا المعمدان، ولكن الأصغر في ملكوت الله أعظم منه. وكيف كان ذلك؟ إليك الجواب: فإنَّ يوحنا كان مثْل الآخرين الذين سبقوه، تُنسب ولادته إلى امرأة، أما أولئك الذين قبلوا الإيمان بالمسيح فليسوا أبناء نساء بل أبناء الله على حد قول الإنجيلي الحكيم: “وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنين باسمه، الذين ولدوا ليس من دم، ولا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله” (يو 1: 12-13). لقد أصبحنا أبناء الله العليّ، “مولودين ثانية لا من زرع يفنَى، بل ممَّا لا يفنَى بكلمة الله الحيّة الباقية إلى الأبد” (1 بط 1: 23). إذن كل من وُلد لا من زرعٍ فانٍ، بل من كلمة الله الباقية يفوق المولود من امرأة.

وهناك سبب آخر يجعل المولودين من كلمة الله أرقى من المولودين من النساء، وذلك لأن هؤلاء لهم آباء أرضيِّين، أما أولئك فلهم أب سماوي، لأن المسيح أخ لهم، فأصبحوا بنعمة الأخوة أبناء الله، إذ قال المسيح جهارًا: “ولا تدعوا لكم أبًا على الأرض، لأن أباكم واحد الذي في السماوات” (مت 23: 9). ويقول بولس الحكيم بحق مؤكِّدًا النظرية السابقة: “ثم بما أنكم أبناء أرسل الله روح اِبنه إلى قلوبكم صارخًا يا أبَا الآب” (غل 4: 2). لأنه حالما قام المسيح وحطَّم جهنَّم، مَنح نعمة البنوَّة لكل من آمن باسمه، وكان في رأس القائمة تلاميذه المقدََّسون، لأنه “نفخ وقال لهم أقبلوا الروح القدس، من غفرتم خطاياه تغفر له ومن أمسكتم عليه خطاياه أُمسكت” (يو 20: 22-23). وبما أن هؤلاء التلاميذ أصبحوا شركاء في الطبيعة الإلهيّة إذ مُنحوا نعمة الروح العظيم السلطان، الكبير الشأن، لزم أن تكون لهم قوّة إلهيّة، وذلك بغفران خطايا بعض الناس وإمساك خطايا قوم آخرين.]

ثالثًا: إذ نركِّز على كلمات السيِّد المسح في مدحه للقدِّيس يوحنا نجده يبدأ هكذا: “ماذا خرجتم إلى البريّة لتنظروا؟ أقَصَبة تحرِّكها الريح؟ بل ماذا خرجتم لتنظروا أإنسانًا لابسًا ثيابًا ناعمة؟…” [24-25].

يتطلَّع الرب إلى العالم، وكأنه قد صار بريّة خربة بلا أشجار مثمرة، إذ أفسدت الخطيّة الخليقة من جنَّة مبهجة ومُشبعة إلى برِّيّة قفراء ومرعبة. هذه البرِّيّة امتلأت بقصب تلعب به الرياح، تميل به يمينًا ويسارًا، أما القدِّيس يوحنا المعمدان فإنَّه وإن كان قد نشأ في برِّيّة العالم كقَصَبةٍ، لكن خلال إيمانه بالمسيَّا المخلِّص ليس بالقَصَبة التي تحرِّكها رياح الهرطقات وتحطَّمها زوابع الشهوات الأرضيّة. إنه بحق تلك القَصَبة التي أمسك بها السيِّد المسيح ليجعل منها قلمًا ماهرًا، كعادة النُسَاخ قديمًا، إذ كانوا يستخدمون القَصَبة في الكتابة بعد تهيئتها لهذا العمل. هكذا كان يوحنا في يديّ المخلِّص القلم الذي يكتب به ليدعو الكل للتمتَّع بخلاصه.

في هذا يقول القدِّيس أمبروسيوس:

]يشبِّه الرب هذه الحياة بالبرِّيّة غير المزروعة ولا منتجة، ليس بها ثمر بعد. يحذّرنا الرب من التشبُه بالذين ينتفخون، وترتبط أفكارهم بالأرضيِات، هؤلاء الذين ليس لهم فضيلة خفيّة، بل يتباهون بمجد هذا العالم الزائل. هؤلاء إذ يتعرَّضون لرياح هذه الحياة وتقلُّباتها يضطربون. لهذا يُشَبَّهون بالقََصََبة، لأنهم بلا ثمر بِر حقيقي، لكن لهم الزينة العالميّة…

لكن إن اقتلعت القصبة من الأرض وشذبتها من كل شائبة، أي خلعت الإنسان القديم وأعماله (كو 3: 9) وسلمتها لتمسك بها يّد كاتب ماهر ليكتب بها بسرعة، إن فعلت هذا ينتعش هذا القلم وصايا الرب في أعماق قلبك، على ألواح قلب لحميّة (2 كو 3: 3)، فقد قيل عن هذا القلم: “لساني قلم كاتب ماهر” (مز 45: 1). [

إن كنَّا مغروسين في البرِّيّة كقَصَبة مرضوضة تلعب بها الرياح، فلنُسلِّم حياتنا في يديّ ذاك الذي قيل عنه: “قَصَبة مرضوضة لا يقصِف” (إش 42: 3)، فإنه يقتلعنا من أرض هذه الحياة ليغرسنا فيه كأعضاء جسده، محوّلاً حياتنا إلى قلمٍ ماهرٍ في يده، يغمسنا في دمه الطاهر مقدِّسًا أرواحنا ونفوسنا وأجسادنا، فنصير بحق رسالة المسيح المكتوبة لا بحبر ولكن بروح الله الحيّ (2 كو 3: 2-3).

مرة أخرى يقول: “بل ماذا خرجتم لتنظروا؟ أإنسانًا لابسًا ثيابًا ناعمة؟…” يقول القدِّيس أمبروسيوس: [لا يعظ الرب هنا عن الثياب بالرغم من أن كثيرين يتشبَّهون بالنساء في تحلِّيهم بالثياب الناعمة… لكن يبدو أن الرب يشير إلى ثياب أخرى، إن لم أخطئ التقدير ألا وهي الأجساد البشريَّة التي ترتديها الروح، لهذا غُمس قميص يوسف بالدم (تك 37: 31) مثل جسد المسيح

اللِباس الناعم هو أعمال الشهوة وعاداتها، لهذا يحثّنا الرسول أن نخلع الإنسان القديم لنلبس الجديد (كو 3: 9).]

لم يلبس يوحنا اللباس الناعم كالذين يعيشون في القصور، أي لم يسلِّم جسده للشهوات والملذَّات والعادات الرديئة كمن أُسروا في قصر إبليس، إنما تقدَّس جسده مع نفسه لحساب مملكة الله!

يكمل السيِّد المسيح مديحه، قائلاً: “بل ماذا خرجتم لتنظروا؟ أنبيًا؟ نعم أقول لكم، وأفضل من نبي، هذا هو الذي كتب عنه: ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك”.

هكذا يؤكِّد السيِّد المسيح أن يوحنا نبي بل وعظيم بين الأنبياء، وكما يقول القدِّيس كيرلس الكبير على لسان السيِّد: [نعم لأنه قدِّيس ونبي، إلا أنه نبي يفوق الأنبياء الآخرين مكانةً ونبلاً، لأنه لم يعلن فقط عن مجيئي بل أشار إليّ… وصرخ قائلاً: “هوذا حمل الله الذي يرفع خطيّة العالم” (يو 1: 29).]

يقول القدِّيس أمبروسيوس: ]نعم وأعظم من نبي، إذ به ينتهي عصر الأنبياء. وهو أعظم من نبي، لأن كثيرين اشتهوا أن يروا (مت 13: 7) ذاك الذي تنبَّأ عنه يوحنا وعاينه وعمده… إنه أعظم من الذين تساوى معهم في الميلاد، أما طبيعة الرب فمُغايرة، ولا تقارَن بميلاد بشري، ولا وجه للمقارنة بين الإنسان والله.[

إذ مدح السيِّد المسيح ملاكه يوحنا المعمدان أوضَح قوّة الكرازة بالإنجيل، فإنَّ يوحنا مع ما بلغه من عظمة إذ دعاه “أعظم مواليد النساء” لكن الأصغر في ملكوت السماوات أعظم منه، إذ مثّل يوحنا عهد الناموس، أما رسالة الإنجيل فقدَّمت “النبوَّة لله”، خلالها ينعم المؤمن بما هو أعظم ممَّا ناله رجال العهد القديم.

على أي الأحوال جاء يوحنا المعمدان ممثِّلا للناموس صارمًا وحازمًا، ليقود البشريّة إلى حمل الله، وجاء المسيَّا الحمل ذاته صديقًا لطيفًا للبشر، فرفض اليهود هذا وذاك. لذلك يوبِّخهم السيِّد، قائلاً:

فبمن أشبِّه أناس هذا الجيل؟ وماذا يشبهون.

يشبهون أولادًا جالسين في السوق ينادون بعضهم بعضًا، ويقولون:

زمَّرنا لكم فلم ترقصوا، نُحنا لكم فلم تبكوا.

لأنه جاء يوحنا المعمدان لا يأكل خبزًا ولا يشرب خمرًا،

فتقولون به شيطان.

جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فتقولون:

هوذا إنسان أكول وشرِّيب خمر،

محب للعشَّارين والخطاة.

والحكمة تبرَّرت من جميع بنيها” [31-35].

فيما يلي بعض تعليقات الآباء على هذا الحديث الإلهي:

v لا يتحدَّث الرب هنا عن الرقص المصاحب للملذََّات والترف، بل الرقص الروحي، الذي فيه يسمو الإنسان بالجسد الشهواني، ولا يسمح لأعضائه أن تتنعَّم بالأرضيَّات…

بولس رقَص روحيًا، إذ لأجلنا يقول أمتد إلى قدَّام ناسيًا ما هو وراء، ساعيًا نحو ما هو أمامه، جُعالة السيِّد المسيح (في 3: 13-14)…

هذا هو السِرْ إذن: إننا زمَّرنا لكم بأغنيّة العهد الجديد فلم ترقصوا، أي لم تسمعوا بعد بأرواحكم بواسطة النعمة الإلهيّة.

“نُحنا لكم فلم تبكوا” أي لم تندموا… عندما جاءكم يوحنا مناديًا بالتوبة بنعمة السيِّد المسيح. فالرب معطى النعمة، وإن كان يوحنا قد أعلن عنها كخادم له. أما الكنيسة فتحفظ بالاثنين، حتى تُدرك النعمة دون أن تنزع عنها التوبة. النعمة هي عطيّة الرب الذي وحده يهبها والتوبة هي علاج الخاطئ.

v لم يؤمن اليهود بتسابيح الأنبياء ولا بمراثيهم…

v “زمَّرنا لكم فلم ترقصوا”.

ترنَّم موسى عندما عبَر موسى البحر وانشقَّت المياه (خر 15). وترنَّم إشعياء بنشيد كرْمِه المحبوب (إش 5: 1)، ليُشير إلى أن الشعب اليهودي الذي سبق فأثمر فضائل كثيرة سيُصبح كتلة من الرذائل.

وتغنَّى الثلاثة فِتية حينما رُبِطت أرجلهم، إذ صارت لهم النار ندى. فبينما كان كل ما في الداخل والخارج يحترق، صارت النيران تلاطفهم، فلم تلسعهم ولا أضرَّتهم (دا 3: 24).

أعلن حبقوق نشيدًا يتنبَّأ عن آلام المسيح كمصدر تعزية للمؤمنين (حب 3)، مخفِّفًا من حزن الشعب.

هكذا تغنّّى الأنبياء بأغانِ روحيّة ارتفعت إلى الكرازة بالخلاص العام، وأيضًا بكى الأنبياء لكي يميلوا بمراثيهم الحزينة قلوب اليهود المتحجِّرة.

v يعلمنا الكتاب أن نرنِّم للرب (مز 46: 8)، وأن نرقص في حكمة كقول الرب لحزقيال أن يضرب بيده ويخبط برجليْه (حز 6: 11). الله لا يطالب بحركات مضحكة يقوم بها جسم ثائر، ولا يطلب تصفيق النساء… إنما يوجد الرقص الوقور حيث ترقص الروح بارتفاع الجسد بالأعمال الصالحة، عندما نُعلِّق قيثارتنا على الصِفصَاف.

يأمر الرب النبي أن يضرب باليد والرجل وأن يغنِّي لأنه كان يرى عرس العريس، الذي فيه تكون الكنيسة هي العروس والمسيح هو الحبيب. إنه عرس رائع فيه يتََّحد الروح بالكلمة، والجسد بالروح…

هذا هو العُرس الذي حاول داود النبي أن يحقِّقه، وله قد دُعينا… إنه يحثِّنا لنٌسرع نحو هذا المشهد المٌفرح: “ارفعوا نغمة، وهاتوا دفًا، عودًا حٌلوًا مع رباب” (مز 80: 2-3). ألا تتخيَّل النبي راقصًا؟… ألا تسمع صوت ضاربي قيثارة (الرباب) ودقَّات أرجل الراقصين؟ إنه العرس! لتأخذ أنت أيضًا قيثارة حتى إذا ما تمتَّعت بلمسة الروح، تستجيب أوتارك الداخليّة مع صدَى الأعمال الصالحة. لتمسك بالعود فيتحقَّق الانسجام بين كلماتك وأعمالك، وخذ الدف فيهبك الروح أن تترنَّم خلال آلة جسدك من الداخل.

القدِّيس أمبروسيوس

v يظهر أن صبية اليهود كانوا يتسلُّون بلعبةٍ من هذا القبيل؛ ينقسم قوم منهم إلى فريقين، ويوقعوا الاضطراب بمن كان حولهم بأن يمثل أحد الفريقين دورًا مغايرًا لما يقوم به الآخر كل المغايرة. يعزف بعض منهم على آلات الطرب، بينما الطائفة الأخرى تصرخ صرخة المتوجِّع الحزين والبائس التعيس. إلا أن هؤلاء البؤساء لم يشاركوا إخوانهم الفرحين في مسرَّاتهم وملذَّاتهم، كما أن أصحاب اللهو والطرب ضربوا صفحًا عن مواساة إخوتهم. قد اِشتّد كربهم وانكسرت نفوسهم، وهذا يظهر من معاتبة البعض للآخر، إذ يخاطب الفريق الآخر: “زمَّرنا لكم فلم ترقصوا“، فيجيبهم الفريق الآخر: “نُحنا لكم فلم تبكوا“. فالمسيح يُعلن جهارًا على أن الشعب اليهودي ورؤساءه يمثِّلون هذا الدور، ويظهرون على المسرح كما يظهر صِبية الشوارع، فإنَّ يوحنا المعمدان جاء لا يأكل خبزًا ولا يشرب خمرًا فتقولون به شيطان، جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فتقولون هوذا إنسان أكُول وشَرِّيب خمر، محب للعشَّارين والخطاة.

ما الذي يحملكم أيها الفرِّيسيُّون الجهلاء إلى الإيمان بالمسيح، وما الوسيلة لجذبكم إلى السيِّد، وأنتم تنظرون إلى كل الأمور بمِنظار أسود، فليس عندكم شيء جدير بالمديح والثناء، “توبوا (كما قال المعمدان) لأنه قد أقترب ملكوت السماوات” (مت 3: 2). وما أصدق حُكمه عليكم، لأنه كان بشهادتكم مثال النُبل والشهامة، قوي الحُجة سامي الشمائل. ألم يسكن الصحراء فاِفترش النراب واِلتَحَف بالسماء، يقتات بالجراد والعسل، ويتدثَّر بلِباس خشن الملمس قليل الثمن؟…

كيف تقولون أن به شيطانًا وهو الذي بزهده ونسكه قتل ناموس الخطيّة القابع في أحشائنا اللحميّة، وحارب ميول العقل، فكان بطلاً صنديدًا ومقاتلاً مِغوارًا؟ هل هناك أعظم من عيشة النسك والزُهد؟ وهي التي بها نخمد لذات الإثم ونلجم بها الشرّ والرذيلة؟ كان المعمدان مخلِصًا كل الإخلاص للمسيح، ليس فيه ميل لشهوات الجسد، فقدَ تعفف عن ملذات العالم وهجر الدنيا وزُخرِفها ليصل إلى الغرض الذي اتَّخذه هدفًا له وهو تمهيد الطريق للسيِّد الفادي.

اخبروني أيها الناس، هل تظنُّون أن مثل هذا الإنسان به شيطان؟ وهو الذي لم يحْنِ ظهره للشرّ والإثم.

لا ننكر أن المعمدان لم يصل إلى هذه الدرجة العالية إلا عن طريق المسيح، لأن السيِّد هو الذي حطّ من مكانة إبليس، وحطََّم أسنانه حتى يعلو مركز القدِّيسين.

ألا تخجلون إذن أيها القوم وأنتم تسيئون إلى المعمدان بألسنة حدَّاد وهو الرسول الذي اِمتاز بالصبر والشجاعة وتتوَّج بأكاليل الغار؟ فلِمَ ترفعون عليه ألسنة الحسد والشر وتنسبون إليه كل كريهة مُنكر، فتنكرون عليه صحَّة العقل وصفاء الذهن وتدعون عليه زورًا وبُهتانًا أنه مجنون معتوه لا يعي ولا يُفكِّر؟

والآن فلندرس شخصيّة أخرى رآها اليهود علي نقيض شخصيّة المعمدان. لم يكن المسيح نزيل الصحراء، بل سكن المدينة في صُحبة رُسله المقدَّسين، ولم يأكل جرادًا وعسلاً ولم يلبس وبَر إبل ولم يشدْ حول وسطه مِنطَقة من جلد…

عاش المسيح كما ترون عيشة سكان المُدن، فلم يتجلَّ فيها شظَف العيش كما عاهدناه في يوحنا، فهل تلومون أيها الفرِّيسيُّون المسيح لسلوكه هذا؟ وهل تطرون سهولة مصاحبته الآخرين وعظيم أُلفته للناس، وعدم عنايته بهذا الطعام أو ذاك؟ كلاَّ لم يكن بالكليّة شيء من هذا، بل طعنتم السيِّد بالكلام القارص، فقلتم “هوذا إنسان أكُول وشَرِّيب خمر، محب للعشَّارين والخطاة”. قلتم هذا لأنكم رأيتم أحيانًا المسيح يأكل في غير ما تقتير وشُحْ، فاتهمتموه باطلاً بالنَهَم وشُرب الخمر. وكيف تثبتون ادعائكم. ألم تدع مريم ومرثا مرَّة المسيح في بيت عنيا، ولما رأي السيِّد إحداهن تغالي في خدمته نهاها عن ذلك، وأمرها بالقيام بالقدر الضئيل الضروري، إذ خاطب الفادي مرثا قائلاً: “مرثا، مرثا، أنتِ تهتمِّين وتضطربين لأجل أمور كثيرة، ولكن الحاجة إلى واحد” (لو 10: 41)…

هل تتهمون المسيح بالنهم والجشع لأنه عاشر العشارين والخطاة؟ وهل هذا هو كل عذركم في اتهامه؟ ولكن قولوا لي: أي ضرر أصاب المسيح من مخالطة الخطاة والأثمة؟ ألم يكن المسيح فوق مستوى البشريّة فما الذي يصيبه من شرورها ومساوئها؟ فقد قال السيِّد وقوله صادق: “رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء” (يو 14: 30)، فلا يمكن والحالة هذه أن يعلّق شيء من مساوئ الخطاة بالسيِّد يسوع المسيح.

ولكن قد يسأل أحد ويقول: “إن شريعة موسى أمرتنا بألا تقطع عهدًا مع الخطاة ولا نعامل الآثمة” (خر 23: 32). فلندرس إذن غرض الناموس اليهودي فنتبين القصد الذي من أجله منع الناموس الإسرائيليِّين من مخاطبة الأشرار ومخاطبة الدساسين والمخادعين. لم يكن الغرض التشامخ على الخطاة، والتفاني في الكبرياء والخيلاء على الأشرار، بل كان الغرض أن عقلك ضعيف ومن السهل أن يقع في الشر والخطيّة. وذلك فخوفًا من أن تنجذب وراء الملذات الفاسدة مُنعت من مخالطة الأشرار حتى تكون في نجوى من مكمن الإثم والشر. “فإن المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة” (1 كو 15: 33). وُضع القانون إذن ليحفظك من الزلل نظرًا لضعفك وعجزك، ولكنك إن كنت متسربلاً بعالي الفضائل، وثابتًا في خوف الرب، فلن يقف الناموس حائلاً بينك وبين الخطاة الضعفاء، فإنَّ في قربك منهم صلاحًا لهم، ودافعًا يبعثهم على التشبه بك، فيسيرون بخطوات واسعة نحو الكمال المنشود والحق المطلوب، فلا تفتخرن إذن علي الضعيف البائس معتمدًا علي شريعة موسى السالفة الذكر ولا يلوم أحد المسيح لأنه عاشر الخطاة والعشارين.

القدِّيس كيرلس الكبير

5. قصة المرأة الخاطئة

قلنا أن السيِّد المسيح كصديقٍ سماويٍ يفتح قلبه للغرباء (يهتم بقائد المائة)، وللأرامل (إقامة أبن أرملة نايين)، ويجذب تلاميذ يوحنا المعمدان كممثِّلي أبناء العهد القديم ليتلامسوا مع أعمال محبَّته الفائقة، الآن تقتحم امرأة خاطئة – تستحق في عيني اليهود الرجم – هذه الصداقة فتلتقي مع ربَّنا يسوع المسيح كعريسٍ سماويٍ لها، بالتقائها معه في بيت سمعان الفرِّيسي دون دعوة ظاهرة توجَّه إليها.

لقاء هذه الخاطئة جذب نفوسًا كثيرة للتوبة، إذ أعلن صداقة الله الحقيقية للخطاة ومحبَّته لكل نفسٍ واشتياقه لخلاص الكل. وقد سجَّل لنا كثير من الآباء تعليقاتهم علي هذا اللقاء، منهم القدِّيس مار أفرام السرياني الذي عرض هذا اللقاء في أسلوب قصصي رائع سبق لي ترجمته ونشرته تحت عنوان “حب ودموع” في سلسلة “القصة المسيحيّة“.

يمكننا بروح الآباء أن نقدَّم الملاحظات التالية في قصَّة المرأة الخاطئة:

أولاً: يقول القدِّيس أغسطينوس: [انطلقت المرأة الخاطئة إلي الوليمة بدون دعوة، إذ كان الطبيب على المائدة، وبجرأة مقدَّسة سألته الصحَّة… لقد عرفت جيِّدًا قسوة ما تعانيه من المرض، كما أدركت أن الذي تأتي إليه قادر أن يهبها الصحَّة، لذا انطلقت في الطريق بقوّة… اقتربت لا إلى رأس الرب بل إلى قدَّميه، هذه التي سلكت في الشر زمانًا تطلب (قدميه) خطوات البرّ.[ كأن هذه المرأة وهي تمثِّل النفس المحطَّمة بالرجاسات وجدت قدميّ مخلِّصها سِرْ إمكانيّة السلوك في طريق البِرّ، والانطلاق به وفيه إلى حضن الآب تنعم بالصداقة الإلهيّة أبديًا.

ثانيًا: سأل أحد الفريِّسيِّين السيِّد المسيح أن يأكل معه، فدخل السيِّد بيته لكنه لم يدخل قلبه، فقد أعدَّ الوليمة، وربَّما كلَّفته الكثير وحسده كثيرون، أن المعلِّم في داخل البيت… لكن المرأة دخلت مقتحمة بدالة الحب البيت والتقت مع السيِّد كعريسٍ لنفسها. يمثِّل الفريسي النفس التي تتخفَّى وراء المظاهر الخارجيّة دون الأعماق، تستضيف الرب في البيت لا القلب، أما المرأة فتُمثِّل النفس الجادة في خلاصها تهتم باللقاء الخفي مع العريس السماوي.

يقارن القدِّيس أمبروسيوس في إحدى رسائله بين الفريسي والمرأة الخاطئة فيقول:

أ. لم يقدِّم الفريسي ماء لغسل قدَّمي السيِّد أما المرأة فقدَّمت دموعًا لغسلهما. الأول يمثِّل اليهود أو غير المؤمنين الذين ليس لهم ماء لغسل قدَّميّ السيِّد، الذي يود أن يسير في ضميرهم. [كيف يقدر أن يغسل ضميره من لا يتقبَّل ماء المسيح؟ أما الكنيسة فلها هذا الماء (المعموديّة) ولها هذه الدموع (التوبة).]

ويعلِّق القدِّيس أمبروسيوس على هذا الغسل في موضع آخر، قائلاً: [غسلت خطاياها بغسلها قدَّميّ المخلِّص بدموعها. أيها الرب يسوع، فلتسمح لي أن أغسل قدميْك ممَّا اِنطبع عليهما بسيرك في داخلي (مع أنهما لم يتنجَّسا)… لكن من أين لي أن آتي إليك بماء الحياة الذي أغسل به قدميْك؟ فإذ ليس لي ماء أقدِّم دموعًا. وإذ أغسل قدميك إنما أثق أنني أنا نفسي أغتسل، حيث تقول لي: “خطاياك الكثيرة مغفورة لك، لأنك أحببت كثيرًا”.]

في موضع آخر يقول: [اِعترف بخطاياك بدموعك ليقول عنك العدل الإلهي: غسلتْ قدميْ بدموعها ومسحَتها بشعر رأسها… فدموع محبَّتنا لا تستطيع فقط أن تغسل خطايانا، وإنما تغسل أيضًا خطوات الكلمة الإلهيّة لتُثمر خطواته فينا! إنها دموع نافعة ليس فقط تكفِّل قيام الخطاة، وإنما هي غذاء للصدِّيقين. بارٌ هو الإنسان القائل: “صارت لي دموعي خبزًا” (مز 41: 4). إن كنت لا تستطيع الاقتراب من رأس المسيح اِلمس قدميه برأسك.]

ب. لم يكن للفرِّيسي شعر يمسح به القدمين، إذ لم يكن نذيرًا للرب، أما الكنيسة فلها شعر، وهي تطلب النذير. ويرى القدِّيس أمبروسيوس هذا الشعر الذي مسحت به المرأة قدميْ المخلِّص يشير إلى الغِنى الذي لا قيمة له ما لم يقدَّم منه للفقراء – قدميْ المخلِّص- يغسل جراحاتهم وآلامهم.

في موضع آخر يقول: [حِلْ شعرك واَخْضِع له كل مواهب جسدك”.] فطاقاتنا الجسديّة ومواهبنا وإمكانيَّاتنا وعواطفنا تبقى كالشعر لا قيمة له ما لم يتقدَّس باستخدامه في مسح قدميْ المخلِّص، أي في خدمة إخوته الأصاغر!

ج. بالنسبة لقبلات هذه المرأة الخاطئة التي لم يمارسها الفريسي، يقول القدِّيس أمبروسيوس: [القبلة هي علامة الحب. لهذا لم يستطع اليهودي (غير المؤمن) أن يمارس قُبلة؛ لأنه لا يعرف سلام المسيح ولا يقبله، هذا الذي قيل عنه: “سلامًا أعطيكم، سلامي أتركه لكم” (يو 14: 7). هكذا ليس للمجمع اليهودي قبلات، وإنما للكنيسة التي ترقَّبت المسيح وأحبَّته، قائلة: “ليُقبِّلني بقبلات فمه” (نش 1: 2). أرادت أن تطفئ لهيب شوقها الطويل مترقبَّة مجيء الرب بقبلاته وأن تروي عطشها بهذه العطيّة.] يكمل القدِّيس حديثه في ذات الرسالة فيقول: [الكنيسة وحدها لها قبلات العروس، بكون القبلة عربونًا للزواج وامتيازًا خاصًا بالعرس.]

قبلات الكنيسة صادقة وأمينة، إذ هي قبلات العروس الملتهبة حبًا نحو عريسها، هذه التي لم يختبرها يهوذا حين قدَّم قبلته الغاشة عند تسليمه سيِّده، لذا يخاطبه القدِّيس أمبروسيوس، قائلاً: [لقد قدَّمت قبلة يا من لا تعرف سِر القُبلة… فالمطلوب هو قُبلة القلب والنفس لا قُبلة الشفتين… فإنَّه حيث لا يوجد حب ولا إيمان ولا عاطفة أيّة عذوبة تكون للقُبلات؟]

ثالثًا: إذ يقارن القدِّيس أمبروسيوس بين المرأة التي سكبت الطيب على رأس المخلِّص حين كان في بيت سمعان الأبرص في قرية بيت عنيا (مت 26) وبين المرأة المذكورة هنا، يرى أنهما إن كانتا حادثتين مختلفين لكن كلتاهما قدَّمت طيبًا. الأولى تمثِّل النفس التي تدخل إلى الصداقة الإلهيّة وتسمو في الحياة الكاملة في الرب فتسكب الطيب على رأس المخلِّص، إذ تبلغ الكثير من أسراره الإلهيّة، أما نحن فنمتثل بالثانيةk إذ نشعر بخطايانا فنأتي إليه من ورائه ونبكي مشتاقين بلوغ قدميه، لكننا لا نحرم من تقديم الطيب، إذ يقول القدِّيس: [مع أنها خاطئة لكن كان لها الطيب.]

نقول إن كنا خطاة نسلك طريق توبتنا فليتنا نقتحم بيت سمعانk ونلتقي بربَّنا أينما وجد، مقدِّمين طيبًا مسكوبًا على قدميه. طيب التوبة الصادقة الممتلئة رجاءً خلال الدم المقدَّس المنسكب من الجنب المطعون.

مرَّة أخرى في تفسيره لإنجيل لوقا يرى القدِّيس أمبروسيوس هذا الطيب المسكوب على قدميْ المخلِّص خاص بالكنيسة وحدها، إذ يقول: [مغبوط هو الإنسان الذي يستطيعأن يمسح قدميْ المسيح بالطيب، الأمر الذي لم يفعله سمعان!… الطيب هو خُلاصة روائح زهور كثيرة لذا ينشر روائح زكيَّة ومتنوِّعة، وربَّما لا يستطيع أحد أن يسكب هذا الطيب إلا الكنيسة وحدها التي تملك الكثير من الزهور ذات الروائح المتنوِّعة. هنا تندمج صورة المرأة الخاطئة بالمسيح الذي حمل صورة عبد (حاملاً شبة جسد الخطيّة).]

رابعًا: لم ينتفع الفرِّيسي بلقائه مع المخلِّص، بسبب إصراره على الكبرياء أما المرأة الخاطئة فربحت الكثيرk لأنها أحبَّت كثيرًا خلال روح التواضع. بالكبرياء يفقد الإنسان كل بركة روحيَّة. وبالحب المملوء تواضعًا ينعم بحب المخلِّص نفسه ومغفرة خطاياه.

v جلس سيِّد التواضع في منزل فرِّيسي متكبِّر يُدعى سمعان، وبالرغم من جلوسه في منزله لم يكن في قلبه مكان يسند (ابن الإنسان) فيه رأسه (9: 57).

القدِّيس أغسطينوس

v حِبْ كثيرًا فيُغفر لكَ كثيرًا. لقد أخطأ بولس كثيرًا، بل واِضطهد الكنيسة، ولكنه أحبَّ كثيرًا مثابرًا حتى الاستشهاد وغفرت له خطاياه الكثيرة… إذ لم يبخل بدمه لأجل اسم الله.

القدِّيس أمبروسيوس

v لم تضل المرأة الطريق المستقيم، أما الفريسي الجاهل فقد ضل، إذ قال في نفسه: “لو كان هذا نبيًا لعلِم من هذه المرأة التي لمسته، وما هي أنها خاطئة”. كان الفرِّيسي إذن فخورًا بنفسه، معجبًا بطائفته، ضعيف المادة العقليّة، فلم يدرك الموضوع على حقيقته. كان لزامًا عليه أن يروِّض حياته، ويزيِّنها بالسجايا السامية، فلا يدين المريض والعليل ويحكم عليه بما هو براء منه. ترك الفريسي هذا كله، وتعلّق بأهداف الناموس الجامد، وطلب إلى الرب يسوع المسيح أن يطيع شريعة موسى، فقد أمرت هذه الشريعة الناس المقدَّسين أن يتجنَّبوا الأشرار الدنسين، ولام الله كل من اُختير رئيسًا لمجمع اليهود، وفرَّط في حقِّه بأن اِقترب من دنس مرذول وصغير ممقوت. فقد ورد على لسان أحد الأنبياء أنهم لا يميِّزون بين “المقدَّس والمرذول” ولكن المسيح قام لا ليُخضِعنا تحت لعنة الناموس، بل ليفدي الخطاة برحمته التي فاقت الناموس، لأن الناموس “قد زيد بسبب التعديَّات” (غل 3: 19)، “لكي يُستد كل فم ويصير كل العالم تحت قصاص من الله، لأنه بأعمال الناموس كل ذي جسد لا يتبرَّر أمامه، لأن بالناموس معرفة الخطيّة” (رو 3: 19).

جاء المسيح حتى يفي للمدين دينه، مهما كثر الدين أو قلَّْ، ويترأف على الناس بأسرهم كبيرهم وصغيرهم، حتى لا يُحرم إنسان أيًا كان مشاركة المسيح في صلاحه. ولكي يقدِّم لنا السيِّد مثالاً واضحًا لرحمته حرَّر هذه المرأة الخاطئة من شرورها بقوله لها: “مغفورة لك خطاياك“. ولا يمكن أن تخرج هذه العبارة إلا من فم الله لأنها تتضمَّن سلطانًا فوق كل سلطان لأنه لما كان الناموس يحاكم الخاطئ، فمن ذا الذي يمكنه الارتفاع فوق مستوى الناموس إلا الذي وضعه وأمر به؟ في الحال حرَّر السيِّد المرأة ونبَّه الفريسي ومن جلس معه على المائدة إلى أمور سامية، إذ تعلَّموا أن المسيح الكلمة هو الله، ولذلك فهو ليس أحد الأنبياء بل يفوق كل إنسان ولو أنه تجسَّد وصار إنسانًا…

لا تقلق وتيأس إذا أحسست بثِقل وطأة خطاياك السابقة، فإنَّ رحمة المسيح واسعة المدى. لتكن خطيئتك عظيمة إلا أن رحمة المسيح أعظم، فبنعمته يتبرَّر الخاطئ، ويُطلق سراح الأسير. ولكن اعلم أن الإيمان بالمسيح هو الذي يؤهِّلنا لهذه البركات الخلاصية، لأن الإيمان هو طريق الحياة والنعمة. وفيه نسير إلى المخادع السمائيّة حيث نرث ملكوت القدِّيسين الأبرار ونصبح أعضاء في مملكة المسيح.

القدِّيس كيرلس الكبير

أخيرًا نختم حديثنا عن المرأة الخاطئة، بأنها قد كشفت عن أعماق محبَّة الله الفائقة للبشر، وكما يقول القدِّيس إيريناؤس: [كما يُزكِّي الطبيب بمرضاه، هكذا يعلن عن الله خلال البشر.]

فاصل

إنجيل القديس لوقا: 1234567891011 12131415161718192021222324 

تفسير إنجيل القديس لوقا: مقدمة123456789 101112131415161718192021222324 

فاصل

الأصحاح السادس

تفسير إنجيل القديس لوقا
القمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثامن

تفسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى