تفسير سفر الملوك الأول 19 للقمص تادرس يعقوب ملطي

ظهور الله لإيليَّا

كان الله يسمح لإيليَّا النبي أحيانًا بالضيق من أجل بنيان نفسه، حتى لا يدفع به نجاحه المستمر ونصرته إلى الكبرياء. ففي الأصحاح السابق وهبه الله نصرة على كهنة البعل، وشهد الشعب لإلهه ورفضوا البعل. يبدو أنَّه حتى الملك نفسه كان راضيًا بقتل كهنة البعل. الآن في هذا الأصحاح تضيق نفس إيليَّا بسبب مقاومة الملكة إيزابل له. لكن الله يسنده، فيرسل له ملاكه ويترآى له، ويفرح قلبه باختيار نبي يتتلمذ على يديه ويكمل رسالته.

 

1. هروب إيليَّا إلى بئر سبع:

اخبر آخاب زوجته إيزابل بما فعله إيليَّا، وكيف قتل كهنة البعل، فثارت جدًا وقرَّرت قتله. اضطر أن يهرب إيليَّا إلى بيت سبع التي ليهوذا، حيث عاله ملاك هناك.

“وأخبر آخاب إيزابل بكل ما عمل إيليَّا،

وكيف أنَّه قتل جميع الأنبياء بالسيف” [1].

كانت إيزابل ككاهنة للبعل تعتبر نفسها حصنًا لكهنة البعل. أمَّا وقد ثار الشعب كلُّه وذبح إيليَّا كهنة البعل، صار موقفها حرجًا جدًا. لم يجرؤ آخاب أن يشير إلى اسم الله في حديثه مع زوجته إيزابل، فإنَّه لم يخبرها بما عمله الله بل “بكل ما عمل إيليَّا“. هل أراد الملك أن يهدِّئ من إيزابل بسرده ما حدث ليكشف لها عن ما فعله إيليَّا النبي بإنزاله نارٍ من السماء وهبوط الأمطار، أم أنَّه شعر بعجزه عن مواجهة إيليَّا والشعب وترك لامرأته الشرِّيرة أن تتصرَّف؟ لا يستطيع أحد أن يعطي جوابًا قاطعًا في هذا الأمر.

“فأرسلت إيزابل رسولًا إلى إيليَّا تقول:

هكذا تفعل الإلهة وهكذا تزيد إن لم اجعل نفسك كنفس واحدٍ منهم في نحو هذا الوقت غدًا” [2].

بعثت برسول إلى إيليَّا تحدِّد له موعد قتله، أنَّه في اليوم التالي تفعل به ما فعله بكهنتها. لعلَّها شعرت بعجزها عن قتله بعد أن تعبَّأ الشعور العام كلُّه ضد البعل، وربَّما شعرت أن لهجة زوجها أيضًا قد تغيَّرت، فصار متعاطفًا مع النبي، فأرسلت إليه تهدِّده لكي يهرب فتتخلَّص منه.

ربَّما خشت الملكة من ثورة الشعب فيطلبون إيليَّا أن يكون القائد الروحي لمملكة، وأن يكون المشرِّع لهم، وذلك بعد أن رأوا النار النازلة من السماء والمطر الذي سقط بكلمته.

“فلما رأى ذلك،

قام ومضى لأجل نفسه،

وأتى إلى بئر سبع التي ليهوذا، وترك غلامه هناك” [3].

هرب إيليَّا من شرّ إيزابل، ومن بعده اشتاق إرميا أن يهرب من شعبه إن وجد ملجأ له في البرِّيَّة (إر 9: 2).

يرى البعض أن إيليَّا النبي لم يهرب خوفًا من إيزابل وشرَّها، وإنَّما لأجل نفسه، أو لأجل حياته مع الرب، فإنَّه سار في البرِّيَّة مسيرة يوم واشتهى الموت، فقد شعر بالحاجة إلى عون إلهي، لأن مقاومة عبادة الله كانت عنيفة للغاية.

في بئر سبع ترك غلامه إذ أراد أن يدخل في البرِّيَّة وحده ليختلي مع الرب، ويتمتَّع بالتأمل فيه واللقاء معه والحوار معه. وقد أعطاه الرب سؤل قلبه. ترك غلامه كما ترك إبراهيم غلامه مع الحمار وانطلق مع ابنه اسحق إلى الجبل ليعبد الرب ويقدِّم الذبيحة. وعندما دخل السيِّد المسيح مع تلاميذه جثسيماني تركهم وبقى وحده يتحدَّث مع الآب، ليشرب الكأس نيابة عن كل البشريَّة.

هرب إيليَّا من مملكة الشمال إلى مملكة الجنوب حيث الملك يهوشافاط الصالح، وانطلق إلى أقصى الجنوب عند بئر سبع. أنَّه موقف عجيب، فإن إيليَّا الذي لم يخف من مواجهة 850 كاهنًا للبعل ومعهم الملك وأيضًا كل الشعب، واثقًا في عناية الله به، الآن يخشى ثورة سيِّدة متعجرفة. أنَّها لحظات ضعف يعيشها النبي الناري الجريء.

هرب إيليَّا من المرأة إيزابل [2]، التي تعني “فيض من الباطل”(180)، هرب إلى جبل حوريب [8].

2. مساندة الملاك له:

“ثم سار في البريَّة مسيرة يوم حتى أتى وجلس تحت رتمة،

وطلب الموت لنفسه،

وقال: قد كفى الآن يا رب،

خذ نفسي، لأنَّني لست خيرًا من آبائي” [4].

شعر أنَّه لا يعود يقدر أن يقدِّم شيئًا صالحًا بعد لشعبه، فقد قدَّم كل ما لديه. مرَّت عليه فترة من المرارة، لأن الأمور تسير على خلاف ما يشتهي. كان يودّ عودة الملك وشعبه لله. وإذ شعر بعجزه في تحقيق ذلك حسب أنَّه لا قيمة لوجوده بعد، فإنَّه ليس أفضل من آبائه الذين فشلوا أحيانًا في جذب الشعب إلى الله.

كان يتوقَّع بعد نزول النار من السماء علانيَّة وشهادة الشعب للإيمان الحق أن الأمور تسير إلى الأفضل، لكنَّه وجد الملك خضع للملكة، وبالتالي سيعود الشعب إلى عبادة البعل تحت الإغراء والضغط الملكي.

سار في البريَّة غالبًا تجاه حوريب. سلك مسيرة يوم كاملٍ في البريَّة في نجب جنوب يهوذا. ذهب إلى بئر سبع التي تبعد حوالي 95 ميلًا من يزرعيل على حافة صحراء التيه. لم يكن ممكنًا لإيليَّا أن يصل إليها إلاَّ في نهاية اليوم التالي حيث كان يسير الليل والنهار ولم يسترح في الطريق. وهي مدينة تابعة لسبط شمعون (يش 19: 2) وكان جزء من سبط شمعون قد انضم إلى يهوذا.

اشتهى إيليَّا النبي أن يموت، مع أنَّه هرب إلى بئر سبع من وجه إيزابل الشرِّيرة التي تطلب نفسه. كان يشتهى يموت بيد الرب لا بيد هذه السيِّدة، فإن الوقوع في يديّ الله الرحيم أفضل من الوقوع في يد الإنسان الشرِّير.

اشتهى أن يموت في البريَّة في أرض مقدَّسة ولا يموت في أرض تدنَّست بعبادة البعل.

جلس تحت شجرة يدعوها العرب رتمة، وهي شجرة ضخمة تحمي المسافرين من حرارة الشمس ومن العواصف.

عندما يشعر حتى الأنبياء بنوعٍ من الفشل كانوا يشتهون الموت، الأمر الذي سقط فيه كثيرون مثل موسى النبي ويُّونان النبي.

*     بالحق أجاهد هنا كما لو كنت قد نسيتني، مع إنَّني أعرف تمامًا أنَّك مجرَّد تمتحني، فإنَّك وإن كنت كمن يتركني لكنَّك لن تفشل في أن تهبني ما وعدت به. ومع هذا لا احتمل فأقول: “لماذا نسيتني؟”(181)

القديس أغسطينوس

*     إنَّنا لا نقتنع بما نحن عليه الآن. فإنَّه حتى الأشياء التي نشتهيها تسبب لنا متاعب، وما نشتاق أن نناله لا نعود نشتهيه عندما نناله. لهذا ليس بدون سبب غالبًا ما بكى القدِّيسون طول بقائهم هنا. داود انتحب (مز 120: 5)، وإرميا رثاها (إر 1: 18)، وإيليَّا بكاها.

إن كنَّا نصدِّق الحكماء، والذين سكنهم الروح الإلهي، فإنَّهم كانوا يسرعون نحو الأفضل (الانطلاق نحو الحياة الأبديَّة والقيامة)(182).

القديس أمبروسيوس

يرى القديس أمبروسيوس أن البريَّة التي نهرب إليها هي التوبة أو نعمة الله حيث يجد الشريد فيها ملجأ وخلاصًا.

*     التوبة هي هروب صالح؛

نعمة الله هي هروب صالح، فيها يجد الشريد خلاصه.

البريَّة هي هروب صالح، هرب إليها إيليَّا (1 مل 19: 4) وإليشع ويوحنا المعمدان (مت 3: 1، لو 13: 2).

هرب إيليَّا من المرأة إيزابل التي تعني “فيض من الباطل“، هرب إلى جبل حوريب. (1 مل 19: 8) التي تعني جفافًا، حيث يجف تدفُّق مياه الجسديَّات الباطلة، حينئذ يأتي إلى معرفة الله بأكثر كمال، لأنَّه كان بجانب نهر كريث الذي يعني “المعرفة” هناك استطاع أن يشرب من فيض معرفة الله المتدفِّق (1 مل 17: 5). هرب إيليَّا من العالم حتى أنَّه لم يطلب طعامًا يحتاج إليه جسده غير ما قدَّمته له تلك الطيور الخادمة (1 مل 17: 6)، مع أن طعامه غالبًا ما كان ليس من هذا العالم (1 مل 19: 5-7). حقًا لقد صار أربعين يومًا بالقوَّة التي صارت له بالوجبة التي نالها (1 مل 19: 8).

بالتأكيد لم يهرب من مجرَّد امرأة بل من هذا العالم. لم يخف الموت، لأنَّه تقدَّم بنفسه لذاك الذي كان يطلب نفسه وقال للرب: “خذ نفسي” (1 مل 19: 4).

احتمل أتعاب هذه الحياة ليس مشتهيًا إيَّاها، لكنَّه كان يهرب من إغراءات العالم وسموم السلوك الشرِّير والتصرُّفات الدنيئة للجيل الخاطي غير المقدَّس(183).

القديس أمبروسيوس

“واضطجع ونام تحت الرتمة،

وإذا بملاك قد مسَّه وقال:

قمْ وكلْ” [5].

مع سيره المستمر بلا توقُّف من جبل الكرمل إلى بئر سبع ثم سار يومًا في البريَّة تجاه حوريب تعب جدًا فنام. كان محتاجًا إلى عونٍ إلهيٍ يسند نفسه المتعبة بسبب شعوره بالفشل ويسند جسده المرهق والجائع. أرسل إليه الله ملاكًا يقدِّم له الضروريَّات.

كان إيليَّا يشتهى أن ينام ولا يقوم، فقد حطَّمت إيزابل اشتياقاته. قام من نومه بناء على لمسة من الملاك، ليدرك أنَّه موضع رعاية الرب إله الملائكة وعنايته، فلا يضطرب. كان إيليَّا النبي فريدًا في اهتمام الله حتى بطعامه، فحين كان في ظروف عاديَّة أو شبه عاديَّة في المدن أو القرى تركه يعد لنفسه الطعام كسائر اخوته، لكن تحت ظروف خاصة أرسل إليه تارة غرابًا وأخرى أرملة وثالثة ملاكًا يعدُّون له الطعام. حين كان منفردًا في كريث عالته الغربان، وإذ كان في صيدا عالته أرملة صِرْفِة صيْدا، والآن إذ لا توجد غربان ولا إنسان أرسل إليه ملاكًا يعوله.

“فتطلع وإذا كعكة رضْفٍ وكوز ماء عند رأسه،

فأكل وشرب،

ثم رجع فاضطجع” [6].

وجد الطعام والماء عند رأسه، أيّ في متناول يده. وجد كعكة مخبوزة على الفحم، ربَّما وجد خشبًا أو فحمًا متقدًا بالنار والكعكة عليه، وهي من الطعام المحبوب لدى العرب في هذه المنطقة.

كان إيليَّا كناسكٍ يقضي الكثير من وقته في البراري يأكل بتقشُّف، وكان ملتزمًا أن يعد لنفسه الطعام. وعندما التزم بالهروب والاختفاء عند نهر كريث مقابل الأردن حيث طلب ألاَّ يكون مطر إلاَّ عند قوله أرسل الله إليه غرابًا يأتيه كل صباح ومساء بخبزٍ ولحمٍ. وإذ جفَّ نهر الأردن ويبس أرسله الرب إلى أرملة صِرْفة صيْدون لكي تعوله بالخبز فقط. وأخيرًا إذ بعث به إلى جبل حوريب ليتحدَّث معه وجهًا لوجه (1 مل 19) قدَّم له ملاك كعكة واحدة وكوز زيت ليأكل ويشرب ثم يصوم أربعين نهارًا وأربعين ليلة بطريقة تفوق الطبيعة.

*     يروي الكتاب المقدَّس عن إيليَّا الهارب من وجه المرأة إيزابيل، وقد جلس أولًا تحت رتمة وهناك سمع له وتقبَّل قوَّة وطعامًا. هذا يعني أن من يهرب من إغراءات الشهوة، ومن امرأة (شرِّيرة)، أيّ من اللذَّة، يجد ملجأ وظلًا في شجرة العفَّة، حيث يتمتَّع بمجيء المسيح ورئيس البتوليِّين البشر(184).

الأب ميثوديوس

*     لو أراد الله أمَّا كان يمكنه أن يرسل لنبيِّه خمورًا ممتازة وأطباق شهيَّة ولحومًا مطهيَّة؟ عندما دعي إليشع أبناء الأنبياء ليأكلوا قدم لهم أعشابًا فقط ليأكلوا، وعندما صرخ الكل بصوت واحد: “في القدر موت” (2 مل 4: 40) لم يثر رجل الله على الطبخ بل أحضر الطعام وألقى فيه ما جعل مرارة الطعام تصير عذبة بقوَّة روحيَّة، وذلك كما فعل موسى الذي جعل مياه مارَّة عذبة.

مرة أخرى عندما أرسل رجالًا للقبض على النبي وُضربوا بعمى جسماني وعقلي، كي يحضرهم إلى السامرة وهم لا يدرون لاحظ الطعام الذي أمر إليشع أن يقدِّم لهم لكي ينعشهم “صنع خبزًا وماء أمامهم فيأكلوا ويشربوا ثم ينطلقوا إلى سيِّدهم” (2 مل 6: 22). ودانيال الذي كان يمكنه أن يأكل طعامًا فاخرًا من مائدة الملك فضَّل القطاني(185).

القديس جيروم

*     إيليَّا الذي كان الرب يدرِّبه على كمال الفضيلة وجد عند رأسه كعكة وكوز ماء، عندئذ صام بقوَّة هذا الطعام 40 يومًا وأربعين ليلة. عندما عبر آباؤنا البحر بأقدامهم (خر 17: 6) شربوا ماءً لا خمرًا. دانيال والفتيان العبرانيُّون كانوا يأكلون طعامًا خاصًا (دا 1: 8) ويشربون ماءً، الأول غلب ثورة الأسود (دا 6: 22) والآخرون رأوا في النار المحرقة ملعبًا دون أن تصاب أطرافهم بأدنى أذيَّة (دا 3: 27).

ولماذا أتحدَّث عن الرجال، فإن يهوديت لم تشتهِ مائدة هولوفرنيس الشهيَّة فنالت بعفَّتها وحدها نصرة. الأمر الذي فشل فيه الرجال وخلصت مدينتها من الحصار وقتلت القائد بيديها (يهوديت 8: 16)… إستير بصومها حرَّكت الملك المتكبِّر (إس 4: 16). وحنَّة التي خدمت الله في ترمُّلها لمدَّة 84 سنة بأصوام وصلوات نهارًا وليلًا في الهيكل عرفت المسيح (لو 2: 37). ويوحنَّا سيِّد النسك ظهر كملاكٍ يسير على الأرض(186).

القديس أمبروسيوس

*     إذ هرب (إيليَّا النبي) من تهديدات إيزابل، بعد وجبة طعام واحدة وشراب وجدهما عندما أيقظه الملاك بقى لمدَّة أربعين نهارًا وأربعين ليلةٍ ببطنٍ فارغة، وصار فمه جافًا، بلغ إلى جبل حوريب حيث سكن في مغارة كما في فندق. أي لقاء شهير تمَّ بينه وبين الله! ما هو حالك يا إيليَّا هنا؟ هل كنت في صداقة مع هذا الصوت (الإلهي) أكثر من القول: “آدم أين أنت؟” (تك 3: 9)؟ لأن هذه هي قوَّة الطعام بحدودٍ (الصوم) تجعل الله في صداقة مع الإنسان تحت مظلَّة (إذ تمتَّع إيليَّا بصحبة المسيح تحت السحابة التي ظلَّلتهم (مت 17: 4). إنَّها صداقة حقَّة! فإن كان الله الأبدي لن يجوع كما شهد في إشعياء (مز 40: 28) فسيأتي وقت فيه يصير الإنسان متشبِّها بالله عندما يحيا بلا طعام(187).

العلامة ترتليان

جاء في الإنجيل البدائي المنسوب ليعقوب Protoevangelium of James عن يواقيم والد القدِّيسة مريم بأنَّه إذ كان حزينًا لأنَّه لم يكن له نسل، ذهب إلى الجبل وصام أربعين يومًا وأربعين ليلة قائلًا في نفسه: “لن آكل ولا أشرب حتى يتطلَّع الرب إلهي إليّ، وستكون الصلاة هي طعامي وشرابي”.

“ثم عاد ملاك الرب ثانية فمسَّه وقال:

قم وكل، لأن المسافة كثيرة عليك” [7].

إذ نام ثانية عاد الملاك ولمسه وطلب منه أن يأكل لأن المسافة طويلة عليه. تبلغ المسافة بين بئر سبع وحوريب حوالي 150 ميلًا. لم يخبره الملاك إلى أين هو ذاهب، إنَّما اكتفى بإعلان أن المسافة طويلة جدًا.

“فقام وأكل وشرب،

وسار بقوَّة تلك الأكلة أربعين نهارًا وأربعين ليلة،

 إلى جبل الله حوريب” [8].

قاده الروح للذهاب إلى جبل حوريب، الجبل الذي عليه تسلَّم موسى الشريعة. كانت خطَّة الله عجيبة بالنسبة لإيليَّا النبي، فقد أمر الغربان أن تطعمه مرَّتين يوميًا بالخبز واللحم، ثم بارك في زيت الأرملة ودقيقها ليعيش أكثر من عامين دون أن يذوق اللحم، والآن إذ يقدِّمه الملاك كعكة ويشرب ماء يقضي أربعين نهارًا وأربعين ليلة لا يأكل قط ولا يشرب. صام أربعين يومًا مثل موسى النبي.

*     صام موسى (خر 24: 8) وإيليَّا لمدَّة أربعين يومًا وعاشوا على الله وحده. فإنَّه منذ القِدم قد تقدَّس المبدأ: “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل ما يخرج من فمّ الرب يحيا الإنسان” (تث 8: 3؛ مت 4: 4). هنا نرى بصورة باهتة لقوَّتنا في المستقبل (في السماء)(188).

 العلامة ترتليان

إذ تحدَّث العلامة ترتليان(189) عن الصوم الأربعيني لموسى وإيليَّا النبيِّين استعرض خطورة النهم وعدم ضبط البطن فأشار إلى القول: “جلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب” (1 كو 10: 7 ؛ خر 32: 6). أيضًا “فسمن يشرون ورفس. سمنت وغلظت واكتسبت شحمًا. فرفض الإله الذي عمله وغنى عن صخرة خلاصه” (تث 32: 15). “لئلاَّ إذا أكلت وشبعت وبنيت بيوتًا جديدة وسكنت… يرتفع قلبك وتنسى الرب إلهك” (تث 8: 12-14).

كانت المسافة تحتاج إلى حوالي أسبوع، لكن الله سمح لإيليَّا أن يقضي أربعين يومًا وأربعين ليلة، كما جال الشعب قديمًا أربعين سنة مع موسى النبي في البريَّة.

الجبل الذي التقى فيه الله مع موسى دعاه: “جبل الله”، والبيت الذي يلتقي فيه مع شعبه يدعوه: “بيت الله” والمدينة التي تقام فيها هيكله تسمَّى: “مدينة الله”.

دخل إيليَّا المغارة، غالبًا التي دخل فيها موسى النبي حين اشتهى أن يرى مجد الله، وقد عبر به ليرى مجده من خلف (خر 33: 22).

اشتهى إيليَّا أن يهرب بل ويموت بسبب ما ضمرته إيزابل من تحطيم للإيمان، لكن الرب وهب إيليَّا ما لم يخطر على قلبه. أتى به إلى جبله المقدَّس، وادخله إلى المغارة ليتحدَّث معه في حوارٍ مفتوحٍ. جاء به الرب إلى هذا الموضع لكي يقول مع نحميا: “أرجل مثلي يهرب؟!” (نح 6: 11).

“مالك ههنا يا إيليَّا؟” إنَّه ليس وقت خلوة بل وقت عمل، فلماذا أنت ههنا؟ الشعب ينتظرك، وأنت مسئول عن الخدمة، فلا تهرب!

3. ظهور الرب له:

“ودخل هناك المغارة وبات فيها،

وكان كلام الرب إليه يقول: ما لك ههنا يا إيليَّا” [9].

*     بعد الإعداد بأربعين يومًا من الصوم رأى إيليَّا الرب على جبل حوريب. وسمع منه الكلمات: “مالك ههنا يا إيليَّا؟” هنا القول متقارب جدًا من القول: “آدم، أين أنت؟” في سفر التكوين. هدف الأخير هو إثارة مخاوف من أكلَ وفقدَ، والقول الأول موجَّه إلى عبدٍ صائمٍ بحنو وحب(190).

القديس جيروم

“فقال: قد غِرت غيرة للرب إله الجنود،

لأن بني إسرائيل قد تركوا عهدك،

ونقضوا مذابحك،

وقتلوا أنبياءك بالسيف،

فبقيتُ أنا وحدي،

وهم يطلبون نفسي ليأخذوها” [10].

أجاب على سؤال الرب بأنَّه مملوء غيرة على مجد الرب، لكن قد حطَّمه اليأس، إذ لم يعد بعد يرى أحدًا يعبد الرب بإخلاص غيره. كل هذه السنوات من خدمته حسبها كلا شيء، إذ لم تثمر بتوبة شخصٍ واحدٍ. لم يشتكِ الملك والملكة وحدهما، بل اشتكى بني إسرائيل، واتَّهمهم بالآتي:

*     تركوا عهد الرب مع أنَّهم مارسوا العلامة الظاهرة للعهد، وهي الختان.

*     تركوا عبادة الرب وخدمته.

*     اضطهدوا خدامه وأنبياءه.

*     لم يهجروا مذابح الرب فحسب بل هدموها ونقضوها. هذه المذابح أقامها أناس صالحون غير قادرين على الذهاب إلى أورشليم ويرفضون التعبُّد للعجلين أو للبعل. مع أن هذه المذابح تحطِّم وحدة الجماعة المقدَّسة، لكن التزم بها أناس صالحون حتى لا يُحرموا من تقديم الذبائح. بنوها وهم مخلصون في محبَّتهم لله ورغبتهم في إعلان مجده.

أجاب على سؤال الرب لماذا جاء إلى البريَّة وقطن في المغارة، معلِّلًا ذلك بالأسباب التالية:

*     بقيت أنا وحدي”: لم يعد قادرًا على الظهور لتحقيق أي هدف. فمع صراخ كل الشعب “الله هو الرب” لم يقف أحد منهم معه، ولا دافع أحد عنه. نسى إيليَّا أنَّه ليس وحده، لأن الله معه، حتى وإن وقف العالم كلُّه ضدُّه.

*     لم يعد قادرًا على الظهور من أجل سلامه، إذ صارت حياته في خطر “وهم يطلبون نفسي ليأخذوها”.

*     لا يقدر مسيحي أن يقول بأنَّه ليس له متاعب، لماذا؟ لأنَّه مادمنا في الجسد فإنَّنا في رحلة نحو الله. مهما كانت الأمور حسنة فإنَّنا لا نزال لسنا في بيتنا. لا يقدر الإنسان أن يحب الرحلة ومدينته في نفس الوقت. فإن من أحب وطنه تبدو رحلته شاقة ومملوءة متاعب. هنا نتعب ونحزن، هناك نجد راحة بلا نهاية وحب بلا قلق(191).

القديس أغسطينوس

“فقال: اخرج وقف على الجبل أمام الرب.

وإذا بالرب عابر وريح عظيمة وشديدة قد شقَّت الجبال وكسرت الصخور أمام الرب،

ولم يكن الرب في الريح.

وبعد الريح زلزلة،

ولم يكن الرب في الزلزلة” [11].

الآن يتعامل الله مع إيليَّا تقريبًا بذات الطريقة التي تعامل بها موسى النبي، فقد وقف إيليَّا في نفس الموضع الذي وقف فيه موسى عندما أعلن الله ذاته له عند تسليمه الشريعة (خر 19: 6-9 ).

إذ عبر به الرب كان أشبه بريحٍ عظيمةٍ وشديدةٍ شقَّت الجبال وكسرت الصخور أمام الرب. أعدَّ الله الطريق بالريح العظيمة والزلزال والنار، لكن الله لم يعلن عن ذاته وسط كل هذه الظواهر. لقد هيَّأت لإيليَّا النبي الطريق ليسمع الرب في وسط الهدوء. هذه الظواهر بعينها حدثت في أيَّام موسى أثناء لقائه مع الله.

يريد الله أن يلتقي مع مؤمنيه خلال الجو الهادئ لا العلامات العنيفة للطبيعة.

يرى الكلدانيُّون أن الله تراءى لإيليَّا النبي يسبقه موكب من الملائكة كانوا كالريح العاصف يمزِّقون الجبال ويكسرون الصخور أمام الرب. لم يكن الرب في وسط هذا الموكب الملائكي المخيف. تبعه طغمة من الملائكة في صخبٍ ولم تكن عظمة الله وسط هذه الطغمة. بعد هذه الطغمة ظهرت ملائكة من نار ولم تكن عظمة الرب في هذه الطغمة الناريَّة. بعد هذه الطغمة الناريَّة سمع صوت ترنُّم خفيف في سكون، ولم يوجد صوت آخر يمتزج بهذا الصوت. لعلَّ هذا كلُّه يقدِّم صورة توضيحيَّة رمزيَّة عن دور عناية الله ونعمته.

الريح العاصف والزلازل والنيران كلَّها تحدث بمسرة الله لكنَّها ليست طبيعته. فإن الله روح يريد أن يتجلَّى بالأكثر خلال السكون الهدوء. فإن كان إيليَّا في غيرته صار كريحٍ عاصفٍ أو كزلزالٍ يريد أن يحطِّم الشرّ، أو كنارٍ آكلةٍ يريد أن يحرق كل رجاسة وفساد، فإن الله يدعوه الآن أن يعمل به خلال السكون الهدوء. غيرة إيليَّا مقدَّسة، ونار قلبه نحو مجد الله مباركة، لكن قد حان الوقت ليرى خلال هدوء نفسه عمل الله الخفي في الركب التي لم تنحنِ لبعل بعد. وأنَّه يقوم ليمسح ثلاثة أشخاص للعمل، ملك آرام وملك إسرائيل وتلميذه إليشع النبي، فيكون لكل منهم دوره المكمِّل للآخر في تأديب إسرائيل وخاصة بيت آخاب.

حسنة هي الغيرة المقدَّسة المتَّقدة في داخلنا، لكن يلزمنا ألاَّ نسقط في اليأس حين نرى كأن العالم كلُّه قد رفض الإيمان. يلزمنا أن نلتقي مع الرب في سكون وصمت ونسمع صوته فيرينا أعماله الفائقة الخفيَّة في النفوس، ويدعونا للعمل الإيجابي الخفي ليشترك الآخرون معنا في خدمة الملكوت السماوي، سواء بالعمل الإيجابي أو السلبي. في هذا اللقاء الممتع بين الله وإيليَّا نتلامس مع لقاء الكنيسة عبر الأجيال مع إلهها.

 كان اللقاء في العهد القديم خلال الريح العاصف والزلازل والنيران، خلال أعمال ملموسة في الطبيعة العاديَّة. فالإنسان في طفولته الروحيَّة يحتاج إلى عمل مادي فائق ليهز أعماقه الداخليَّة. هذا ما حدث عندما قدَّم الله شريعته للشعب خلال موسى النبي على جبل سيناء. أمَّا في العهد الجديد الذي هو امتداد للعهد القديم وتكميل له فقد ظهر الرب نفسه، كلمة الله الحيّ، لا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته (مت 12: 19). قدَّم لنا روحه في العنصرة خلال الريح العاصف والزلزلة والألسنة الناريَّة لتأكيد إنَّنا ننال ما كان يشتهيه رجال العهد القديم، هذا الروح هو روح الرب الذي يدخل بنا إلى الحضرة الإلهيَّة، فيرفعنا في هدوء وسكون إلى السماء.

“وبعد الزلزلة نار،

ولم يكن الرب في النار.

وبعد النار صوت منخفض خفيف” [12].

يرى القدِّيس يوستين(192) أن أفلاطون يعتقد بأن الله موجود في النار، وأنَّه اقتبس هذا بطريقة خاطئة من هاتين العبارتين.

يستخدم القدِّيس إيريناؤس هاتين العبارتين لتأكيد أن الله غير المنظور لنا وجهًا لوجه، إنَّما نراه خلال أعماله معنا. [لم يرَ الأنبياء بالفعل وجه الله علانيَّة، لأنَّهم رأوه خلال تدابيره وأسراره التي من خلالها يرى الإنسان الله. كما قيل لإيليَّا النبي: “اُخرج غدًا وقف في حضرة الرب واُنظر(193)…].

ويرى القديس أغسطينوس إنَّنا نرى الله خلال اخوتنا. فيقول: [لا تقدر أن ترى الله، لكن من حقَّك أن تراه بحبَّك لقريبك. وبتطلُّعك إلى مصدر ذاك الحب ترى الله قدر ما تستطيع(194)].

رؤية الله:

يحدِّثنا العلامة أوريجينوس عن إمكانيَّة رؤية الله وكيف نتمتَّع بها.

*     نُظر الله بواسطة إبراهيم أو بواسطة قدِّيسين آخرين، وذلك خلال النعمة الإلهيَّة. لم تكن عينا إبراهيم هما وحدهما علَّة الرؤية، بل الله قدم نفسه لكي يُرى بواسطة الإنسان البار، الذي تأهَّل لرؤيته.

ربَّما يوجد ملاك بجوارنا الآن ونحن نتكلَّم، لكننا لا نقدر أن نراه بسبب عدم استحقاقنا.

ربَّما تسعى العين (الجسديَّة) أو الداخليَّة لتنال هذه الرؤيا، لكن إن لم يعلن الملاك نفسه لنا نحن الذين لنا هذه الرغبة لن نقدر أن نراه.

هذه الحقيقة لا تخص رؤية الله في هذا العصر الحاضر فحسب بل وعندما نرحل من هذا العالم. لأن الله وملائكته لن يظهروا لكل البشر بعد رحيلهم مباشرة… بل توهِب هذه الرؤيا للقلب الطاهر الذي تأهَّل لرؤية الله.

الإنسان الذي تثقَّل قلبه بالخطيَّة ليس في نفس الموضع مع ذاك الذي قلبه طاهر، فالآخر يرى الله بينما الأول لا يراه.

أظنّ أن هذا حدث عندما كان المسيح هنا في الجسد على الأرض. فإنَّه ليس كل من نظره نظر الله. بيلاطس وهيرودس الوالي تطلَّعا إليه وفي نفس الوقت لم ينظراه (كإله).

لذلك فإن ثلاثة رجال جاءوا إلى إبراهيم في منتصف النهار بينما جاء اثنان إلى لوط في المساء (تك 19: 1)، إذ لم يكن لوط قادرًا أن يتقبَّل عظمة نور الظهيرة أمَّا إبراهيم فكان قادرًا على قبول كمال بهاء النور(195).

*     رؤية الله عقليَّة وروحيَّة وليست جسديَّة… ولهذا استخدم المخلِّص بحرص الكلمة اللائقة وقال: “لا يعرف أحد الآب إلاَّ الابن” ولم يقل “يرى”. مرة أخرى يقوم للذين يهبهم رؤية الله “روح المعرفة” و”روح الحكمة”، حتى أنَّهم خلال الروح نفسه يرون الله (إش 11: 2)(196).

*     العضو الذي به نعرف الله ليس عين الجسد بل عين العقل، إذ يرى بما هو على صورة الخالق، ويتقبَّل فضيلة معرفته بعناية الله(197).

*     الآن وإن كنا نبدو متأهَّلين لرؤية الله بعقلنا وقلبنا، فإنَّنا لا نراه كما هو بل كما يصير بالنسبة لنا حيث يجلب عنايته فتحملنا(198).

العلامة أوريجينوس

بالحب يمكننا أن نتعرَّف على الله:

*     يليق بنا أن ندرك كم من أمور يجب أن تقال عن (هذا) الحب، وكم من أمور يجب أن تقال عن الله، حيث أنَّه هو نفسه “الحب”. فإنَّه كما أنَّه لا يقدر أحد أن يعرف الآب إلاَّ الابن ومن يسر الابن أن يعلن له… بنفس الطريقة لأنَّه يدعى “الحب”، فإن الروح القدس المنبثق من الآب، الذي وحده يعرف ما هو في الله، كما أن روح الإنسان يعرف ما هو في الابن (1 كو 2: 11)، هنا فإن الباراقليط روح الحق المنبثق من الآب (يو 26: 15) هو يتجوَّل ويبحث عن النفوس المتأهِّلة والقادرة على قبول عظمة حبُّه، أي عظمة الله، إذ يشتهي أن يعلن ذلك لهم(199).

العلامة أوريجينوس

“فلمَّا سمع إيليَّا لفَ وجهه بردائه،

وخرج ووقف في باب المغارة،

وإذا بصوت إليه يقول:

ما لك ههنا يا إيليَّا” [13].

لفَّ إيليَّا وجهه بردائه كمن هو خائف أن يتطلَّع على مجد الله، إذ لا تحتمل عيناه رؤية بهائه. فإن السمائيِّين يغطُّون وجوههم أمام الله من أجل بهاء مجده (إش 6: 2). ولعلَّ إيليَّا شعر بالخجل أن يتطلَّع إلى الله لأنَّه لمس قدرته وأعماله الفائقة ومع هذا خشي من فشله في الخدمة.

لم يغطِّ إيليَّا وجهه عندما هبّ ريح عاصف شديد، ولا عندما حدثت زلزلة إذ ظهرت نار، لكن وسط الهدوء الشديد إذ سمع صوت منخفض خفيف لم يحتمل رقَّة الله وحبُّه وحنانه، إذ خجل من معاملاته معه.

موسى النبي أيضًا أخفي وجهه ولم يجسر أن يتطلَّع نحو الله (خر 3: 6).

كان تغطيِّة الوجه علامة الوقار والاحترام، كما يرفع الأوربِّي قبَّعته عن رأسه احترامًا لمن يلتقي به.

كرَّر الرب السؤال: مالك ههنا يا إيليَّا؟” وقدَّم إيليَّا ذات الإجابة، مشتكيًا إسرائيل لارتداده عن الله وتحطيمه للإيمان. كان ردّ الفعل الإلهي هو العمل! دعاه أن يرجع ويعمل، حيث يمسح حزائيل ملكًا على آرام، وياهو ملكًا على إسرائيل، وإليشع نبيًا عوضًا عنه. وكأن الله يقول له: لماذا حلَّ بك اليأس؟ هل لأني لم أعاقب الأشرار؟

“فقال: غِرْت غيرة للرب إله الجنود،

لأن بني إسرائيل قد تركوا عهدك،

ونقضوا مذابحك،

وقتلوا أنبياءك بالسيف،

فبقيْتُ أنا وحدي، وهم يطلبون نفسي ليأخذوها” [14].

*     يعرف الخادم كلمة الله فقط عندما يعرف أولئك الذين تعمل كلمة الله فيهم. فيكون في منفى من العالم، هاربًا من الجسد، هاربًا من الأهواء، حارمًا نفسه من كل بشرٍ ليبقى وحده. وكما يقول إيليَّا النبي: “بقيْتُ أنا وحدي”. لكنَّه لم يكن وحده، لأن المسيح كان معه. بل المسيح نفسه بقيَ وحده إذ يقول: “وأنا لست وحدي، لأن الآب معي” (يو 16: 22)(200).

القديس أمبروسيوس

إن كان إيليَّا قد تمرَّرت نفسه بسبب الشرّ الذي لصق بإسرائيل فإن الله مُرسل من يؤدِّب إسرائيل من الخارج (سوريا) ومن الداخل (ياهو)، ومن يكمِّل رسالة النبي (إليشع النبي).

4. مسح حزائيل وياهو ملكين:

“فقال له الرب: اذهب راجعًا في طريقك إلى بريَّة دمشق.

وادخل وامسح حزائيل ملكًا على آرام” [15].

طلب منه أن يذهب إلى بريَّة دمشق، فلا يأخذ طريقًا يسير فيه الكثير من الناس حتى لا يلتقي بإيزابل أو أحد أعوانها المقاومين له.

برِّيَّة دمشق: ربَّما شمال مدينة النبي، بين باشان ودمشق، عُرفت قديمًا باسم Iturea  أو Gaulanitius.

مسح حزائيل ملكًا على آرام: كأنَّه يقول له: إن كان الشعب لم يتعلَّم من التأديب بالمجاعة والقحط خلال الثلاث سنوات ونصف، فإنِّي أمسح حزائيل على سوريا ليؤدِّب بسفك الدماء (2 مل 8: 12، 18) لعلَّهم يتركون عبادة الأوثان.

“وامسح ياهو بن نمشي ملكًا على إسرائيل.

وامسح إليشع بن شافاط من آبل محولة نبيًا عوض عنك” [16].

مسح ياهو ملكا على إسرائيل (2 مل 9) هذا الذي قتل يورام عند كرم نابوت اليزرعيلي، وإيزابل الملكة الشرِّيرة حيث أكلت الكلاب جثَّتها.

مسح إليشع نبيًا يكمل رسالة أبيه إيليَّا. لم نسمع قبل ذلك عن مسح النبي (قارن 1 أي 16: 22 بمزمور 105: 15). بلا شك استراح قلب إيليَّا حين دعاه الرب ليمسح إليشع نبيًا عوضًا عنه. فالخادم الحيّ يفرح ويسرّ بامتداد الخدمة بعد خروجه من العالم.

إليشع بن شافاط في الواقع هو حفيد شافاط، لكنَّه يبدو أنَّه كان معروفًا بابن شافاط (2 مل 9: 20، 2 أي 22: 7)، ربَّما لأن والده مات وهو صغير، وقام جدُّه بتربيته.

آبل محولة معناه “مرج الرقص”، وهي في الجزء الشمالي من وادي الأردن.

لم يحدِّد الله له موعد مسح الأشخاص الثلاثة، بل تركه يتمَّم ذلك في الوقت المناسب.

“فالذي ينجو من سيف حزائيل يقتله ياهو،

والذي ينجو من سيف ياهو يقتله إليشع” [17].

الذي ينجو من سيف ياهو يقتله إليشع” وذلك بسيف كلمة الرب الذي هو أحدْ من سيف ذي حدين (إر 1: 10؛ 18: 7).

كان يليق بإيليَّا النبي صاحب القلب الناري ألاَّ يتعجَّل الثمر، ولا يطلب سرعة معاقبة المرتدِّين، فإنَّه في الوقت المناسب وبأشخاص مناسبين يقتل الرب بنسمة فمه الأشرار (إش 11: 4؛ 2 تس 2: 8؛ هو 6: 5).

“وقد أبقيت في إسرائيل سبعة آلاف كل الركب التي لم تجْثُ للبعل،

وكل فم لم يقبله” [18].

الإجابة العمليَّة أيضًا، مع مسح الثلاثة أشخاص السابق ذكرهم كشف له الرب عن نجاح إيليَّا غير المنظور، إذ أعلن له عن وجود سبعة آلاف ركبة لم تجثُ للبعل، ولم يقبلوا بالفم.

كان تقبيل الأوثان بالفم عادة منتشرة (أي 31: 27؛ هو 13: 2).  ذكر القديس إكليمنضس الإسكندري في كتابه السابع من المتفرِّقات  Stromata وصفًا مطوَّلًا عن الطرق التي كانت تمارس بها القُبلة للأوثان.

في حوار القدِّيس يوستين مع اليهودي تريفو يستخدم هذه العبارة قائلًا: [كما إن الله لم ينفث غضبه من أجل هؤلاء السبعة آلاف رجل، هكذا لا يصدر حكمًا ولا يحقِّقه، إذ يعلم أنَّه في كل يوم يصير البعض (منكم) تلاميذ لاسم المسيح، تاركين طريق الخطأ، متقبِّلين المواهب كلٌ حسب استحقاقه، مستنيرين باسم المسيح. يتقبَّل واحد روح الفهم، وآخر روح المشورة، وآخر روح القوَّة، وآخر روح الشفاء، وآخر روح النبوَّة، وآخر روح التعليم، وآخر مخافة الرب(201)].

استخدم الرسول بولس هذه العبارة لتأكيد وجود بقيَّة مقدَّسة للرب وسط اليهود حين رفض اليهود السيِّد المسيح وإنجيله (رو 11: 4). في كل جيل توجد بقيَّة باقية مقدَّسة للرب مثل هؤلاء السبعة آلاف الذين لم يحنوا ركبة لبعل ولا قبَّلوه بفمهم:

أ. يقول “أبقيتُ“، فهذه البقيَّة هي من عمل يدي الله الذي يبقي لنفسه قلَّة مقدَّسة مختارة، تكرِّس كل حياتها وطاقاتها لحساب ملكوته.

ب. ليس هناك وجه مقارنة بين 7000 شخصًا وألوف ألوف من الشعب سقطوا في عبادة الأوثان، لكن الله يعرفهم بأسمائهم ويعتز بهم، ويختمهم بختمه المقدَّس (رؤ 4: 7).

ج. هذه البقيَّة المؤمنة والأمينة مخفيَّة لا يعرفها سوى الله (مز 83: 3). الكنيسة المنظورة كالجُرن يرى الناس التِبن بينما تختفي الحنطة بين التبن، وسيأتي اليوم الذي فيه يُظهِر الله مؤمنيه. ليس في قدرتنا أن نميِّز الآن بين الأحياء من هم بالحق مقدَّسون للرب من بين المؤمنين.

* عندما كان 7000 إنسانَّا مقدَّسًا فقط في إسرائيل لم يحنوا ركبة لبعلٍ، إيليَّا وحده من بينهم وتلميذه إليشع كان يصنعان عجائب. لكن أحدًا منهما لم يحتقر عوبديا الذي كان يخاف الله لأنَّه لم يصنع آية واحدة(202).

الدسقوليَّة

5. تلمذة إليشع له:

“فذهب من هناك،

ووجد إليشع بن شافاط يحرث واثنا عشر فدَّان بقر قدَّامه وهو مع الثاني عشر،

فمرَّ إيليَّا به وطرح رداءه عليه” [19].

كانت الأرض الزراعية تقاس قديمًا بعدد المحاريث التي تستخدم لحرثها. كان إليشع غنيًا لأنَّه كان يملك اثني عشر محراث، وكان هو يحرث بالمحراث الثاني عشر في أرضه. الحرث بزوج من البقر لكل محراث عادة كانت قائمة في مصر وأشور وفلسطين، ولا تزال تستخدم إلى وقت قريب في قرى مصر، وفي غرب آسيا. فبقبوله الفوري للعمل النبوي يعلن إليشع تركه لغناه وممتلكاته.

فمرَّ إيليَّا به، تعني أنَّه عبر نهر الأردن وجاء إليه. لم يشعر إيليَّا بالغيرة من إليشع أنَّه يحتل مركزه، بل بفرحٍ ذهب ليمسحه. ربَّما كانت له معرفة سابقة به، ويعلم أين يجده، لذلك ذهب للحال لكي يلتقي به.

لم يدخل معه في حوار، ولا قدَّم له برنامج أو خطَّة للخدمة، لكنَّه إذ أعطاه الله سؤل قلبه وتأكَّد أن إليشع مختار من الله دعاه للخدمة الفوريَّة.

طرحْ الرداء عليه يحمل معنى الصداقة القويَّة، فقد حسبه واحدًا معه كجسدٍ واحدٍ يرتدي ذات الرداء. كما أن إلقاء الرداء على الآخر يحمل مفهوم التكريم له كما فعل موسى النبي مع يشوع بن نون (عد 27: 20). إلقاء رداء النبي عليه يشير إلى استلام روح النبوَّة، إذ صار له ثوب النبي، وقوَّته وسلطانه.

طرحْ الرداء عليه يعني أيضًا تقديم الروح الأبوي له، فالأب يقوم عادة بمساعدة أطفاله في ارتداء ملابسهم، وكأن إيليَّا النبي يعلن أبوته الحانيَّة لابنه إليشع.

إلى يومنا هذا يقوم الأسقف القبطي والكهنة القدامى بمساعدة المسام شماسًا أو كاهنًا في ارتداء ملابسه الكهنوتية بعد سيامته مباشرة، ليحمل ذلك معنى قبول الحياة الكهنوتية وأبوَّة الأسقف للكاهن أو الشماس.

يمارس بعض الكهنة الأقباط ذات العمل بعد عماد الطفل ومسحه بالميرون ليعلن عن أبوَّته له، وعن قبول المُعمَّد حديثًا الميلاد الجديد والكهنوت العام والحُلة الملوكيَّة.

“فترك البقر وركض وراء إيليَّا وقال:

دعني أُقبِّل أبي وأمِّي وأسير وراءك.

فقال له: اذهب راجعًا، لأنِّي ماذا فعلت لك” [20].

انسحب إليشع من عمله اليومي (البقر) كما انسحب حتى من تقبيل والديه ليسير وراء النبي.

كان توديع الوالدين في الشرق يستغرق أحيانًا أيَّامًا وأسابيع. لهذا لم يرد إيليَّا هذا التأجيل إذ قال له: “اذهب راجعًا، ماذا فعلت لك؟” كأنَّه يقول له: [لم أدعك للعمل النبوي، بل الله هو الذي دعاك فلماذا تؤجِّل البدء في العمل؟ لترجع إن أردت لا لتودع والديك فحسب بل وتبقى مع أصدقائك أرضك].

ولعلَّه قال هذا لكي يؤكِّد أن الدعوة ليست إلزاميَّة، فالله لا يُكرِه أحدًا على خدمته. ليرجع ويختار بكامل حرِّيَّة إرادته الطريق الذي يبتغيه.

تركه إيليَّا في الحال لكي يختار إليشع طريقه دون أن يعطِّل عمل أبيه، فإنَّه ليس هناك وقت للحوار.

*     ربَّما يشعر البعض بالدفء الآن وتتحرَّك فيهم الرغبة نحو هذه الحياة الصالحة. ولكن ما المنفعة إن كنتم وأنتم هنا فقط تكون لكم هذه النار، ولكن إذ تتركون الموضع تنطفئ النار وتخمد هذه الرغبة. فكيف لا يحدث هذا؟ إذ تلتهب فيكم هذه الرغبة انطلقوا في طريقكم إلى الملائكة يلهبونها بالأكثر. فإن ما نقدِّمه لكم ليس كافيًا ليلهب النار فيكم مثلما ترون بأنفسكم الأمور. لا تقل سأتحدَّث مع زوجتي وأدبِّر أموري أولًا. فإن هذا التأخير هو بداية التهاون. اسمع كيف اِشتهي شخص أن يودِّع بيته فلم يسمح له النبي. ولماذا أقول “يودِّع”؟ لقد طلب التلميذ أن يدفن أباه (مت 6: 21-22) ولم يسمح له المسيح حتى بهذا. أي شيء يبدو لك أكثر أهميَّة من دفن الأب؟ ولكنَّه لم يسمح حتى بهذا. لماذا يحدث هذا؟ لأن الشيطان يقترب بعنفٍ شديدٍ، مشتاقًا أن يجد مدخلًا سرِّيًا. وإن كان هذا الأمر هو عائق بسيط للتأجيل فإنَّه يستخدمه لبثّ إهمال عظيم. لهذا ينصحنا أحدهم: “لا تؤجِّل من يوم إلى يوم” (ابن سيراخ 5: 7).

*     هكذا تتطلَّب منَّا الطاعة للمسيح، ألاَّ نؤجِّل لحظة من الزمن، حتى وإن بدا الأمر غاية في الضرورة يضغط علينا بكل قوَّة(203).

القديس يوحنا ذهبي الفم

“فرجع من ورائه وأخذ فدَّان بقر وذبحهما وسلق اللحم بأدوات البقر،

وأعطى الشعب فأكلوا،

ثم قام ومضى وراء إيليَّا، وكان يخدمه” [21].

رجع إليشع ورائه لا ليفكِّر في قبول الدعوة أو رفضها ولا في اختيار الوقت للبدء في العمل، بل للحال ذبح كل الثيران التي للمحاريث الخشبية واستخدم المحاريث حطبًا وقدَّم طعامًا للشعب.

لنقف هنا عند والدي إليشع الغنيِّين، فإنَّهما لم يقفا عائقًا أمام ابنهما في ترك كل ما لديه ليخدم الرب. لقد ذبح أفضل الثيران وحرق المحاريث، وقدَّم طعامًا للشعب، ولم يحسبا ذلك خسارة.

*     لا يريد الرب منَّا أن نترك كل مصالحنا دفعة واحدة بل نسلِّمها قليلًا قليلًا ما لم يكن أمرنا كإليشع الذي ذبح ثوره وأطعم الشعب بما لديه، حتى لا يعود ينشغل بشيءٍ ممَّا لديه، بل يترك كل شيء ويكرِّس نفسه للتعليم النبوي(204).

القديس أمبروسيوس

يتحدَّث القديس أمبروسيوس عن العمل المشترك بين الخدام الشيوخ والشبان، لكل منهم دوره المكمَِّل للآخر.

*     ما أجمل الوحدة بين الشيخ والشاب. واحد يشهد والآخر يعطي راحة، واحد يقود والآخر يعطي سرورًا… ماذا عن إيليَّا وإليشع؟ مع أن الكتاب لم يتكلَّم كثيرًا عن إليشع أنَّه كان شابًا، ألا يمكن أن نفهم منه أنَّه كان الأصغر. في أعمال الرسل أخذ برنابا مرقس معه، وبولس سيلا (أع 15: 39-40) وتيموثاوس (أع 16: 3) وتيطس (تى 1: 5).

نرى أيضًا تقسيم الواجبات بينهم… فالشيوخ يقودون مقدَّمين المشورة، والشبَّان يظهرون حيويَّة عملٍ. غالبًا كلهم متشابهون في الفضيلة، ولكنَّهم ليسوا في السنوات. يبتهجون في وحدتهم، كما كان بطرس ويوحنا. نقرأ في الإنجيل أن يوحنا كان شابًا، بشهادة كلماته نفسها، ومع هذا لم ينقص عن الشيوخ في الاستحقاقات والحكمة. يحمل سمات ناضجة وقورة وتعقُّلًا في ذهنه(205).

القديس أمبروسيوس

تمَّت هنا ثلاثة لقاءات لإيليَّا مع السمائيِّين.

اللقاء الأول مع ملاك مسَّه وطلب منه أن يقوم ويأكل.

اللقاء الثاني عاد الملاك فمسَّه وطلب منه أن يقوم ويأكل ليسير بقوَّة هذه الأكلة أربعين نهارًا وأربعين ليلة، حتى يبلغ جبل سيناء (حوريب) ويدخل المغارة، ربَّما التي دخل فيها موسى النبي.

اللقاء الثالث مع إله الملائكة نفسه حيث تمَّ الحوار بينهما في وسط صوت خفيف هادئ. يرى العلامة ترتليان أنَّه في هذا اللقاء رأى إيليَّا أن الله هو طول الأناة، جالسًا على العرش. يقول: [لأن طول الأناة يجلس على عرش الروح الهاديء اللطيف هذا الذي لم يُوجد في وسط أصوات الريح العاصف، ولا في ألوان السحاب الغامقة، وإنَّما في الهدوء الشديد الواضح والبسيط، هذا الذي رآه إيليَّا في اللقاء الثالث… عندما ينزل روح الله يصاحبه الصبر (طول الأناة) بطريقة غير منظورة(206)].

من وحي 1 ملوك 19

لأراك على جبل حوريب!

 

*     عند سفح الجبل عسكر الشعب،

فرأوا الجبل يحترق والدخَّان يملأ السماء.

الصخور تزلزلت، والريح العاصف مملوء رهبة ورعبًا.

أما موسى فكان على الجبل يتسلَّم من يديك شريعتك.

كانت قلوب الشعب تهتزّ مضطربة جدًا،

وكان قلب موسى يهتزّ طربًا، إذ التقى بخالقه المحبوب.

*     على ذات الجبل التقى بك إيليَّا النبي.

حدث ريح عاصف وزلزلة ونار،

لكن وسط الصوت الهادئ الخفيف تمتَّع بالحوار معك.

نسى إيليَّا مقاومة إيزابل له،

زال اليأس من قلبه، وأدرك القلَّة القليلة المقدَّسة لك.

لقاؤه معك ملأ قلبه رجاءً.

فتح أبواب السماء أمام عينيه.

*     نزلتَ يا إلهي إلى أرضي.

وُلدت في مزود حتى أتمتَّع برؤياك.

لا أعود اسمع صوت ريح عاصف.

ولا ارتبك من زلزلة،

ولا أخشى نارًا،

فإن إله الطبيعة جاء إليَّ لا يصيح ولا يسمع أحد صوته.

لأراك في داخلي وأتمتَّع برؤياك.

أدخل معك في حوار حبٍ لا ينقطع.

أنسى وادي الدموع،

 ولا أخشى الأحداث.

أتمتَّع بك يا شهوة قلبي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى