تفسير سفر الملوك الأول 20 للقمص تادرس يعقوب ملطي
نصرة آخاب على بنهدد
في الأصحاح السابق رأينا إيليَّا النبي وقد تمرَّرت نفسه بسبب ارتداد إسرائيل عن الله واضطهادهم لأنبيائه. كان قلبه ملتهبًا بالغيرة على مجد الرب. كشف له الله عن البقيَّة الخفيَّة المقدَّسة وسط الشعب وعن خطَّته للتأديب، خاصة ضدّ بيت آخاب. لكن الله في طول أناته أعطى فرصًا أخرى لآخاب لعلَّه يرجع إليه.
سمح الله لبنهدد ملك سوريا أن يطلب من آخاب فضَّته وذهبه ونساءه وبنيه الحسان فوافق. عاد فطلب أن يبعث إليه إرساليَّة تستولي على كل ما يحسن في عينيّ آخاب، فالتجأ الملك إلى شيوخ الأرض الذين رفضوا ذلك. بعث إليه الرب نبيًا يؤكِّد له أنَّه يهبه نصرة على بنهدد. وبالفعل انتصر عليه في موقعتين، وإذ سقط بنهدد بين يديه لم يطع وصيَّة الرب بل أقام معه عهدًا، فصدر الأمر بأن تطلب نفس آخاب عوضا عن نفس بنهدد، وشعب إسرائيل عوضًا عن آرام.
1. بنهدد يطلب ما لآخاب |
[1 –5]. |
|
2. بنهدد يستغلّ آخاب |
[6]. |
|
3. بنهدد يستعدّ للمعركة |
[7 –12]. |
|
4. نصرته في الموقعة الأولى |
[13 –21]. |
|
5. كشف خطَّة بنهدد |
[22 –27]. |
|
6. نصرته في الموقعة الثانية |
[28 –33]. |
|
7. معاهدة مع بنهدد |
[34]. |
|
8. نبي يعلن عن قصاصه |
[34 –35]. |
|
ليس عند الله محاباة | ||
من وحي 1 ملوك 20 |
1. بنهدد يطلب ما لآخاب:
“وجمع بنهدد ملك آرام كل جيشه واثنين وثلاثين ملكًا معه وخيلًا ومركبات،
صعد وحاصر السامرة وحاربها.
وأرسل رسلًا إلى آخاب ملك إسرائيل إلى المدينة.
وقال له: هكذا يقول بنهدد.
لي فضَّتك وذهبك، ولي نساؤك وبنوك الحسان.
فأجاب ملك إسرائيل وقال:
حسب قولك يا سيِّدي الملك أنا وجميع ما لي لك” [1-4].
بنهدد هنا ربَّما هو ابن أو حفيد بنهدد الذي ساعد آسا ضدّ بعشا (1 مل 15: 18). حاصر السامرة ومعه 32 ملكًا، ليس بمعنى ملوك لدول مجاورة تحالفت معه. وإنَّما غالبًا كانوا حكامًا لإقطاعيَّات تابعة لمملكة آرام [24] أو رؤساء قبائل. فقد امتدَّت مملكة آرام من الفرات إلى الحدود الشماليَّة لإسرائيل. جاء في النقوش الآشوريَّة أن هذه الدولة تحوي عددًا ضخمًا من الممالك الصغيرة جدًا.
كان بعض الملوك الفينيقيِّين والسوريِّين يملك كل منهم على مدينة واحدة، له استقلاله الكامل، يشترك الكل معًا فقط في العمل العسكري للهيمنة والسيطرة أو للدفاع. وكان ملك المدينة العظمى كدمشق هو الحاكم العام الذي يجمع كل هؤلاء الملوك لأجل سلامة الدولة أو لتحقيق مكاسب عسكريَّة.
أراد محاصرة مدينة السامرة، ولا يعرف سبب هذا الحصار، إن كان لأجل مطامع ماديَّة أم تخفي وراءها أسباب سياسيَّة. أخضع داود الملك الآراميِّين والزمهم بالجزية، لكن ارتداد إسرائيل عن الله جعل من أرام رعبًا لها. طلب آسا ملك يهوذا من أرام أن تغزو إسرائيل (1 مل 15: 18-20). الآن تحاول أرام غزو إسرائيل من ذاتها.
كانت السامرة مبنيَّة حديثًا ولم تكن بعد قد حصِّنت كما ينبغي. أرسل بنهدد يهدَّد بالحصار ما لم يخضع له آخاب، لا بدفع الجزية فحسب بل وتقديم كل ما لديه من فضَّة وذهب ونساء وأبناء حسان، أي يصير له كل شيء، وتخضع إسرائيل تمامًا لآرام لتصير تحت إدارتها. فإن الاستيلاء على نساء الملك إنَّما كان يعني أنَّه يصير هو ملك البلاد.
يبدو أن بنهدد كان يتوقَّع رفض آخاب هذا الطلب، فيحاصر المدينة، ويستولي عليها تمامًا. فإنَّه يمكن للملك أن يسلِّم كنوزه لينقذ حياته، أمَّا أن يسلِّم كل أسرته من زوجات وأبناء فهذا مستحيل.
قبل آخاب الشروط قائلًا له أنَّه هو وكل ماله فهو له، لعلَّه ظنّ أنَّه بهذه الإجابة يستطيع أن يهدِّئ من غضب بنهدد ليدخل معه في حوارٍ نافع. لقد أذلَّته الخطيَّة ففقد كل احترام لنفسه وثقة، فقبل في خنوع أن يسلِّم ممتلكات الدولة وزوجاته وأبناءه للعدوّ. حرمته الخطيَّة من الله مصدر قوَّته وحمايته. إذ رفض أن يحكم الله في قلبه استطاع العدوّ أن يحكم على كل حياته وممتلكاته. بتمرُّده على الله صار عبدًا حتى لأخيه الوثني.
لقد أعدَّ آخاب الذهب والفضَّة للبعل (هو 2: 8)، فصادرها العدوّ لحسابه.
عرف آخاب بالخبرة عجز البعل وبطلانه لكن من أجل إرضاء زوجته، وربَّما لأجل شهواته عبد البعل ودفع الشعب لذلك، فحرم نفسه من الله القادر أن يسنده ويهبه روح القوَّة والنصرة والكرامة.
“فرجع الرسل وقالوا:
هكذا تكلَّم بنهدد قائلًا:
إنِّي قد أرسلت إليك قائلًا:
إن فضَّتك وذهبك ونساءك وبنيك تعطيني إيَّاهم” [5].
إذ بلغ آخاب إلى أقصى حدود المذلَّة والانسحاق، فوضع نفسه تحت قدميّ بنهدد، لكن بنهدد لم يترفَّق به بل شجَّعه هذا أن يتصلَّف بالأكثر في غطرسة.
لم يكن بنهدد طمَّاعًا فحسب بل وكان متعجرفًا، فلم يشبعه أن ينال كل ما لدى آخاب حتى أسرته، بل طلب أن يبعث إليه بإرساليَّة تأخذ كل ما يشتهيه آخاب.
ما هو الفرق بين الإرساليَّتين؟ في الإرساليَّة الأولى طلب كنوز الملك وأسرته، أمَّا في الثانية فربَّما عنى أنَّه يبعث بنهدد عبيده ليفتِّشوا عن كل ما يشتهيه آخاب، لا ما يشتهي بنهدد وعبيده ليأخذوه. بمعنى آخر لا يريد أن يأخذ فقط وإنَّما أن يهين الملك، فيغيظه بسلب ما يشتهيه حتى وإن كان بنهدد أو عبيده لا يستخدمونه. يرى البعض أنَّه يعني سلب آلهته وأدوات العبادة. ويرى البعض أنَّه كان يعني نهب الشعب كل ما لديهم من أمور تستحق السلب.
2. بنهدد يستغل آخاب:
“فإنِّي في نحو هذا الوقت غدًا أُرسل عبيدي إليك،
فيفتِّشون بيتك وبيوت عبيدك وكل ما هو شهي في عينيك يضعونه في أيديهم ويأخذونه” [6].
3. بنهدد يستعد للمعركة:
“فدعا ملك إسرائيل جميع شيوخ الأرض،
وقال: اعلموا وانظروا إن هذا يطلب الشرّ،
لأنَّه أرسل إليَّ يطلب نسائي وبنيَّ وفضَّتي وذهبي ولم امنعها عنه” [7].
استدعى آخاب شيوخ الأرض ليخبرهم بما حدث، فساء الأمر في أعينهم. لم يطلب مشورتهم في المرة الأولى إذ كان يشعر أنَّها مسئوليَّته الشخصيَّة أن يأخذ القرار في كنوز القصر ونسائه، أمَّا وقد جاء الطلب الثاني ليدخل عبيد بنهدد ويسلبوا الشعب فكان يلزم الأمر استشارة الشيوخ. اعتبر الشيوخ أن هذا الطلب إهانة لا تُحتمل. وطلبوا من الملك رفض الطلب نهائيًّا.
“فقال له كل الشيوخ وكل الشعب: لا تسمع له ولا تقبل.
فقال لرسل بنهدد:
قولوا لسيِّدي الملك: إن كل ما أرسلت فيه إلى عبدك أولًا أفعله،
وأمَّا هذا الأمر فلا أستطيع أن أفعله،
فرجع الرسل وردُّوا عليه الجواب” [9].
تشجَّع آخاب بقرار الشيوخ وأجاب على بنهدد بأنَّه ملتزم بما قبله في الإرساليَّة الأولى لكنَّه لن يقبل ما بعث به الملك في الإرساليَّة الثانية.
“فأرسل إليه بنهدد وقال:
هكذا تفعل بي الآلهة وهكذا تزيدني إن كان تراب السامرة يكفي قبضات لكل الشعب الذي يتبعني” [10].
هدَّد بنهدد آخاب بمثلٍ، فيه يعلن أنَّه بجيشه إذ تتهدَّم السامرة لن يجد كل جندي ملء كفِّه ترابًا من تراب المدينة. هنا يشير إلى كثرة عدد الجنود الذين يحاربون وقدرتهم العسكريَّة، وفيه مع التهديد عجرفة وتشامخ. جاء هذا القول مشابهًا لما قاله Trachinian في Thermoplae بأن سهام الفرس تجعل نور الشمس ظلامًا.
“فأجاب ملك إسرائيل وقال:
قولوا: لا يفتخرن من يشد كمن يحل” [11].
أجاب آخاب بمثلٍ كان شائعًا في الشرق يحمل مغزى يرسله الملوك لأعدائهم، وهو أنَّه لا يليق بمن يرتدي الأسلحة أن يفتخر كمن ذهب المعركة وعاد منتصرًا. يلزمه أن ينتصر ويحقِّق النصرة وعندئذ يفتخر بنصرته. يليق ألاَّ يفتخر الإنسان مقدَّمًا بما سيحدث، لأنَّه لا يعلم ماذا يقدِّم له هذا اليوم (أم 27: 1). لينتظر حتى تتم المعركة.
“فلما سمع هذا الكلام وهو يشرب مع الملوك في الخيام قال لعبيده: اصطفُّوا.
فاصطفُّوا على المدينة” [12].
كان بنهدد والملوك الاثنان والثلاثون يسكرون في خيمة وسط المعسكر، فطلب من الجند أن يستعدُّوا للمعركة بالهجوم على السامرة.
أصدر الملك أوامره العسكريَّة وشفتاه تشربان المُسكر، وكان سكره مؤشِّر لهزيمته بالرغم من إمكانيَّاته الجبارة وثقته في نفسه وفي جيشه التي لم يكن يشوبها أدنى شك. أنَّه مثل بيلشاصَّر الذي فقد الإمبراطوريَّة كلَّها هو يسكر (دا 5).
يقول سليمان الحكيم: “الخمر مستهزئة، المسكر عجاج ومن يترنَّح بهما فليس بحكيم” (أم 20: 1)؛ “محب الفرح إنسان معوز محب الخمر والدهن لا يستغني” (أم 21: 17). “لا تكن بين شريبي الخمر بين المتلفين أجسادهم” (أم 23: 20). “لا تنظر إلى الخمر إذا احمرت حين تظهر حبابها في الكأس وساغت مرقرقة” (أم 23: 31). كما قيل: “ليس للملوك يا لموئيل ليس للملوك أن يشربوا خمرًا ولا للعظماء المسكر” (أم 31: 4).
يقول القديس جيروم عن خطورة السُكر معلَّقًا على ما ورد بخصوص نوح الذي فقد سترته وتعرى حتى أمام بنيه: [لا يجوز لأحد أن يقول بأن السُكر ليس بخطيَّة نقرأ عن نوح أنَّه سكر مرة، ولكن الله يحذِّرنا من أن نظنّ فيه أنَّه سكير ومدمن للخمر(207)]. كما يقول: [ساعة واحدة سكر فيها عرّت (نوحًا) الذي ظلَّ مستترًا طوال ستمائة عام بالوقار(208)]. ويقول: [بعد سكره تعرَّى جسده، فإن تدليل النفس يؤدِّي في النهاية إلى السقوط في الشهوة، فالبطن تتَّخم أولًا وعندئذ تثور الأعضاء(209)]. ويقول القديس أمبروسيوس: [يا لسلطان الخمر، فقد جعلت ذاك الذي لم تغلبه مياه الطوفان أن يصير عاريًا(210)].
أصدر أوامره بالتحرُّك العسكري، أمَّا هو فلم يتحرَّك عن موضع السُكر، ظانًا أنَّه في ساعات يتسلَّم الجيش السامرة ويدكها تمامًا.
4. نصرته في الموقعة الأولى:
“وإذا بنبي تقدم إلى آخاب ملك إسرائيل وقال:
هكذا قال الرب: هل رأيت كل هذا الجمهور العظيم؟
هأنذا أدفعه ليدك اليوم، فتعلم إنِّي أنا الرب” [13].
أرسل الله نبيًا يحمل رسالة رقيقة إلى هذا الملك الشرِّير، وذلك للأسباب التالية:
* من أجل الشعب المسكين الذي انحدر في الشرّ، فيقدِّم لهم الله الفرصة للتوبة وتجديد العهد معه.
* لكي يتوب الملك أو بعصيانه يكمل كأس شرُّه.
* ليحطِّم كبرياء بنهدد وعجرفته.
* ليؤكِّد الله لنا أنَّه هو الذي يبحث عنَّا ويرسل لنا أنبياءه ورسله، وأخيرا جاء بنفسه إلينا. إذ لم يطلب الملك من الله عونًا، ولا صلَّى إليه، ولم يبحث عن نبي لكي يسنده. بادره الله بالحب والاهتمام!
التجأ آخاب إلى شيوخ إسرائيل الذين وعدوُّه بالوقوف معه، أمَّا النبي فجاء دون دعوى منه لا ليسنده بل ليؤكِّد له النصرة من قبل الرب ويرشده عن كل تحرُّك وتصرُّف.
لا نعرف اسم النبي الذي تقدَّم ليتحدَّث مع آخاب الملك. يرى الحاخامات المفسِّرون أن هذا النبي هو ميخا الوارد في (1 مل 22: 8). لا نسمع عن إيليَّا النبي ولا عن إليشع تلميذه ربَّما كان إيليَّا في مملكة يهوذا يُعد إليشع للعمل النبوي. ولعلَّه بخروجه من إسرائيل هدأت إيزابل وخفَّفت الضيق على المؤمنين، فوجد المائة نبي الذين كان يعولهم عوبديا الفرصة للخروج من المغارتين ويمارسا عملهما على مستوى فردي أو عائلي.
لم يُرسل إيليَّا النبي لآخاب بل أُرسل نبي آخر لحكمة إلهيَّة فائقة. لعلَّه أراد الله أن يعطي آخاب وإيزابل فرصة للتعامل مع نبي آخر يبدأ معهما بما فيه نصرة آخاب بعد انسحاقه الشديد أمام بنهدد.
نبَّه النبي الملك آخاب إلى كثرة عدد جيش بنهدد، حيث يقدرها البعض بحوالي 130 ألفًا، مؤكدًا له أن الله يهبه نصرة عليه لكي يعرف آخاب أن الله هو الرب. وبالفعل تحقَّق قول النبي ومع هذا لم نسمع عن آخاب أو الشعب قدَّموا ذبيحة شكر أو تسبيح لله واهب النصرة.
“فقال آخاب: بمن؟
فقال هكذا قال الرب: بغلمان رؤساء المقاطعات.
فقال: من يبتدئ بالحرب؟
فقال: أنت” [14].
سأل آخاب النبي بمن يحارب، وجاءت الإجابة برؤساء المقاطعات، فقد هرب كثيرون منهم إلى العاصمة بعد أن تغلغل جيش العدوّ في الجليل وفي شمال السامرة. يحارب الشباب منهم، وربَّما ليس لهم خبرة عسكريَّة. سأل من الذي يبدأ إسرائيل أم أرام، فجاءت الإجابة أن يبدأ إسرائيل.
“فعدَّ غلمان رؤساء المقاطعات فبلغوا مائتين واثنين وثلاثين،
وعدَّ بعدهم كل الشعب كل بني إسرائيل سبعة آلاف” [15].
كان قوام الجيش الإسرائيلي المحارب هو 230 شخصًا في المقدِّمة، غالبًا ما كان هؤلاء الحرس العسكري الخاص بحراسة القصر الملكي، يخرجون وراء الملك. ومن ورائهم 7000 نسمة من الشعب. هذا الرقم لا يقارن بجيش أرام البالغ 130 ألفًا.
يرى بعض المفسِّرين اليهود أن السبعة آلاف هؤلاء هم الذين لم يحنوا ركبة لبعل ولا قبلوه بأفواههم. هم حصن الشعب، يعمل الله بهم ويهب بهم النصرة.
“وخرجوا عند الظهر وبنهدد يشرب ويسكر في الخيام
هو والملوك الاثنان والثلاثون الذين ساعدوه.
فخرج غلمان رؤساء المقاطعات أولًا،
أرسل بنهدد فاخبروه قائلين: قد خرج رجال من السامرة.
فقال: إن كانوا قد خرجوا للسلام فأمسكوهم أحياء،
وإن كانوا قد خرجوا للقتال فامسكوهم أحياء” [16-18].
بدأت المعركة في الظهيرة بينما كان بنهدد والملوك يسكرون معًا مستهينين بأي تحرُّك من جهة إسرائيل. أرسل بنهدد مجموعة من الحرس ليخبروه بما يحدث، فقالوا له بأن رجالًا قادمون من السامرة، وهم الدفعة الأولى البالغ عددها 232 شخصًا. فبيقين سألهم أن يمسكوهم أحياء، سواء كانوا قادمين من أجل السلام أو من أجل الحرب. كان بنهدد واثقًا من نصرته، فطلب القبض على القادمين وأسرهم أيَّا كان هدفهم من الحضور.
“فخرج غلمان رؤساء المقاطعات هؤلاء من المدينة هم والجيش الذي وراءهم.
وضرب كل رجل رجله،
فهرب الآراميون وطاردهم إسرائيل،
ونجا بنهدد ملك أرام على فرس مع الفرسان.
وخرج ملك إسرائيل فضرب الخيل والمركبات،
وضرب أرام ضربةً عظيمة” [19-21].
صُدم الملك وكل الجيش حين قتل الرجال الإسرائيليُّون كل من يلتقوا به. لم يكن لدى الملك في سكره أن يفكر في مواجهة القادمين للمعركة ضدَّه، بل هرب ليخلص حياته من الموت، ممَّا أربك جيشه جدًا.
5. كشف خطَّة بنهدد:
“فتقدَّم النبي إلى ملك إسرائيل وقال له:
اذهب تشدَّد واعلم وانظر ما تفعل،
لأنَّه عند تمام السنة يصعد عليك ملك أرام” [22].
لم يستدعِ الملك النبي ليقدِّم شكرا لله. وإنَّما للمرة الثانية بادر الله الملك بالحب فبعث إليه النبي ليكشف له عن خطَّة بنهدد الخفيَّة، وهي أنَّه بعد عام سيحاربه بنهدد من جهة السهول. طلب منه أن يستعد للمعركة طوال العام.
في المعركة الأولى لم يكن لدى الملك إمكانيَّة ولا وقت للاستعداد للمعركة، والرب غلب بالقليل الذي معه. أمَّا وقد بقي عام فإنَّه يُطالب الملك أن يستعد ليعمل الله أيضًا بالكثير.
أوضح النبي أن العدو لن يستسلم بسهولة. إن فقد معركة يخطَّط لمعركة أخرى. ويليق بأولاد الله أن يكونوا دومًا مستعدِّين للجهاد ضدّ العدو. إن كان الله يدعونا للبنوَّة له، هكذا يبذل إبليس كل جهده وبلا انقطاع ليحوِّلنا إلي أبناء له. إنَّنا في حربٍ دائمة، لكنَّنا نجد فيها نصرتنا المستمرَّة بعمل النعمة الإلهيَّة:
* يصوِّب الشيطان سهامًا ضدِّي، لكن أنا معي سيف. هو معه قوس، أمَّا أنا فجندي أحمل سلاحًا ثقيلًا. لتتعلَّم من نهجه، أنَّه حامل قوسٍ لا يجسر أن يقترب إذ يلقى بسهامه من بعيد(211).
* خطَّط إبليس لا أن يسحبنا من البركات التي لدينا، إنَّما يحاول أن يسحبنا إلى جرف صخري أكثر اندفاعًا. لكن الله في محبَّته لم يفشل في الاهتمام بالبشريَّة.
لقد أظهر لإبليس كيف أنَّه غبي في محاولاته. لقد أظهر للإنسان عظم العناية التي يظهرها الله له، فإنَّه بالموت وهب الإنسان الحياة الأبديَّة. لقد سحب إبليس الإنسان من الفردوس، وقاده الله إلى السماء. فإن النفع أكثر بكثير من الخسارة(212).
* لقد فقدتم الفردوس، لكن الله وهبكم السماء، حتى يؤكِّد حنوُّه، وأنَّه يلدغ إبليس، مظهرًا أنَّه حتى إن سبك عشرات الألوف من الخطَّط ضدّ الجنس البشري، فإنَّها لن تفيده حيث يقودنا الله دائمًا إلى كرامة أعظم.
أنتم فقدتم الفردوس، والله فتح السماء لكم.
لقد سقطتم تحت الدينونة بالتعب إلى حين، وقد كُرِّمتم بالحياة أبديًا.
يأمر الله الأرض أن تنبت شوكًا وحسكًا، أمَّا تربة الروح فتنبت لكم ثمرًا. ألا ترون أن الربح أعظم من الخسارة؟(213).
* عندما يرى أب محبّ الإنسان الذي قتل ابنه، فإنَّه ليس فقط يعاقب المجرم، وإنَّما يدمِّر أيضًا السلاح نفسه الذي استخدمه. هكذا عندما يجد المسيح أن الشيطان قد ذَبح إنسانَّا فإنَّه ليس فقط يعاقب الشيطان، وإنَّما يدمِّر السلاح نفسه(214).
القديس يوحنا الذهبي الفم
“وأمَّا عبيد ملك آرام فقالوا له:
إن آلهتهم آلهة جبال لذلك قووا علينا،
ولكن إذا حاربناهم في السهل فإنَّنا نقوى عليهم.
وافعل هذا الأمر:
اعزل الملوك، كل واحدٍ من مكانه، وضع قوادًا مكانهم” [23-24].
كان لدى الوثنيِّين اعتقاد بأن لكل إله منطقة يبسط فيها نفوذه ويعلن فيها قوَّته، أمَّا خارجها فلا يستطيع أن يتحرَّك لهذا قال مشيرو بنهدد للملك بأن إله إسرائيل هو إله الجبال، يسند شعبه هناك، أمَّا في المناطق السهلة فلا قوَّة له. أشاروا عليه أن يعيد الكرَّة في السنة التالية، وأن تكون أرض المعركة واديًا أو سهلًا وليس جبلًا. حدَّدوا له الموعد بالربيع بعد انقطاع المطر حتى يمكن للجيش أن يتحرَّك بسهولة” (1 صم 11: 1).
ربَّما أشار مشيرو بنهدد بذلك للأسباب التالية:
أولًا: يقدِّم اليهود ذبائحهم على قمم الجبال والأماكن المرتفعة، لذا فإلههم هو إله الجبال.
ثانيًا: وسط الجبال لا يظهر بوضوح ضخامة جيش بنهدد، أمَّا في السهل تكون الرؤية للأعداد الضخمة من الجيش مرعبة ومخيفة للإسرائيليِّين. وقد اختار بنهدد منطقة أفيق في وادي يزرعيل.
ثالثًا: لعلَّهم كانوا يدركون بعض المزامير التي كان يسبح بها داود الملك: “رفعت عينيّ إلى الجبال من حيث يأتي عوني” (مز 121: 1). “أساساته في الجبال المقدَّسة” (مز 78: 1؛ 78: 54). وما ورد في (مز 15: 1؛ 24: 3) عن الجبل المقدَّس.
طلبوا منه أيضًا أن يغيِّر القادة، فلا يستخدم قادة ورثوا القيادة بالميلاد، بل قادة حرب مقتدرين ومتأهِّلين للمعارك. هؤلاء لا يعيشون في رفاهيَّة ورغد كملوكٍ بل هم مغامرون ومصارعون.
“وأحصِ لنفسك جيشًا كالجيش الذي سقط منك،
فرسًا بفرس، ومركبة بمركبة،
فنحاربهم في السهل ونقوى عليهم،
فسمع لقولهم وفعل كذلك.
وعند تمام السنة عدَّ بنهدد الآراميِّين
وصعد إلى أفيق ليحارب إسرائيل” [25-26].
في ربيع السنة الجديدة تقدَّم بنهدد بجيشه إلى قرب أفيق، ليست أفيق المدينة التي في أرض أشير (يش 19: 20، 13: 4)، ولا تلك التي على جبال يهوذا (يش 15: 53). إنَّما هي مدينة في سهل يزرعيل (1 صم 29: 1). غالبًا هي “فيق” وهي قرية ضخمة تقع على الطريق الحالي من دمشق إلى نابلس وأورشليم. تعبيره صعد إلى “أفيق” مناسب، لأن فيق مستواها أعلى قليلًا من دمشق.
“وأحصي بنو إسرائيل، وتزوَّدوا وساروا للقائهم،
فنزل بنو إسرائيل مقابلهم نظير قطيعين صغيرين من المعزي،
وأمَّا الآراميون فملأوا الأرض” [27].
اجتمع الإسرائيليون على منحدرات الجبال التي بالقرب من سهل يزرعيل، فكانوا أشبه بقطيعين بائسين من الماعز متى قورنوا بالأعداد الرهيبة التي للآراميِّين حيث ملأوا الأرض.
لم يقل “قطيعا غنم”، لأنَّه لا توجد قطعان ماعز كبيرة تجتمع معًا، وكأن التشبِّيه يكشف عن قلَّة عدد جيش إسرائيل بالنسبة لضخامة العدو.
6. نصرته في الموقعة الثانية:
“فتقدَّم رجل الله وكلَّم ملك إسرائيل وقال:
هكذا قال الرب:
من أجل أن الآراميِّين قالوا إن الرب إنَّما هو إله جبال وليس هو إله أودية،
ادفع كل هذا الجمهور العظيم ليدك،
فتعلمون إنِّي أنا الرب” [28].
أرسل الله نبيًا غالبًا غير النبي الذي ظهر منذ عام، يعلن عن نصرة هذا الجيش الصغير نسبيًا. لقد جدَّف الآراميُّون على الله ظانين أنَّه يحدّ بمكانٍ ما، فأراد الله أن يظهر لهم قوَّته أنَّه حال في كل موضع.
“فنزل هؤلاء مقابل أولئك سبعة أيَّام،
وفي اليوم السابع اشتبكت الحرب،
فضرب بنو إسرائيل من الآراميِّين مائة ألف رجلٍ في يومٍ واحدٍ.
وهرب الباقون إلى أفيق إلى المدينة،
وسقط السور على السبعة والعشرين ألف رجل الباقين،
وهرب بنهدد ودخل المدينة من مخدعٍ إلى مخدعٍ” [29-30].
بقي الجيشان سبعة أيَّام دون اشتباك ربَّما لكي يدبِّر كل جيش خطَّته على الطبيعة، أو ليرسل كل منهما جواسيس لاكتشاف إمكانيَّات الجيش الآخر.
بدأت المعركة وكانت المفاجأة أن قتل الإسرائيليُّون مائة ألفٍ من الجند، وهرب الباقي إلى مدينة أفيق المحصَّنة، لكن زلزالًا ربَّما حدث فسقطت أسوار المدينة ومات 27 ألفًا. وصارت أفيق مدينة بلا حصون.
انطلق بنهدد إلى المدينة يهرب من حجرة إلى حجرة.
سقطت أفيق في يد الإسرائيليِّين، ولم يكن لبنهدد أي مجال للهروب. أشار عليه عبيده أن يلبس معهم المسوح. ويضعوا حبالًا حول أعناقهم كمن يسلِّمونها لآخاب إن أراد فليشنقهم بها. أو يقودهم بها مربوطين كأسرى حرب. خضوع كامل للملك، مع إظهار توبة عما سبق.
“فقال له عبيده:
أنَّنا قد سمعنا أن ملوك بيت إسرائيل هم ملوك حليمون،
فلنضع مسوحًا على أحقائنا وحبالًا على رؤوسنا،
ونخرج إلى ملك إسرائيل، لعلَّه يحيي نفسك.
فشدُّوا مسوحًا على أحقائهم، وحبالًا على رؤوسهم،
وأتوا إلى ملك إسرائيل وقالوا:
يقول عبدك بنهدد لتحيي نفسي.
فقال: أهو حيّ بعد؟ هو أخي” [31-32].
كل ما اشتهاه بنهدد أن يعيش تحت أيَّة شروط. يبدو أنَّه كان يشتهي أن يعيش ولو كعبدٍ أسيرٍ خارج بلده كل أيَّام حياته. في تجديفه على الله كان متشامخًا يذل الملك ورجاله وشعبه، ولم يكتفِ بأن يستولي على فضَّة وذهب الدولة ونساء الملك وبنيه. الآن يشتهي أن يحيا ولو فقيرًا في مذلَّةٍ وعارٍ. بعد أن كان يقسم ويهدَّد، الآن ينسحق ويتوسَّل راجيًا أن يبقيه عدوُّه حيًا. وكما جاء في أيوب (11: 40-13) أن الله يتمجَّد عندما يتطلَّع إلى المتشامخين وينزلهم ويدفنهم معًا في التراب.
جاء موقف آخاب عجيبًا، أولًا عصى الوصيَّة الإلهيَّة التي وجَّهها إليه رجل الله وهي ألاَّ يبقى بنهدد حيًا، فهو مجدِّف متشامخ وعنيد ومملوء طمعًا. فهل انخدع آخاب بما فعله بنهدد وعبيده الذين تقدَّموا إليه في مذلَّة؟ أم أنَّه أراد أن يكسب ودّ الملك لكي يسنده ضدّ أشور الذي بدأ نجمها يلمع في ميدان السياسة؟ أو لعلَّ آخاب وجد ما يشبع نفسه أنَّه بعد المذلَّة الشديدة والخوف صار الأمر بين يديه فيظهر نوعًا من الشهامة والكرم؟ على كل الأحوال تجاهل آخاب الوصيَّة المقدَّمة إليه من قبل الله ليسلك بفكره البشري المجرَّد.
ما هو موقف آخاب؟
لم يعاقبه بكلمة واحدة على تجديفه على الله، ولم يشر إليه بأن النصرة التي نالها هي لمجد الرب، والدمار الذي لحق ببنهدد كان بسبب تجديفه على الرب، إذ لم يشغله الرب في أمرٍ ما، ولم يشر إليه قط.
كان يليق بآخاب أن يتَّعظ بمثلٍ سابق أمامه وهو شاول الملك الذي ترك أجاج حيًا (1 صم 15: 9) مخالفًا قول الرب له.
وكان يلزمه أن يلتقي برجل الله الذي أنبأه بالنصرة وأكَّد له أنَّها من قبل الله. يسأله فيما يفعله، ويطلب مشورة الله.
أقام عهدًا مع بنهدد ولم يقم عهدًا مع الله. أقامه ليس عن كرمٍ وشهامةٍ، بل عن تعويض لضعفه وفي غباوة وعدم معرفة. لم يطلب آخاب تعويضًا عن الخسائر التي لحقت به منذ بدأ بنهدد يهدَّد ويحاصر السامرة ويحارب، لكن بنهدد أغراه بأنَّه سيسلِّمه المدن التي استولى والده عليها من عمري والد آخاب، وأن يسمح لليهود بإقامة حيّ خاص بهم في دمشق يعيشون فيه ويمارسون تجارتهم وعبادتهم وقضاءهم.
لقد حمل آخاب مظهرًا براقًا من العفو واللطف والرحمة والسخاء، لكن الله يجازي لا بالمظهر بل بالقلب والنيَّة الداخليَّة والنقاوة الصادقة.
“فتفاءل الرجال وأسرعوا ولجّوا هل هو منه،
وقالوا أخوك بنهدد.
فقال: ادخلوا خذوه، فخرج إليه بنهدد، فأصعده إلى المركبة” [33].
7. معاهدة مع بنهدد:
“وقال له: إنِّي أرد المدن التي أخذها أبي من أبيك،
وتجعل لنفسك أسواقًا في دمشق كما جعل أبي في السامرة.
فقال: وأنا أطلقك بهذا العهد فقطع له عهدًا وأطلقه” [34].
انشغل آخاب بالمكاسب المعنويَّة والماديَّة، ولم ينشغل بأن يقتني الله نفسه، سرّ النصرة والغنى.
* ليكن الرب إلهك هو رجاءك. لا تطلب منه شيئًا آخر، بل ليكن هو نفسه رجاءك.
يوجد أناس يترجُّون في الله غنى أو كرامات زائلة ومؤقَّتة. في اختصار يترجُّون أن ينالوا من الله أمورًا غير الله نفسه.
اطلبه وحده، واحتقر كل ما سواه، وليكن طريقك نحوه. لتنسى الأمور الأخرى وتذكره، اترك الأمور الأخرى إلى الوراء واقترب إليه. ليكن هو رجاءك، هذا الذي يقودك إلى مصيرك(215).
* اترك كل رغباتك. ذاك الذي صنع السماء والأرض أكثر جمالًا من الكل. ذاك الذي خلق كل الأشياء أفضل من الكل، سيكون بالنسبة لك كل ما تحبُّه. تعلَّم أن تحب الخالق في خليقته، في العمل الذي صنعه هو. لا تسمح لما فعله أن يمسك بك فتفقد ذاك الذي هو نفسه قد خلقك(216).
القديس أغسطينوس
8. نبي يعلن عن قصاصه:
“وإن رجلًا من بني الأنبياء قال لصاحبه عن أمر الرب: اضربني.
فأبى الرجل أن يضربه” [35].
يبدو أنَّه بعد قتل أنبياء البعل وهروب إيليَّا هدأت إيزابل جدًا وبدأ الأنبياء يظهرون. وكان التدريب الرئيسي في مدرسة الأنبياء الطاعة الكاملة. طلب نبي من صاحبه أن يضربه كأمر الرب فأبى، وبسبب عصيانه لكلمة الله حتى وإن لم يفهم ما وراءها تنبَّأ له بأن أسدًا يقابله ويفترسه. فإنَّه كأحد أبناء الأنبياء كان يلزمه الطاعة الكاملة. يرى البعض أن هذا النبي هو ميخا (1 مل 20: 8) كان لا بُد لصديقه أن يدرك أن ما يأمر به الرب في فترة النبوَّة من تصرُّفات تحمل معنى رمزيًا، لذا يلزم طاعتها حتى يدرك فيما بعد ما وراء هذا التصرُّف من معنى. كان المعنى وراء هذا الأمر الإلهي هو أن الملك آخاب يستحق أن يُضرب. كان لا بُد أن يُجرح النبي لكي يبدو كأنَّه جندي جريح في المعركة يلجأ إلى الملك يطلب حُكمه، فإنَّه أمين في عمله وجُرح من أجل الملك والشعب لحماية بلده لكنَّه أخطأ إذ لم يحفظ إنسانَّا سُلم بين يديه بل فقده.
حكم الملك بالعدل ولم يدرك أن مرتكب هذا الخطأ هو الملك نفسه. من فمه صدر الحكم أن نفسه تُطلب عوضًا عن نفس بنهدد، وشعبه عوضًا عن شعب آرام.
“فقال له: من أجل أنك لم تسمع لقول الرب،
فحينما تذهب من عندي يقتلك أسد.
ولما ذهب من عنده لقيه أسد وقتله.
ثم صادف رجلًا آخر فقال: اضربني.
فضربه الرجل ضربةً فجرحه.
فذهب النبي وانتظر الملك على الطريق، وتنكَّر بعصابةٍ على عينيه.
ولما عبر الملك نادى الملك، وقال:
خرج عبدك إلى وسط القتال، وإذا برجل مال وأتى إلى برجلٍ وقال:
احفظ هذا الرجل وإن فقد تكون نفسك بدل نفسه، أو تدفع وزنة من الفضَّة.
وفيما عبدك مشتغل هنا وهناك إذا هو مفقود.
فقال له ملك إسرائيل: هكذا حكمك أنت قضيت.
فبادر ورفع العصابة عن عينيه، فعرفه ملك إسرائيل أنَّه من الأنبياء.
فقال له هكذا قال الرب:
لأنَّك أفلتَّ من يدك رجلًا قد حرمته، تكون نفسك بدل نفسه، وشعبك بدل شعبه.
فمضى ملك إسرائيل إلى بيته مكتئبًا مغمومًا، وجاء إلى السامرة” [36-43].
ربَّما يتساءل البعض: هل يطلب الله منَّا قتل أسرى الحرب؟ مستحيل! كان بنهدد هنا، في العهد القديم، يمثِّل عدوّ الخير المضلِّل والمجدِّف. عندما تُقدَّم لنا الفرصة لنزع كل أثر له في حياتنا أو في حياة أولادنا لا نفتح له الباب من جديد. قتل بنهدد يشير إلى ضرورة التخلُّص من التصرُّفات الشرِّيرة.
مضى ملك إسرائيل إلى بيته مكتئبًا مغمومًا وجاء إلى السامرة. عاد بعد النصرة مغمومًا دون أن يفكر في التوبة. لم يسمع لصوت داود الملك: “فالآن أيها الملوك تعقَّلوا، اعبدوا الرب بخوفٍ واهتفوا برعدةٍ” (مز 2: 10-11).
* ليس لسبب آخر يصمِّم الكتاب المقدَّس على حقيقة أن وصايا الله محزنة إلاَّ لأن النفس التي تجدها محزنة تفهم أنَّها لم تتقبَّل بعد مصادر النعمة التي تجعل وصايا الرب كما أمرنا بأنَّها لطيفة ومبهجة، فتصلِّي بشوقٍ عميقٍ بإخلاصٍ من أجل عطيَّة سرعة الاستجابة في حفظها(217).
القديس أغسطينوس
ليس عند الله محاباة:
* “إنما صالح الله لإسرائيل لأنقياء القلب” (مز 73: 1)… فهل الله ليس صالحًا للجميع إذن؟ حقًا هو صالح للكل، لأنَّه مخلِّص جميع البشر، خاصة المؤمنين. لهذا أتى الرب يسوع ليخلِّص ما قد هلك (لو 19: 10). جاء حقًا ليحمل خطيَّة العالم (يو 1: 29)، وليشفي جراحتنا، لكن لا يرغب الجميع في العلاج، وكثيرون يتجنَّبونه! لئلاَّ يُحقن القرح بالعقاقير، ويفقد سطوته. لهذا السبب يُشفي الذين يريدون الشفاء ولا يرفضونه. من يرغبون في العلاج يستعيدون صحَّتهم، أمَّا الذين يقاومون الطبيب، ولا يطلبونه فلا يتمتَّعون بصلاحه، لأنَّهم لا يختبرونه! ومن نال الشفاء يستعيد صحَّته، لهذا فالطبيب صالح بالنسبة للذين أعاد إليهم عافيتهم. من ثم، الله صالح لأولئك الذين غفر خطاياهم، لكن إن كان لإنسان خطيَّة لا علاج لها في روحه، فكيف يقول إن الطبيب صالح، بينما يتحاشاه؟ ولهذا كما قلت قبلًا، شرح الرسول بحق أن الله “الذي يريد أن الجميع يخلُصون” (1 تي 2: 4)، هو صالح لكل الناس. أمَّا نعمة صلاح الله الخاصة فهي مكفولة بالأكثر لجميع المؤمنين الذين ينالون عونًا من إرادته الصالحة ونعمته. لكن حين يقول المرنِّم أيضًا: “إنَّما صالح الله لإسرائيل، لأنقياء القلب” فإنَّه ينقل مشاعر الذين لا يعرفون كيف يتمتَّعون بما يخص الله، عدا إنَّه صالح نحو كل شيء وهو في الكل(218).
القديس أمبروسيوس
من وحي 1 مل 20
هب لي نصرة على ذاتي،
مع نصرتي على بنهدد!
* انتصر آخاب الشرِّير على بنهدد المجدِّف على اسمك.
لكنَّه حطَّم نفسه إذ لم ينتصر على ذاته.
* أذلَّت الخطيَّة آخاب ناشر الوثنيَّة.
فقد كرامته وإمكانيَّاته.
حطَّمه تهديد بنهدد ملك آرام،
وكان مستعدًا أن يقدِّم له كنوزه ونساءه وأولاده.
في محبَّتك قدَّمت له فرصًا جديدة ليختبر قوَّتك.
وهبته نصرةً على بنهدد في معركة على الجبال.
عدت فقدَّمت له نصرة جديدة في السهول.
صار المتعجرف ذليلًا لك.
الذي أراد أن يغتصب مالك وأسرتك بين يديك.
ماذا قدَّمت للإله واهبك النصرة؟
* عوض الشكر له كسرت وصيَّته.
عوض تجديد العهد معه أقمت عهدًا مع الملك الوثني.
وهبك نصرة على أقسى عدو لك،
لكنَّك بإرادتك لم تطلب النصرة على أعماقك.
* هب لي يا رب نصرة على ذاتي.
فإنَّه لن يستطيع أحد ما ولا قوَّة ما أن تؤذيني.
أنا بكامل حرِّيَّتي أحطِّم نفسي.
- سفر الملوك الأول – أصحاح 20
- تفاسير أخرى لسفر الملوك الأول – أصحاح 20
تفسير ملوك الأول 19 | تفسير ملوك الأول القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير ملوك الأول 21 |
تفسير العهد القديم |