تفسير سفر الملوك الأول 14 للقمص تادرس يعقوب ملطي
موت أبيَّا بن يربعام
إذ انقسمت المملكة إلى مملكتيّ يهوذا وإسرائيل يقدِّم لنا سفرًا الملوك صورة حيَّة عن الفساد الذي حلّ بهما، وإن كان قد قام بعض ملوك مصلحين في مملكة يهوذا.
في هذا الأصحاح يحدِّثنا عن إحدى ثمار الفساد الذي دبَّ في إسرائيل، ونهب خزينة الهيكل في يهوذا.
1. مرض أبيَّا بن يربعام |
[1 –6]. |
|
2. نبوَّة أخيَّا عن دمار بيت يربعام |
[7 –16]. |
|
3. موت أبيّا |
[17 –18]. |
|
4. موت يربعام |
[19 –20]. |
|
5. شرّ رحبعام ويهوذا |
[21 –24]. |
|
6. السطو على بنك يهوذا |
[25 –31]. |
|
من وحي 1 ملوك 14 |
1. مرض أبيَّا بن يربعام:
لم يتعلَّم يربعام من الدرس الذي قدَّمه له الرب على يد رجل الله القادم من يهوذا. لقد تنبَّأ عن ارتجاف المذبح وتذريته، كما يبست يدّ الملك التي امتدَّت لتؤذي رجل الله. وإذ ندم صلَّى له رجل الله فشُفيت. الآن يسمح الله له بتأديب أقسى وهو مرض ابنه، وإذ لم يُظهر توبة سمح الله لابنه بموته وتنبَّأ أخيَّا النبي عن نزع المُلك عن بيت يربعام. النبي الذي قدَّم وعدًا إلهيًّا مشروطًا ليربعام، الآن هو نفسه يسحب هذا الوعد لعدم تحقُّق الشرط، أيّ عدم أمانة بربعام.
“في ذلك الزمان مرض أبيَّا بن يربعام.
فقال يربعام لامرأته:
قومي غيِّري شكلك، حتى لا يعلموا أنَّك امرأة يربعام،
واذهبي إلى شيلوه.
هوذا هناك أخيَّا النبي الذي قال عنِّي إنِّي أملك على هذا الشعب.
وخذي بيدك عشرة أرغفة وكعكًا وجرَّة عسل،
وسيري إليه، وهو يخبرك ماذا يكون للغلام” [1-3].
دعا يربعام ابنه “أبيّا” ومعناه “يهوه هو أبي” أو “يهوه هو شهوتي“. وكأنَّه كان يود أن يبقى مرتبطًا بالله إلهه، لكن رغبته في تثبيت مملكته بعيدًا عن أورشليم والهيكل هناك دفعته للانحراف وعدم الأمانة لله.
طلب يربعام الملك من زوجته أن تذهب إلى شيلوه لتلتقي بأخيَّا النبي بشأن مرض ابنه ويلاحظ في حديثه معها الآتي:
أولًا: اعترف بأن هذا النبي هو الذي سبق فأخبره بأنَّه سيملك على الشعب، لكنَّه لم يعترف أنَّه أخطأ في حق الله الذي اختاره ليملك. كان يليق به وهو يذكر عطيَّة الله له أن يقدِّم الشكر له ممتزجًا بروح التوبة والطاعة.
ثانيًا: طلب منها أن تُغيِّر شكلها، وكان يليق بهما أن يُغيِّرا قلبيهما وأفكارهما وتصرُّفاتهما، لا أن تغيِّر هي شكلها. ففي تغيير الشكل ربَّما أراد ألاَّ يعرف أحد أنَّه يلجأ إلى النبي، فيترك الشعب عبادة الأوثان ويلجأون مثله إلى رجل الله الذي يحثُّهم على الرجوع إلى الله. ربَّما ظنَّ يربعام أن أخيَّا يرفض مقابلتها لأنَّه يعلم تمامًا أنَّه متألِّم على ارتداده عن الله. طلب الملك من زوجته أن تتخفَّى، يكشف عن إدراكه لمدى ما ارتكبه من عصيان للرب وانحراف عن عبادته، لكنَّه لم يفكِّر في العلاج العملي السليم، يا للغباوة!
لقد آمن يربعام بأن الله قادر أن يكشف للنبي عن مستقبل ابنه ومصيره، وعاجز عن أن يكشف عن هذا التخفِّي الواهن.
ثالثًا: إذ سبق فتنبَّأ أخيَّا ليربعام أنَّه سيملك، مقدِّما له أخبارًا سارة، ظنَّ أنَّه على الدوام يقدِّم أخبارًا مفرحة، ولم يُدرك أنَّه إنَّما ينطق بما يعلنه الله، سواء كانت الأخبار مفرحة أو محزنة.
هذا وإنَّنا لا نعجب إن الملك لم يجد من يثق فيه من مشيريه، فأرسل زوجته التي وحدها قادرة أن تهتم بابنها المريض جدًا. لقد خشي أن يرسل أحد مشيريه فلا يرد له الإجابة صادقة بل يخدعه. هكذا عندما ينحرف الإنسان عن طريق الحق يتشكَّك فيمن هم حوله لأنَّهم مخادعون مثله.
كان من عادة الملوك أن يكرموا النبي ويقدِّموا له هدايا لائقة يستخدمها للخدمة، أمَّا وقد أرادت الملكة أن تتخفَّى أخذت هدايا بسيطة لعلَّها تخدع النبي بأنَّها سيِّدة ريفيَّة من وسط الشعب وليست الملكة. لقد رفض أخيَّا قبول هدايا يربعام، كما رفض إليشع النبي هدايا حزائيل (2 مل 13)، إذ حسبوا هذه الهديا أشبه بثمن كلب أو أجرة زانية لن تدخل بيت الرب كشريعة الله. لهذا تحذِّر الدسقوليَّة الأسقف من قبول هدايا وتقدمات الأشرار كما رفض القدِّيس بطرس مال سيمون الساحر (أع 8)(125).
“ففعلت امرأة يربعام هكذا، وقامت وذهبت إلى شيلوه،
ودخلت بيت أخيَّا،
وكان أخيَّا لا يقدر أن يبصر، لأنَّه قد قامت عيناه بسبب شيخوخته.
وقال الرب لأخيَّا:
هوذا امرأة يربعام آتية لتسأل منك شيئًا من جهة ابنها لأنَّه مريض،
فقل لها كذا وكذا فإنَّها عند دخولها تتنكَّر.
فلما سمع أخيَّا حس رجليها وهي داخلة في الباب قال:
ادخلي يا امرأة يربعام، لماذا تتنكَّرين وأنا مرسَل إليك بقولٍ قاسٍ؟” [4-6].
بسبب الشيخوخة فقد أخيَّا قدرته على البصر، لكنَّه كان يتمتَّع ببصيرة داخليَّة، فعرف شخصيَّة امرأة يربعام المتنكِّرة.
أرادت أن تتنكَّر من النبي نفسه فتسأله عن مصير ابنها دون أن تخبره عن شخصيَّتها حتى لا يتحدَّث في موضوع انحراف زوجها، لكنَّها سمعت كلامًا قاسيًا صادرًا من الرب نفسه، الأمر الذي كانت تخشاه دون الرغبة في علاجه.
كانت لحظات مُرَّة حين أدركت أن خداعها قد اِنكشف. هكذا ستكون لحظات مُرَّة حين يُنزع عن الأشرار ثوب الرياء الحامل صورة القداسة دون قوَّتها، وتزول عنهم الألوان الخادعة، فتنكشف أعماقهم الفاسدة أمام الديَّان وجميع السمائيِّين وكل المؤمنين! فإن الله سيديننا حسب ما عليه قلوبنا لا حسبما نبدو من الظاهر.
عجزت عينا أخيَّا عن أن تفرز الملكة، لكن أذنيه اللتين تدرَّبتا على سماع صوت الله شعرتا بصوت رجليّ الملكة وأدركتا شخصيَّتها، وذلك بكشف إلهي.
من يدرِّب عينيه على رؤية الله وأذنيه على الاستماع إلى صوته الإلهي لن يقدر أحد ما أن يخدعه، إذ يكشف له الرب الخفيَّات، ليست مطلقًا، وإنَّما ما فيه بنيان نفسه ونفوس الآخرين.
لقد سمح الله بالتأديب يحل على الابن الذي كان الملك يرجو أن يرثه على عرش المملكة. يمكننا القول بأن مرض أبيَّا كان آخر عطيَّة قدَّمها الرب برحمته للملك لعلَّه خلال هذا التأديب الحال بأعزّ من لديه، ابنه، يرجع إلى نفسه ويقدِّم توبة فينال رحمة من قبل الرب.
2. نبوَّة أخيَّا عن دمار بيت يربعام:
“اذهبي قولي ليربعام:
هكذا قال الرب إله إسرائيل من أجل إنِّي قد رفعتك من وسط الشعب،
وجعلتك رئيسًا على شعبي إسرائيل” [7].
يدعو الله نفسه “الرب إله إسرائيل” [7]، فإن كان يربعام قد أعطى ظهره لله، فلم يعد الله إلهه، لكنَّه لا يزال يطلب الله شعبه، وينسب نفسه إليهم لعلَّهم يرجعون عن الوثنيَّة. إذ لم يكن بعد قد كتب لهم صك الطلاق بسبب زناهم.
“وشققت المملكة من بيت داود وأعطيتك إيَّاها،
ولم تكن كعبدي داود الذي حفظ وصاياي،
والذي سار ورائي بكل قلبه ليفعل ما هو مستقيم فقط في عينيَّ.
وقد ساء عملك أكثر من جميع الذين كانوا قبلك،
فسرت وعملت لنفسك آلهة أخرى ومسبوكات لتغيظني،
وقد طرحتني وراء ظهرك” [8-9].
يذكِّر الله يربعام بعطاياه الإلهيَّة السخيَّة، التي قابلها بالجحود والارتداد عنه. أقام الله يربعام ملكًا، وكان يمكن له أن يحفظ بيته آمنًا بأمانته للعهد مع الله، لكنَّه صنع شرورًا أكثر من كل سابقيه. لقد أخطأ شاول الملك وداود وسليمان، لكن يربعام ارتكب شرورًا أعظم من الكل.
لم يقتدِ يربعام بداود الملك الذي وإن كان قد ارتكب خطايا مُرَّة، لكنَّه عرف طريق التوبة، ورجع إلى الله بكل قلبه.
جاء الصوت الإلهي يوبِّخ يربعام وزوجته لأن يربعام لم يقتدِ بداود الملك. كلاهما نالا وعدًا باستلام العرش، لكن شتَّان ما بين الرجلين:
* كان قلب داود شاكرًا حتى وسط الضيق، مترنِّمًا: “أبارك الرب في كل وقت، وفي كل حين تسبحته في فمي” (مز 34: 1). يقول القديس أغسطينوس: [لقد صار المسيح إنسانًا لهذه الغاية: أن يصير المسيحي ملاكًا، يصرخ: “أبارك الرب”…. يلزمكم أن تباركوه حين يمنحكم عطايا، وتباركوه حين يأخذها منكم، فإنَّه هو الذي يعطي وهو الذي يأخذ، لكنَّه لن يأخذ “ذاته” ممَّن يباركونه. لا يبارك الرب كل حين إلاَّ الودعاء؛ هذه الوداعة التي علَّمنا إيَّاها ربنا في جسده ودمه، فإنَّه حينما بذل جسده ودمه لأجلنا وضع أمامنا وداعته مثالًا]. ويقول البابا أثناسيوس الرسولي: [كما سبَّح داود الوديع في زمن الضيق: قائلًا: “أبارك الرب في كل وقت”، لم يكف الطوباوي بولس عن شكر الله في كل رسائله. ففي وقت الفرج لم يتوقَّف عن التسبيح، وفي وقت الشدَّة كان يمجِّد الله، عالمًا أن الضيق ينشئ صبرًا، وفي الصبر تزكية، وفي التزكية رجاء، والرجاء لا يُخزي (رو 5: 3). ليتنا نحن أيضًا تابعي هؤلاء القدِّيسين لا نكف عن الشكر في كل وقت]. ويقول القديس غريغوريوس النزينزي: [شكرنا لله أهم من تنفُّسنا… لكل شيء وقت كما يُعلِّم سليمان، وكما أعتقد أنا أيضًا… (أما الشكر ففي كل وقت)].
* لم يسْعَ داود لاستلام العرش، بل كان يشتهي خدمة شعب الله، أمَّا يربعام فسعى بطرق بشريَّة حتى فكر سليمان في قتله، فهرب إلى مصر.
* أراد يربعام أن يثبِّت كرسيه لا بالتقوى بل بإقامة مركزين للعبادة حتى وأن كان في هذا مخالفة للوصيَّة.
“لذلك هانذا جالب شرًا على بيت يربعام،
واقطع ليربعام كل بائلٍ بحائطٍ محجوزًا ومطلقًا في إسرائيل،
وانزع آخر بيت يربعام كما ينزع البعر حتى يفنى” [10].
أخفت الملكة وجهها ببرقع، فكشف الله لنبيِّه ليس فقط وجهها ليتعرَّف عليها، بل وما في قلبها ليقدِّم لها ولزوجها رسالة إلهيَّة خطيرة.
صار يربعام مثلًا خطيرًا للقلب الجاحد، يراه القدِّيس ايريناؤس مثلًا لمن يشق الكنيسة ويهدم وحدتها.
* الذين ينزعون وحدة الكنيسة ويمزِّقونها سينالون من الله ذات العقوبة التي حلَّت بيربعام(126).
القدِّيس ايرنياؤس
“من مات ليربعام في المدينة تأكله الكلاب،
ومن مات في الحقل تأكله طيور السماء،
لأن الرب تكلَّم” [11].
إذ أهان يربعام الله، ارتدَّ العار عليه وعلى بيته، فصارت جثَّتهم مأكلًا للكلاب والطيور الجارحة.
كانت الكلاب أكثر الحيوانات التي تعيش على الجثث الرميمة في القرى بالشرق الأوسط، والنسور هي أكثر الطيور الجارحة المنتشرة في فلسطين، تعيش على الجثث. إلى وقت قريب كنَّا نجد في بعض قرى الشرق الأوسط الكلاب الضالة التي ليس لها مالك، تتَّسم بالضراوة، تجول لتأكل حتى الجثث الميِّتة.
الموت بالنسبة للأبرار عطيَّة إلهيَّة، أمَّا بالنسبة للأشرار فمخيف. لذا قيل: “لتمت نفسي موت الأبرار، ولتكن آخرتي كآخرتهم” (عدد 13: 3). “أيضًا إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرًا، لأنَّك أنت معي” (مز 23: 4). “طوبى لمن اخترته وقبلته ليسكن في ديارك إلى الأبد” (مز 65: 4).
* “ليس في موتهم راحة” (مز 73: 4)… لإنَّنا حين نكد في عملٍ ما، وننحني انشغالًا به وميلًا إليه، فإنَّنا نستلقي عادة ونستريح. لكن الخطاة الذين اقترفوا آثامًا شنعاء، خاصة الأشرار منهم، لا يمكن أن يستلقوا ويستريحوا. إذ قيل عنهم: “اِحنِ ظهورهم دائمًا” (مز 69: 24). لأن الذين لا يلتصقون بالمسيح، لا يرتفعون بأنفسهم إلى السماويَّات، من ثم لا يرتفع معه الذين موتهم شرِّير جدًا، كما هو مكتوب “موت الأشرار شرِّير للغاية” (مز 34: 21)، “لكن الإنسان الذي يموت مع المسيح، ويُدفن مع المسيح، لا يجد راحة فقط بل قيامة أيضًا” (رو 6: 4). وعن هذا الإنسان قيل بحق “شفيت كل ضعفاته في مرضه” (مز 41: 3). خاصة إذا كان شهيدًا، تنكشف ضعفاته بالآلام وموته بالقيامة(127).
القديس أمبروسيوس
“وأنتِ فقومي وانطلقي إلى بيتك،
وعند دخول رجليك المدينة يموت الولد.
ويندبه جميع إسرائيل ويدفنونه،
لأن هذا وحده من يربعام يدخل القبر،
لأنَّه وجد فيه أمر صالح نحو الرب إله إسرائيل في بيت يربعام” [12-13].
لقد أخطأ شاول أول ملك لإسرائيل لكنَّه لم يعبد الأوثان، ولا دفع شعبه إلى ذلك. وأخطأ داود الملك، لكنَّه قدَّم توبة ورجع إلى الله. وأخطأ سليمان وبنى المرتفعات لنسائه، لكنَّه لم يدفع الشعب إلى ذلك. أمَّا يربعام فصنع العجلين الذهبيِّين وعاد بقلوب الشعب إلى أرض العبوديَّة حيث عجل إبيس ، وبذل كل جهده لكي لا يعبدوا الرب في الهيكل بأورشليم.
لقد وُجد في أبيَّا شيء صالح، لكن لم يكن قلبه كاملًا مع الله، لهذا رحمه الله بموته لكي يُدفن في كرامة وليس في عارٍ وخزي كأبيه وبقيَّة عائلته. فالموت في أزمنة الشرّ يحسب عطيَّة من الله حيث يُضمّ وجه الصدِّيق من الشرّ.
يرى الكُتَّاب اليهود أن شعب إسرائيل حزن على أبيَّا لأنَّه وقف معارضًا والده في إقامة العجلين الذهبيِّين، وكان يساعد الراغبين في الذهاب إلى أورشليم للعبادة في الهيكل على تحقيق ذلك.
“ويقيم الرب لنفسه ملكًا على إسرائيل،
يقرض بيت يربعام هذا اليوم،
وماذا الآن أيضًا.
ويضرب الرب إسرائيل كاهتزاز القصب في الماء،
ويستأصل إسرائيل عن هذه الأرض الصالحة التي أعطاها لآبائهم،
ويبدِّدهم إلى عبر النهر،
لأنَّهم عملوا سواريهم، وأغاظوا الرب” [14-15].
طرح يربعام الله وراء ظهره، فتجاهل الحضرة الإلهيَّة، ولم يبالِ بالوصيَّة الإلهيَّة ولا بالمخافة الربِّيَّة. لقد فضَّل عمله السياسي بفكر بشري عن مملكة الله.
سبق فحذَّر موسى النبي الشعب بأن الله سيقتلعهم من أرض الموعد إن عصوه (تث 29: 27). هنا لأول مرة يتكرَّر نفس التهديد. إن كان الله قد سلَّمهم الأرض بيدٍ قويَّة وذراعٍ رفيعة ليحتلُّوا الأمم المقيمة هناك. الآن تصيِّرهم الخطيَّة كالقصب ويسحبونهم إلى أرض السبي في أشور (2 مل 15: 29؛ 17: 23؛ 18: 11).
“ويدفع إسرائيل من أجل خطايا يربعام الذي أخطأ،
وجعل إسرائيل يخطئ” [16].
3. موت أبيّا:
“فقامت امرأة يربعام وذهبت وجاءت إلى ترصة،
ولما وصلت إلى عتبة الباب مات الغلام.
فدفنه وندبه جميع إسرائيل حسب كلام الرب الذي تكلَّم به عن يد عبده أخيَّا النبي” [17-18].
قدَّم لها علامة ملموسة لكي تتأكَّد هي وزوجها من صدق ما تنبَّأ به، وهي إنَّها لن تعود ترى ابنها حيًّا، فإنَّه عندما تلمس قدماها أرض المدينة يموت ابنها. حدَّثها عن أمور خاصة بالمستقبل حيث يتدمَّر بيت يربعام، وقدَّم لها عملًا سريعًا حتى تتأكَّد من صدق النبوَّة، لعلَّها ترجع هي وزوجها عمَّا فعلاه.
كان يربعام في ذلك قد نقل العاصمة من شكيم إلى ترصة، إحدى المدن الكنعانيَّة القديمة (يش 12: 24). تشتهر هذه المدينة بالمسحة الجماليَّة. وهي وسط الجبال، تبعد حوالي 9 أميال من شكيم (نابلس). ربَّما كانت مركز إقامة الملك للاستجمام الصحِّي، أكثر منها عاصمة للدولة. وقد بقيت عاصمة حتى بنى عمري السامرة (1 مل 16: 23-24). قبل السبيّ ظهرت هذه المدينة مرة أخرى بكونها مدينة منحيم الذي اغتال شالوم واحتل مركزه (2 مل 15: 14).
عادت الملكة إلى ترصة التي امتازت بجمالها (نش 16: 4). لكن موت ابنها يحرمها من التمتُّع بجمال الموضع ومباهجه. ترصة غالبًا هي تالوزه Talluza شمال شكيم Shachem (يش 12: 24).
شتَّان ما بين دخول امرأة يربعام المدينة ودخول القدِّيسة مريم إلى مدينة يهوذا (لو 1: 39). إذ لمست رِجل امرأة يربعام المدينة مات ابنها، وخيّم الحزن على القصر الملكي وكل إسرائيل. وإذ لمست رِجل القدِّيسة مريم بيت زكريا تهلَّل الجنين في بطن أليصابات، وامتلأت من الروح القدس، واشترك لسانها مع قلبها في التسبيح لله.
جاءت امرأة يربعام تحمل أخبارًا مُرَّة وتأديبات قاسية وجاءت مريم تحمل أخبارًا سارة للعالم كلُّه!
أبناء الظلمة يبعثون روح المرارة في وسط البشريَّة، أمَّا أبناء النور فيقدِّمون السيِّد المسيح مصدر الفرح، ويبعثون روح التسبيح والتهليل، ويفتحون باب الرجاء أمام الجميع.
ليتنا في زياراتنا للآخرين نحمل إليهم مسيحنا القدُّوس الذي يُبهج أحشاءهم الداخليَّة، ويُلهب روحه القدُّوس فيهم، فتتهلَّل نفوسهم به. عِوض أن نحمل معنا أفكارًا شرِّيرة وكلمات إدانة، فنملأهم بروح الظلمة ونُطفئ الروح في داخلهم.
4. موت يربعام:
“وأمَّا بقيَّة أمور يربعام كيف حارب وكيف ملك،
فإنَّها مكتوبة في سفر أخبار الأيَّام لملوك إسرائيل.
والزمان الذي ملك فيه يربعام هو اثنتان وعشرون سنة،
ثم اضطجع مع آبائه وملك ناداب ابنه عوضًا عنه” [19-20].
مات يربعام بعده بمدَّة قصيرة (2 أي 13: 20) بعد أن ضربه الرب بمرض خطير. مات بائسًا حيث ملك 22 عامًا وفقد ابنه الذي كان يود أن يتسلَّم منه العرش والتاج الملكي.
5. شر رحبعام ويهوذا:
“وأمَّا رحبعام بن سليمان فملك في يهوذا،
وكان رحبعام ابن إحدى وأربعين سنة حين ملك
وملك سبع عشرة سنة في أورشليم المدينة التي اختارها الرب لوضع اسمه فيها من جميع أسباط إسرائيل،
واسم أمُّه نعمة العمونيَّة.
وعمل يهوذا الشرّ في عيني الرب،
وأغاروه أكثر من جميع ما عمل آباؤهم بخطاياهم التي أخطأوا به” [21-22].
سمح الله بتمزيق المملكة من بيت داود بسبب غباوة رحبعام وعنفه، والآن يسمح بتمزيق بيت يربعام لأنَّه صنع شرورًا أعظم وأخطر. كان يليق به أن يقتدي بداود الملك الذي أخطأ، لكنَّه تمتَّع بالوعود الإلهيَّة والعطايا الفائقة خلال التوبة الصادقة.
“وبنوا هم أيضًا لأنفسهم مرتفعات وأنصابًا وسواري على كل تل مرتفعٍ وتحت كل شجرة خضراء” [23].
لقد أخطأ كثير من قادة الشعب سواء من القضاة أو الملوك، لكن لم يوجد من بينهم من دفع الشعب بكل قوَّته للعبادة الوثنيَّة. وإن تسلَّلت العبادة الوثنيَّة أحيانًا لم يقم منها القضاة أو الملوك العبادة الحقَّة، والعبادة الرسميَّة للشعب. ليس فقط إسرائيل وإنَّما يهوذا أيضًا بنوا مرتفعات وأيضًا (أعمدة مقدَّسة) وسواري وهي تماثيل خشبيَّة. أقيمت على كل تالٍ مرتفع وتحت كل شجرة خضراء. كانوا يمارسون العبادة الوثنيَّة جنبًا إلى جنب مع عبادة الله في الهيكل. اختاروا قمم التلال العاليَّة لكي تجتذب أنظار الأماكن المحيطة بها. وكانوا يقيمونها تحت كل شجرة خضراء في الطريق، حتى متى جلس المسافرون للراحة يجدون العبادة الوثنيَّة بين أيديهم.
“وكان أيضًا مأبونون في الأرض فعلوا حسب كل أرجاس الأمم الذين طردهم الرب من أمام بني إسرائيل” [24].
تحقَّق ذلك حيث قتل بعشا كل ذكور بيت يربعام (1 مل 15: 28-29).
6. السطو على بنك إسرائيل:
“وفي السنة الخامسة للملك رحبعام صعد شيشق ملك مصر إلى أورشليم” [25].
تدعوه الترجمة السبعينيَّة Sousakim ودعاه يوسابيوس Aesonchosis. جاء في المستندات المصريَّة أن Sheshonk (945-924 ق.م) هو مؤسِّس الأسرة الثانية والعشرين. كان أخطر عدوّ خارجي غزا أرض إسرائيل منذ أيَّام شاول الملك. جاء في معبد الكرنك صور عن نصرة مصر على يهوذا. كان شيشق Sishak يفتخر بأنَّه سبب متاعب لملك يهوذا. بفحص النقوش الخاصة بشيشق في الكرنك أكَّدت أن الرحلة وُجِّهت ضد فلسطين، وقد أوضحت العلاقة بين المملكتين في ذلك الحين. من بين 15 مدينة التي حصَّنهم رحبعام في بدء مُلكه (2 أي 11: 5-12) ثلاث مدن فتحها شيشق وهي سوكو Shoco وأدورايم Adoraim وأيلون Aijalon. كذلك فتح مدينتين أخريتين من يهوذا أو بنيامين. بعد ذلك افتتح عددًا كبيرًا من المدن كانت تحت سيادة يربعام سواء كانت كنعانيَّة أو من مدن اللآويِّين. ففي السنوات الأربع بعد حدوث الانشقاق كان لرحبعام سطوة كبرى ضدّ منافسة يربعام. قامت بعض المدن الكنعانيَّة ومدن اللآويِّين بالثورة ضد يربعام، فلجأ الأخير إلى شيشق لمساندته في إخضاع هذه المدن حتى أخضعها تمامًا.
جاء نقش في أول قصر بالكرنك، حيث أكثر من 130 شخصًا تغطيهم الدروع منقادين ومربوطين بواسطة الإله آمون Ammon والإله Muth وأياديهم مربوطة وراء ظهورهم. هؤلاء الأشخاص يرمزون إلى المدن المحصَّنة التي فتحها الملك. أحد هؤلاء المدرَّعين المقيَّدين كأسرى نقش تحته “ملك يهوذا”. Yudeh-Malek، يرى البعض إنَّها لا تعني ملك يهوذا بل هي اسم مدينة فلسطين غير معروفة لدينا.
“وأخذ خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك،
وأخذ كل شيء، وأخذ جميع أتراس الذهب التي عملها سليمان” [26].
كان الشعب عادة يحتفظ بالمجوهرات وكل الأشياء الثمينة إمَّا بإخفائها تحت الأرض، أو بإيداعها في الهيكل كأمانة. فكان الهيكل أشبه بخزنة بنك عام لإسرائيل يحتفظ بكثير من الأشياء الثمينة. لقد سطا شيشق على خزائن البنك وسلبها.
“فعمل الملك رحبعام عوضًا عنها أتراس نحاس،
وسلَّمها ليد رؤساء السعاة الحافظين باب بيت الملك.
وكان إذا دخل الملك بيت الرب يحملها السعاة ثم يرجعونها إلى غرفة السعاة” [27-28].
ربَّما كان عدد السعاة 300 على حسب عدد الأتراس.
“وبقيَّة أمور رحبعام وكل ما فعل أمَّا هي فمكتوبة في سفر أخبار الأيَّام لملوك يهوذا.
وكانت حرب بين رحبعام ويربعام كل الأيَّام” [29-30].
تحقَّق ذلك حين سقطت السامرة عام 722 ق.م على يد الأشوريِّين؛ وسقطت أورشليم عام 5/586 ق.م. على يد البابليِّين.
“ثم اضطجع رحبعام مع آبائه ودفن مع آبائه في مدينة داود،
واسم أمُّه نعمة العمونيَّة،
وملَك أبيام ابنه عوضًا عنه” [31].
ذكر اسم الأم هنا “نعمة” وهي عمُّونيَّة، ليشير إلى تأثيرها الشخصي على ابنها الملك وعلى حكومته. للمرة الثانية يشير لاسم الملكة الأم وذلك لأهميَّة دورها. وقد ظهرت ملكتان في يهوذا لهما دورهما الخطير (1 مل 15: 13؛ 2 مل 11: 1-20).
من وحي 1 ملوك 14
ليتبدَّد بيت يربعام، ويفقد رحبعام نفوذه!
* ظنَّت امرأة يربعام أنَّها قادرة أن تتخفي أمام أخيَّا النبي،
هذا الذي لا يختفي المستقبل أمامه،
بل تنبَّأ لزوجها أن يكون ملكًا.
جاءت تسأل عن أبيَّا ابنها المريض،
ولم تبالِ بالشعب الذي أصابه المرض بسبب زوجها.
طرح زوجها الرب وراءه، ودفع الشعب للشرّ.
هوذا يموت ابنها عند دخولها المدينة،
ويقرض الرب بيت يربعام في عارٍ وخزيٍ.
* سلك رحبعام بن سليمان طريق أمُّه العمونيَّة.
هوذا شيشق ملك مصر يسلب خزائن أورشليم.
يربعام ورحبعام في حرب مستمرَّة،
كلاهما أبغضا الرب وأحبَّا الشرّ.
* لماذا أظن إنَّني قادر على التنكُّر أمام رجال الله.
لأرجع إلى الرب بكل قلبي، فيشفي نفسي المريضة.
يدخل بي إلى مدينتي المقدَّسة، ولا أكون بعد في عارٍ.
لأعطي للرب الوجه لا القفا،
فأحيا وتحيا كل عائلتي.
أتمتَّع مع أحبَّائي بالرب سرّ حياتي.
* لن يقدر غريب أن يدخل إلى أورشليمي المقدَّسة.
لن يمس العدوّ خزائن نفسي.
إنَّها في يد مخلِّصي، حافظي وتُرسي.
يحتل السلام أعماقي، وتتهلَّل نفسي بفرح السماء.
- سفر الملوك الأول – أصحاح 14
- تفاسير أخرى لسفر الملوك الأول – أصحاح 14
تفسير ملوك الأول 13 | تفسير ملوك الأول القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير ملوك الأول 15 |
تفسير العهد القديم |