تفسير انجيل لوقا أصحاح 7 للقديس كيرلس الكبير

الأصحاح السابع

عظة (35) شفاء عبد قائد المئة

(لو 7: 1 -10 ) ” ولما أكمل أقواله كلها في مسامع الشعب دخل كفرناحوم. وكان عبـد لقائد مئة، مريضا مشرفا على الموت، وكان عزيزا عنده. فلما سمع عن يسوع، أرسل إليـه شيوخ اليهود يسأله أن يأتي ويشفي عبده. فلما جاءوا إلى يسوع طلبوا إليه باجتهاد قائلين: إنه مستحق أن يفعل له هذا، لأنه يحب أمتنا، وهو بنى لنا المجمع. فذهب يسوع معهم. وإذ كان غير بعيد عن البيت، أرسل إليه قائد المئة أصدقاء يقول له: يا سيد، لا تتعـب. لأنـي لست مستحقا أن تدخل تحت سقفي. لذلك لم أحسب نفسي أهلا أن آتي إليك. لكن قـل كلمة فيبرأ غلامي. لأني أنا أيضا إنسان مرتب تحت سلطان، لي جند تحت يدي. وأقـول لهذا: اذهب! فيذهب، ولآخر: انت! فيأتي، ولعبدي: افعل هذا! فيفعل. ولما سمع يسوع هذا تعجب منه، والتفت إلى الجمع الذي يتبعه وقال: أقول لكم: لم أجد ولا في إسرائيل إيمانا بمقدار هذا! ورجع المرسلون إلى البيت، فوجدوا العبد المريض قد صح “.

إن الإنجيلي الحكيم يملأ عقولنا بدروس مقدسة ويسعى أن يلقى ضوءا كثيرا على ما يثبت إيماننا، فإن هذا هو موضوع أخباره التي يبشرنا بها بخصوص المسيح، ولذلك فإنه بطريقة مناسبة جدا نراه في إحدى المرات يقدم المسيح وهو يعلم الرسل القديسين أمورا أعلى من الخدمة التي يفرضها الناموس، ويوضح لهم طريقا جديدا عن التصرف الذي يليق بالقديسين والذي لم يسلكه القدماء. وفي مرة أخرى يعرض لنا بطريقة جميلة جدا إظهار قوته الإلهية لكي يعرف بكل طريقة أن كلمة الآب الوحيد هو الله نفسه رغم أنه صار جسدا، أي صار إنسانا ويحمل كل الأشياء بكلمة قدرته (انظر عب1: 3)، ويتبرهن لنا ذلك من فحص ما هو مكتوب عنه.

وحينما أشبع الرسل القديسين بالتعاليم الكاملة جدا، ووضع أمامهم مائدة من الوصايا الإنجيلية ومزج لهم الخمر التي تفرح قلب الإنسان، وأخبرهم بوضوح تام عن الوسائل التي ينتصرون بها ويصيرون مستحقين للمديح، فإنه بعد ذلك ينحدر إلى كفر ناحوم وهناك أيضا يعمل عملاً عظيما وعجيبا، جديرا بعظمة جلاله. هناك تحرك مسرح مجید باندهاش عظيم، وكان المتفرجون فيه هم الملائكة والناس. لأن بينما إسرائيل ينال توبيخا وهو لا يفهم كما أنه غير مستعد للإيمان نجد جمع الوثنيين مستعدا عموما للفهم والإيمان حتى أننا نرى المسيح يرفض بعدل عبده إسرائيل بينما هو يقبل ويكرم ويكلل بنعمته أولئك الذين منذ القديم عبدوا المخلوق دون الخالق، والذين كانوا في الكآبة والظلمة وليست لهم معرفة الله، وأحنوا رقبة ذهنهم المستعبد إلى شر الشياطين.

إذا فما هو الذي حدث، أو ماذا كانت المعجزة؟ كان هناك رجل تقي متميز بسمو سلوكه، وكان قائدا لمائة من الجنود، وكان ساكنا في وسط شعب كفر ناحوم وكان له عبد مخلص قد سقط مريضا، وكما لو كان قد وصل إلى أبواب الموت وكل المظاهر تبين أنه كان الآن قرب النفس الأخير، وكان هذا العبد عزيزا عنده، حتى أنه حزن حزنا شديدا. فأي علاج إذا يمكن أن يجده لما حدث، أو أية مساعدة يستطيع أن يحصل عليها لذاك الذي يرقد مريضا؟ يقول الإنجيل: إنه سمع عن أمور يسوع، وهكذا يرسل إليه ويطلب منه كمن يطلب من الله أمورا تفوق طبيعة الإنسان وقدرته لأنه يطلب أن ذلك العبد الملقى مطروحا في المرحلة الأخيرة من المرض، ينقذ من رباطات الموت. ومن أين إذا عرف يسوع، وهو لم يكن بعد في عداد الذين آمنوا به؟ لأنه حتى ذلك الوقت كان واحدا من الجماهير التي تسير في الضلال. ويقول الإنجيل: إنه سمع عن الأمور الخاصة بيسوع، وحيث إنه بالتأكيد لم يسمع تعليمه الشخصي بالمرة ولا عرف كتابات موسى، ولا بحث في الكتب الإلهية، فإنه يمكن أن يكون قد وصل إلى الإيمان به فقط من مجرد سماعه ما يشاع عنه، ولكنه إذ كان متيقنا تماما أنه بمجرد فعل إرادته يستطيع أن يتمم ما سأله منه فإنه يرسل مندوبين عنه من شيوخ اليهود. 

وعند وصولهم إلى يسوع قدموا له طلبهم قائلين ” إنه مستحق أن يفعل له هذا” يـا لهذا الأمر العجيب! فإن أولئك الذين يشتمون مجد المسيح يسألونه أن يصنع آيـة! أولئك الذين رفضوا أن يؤمنوا به يسألونه أن يعرض أمام الناس الذين لم يؤمنوا بعد، يعرض أمامهم أعمالاً تقود إلى الإيمان. أخبرني بأي صفة تقترب بطلبك، هل أنـت تعرف وتؤمن أنه يستطيع أن يعمل أشياء هي خاصة بالله؟ هل أنت مقتنع تماما أنـه أمر يخص الجوهر الفائق، الذي هو فوق الكل (الله) أنـه يـستطيع أن يحيـي، وأن يخلص الناس من فخاخ الموت؟ إن كان كذلك فكيف تقول حينما ترى يسوع يـصنع المعجزات “هذا الإنسان يخرج الشياطين ببعلزبول رئـيـس الـشياطين” (مـت 12: 24)، وحينما شفي ذلك الرجل الأعمى من بطن أمه بأعجوبة وحصل على النور قلتم له: “أعـط مجدا الله، نحن نعلم أن هذا الإنسان خاطئ” (يو 9: 24) فهل أنت إذا تسأل هذا الخـاطئ كمـا تسميه أن يعمل عملاً إلهيا؟ أليس هذا جنونا وغباوة تامة؟ ألا يكون أولئك الذين لم يكونوا قد آمنوا حتى الآن أفضل من أولئك الذين قد تعلموا من الناموس والأنبياء؟

أتريد أن ترى الحقيقة وأن هذا هو واقع الحال فعلاً، لاحظ ما يأتي: بدأ المخلص الآن يسير في طريقه إلى العبد المريض لكي يشفيه، ولكن قائد المئة أرسل إليه يقول: ” لا تتعب نفسك، بل قد كلمة فيبرأ غلامي”. لاحظوا إذا أن شيوخ اليهود هؤلاء توسلوا إلى يسوع أن يذهب إلى بيت الذي طلب مساعدته، على اعتبار أنه لا يوجد طريقة أخرى لإقامة الذي كان مريضا إلا بالذهاب إلى جواره، بينما الآخر، أي قائد المئة آمن أنه يستطيع أن يفعل ذلك حتى من مسافة بعيدة، وأن يتمم الشفاء لمجرد ميل إرادته، إنه طلب الكلمة المخلصة والموافقة الحبية والنطق الكلي القدرة، ولذلك فبعدل نال عبارة فائقة الجدارة، لأن يسوع قال: ” الحق أقول لكم إني لم أجد ولا في إسرائيل ايمانا عظيما كهذا”. إذا فالبرهان والتوضيح يأتي في الحال مما قد قلناه الآن، وشفى في نفس تلك الساعة ذلك الذي كان قبل قليل فريسة للموت، لأن الذي أراد إبطال ما كان حادثاً هو الله

وكما قلت في بداية هذا الحديث فإن إسرائيل سقط من علاقته مع الله، وبدلاً منه دعا الله الأمم وأدخلوا، لأن لهم قلب أكثر استعدادا للإيمان به، وهو الأمر المطلوب عن حق. وعن هذا يشهد المرنم الإلهي أيضا حيث يقول عنه مرة: ” تميل أذنك بسبب استعداد قلبهم” (مز9: 17 س). وفي موضع آخر يقول ” كثرت أمراضهم وبعد ذلك مضوا بسرعة” (مز 15: 4 س)، لأن كثيرة هي الخطايا المنسوبة لهم، والتي يعطيها بلطف اسم أمراض، لأنهم كانوا تائهين في الضلال ومذنبين بجرائم رديئة ليس بطريقة واحدة بل بطرق كثيرة، ولكنهم مضوا بسرعة إلى الإيمان، أي لم يكونوا مبطئين في قبول أوامر المسيح، بل بكل استعداد قبلوا الإيمان، ولذلك أمسكوا في شبكة المسيح. هو يعلمهم حيث يقول بواسطة أحد الأنبياء القديسين ” لأجل هذا انتظروني يقول الرب إلى يوم أقوم لأشهد، لأن حكمي هو لجماعات الأمم” (صف 3: 1 س)، لأنه حينما قام المسيح من الموت، منح لأولئك الذين كانوا في الضلال ذلك الأمر الذي هو لأجل سعادتهم وخلاصهم، فقد أمر الرسل القديسين قائلاً: ” اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به” (مت 28: 19).

لذلك فبالقرار المقدس والحكيم العادل لمخلصنا جميعا المسيح، أكرم الأمم، ولكننا نرى إسرائيل مرفوضا من محبته وعطفه، لأن ما هو الذي يقوله رئيس رعاة الجميع لهم بواسطة أحد الأنبياء القديسين؟ ” قد أعلنت يقول الرب أني لا أرعاكم، من يمت فليمت، ومن يضعف فليضعف والبقية فليأكل بعضها لحم بعض” (زك11: 9)، وأيضا ” الله قد رفضهم لأنهم لم يسمعوا له فيكونون تائهين بين الأمم” (هو 9: 17)، وأيضا بصوت حزقيال النبي “هكذا يقول الرب: إني سأبددهم بين الأمم وأذريهم في الأراضي كلها” (حز 12: 15)، وخذوا النتيجة الواقعية للأمور لإقناعكم وللإيمان بما هو مكتوب هنا، لأنهم متشردون وغرباء في كل أرض ومدينة، وهم لا يحفظون العبادة المرسومة من الناموس في نقاوتها ولا يخضعون ليقبلوا مجد وسمو الحياة الإنجيلية، بينما نحن الذين قد قبلنا الإيمان فإننا مواطنون مع القديسين وندعي أبناء أورشليم العليا في السماء، بنعمة الله التي تكللنا، ونحن نؤكد أنه هو (المسيح) تكميل الناموس والأنبياء، ونعترف بمجده ونعجب به في صنعه للمعجزات، الذي به وله مع الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور أمين.

عظة (36) إقامة ابن أرملة نايين

(لو 7: 11 -17) ” وفي اليوم التالي ذهب إلى مدينة تدعى نايين، وذهب معه كثيرون مـن تلاميذه وجمع كثير. فلما اقترب إلى باب المدينة، إذا ميت محمول، ابن وحيد لأمه، وهـي أرملة ومعها جمع كثير من المدينة. فلما رآها الرب تحنن عليها، وقال لها :لا تبكي. ثم تقدم ولمس النعش، فوقف الحاملون. فقال: أيها الشاب، لك أقول: قم!. فجلس الميت وابتـداً يتكلم، فدفعه إلى أمه. فأخذ الجميع خوف، ومجدوا الله قائلين:قد قام فينا نبي عظيم، وافتقد الله شعبه. وخرج هذا الخبر عنه في كل اليهودية وفي جميع الكورة المحيطة”

لاحظوا كيف يضيف معجزة إلى معجزة، ففي المعجزة السابقة، وهي شفاء عبد قائد المئة حضر هناك بناء على دعوة، أما في هذه المعجزة فإنه يقترب بدون أن يدعى، إذ لم يدعوه أحد أن يعيد الإنسان الميت إلى الحياة، بل هو يأتي ليفعل هذا من تلقاء نفسه. ويبدو لي أنه قصد أن يصنع هذه المعجزة بعد المعجزة السابقة، لأنه ليس أمرا بعيد الاحتمال أن نفترض أنه في وقت أو آخر يمكن أن يقول أحد معارضا مجد المخلص هكذا: “أية أعجوبة حدثت في حالة عبد قائد المئة؟ فرغم أنه كان مريضا فهو لم يكن في خطر الموت رغم أن الإنجيلي كتب ذلك مشكلاً على أساس ما يرضي وليس على أساس ما هو حقيقي”. لذلك فلكي يوقف اللسان الرديء لمثل هؤلاء المهاجمين يقول الإنجيل إن المسيح قابل الشاب الميت الابن الوحيد للأرملة. إنها كارثة مثيرة للشفقة، وتستطيع أن تثير الرثاء وتجعل دموع الإنسان تفيض. فكانت المرأة ومعها کثیرون، تتبع الميت مذهولة بمحنتها وخائرة. 

كان الإنسان الميت في طريقه للدفن وكان أصدقاء كثيرون يشيعونه إلى قبره، ولكن هناك يقابله الحياة والقيامة وأعنى المسيح نفسه، لأنه هو محطم الموت والفساد، هو الذي ” به نحيا ونتحرك ونوجد” (اع 17: 28). هو الذي أعاد طبيعة الإنسان إلى ما كانت عليه أصلاً. فهو الذي حرر جسدنا المشحون بالموت من رباطات الموت. لقد تحنن على المرأة، ولكي يوقف دموعها أمر قائلاً “لا تبكي”، وفي الحال أبطل سبب بكائها. كيف وبأية وسيلة؟ إنه لمس النعش وبواسطة نطق كلمته الإلهية جعل الذي يرقد ميتا في النعش يعود إلى الحياة، لأنه قال: ” أيها الشاب لك أقول قم”، وفي الحال حدث ما أمر به. فان تحقيق ما حدث كان ينتظر كلماته. ويقول الإنجيل ” فجلس الميت وبدأ يتكلم فدفعه إلى أمه”.

أرجو أن تلاحظوا هنا أيضا دقة التعبير لأن الإنجيل الإلهي لا يقول فقط إن الإنسان الميت جلس لئلا يهاجم أحد المعجزة بمناقشات زائفة بقوله: ” أي أعجوبة هنا إن كان بواسطة حيلة بارعة أو أخرى يجعل الجسد يجلس لأنه لم يتبرهن بعد أنه حي أو تحرر من رباطات الموت “. لهذا السبب فالإنجيل يسجل بمهارة برهانين واحدا بعد الآخر كافيين للإقناع أن الشاب قام بالحقيقة وعاد للحياة فيقول: “فبدأ يتكلم”، والجسد الغير حي لا يستطيع الكلام، وأيضا، “دفعه إلى أمه”. وبالتأكيد فإن المرأة لم تكن لتأخذ ابنها إلى بيتها لو كان ميتا.

لذلك فأولئك الأشخاص الذين أعيدوا إلى الحياة بقوة المسيح نتخذهم كعربون للرجاء المعد لنا بقيامة الأموات، وهؤلاء كانوا هم: هذا الشاب ابن الأرملة، ولعازر الذي من بيت عنيا، وابنة رئيس المجمع. وهذه الحقيقة سبق أن بشر بها جماعة الأنبياء القديسين، لأن إشعياء المبارك يقول” الموتى سيقومون، وأولئك الذين في القبور سيعودون إلى الحياة، لأن الطل الذي منك يشفيهم” (إش 26: 19 س)، لأنه يقصد بالطل فاعلية المسيح المعطية للحياة، التي هي بواسطة الروح القدس. والمرنم يشهد متكلما بخصوصهم بكلمات موجهة إلى الله مخلصنا جميعا قائلاً: ” تحجب وجهك فترتاع…. وإلى ترابها تعود، ترسل روحك فتخلق، وتجدد وجه الأرض” (مز 104: 29 ، 30). لأنه بمعصية آدم صارت وجوهنا محجوبة عن الله وصرنا نعود إلى التراب. لأن قصاص الله على الطبيعة البشرية هو “لأنك تراب وإلى التراب تعود” (تك 3: 19)، ولكن في نهاية هذا العالم فإن وجه الأرض سيتجدد لأن الله الآب بالابن في الروح سوف يعطي حياة لكل أولئك الراقدين في داخلها.

إن الموت هو الذي أتى بالناس إلى الشيخوخة والاضمحلال، لذلك فالموت كما لو كان قد صيرنا شيوخا وجعلنا نضمحل، لأن ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال” كما يقول الكتاب (عب 8: 13). ولكن المسيح يجدد لأنه هو الحياة. فإن ذاك الذي خلق في البداية يستطيع أيضا أن يجدد إلى عدم الفساد والحياة، لأنه يمكن أن نؤكد أن هذا هو عمل نفس الطاقة والقوة أن يفعل الأمرين الواحد والآخر (أي الخلق والتجديد)، لذلك فكما يقول إشعياء النبي ” ابتلع الموت إذ هو مقتدر”، وأيضا ” الرب يمسح كل الدموع عن كل الوجوه. هو ينزع عار الشعب عن كل الأرض” (إش 25: 8 س). ويقصد بعار الشعب الخطية التي تلحق الخزي بالناس وتفسدهم، والتي ستباد هي والهلاك، وسيتلاشى الحزن والموت وتكف الدموع التي تذرف بسببه.

لذلك لا تكونوا غير مصدقين لإقامة الموتى، لأنه منذ زمن بعيد تمم المسيح هذا في وسطنا بجلال إلهي، ولا تدعوا أحدا يقول إن من أقام اثنين مثلاً أو ثلاثة لا يكون كافيا أيضا لحياتنا جميعا. مثل هذه الكلمات التي تفوح منها رائحة الجهل المطلق هي كلمات سخيفة مضحكة، بل هو صواب بالحري أن نفهم أن المسيح هو الحياة ومعطي الحياة بالطبيعة، وكيف يمكن أن تكون الحياة بالطبيعة غير كافية لجعل الجميع أحياء. إنه يكون نفس الشيء أن يقال بغباوة شديدة، إن النور أيضا يكفي فقط لإضاءة أشياء صغيرة وليس لإضاءة الكون كله.

لذلك فهو أقام ذاك الذي كان ذاهبا إلى قبره، وطريقة إقامته كانت واضحة لأن الإنجيلي يقول “لمس النعش وقال: أيها الشاب لك أقول قم”. ومع ذلك فكيف لم تكن كلمة منه كافية لإقامة الشاب الذي كان راقدا في النعش، لأن أي شيء يكون صعبا أو يعسر تحقيقه أمام كلمته؟ فهل يوجد أعظم من كلمة الله؟ فلماذا إذا لم يتمم المعجزة بكلمة فقط؟ يا أحبائي الله فعل هذا لكي تعرفوا أن جسد المسيح المقدس فيه فاعلية وقوة لخلاص الإنسان، لأن جسد الكلمة القدير هو جسد الحياة، وقد اكتسى بقدرته. بل لاحظوا كيف أن الحديد حينما يدخل في النار ينتج تأثيرات النار ويحقق وظائفها. هكذا أيضا لأن الجسد صار جسد الكلمة الذي يعطي الحياة للكل، لذلك صار له أيضا قوة إعطاء الحياة، وهو يلاشي تأثير الموت والاضمحلال.

ليت ربنا يسوع المسيح يلمسنا أيضا، وهو إذ يخلصنا من الأعمال الشريرة ومن الشهوات الجسدية فإنه يوحدنا مع جماعات القديسين، لأنه هو معطي كل صلاح، الذي به وله مع الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمین.

عظة (37) أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟

(لو 7: 17- 23) ” وخرج هذا الخبر عنه في كل اليهودية وفي جميع الكورة المحيطة. فأخبر يوحنا تلاميذه بهذا كله. فدعا يوحنا اثنين من تلاميذه، وأرسل إلى يسوع قائلا: أنـت هو الآتي أم ننتظر آخر؟ فلما جاء إليه الرجلان قالا : يوحنا المعمدان قد أرسلنا إليك قائلا: أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟ وفي تلك الساعة شفى كثيرين مـن أمـراض وأدواء وأرواح شريرة، ووهب البصر لعميان كثيرين. فأجاب يسوع وقال لهما: اذهبا وأخبرا يوحنـا بـمـا رأيتما وسمعتما: إن العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشرون. وطوبى لمن لا يعثر في “.

في هذه الفرصة أيضا، فإن الكلمة التي ستوجه إليكم والبحث في التعاليم المقدسة لا يمكن إلا أن يكونا بكل تأكيد لمنفعتكم. تعالوا إذا لكي نشترك مع الملائكة القديسين في تسبيح مخلص الكل، لأنه يعبد كما في السماء، كذلك أيضا على الأرض، وله ” ستجثو كل ركبة” (في 2: 10) كما هو مكتوب. لذلك فليكن معروفا للناس في كل مكان أن الرب هو الله، وحتى رغم أنه ظهر في هيئة مماثلة لنا، إلا أنه قد أعطانا الإشارات التي تدل على قوته الإلهية وجلاله في مناسبات كثيرة وبطرق متعددة، وذلك بشفائه للأمراض وطرده للأرواح النجسة، وبمنحه البصر للعميان، وأخيرا حتى بطرده الموت نفسه من أجساد البشر، والموت الذي تسلط بقسوة وبدون رحمة من آدم إلى موسى حسب تعبير بولس الإلهي (رو 5: 14).

قام ابن الأرملة في نايين بطريقة عجيبة وغير متوقعة، والمعجزة صارت معروفة لكل واحد في اليهودية كلها وانتشرت في كل مكان كآية إلهية، وكان الإعجاب به (أي يسوع) على كل لسان، وبعض من أصدقائه الحميمين، أي تلاميذه أخبروا بها أيضا المعمدان المبارك، فاختار المعمدان اثنين من تلاميذه وأرسلهما إلى يسوع ليسألاه إن كان هو الآتي أم ينبغي أن ينتظروا غيره. ماذا فعلت أيها المعمدان الرائع! ألا تعرف ذلك الذي كرزت عنه إذ كنت أنت نفسك سابقا لظهوره، كما تسبق نجمة الصبح وتعلن عن الشمس الآتية؟ لقد ذهبت أمامه مثل مصباح. وأنت أشرت للرسل القديسين عنه قائلاً بكل وضوح ” هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم” (يو 1: 29)، وفي موضع آخر أيضا نسمعك تقول لجموع اليهود: ” يأتي بعدي رجل صار قدامي لأنه كان قبلي، وأنا لم أكن أعرفه، ولكن الذي أرسلني لأعمد ذلك قال لي الذي ترى الروح القدس نازلا ومستقرا عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس. وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله” (يو 1: 30 ؛ 33، 34)، فكيف إذا تسأل إن كان هو الآتي؟ إذ أنك أنت قد قلت ” أنا رأيت وشهدت أنه ابن الله”، ولكن المعمدان المبارك لم يفشل في أن يعرف كلمة الله الذي صار إنسانا. لا تتصوروا هذا، فقد كان مقتنعا تماما وبكل وضوح أنه هو الآتي، ولكن ما فعله كان أمرا حكيما ومخططا تخطيطا جيدا ومناسبا بدرجة كبيرة لمنفعة تلاميذه، فلأن تلاميذ يوحنا لم يكونوا قد عرفوا المسيح بعد، إذ أن مجده وجلاله الفائق كان مخفيا عنهم، قد صدموا عندما رأوه يصنع المعجزات ويتفوق على المعمدان في عظمة الأعمال التي يقوم بها، فإنهم في إحدى المرات اقتربوا من يوحنا المعمدان وهم يحملون حسدا وغيظا في قلوبهم، وكان قلبهم لا يزال يحتاج أن يتحرر من الأمراض اليهودية، وقالوا للمعمدان المبارك عن المسيح مخلص الكل: ” يا معلم هوذا الذي كان معك في عبر الأردن الذي أنت قد شهدت له، هو يعمد والجميع يأتون إليه” (يو 3: 26)، لأنهم لم يكونوا يريدون لأحد آخر أن يعمد بالمرة ويعلو على كرامة يوحنا المعمدان. ومع ذلك فقد عرفوا من يوحنا عن علو مجد المسيح وعظمة بهائه التي لا تقارن لأنه سمعوه يجيبهم هكذا: ” أنتم أنفسكم تشهدون لي أني قلت لست أنا المسيح، بل إني مرسل أمامه، من له العروس فهو العريس، وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعه فيفرح فرحا من أجل صوت العريس. إذا فرحي هذا قد كمل، ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص” (يو 3: 28 – 30).

ومع ذلك فنحن لا نقول إن المعمدان المبارك نقص في الكرامة في الوقت الذي كان فيه مجد المسيح يزداد باستمرار من قبل أولئك الذين آمنوا به… ولكن المعمدان المبارك استمر محصورا في حدود الطبيعة البشرية، لأنه لم يكن ممكنا له أن يتقدم أكثر من هذه الحدود. أما الكلمة المتجسد إذ هو بطبيعته الله ومولود من الله الآب بطريقة تفوق الفهم، فإنه كان يزداد باستمرار إلى مستوى المجد اللائق به، وكان الناس يتعجبون منه. ولهذا السبب قيل “ينبغي أن ذاك يزيد وأني أنا أنقص”، لأن من يظل في نفس حالته يبدو كأنه ينقص بالمقارنة بذلك الذي يتقدم في المجد باستمرار. ولأنه كان من الصواب أن الذي كان بالطبيعة الله ينبغي أن يتفوق في القدرة والمجد على كل ما هو بشري، لذلك شرح لهم المعمدان قائلاً: ” الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع، والذي من الأرض هو أرضي، ومن الأرض يتكلم” (يو 3: 31). فمن هو الذي يأتي من فوق وهو فوق الجميع لأنه هو الله؟ واضح أن المقصود هو كلمة الآب الوحيد الذي كان مماثلاً له ومساويا له، ولكنه بسبب محبته للعالم وضع نفسه ونزل إلى حالتنا. لذلك إذ هو هكذا فينبغي أن يتفوق بالضرورة على ذلك الذي من الأرض والذي هو معدود كواحد من بين الأشياء التي من الأرض، وهو مثلنا في الطبيعة. هكذا كان المعمدان، فإنه كان مستحقا للمديح في فضيلته، وعظيما جدا في تقواه، وقد وصل إلى كمال كل بر، وكان مكرما وجديرا بالإعجاب، ولأن الرب شهد له قائلاً ” لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان” (مت 11: 11)، ولكنه لم يكن من فوق، وأنا أعني أنه ليس من الجوهر الذي يفوق الكل، بل بالحرى كان من أسفل. مولود من الأرض كواحد منا.

والآن لكي نعود من هذا الاستطراد نقول لأن قلبهم لم يكن حرا من الأمراض اليهودية، فإنهم يخبرون المعمدان المبارك عن المعجزات الإلهية التي صنعها المخلص. وهو إذ كان يعرف من هو ذلك الذي فعل هذه المعجزات، وأنه ممجد بالحق في ذاته، وأن مجد المخلص ينتشر في كل مكان، ولأنه يريد أن ينشئ إيمانا راسخا به في قلوب أولئك الذين لا يزالون يعرجون ولم يكونوا مقتنعين بعد أنه المسيح، لذلك فإنه يتخذ مظهر الجهل ويرسل إليه تلاميذه ليسأله قائلاً “أنت هو الآتي أم ننتظر آخر”.

ولكن ربما يقول البعض إن هناك أناسا يفكرون أننا ينبغي أن نفهم شيئا من هذا النوع كما يأتي: إن المعمدان كان مزمعا أن يموت بواسطة هيرودس قبل أن يتم صلب المسيح، وكان سيسبق المسيح في موته كسابق ويصل قبله إلى الهاوية، لذلك فهو يسأل إن كان سيأتي هناك أيضا لكي يفدي الذين في الظلمة، في ظل الموت والمربوطين برباطاته، ولكن هذا الرأي ينبغي أن يرفض تماما لأننا لا نجد في أي مكان في الكتاب الموحى به من الله أن المعمدان الإلهي بشر مقدما بمجيء المخلص للأرواح التي في الهاوية، كما أننا يمكن أن نقول بحق، إنه كما عرف المعمدان مرة واحدة تأثير تدبير تجسد الابن الوحيد، فإنه يكون قد عرف أيضا بالإضافة لأشياء أخرى، أنه سوف يفدي أولئك الذين في الهاوية. وسوف يضئ عليهم إذ أنه “يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد” (عب 2: 9) كما يقول بولس، حتى إنه “يسود على الأحياء والأموات” (رو 14: 9). فماذا يريد أن يفهم بسؤاله: ” أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟” لقد قلت، إنه يتخذ الجهل عن قصد، ليس لكي يتعلم هو، إذ أنه كسابق كان قد عرف السر، وإنما لكي يقتنع تلاميذه بمقدار عظمة المخلص ورفعته، وأنه كما أعلن الكتاب الموحى به قبل ذلك، هو الله وأنه هو الرب الذي كان مزمعا أن يأتي. أما كل الباقين فكانوا عبيدا أرسلوا قبل مجيء سيدهم كسابقين لذلك الذي هو فوق الكل، ومعدين طريق الرب كما هو مكتوب. لذلك فالأنبياء القديسون، يدعون المخلص ورب الكل بلقب “الآتي”. لأن داود النبي يقول في أحد المزامير مبارك الآتي باسم الرب” (مز 118: 26)، وماذا يعني تعبير “باسم الرب؟” إنه يعني بمجد إلهي، وبربوبية، وبكل جلال فائق، وهذا أيضا أوضحه مرة أخرى في الآية التي تليها إذ يقول: ” الرب هو الله وقد أنار لنا” (مز 118: 27). لأن موسى قد جاء، وظهر في وقته وبواسطته أعطى الناموس للإسرائيليين، وبعده جاء يشوع بن نون الذي قاد الشعب، وبعد ذلك جاء الأنبياء المباركون على التوالي. لقد كانوا بالحقيقة أناسا قديسين ومكرمين جدا، وكانوا مشحونين ومزودين ببهاء روحي فائق، ولكن ولا واحد فيهم أنار على سكان الأرض باسم الرب، بالمجد الذي هو خاص باللاهوت والسيادة الإلهية، أما كلمة الله الوحيد فقد أنار علينا لكونه في طبيعته وبالحقيقة الله الرب. وهكذا أسماه الآب اسطة حبقوق النبي قائلاً: ” بعد قليل سيأتي الآتي ولا يبطئ” (حب 2: 3 س)، وأيضا بواسطة نبي آخر يتكلم كلمة الله الوحيد قائلاً: ترنمي وافرحي يا بنت صهيون لأني هانذا آتي وأسكن في وسطك يقول الرب. وتحتمي أمم كثيرة بالرب في ذلك اليوم،وأنا أكون لهم إلها وهم يكونون لي شعبا” (زك 2: 10 ، 11 س). ويمكن أن نرى من الحقائق الفعلية أن هذا قد تم فعلاً لأن جماهير من الأمم قد أمسكت في الشبكة، والمسيح صار إلههم وهم صاروا له شعبا.

فالمعمدان الإلهي إذ قد عرف من الكتاب الموحي به اسم “الآتي” فإنه أرسل بعض أصدقائه ليسأل: إن كان هو الآتي؟ والمسيح إذ بالطبيعة وبالحق هو الله لم يخف عنه غرض يوحنا المعمدان، وإذ عرف سبب مجيء تلاميذ يوحنا فإنه بدأ في ذلك الوقت خاصة يعمل معجزات إلهية أكثر بكثير مما كان قد فعلها قبل ذلك. فهكذا أخبرنا الإنجيل الحكيم قائلاً ” وفي تلك الساعة شفي كثيرين من أمراض وأدواء وأرواح شريرة ووهب البصر لعميان كثيرين”. وإذ قد صاروا مشاهدين وشهود لعظمته، فقد صار لهم إعجاب عظيم بقوته وإمكانياته. وعندئذ قدموا السؤال متوسلين باسم يوحنا بأن يرد عليهم إن كان هو الآتي. وهنا أرجو أن تلاحظوا الطريقة الجميلة في معاملة المخلص. لأنه لا يقول ببساطة أنا هو، رغم أنه لو قال هذا لكان صحيحا، ولكنه بالحرى يقودهم إلى البرهان المعطى عن طريق الأعمال نفسها حتى إذا قبلوا الإيمان به على أساس جيد، ويكونون قد تزودوا بالمعرفة مما قد حدث أمامهم، فإنهم يمكن أن يرجعوا إلى ذلك الذي أرسلهم، إذ قال لهم الرب اذهبا وأخبرا يوحنا بما رأيتما وسمعتما. لأنكم قد سمعتم حقا أني قد أقمت الموتى بكلمة مملوءة قوة وبلمسة اليد، كما أنكم رأيتم أيضا وأنتم واقفون أن تلك الأشياء التي تكلم عنها الأنبياء القديسون منذ القديم تتحقق: ” فالعمى يبصرون والعرج يمشون والبرص يطهرون والصم يسمعون، والموتى يقومون والمساكين يبشرون”.

كل هذه الأشياء قد سبق الأنبياء المباركين وأعلنوها لكي تتم في حينها على يدي. فإن كنت أتمم تلك الأشياء التي سبق التنبؤ بها منذ زمن طويل، وأنتم أنفسكم شهود لهذه الأشياء التي تحدث، فارجعوا وأخبروا بتلك الأشياء التي رأيتموها بأعينكم تتحقق بقوتي وقدرتي والتي سبق الأنبياء المباركين وأخبروا بها في أوقات مختلفة. ثم بعد ذلك أضاف بالضرورة قائلاً ” وطوبى لمن لا يعثر في” لأن اليهود قد عثروا، إما بسبب أنهم لم يعرفوا عمق السر أو بسبب أنهم لم يسعوا أن يعرفوا. فرغم أن الكتاب الموحي به سبق أن أعلن في مواضع كثيرة أن كلمة الله سينزل نفسه إلى الإخلاء وسوف يرى على الأرض مشيرا بوضوح إلى الوقت الذي صار فيه مثلنا وهو يبرر بالإيمان كل ما هو تحت السماء، ومع ذلك فإنهم عثروا فيه ” واصطدموا بصخرة العثرة، وسقطوا وسحقوا تماما ” (إش 8: 14). فرغم أنهم يرونه بوضوح متوشحا بكرامة لا يعبر عنها ومجد يفوق الوصف بواسطة الأعمال العجيبة التي عملها، فإنهم ألقوا حجارة عليه وقالوا: “لماذا وأنت إنسان تجعل نفسك إلها”؟ وجوابا على هذه الأمور وبخ المسيح ضعف ذهنهم الشديد وقال: ” إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي، ولكن إن كنت أعمل، فإن لم تؤمنوا فآمنوا بي بالأعمال” (يو 10: 37 ، 38). لذلك فطوبى لمن لا يعثر في المسيح، أي طوبى لمن يؤمن به.

وما هي الفائدة التي ننالها من هذا وبأية طريقة تنفع بالوصول إلى الإيمان به؟ كل واحد يعرف بلا شك ولكن هذا لا يمنع أن تعدد بعض الأمور. فأولاً نحن بالحقيقة نحصل على نور معرفة الله الحقيقية. ثم بعد ذلك حينما نغتسل من أوساخ الخطية بواسطة المعمودية المقدسة، وإذ نتطهر لكي نخدمه بطهارة، فإننا نصير أيضا شركاء طبيعته الإلهية، ونربحه ليسكن في داخلنا بالحصول على شركة الروح القدس. وأيضا نصير أبناء الله، ونكتسب لأنفسنا الأخوة مع ذلك الذي هو الابن بالطبيعة وبالحق. وبالإضافة إلى هذه الأشياء فإننا نتمجد ونرتفع إلى ميراث القديسين، ونسكن في غبطة بالتمتع بتلك البركات التي تمنح لأولئك الذين يحبونه، والتي يعلن بولس الإلهي أنها تفوق الفهم والوصف بقوله: ” ما لم تره عين، وما لم تسمع به أذن، وما لم يخطر على قلب بشر ما أعده الله للذين يحبونه” (1كو 2: 9)، ونحن نحسب أيضا مستحقين لتلك الأمور بنعمة ومحبة ذلك الذي يعطي لكل واحد كل الأشياء بسخاء. وأعني به المسيح الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور.

عظة (38) الأصغر في ملكوت الله أعظم منه

(لو 7: 24- 28) ” فلما مضى رسولا يوحنا، ابتدأ يقول للجموع عن يوحنا: ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا؟ أقصبة تحركها الريح؟ بل ماذا خرجم لتنظروا؟ اإنسانا لابسا ثيابا ناعمة؟ هوذا الذين في اللباس الفاخر والتنعم هم في قصور الملوك. بل ماذا خرجم لتنظروا؟ أنبيـا؟ نعم، أقول لكم: وأفضل من نبي! هذا هو الذي كتب عنه: ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يُهيئ طريقك قدامك! لأني أقول لكم: إنه بين المولودين من النساء ليس نبي أعظم من يوحنا المعمدان، ولكن الأصغر في ملكوت الله أعظم منه. وجميـع الـشعب إذ سمعوا والعشارون برروا الله معتمدين بمعمودية يوحنا. وأما الفريسيون والناموسيون فرفضوا مشورة الله من جهة أنفسهم، غير معتمدين منه”

أنتم الذين تعطشون لمعرفة التعاليم الإلهية افتحوا مرة أخرى مخازن عقولكم واشبعوا أنفسكم بالكلمات المقدسة أو بالحرى لا تستسلموا لأي إحساس بالشبع هنا، لأن النهم في الأمور التي تبني هو صفة جديرة بالاقتناء. دعونا إذا نقترب من كلمات المخلص، ليس بإهمال ولا بدون استعداد لائق، بل بذلك الانتباه وتلك اليقظة التي تناسب أولئك الذين يريدون أن يتعلموا، لأنه بهذا يمكن أن تكون موضوعات التأمل هذه التي يصعب فهمها، تفهم بطريقة صحيحة. لذلك دعونا نسأل من المسيح أن يعطينا ذلك النور الذي ينزل على العقل والقلب لكي إذ نستطيع بطريقة صائبة أن نفهم قوة ما يقال فإننا نعجب مرة أخرى بالمهارة الجميلة لعمله، لأنه سئل بواسطة تلاميذ يوحنا إن كان هو الآتي؟ وحينئذ حينما أجابهم بطريقة مناسبة وأمرهم أن يرجعوا إلى الذي أرسلهم، بدأ يكلم الجموع عن يوحنا قائلاً: ” ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا؟ أقصبة تحركها الريح؟” وما هو التعليم الذي نأخذه من هذا؟ أو ما هي الغاية التي تشير إليها كلمات المخلص؟ إنه أمر جدير بأن نسأل عنه؟ لذلك دعونا نفتش عن معنى ما قيل، دعونا نبحث عنه ككنز، دعونا نفتش عن أسراره، ونثبت ذهننا على عمق السر، دعونا نكون مثل الصيارفة الحريصين، المدققين نمتحن كل شيء”، كما يقول الكتاب (1تس 5: 21).

كان هناك البعض يستكبرون بسبب ممارستهم لما يطلبه الناموس مثل الكتبة والفريسيين وآخرين من حزبهم الذين كانوا يعتبرون بحسب مهنتهم حافظين مدققين للناموس، وكانوا على هذا القياس يطلبون أن تزين رؤوسهم بالكرامات. وهذا هو السبب في أنهم لم يقبلوا الإيمان بالمسيح ولا أعطوا تكريما لطريقة الحياة التي هي بالحق ممدوحة وبلا لوم، تلك الحياة التي تنظمها وصايا الإنجيل. لذلك فكان غرض المسيح مخلص الكل أن يبين لهم أن الكرامات الخاصة بالخدمة الدينية والأخلاقية التي حسب الناموس هي ذات قيمة صغيرة وليست جديرة بالسعي للوصول إليها، أو حتى ربما هي لا شيء بالمرة وغير نافعة للبنيان، بينما النعمة التي بواسطة الإيمان به هي عربون البركات الجديرة بالإعجاب، وهي قادرة أن تزين أولئك الذين يملكونها بمجد لا يقارن.

كثيرون كما قلت كانوا حافظين للناموس ومنتفخين جدا لهذا السبب، بل ويصرحون أنهم قد وصلوا إلى كمال ما هو جدير بالمدح بممارستهم بدقة للبر الذي يتكون من ظلال ورموز. لذلك فلكي يبرهن أن أولئك الذين يؤمنون به هم أفضل وأعلى منهم وأن أمجاد تابعي الناموس هي بالتأكيد قليلة جدا بالمقارنة بنموذج الحياة الإنجيلية، فإنه يتخذ ذاك الذي هو أفضلهم جميعا ولكنه مع ذلك مولود من امرأة، وأنا أعني المعمدان المبارك. وإذ قد أكد أنه نبي، أو بالحري أعلى من درجة الأنبياء وأنه بين أولئك المولودين من النساء ليس هناك من هو أعظم منه في البر، أي البر الذي بالناموس، وهو يعلن أن الذي هو أصغر من مقياسه، أي أقل منه في البر الذي بالناموس ـ هو أعظم منه ـ ليس أعظم من البر الذي بالناموس، بل أعظم في ملكوت الله، أي في الإيمان والأمجاد التي تنتج عن الإيمان، لأن الإيمان يتوج أولئك الذين ينالونه بامجاد تفوق الناموس.

وهذا أنتم تعلمونه وسوف تؤكدون أنتم بأنفسكم، حينما تقابلون كلمات المبارك بولس، لأنه إذ قد أعلن بنفسه أنه خر من اللوم في البر الذي بالناموس، فإنه أضاف بعد ذلك ” ولكن ما كان لي ربحا فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة، بل إني أحسب كل شيء أيضا خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي الذي من أجله خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح. وليس لي بري الذي من الناموس، بل الذي بايمان يسوع المسيح” (في 3: 7 – 9). وهو يعتبر الإسرائيليين مستحقين للوم عظيم، ولذلك يقول ” إذ كانوا يجهلون بر الله”، أي الذي بالمسيح ويطلبون أن يثبتوا بر أنفسهم”، أي الذي بالناموس “فإنهم لم يخضعوا لبر الله” (رو 10: 3). “لأن غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن” (انظر رو 10: 4). وأيضا حينما يتكلم عن هذه الأمور يقول” نحن بالطبيعة يهود ولسنا من الأمم خطاة، إذ نعلم أن الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس، بل بايمان يسوع المسيح، آمنا نحن أيضا بيسوع المسيح لنتبرر فيه” (غل 2: 15، 16). لذلك فالتبرير بالمسيح أي بالإيمان به، يفوق أمجاد البر بالناموس، لهذا السبب فهو يبرز المعمدان أمام الجميع كواحد قد وصل إلى أعلى مكانة في البر بالناموس، وهو مستحق لمديح لا يقارن. ومع ذلك فإنه يحسب كأقل من الذي هو أصغر منه، لأنه يقول “إن الأصغر أعظم منه في ملكوت الله”. ولكن ملكوت الله كما أوضحنا يشير إلى النعمة التي بالإيمان، التي بواسطتها نحسب مستحقين لكل بركة، ونحسب أهلاً لامتلاك المواهب الغنية التي تأتي من فوق من الله، لأن النعمة تُحررنا من كل لوم، وتجعلنا أن نكون أبناء الله، وشركاء الروح القدس وورثة الميراث السماوي. 

وإذ قلنا هذا كمقدمة، كنوع من التمهيد لذلك لكي نشرح ارتباط الأفكار، تعالوا الآن ودعونا نفحص الكلمات نفسها. وكما سبق أن قلت هو يرفع المعمدان الإلهي إلى درجة أعظم ويتوج السابق بكرامات فائقة عن قصد. وذلك لكي ما يتعجبوا بالأكثر بالإيمان، الذي يجعل المؤمنين تكون لهم عظمة تفوق الناس البارزين كالمعمدان. وهو يسأل اليهود بعد ذلك قائلاً ” ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا؟ أقصبة تحركها الريح؟” والآن هو يقارن القصبة التي هي شيء يهتز ذهابا وإيابا بواسطة شدة الريح، يقارنها بالإنسان الذي يعيش في كرامات ولذات عالمية، وفي عظمة سيادة زمنية. لأنه بالنسبة لهؤلاء الأشخاص لا يوجد شيء راسخ أو ثابت أو لا يهتز، بل تتغير الأمور دائما بطريقة غير متوقعة وبصورة لم يكونوا يفكرون فيها مقدما، ” وكل مجد انسان كزهر عشب، العشب يبس وزهره سقط” (1بط 1: 24). ويقول هل تذهبون إذا إلى البرية لتنظروا إنسانا مثل القصبة؟ إن المعمدان ليس هكذا، بل هو من نوع مختلف، وهو ليس من أولئك الذين يحيون في ملذات، أو الذين يرتدون ملابس فاخرة، ويسرون بالكرامة الصبيانية، ونحن لا نرى مثل هؤلاء الأشخاص يسكنون في البرية بل في قصور الملوك. أما لباس المعمدان المبارك فكان من وبر الإبل ومنطقة من جلد على حقويه.

فماذا إذا ذهبتم لتنظروا؟ ربما تقولون نبي، نعم أنا أوافق لأنه قديس ونبي. لا بل هو يفوق كرامة النبي، فهو ليس فقط قد أعلن مسبقا أني سأتي، بل أشار إلى عن قرب قائلاً “هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم” (يو1: 29). وبالإضافة إلى ذلك فإن صوت النبي شهد عنه أنه ” مرسل أمامي ليعد الطريق قدامي” (انظر ملا 3: 1)، وأنا أشهد له أنه لم يقم بين المولودين من هو أعظم منه، ولكن الأصغر وأعني الأصغر في الحياة حسب الناموس، هو في ملكوت الله أعظم منه. كيف وبأي طريقة؟ بأن يوحنا المبارك هو وكثيرين من الذين سبقوهم مولودون من النساء ولكن الذين نالوا الإيمان لا يعودون يدعون مواليد النساء، بل كما يقول الإنجيلي الحكيم هم مولودون من الله لأنه يقول: ” وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أبناء الله، أي المؤمنون باسمه، الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل، بل من الله” (يو 1: 12 ، 13). لأننا قد ولدنا ثانية بالتبني لنكون بنين “ليس من زرع يفنى بل بكلمة الله الحي الباقي إلى الأبد” كما يقول الكتاب (1بط 1: 23)، فأولئك الذين ليسوا من زرع يفنى، بل بالعكس قد ولدوا من الله هم أعظم من أي واحد مولود من امرأة.

فتوجد ناحية أخرى أيضا يتفوقون فيها على أولئك المولودين من النساء، لأن هؤلاء لهم آباء أرضيين، أما نحن فلنا ذلك الذي هو فوق في السماء. لأننا قد نلنا هذا أيضا من المسيح، الذي يدعونا إلى تبني البنين والأخوة معه، لأنه قد قال ” لا تدعوا لكم أبا على الأرض، لأن أباكم واحد الذي في السموات وأنتم جميعا إخوة” (مت 23: 8 ، 9)، وبولس للحكيم جدا يعطينا تأكيدا لهذا إذ يكتب هكذا ” ثم بما أنكم أبناء، أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخا يا أبا الآب” (غل 4: 6). لأنه حينما قام المسيح وأباد الجحيم فحينئذ أعطي روح التبني لأولئك الذين آمنوا به، وأول الكل أعطى للتلاميذ القديسين. لأنه نفخ فيهم وقال ” اقبلوا الروح القدس من غفرتم خطاياه تغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أمسكت ” (يو20: 22). ولأنهم صاروا شركاء الطبيعة الإلهية بسبب أنهم توشحوا بغنى بروح السيادة الضابط الكل، لذلك أعطاهم أيضا قوة إلهية لغفران خطايا البعض وإمساك خطايا آخرين.

ويوضح الإنجيلي الحكيم جدا يوحنا أنه لم يكن هناك روح تبني قبل قيامة المسيح من الأموات وصعوده إلى السماء حيث يقول ” لأن الروح لم يكن قد أعطي بعد لأن يسوع لم يكن قد مجد بعد” (يو 7: 39). وكيف يمكن أن يكون الروح غير مساو في الأزلية للآب والابن؟ فمتى لم يكن هو الذي قبل الكل؟ لأنه مساو في الجوهر للآب والابن. ولكنه يقول ” لأن يسوع لم يكن قد مجد بعد”، أي لم يكن قد قام من الأموات وصعد إلى السموات. لذلك فروح التبني لم يكن موجودا في الناس بعد. ولكن حينما صعد كلمة الله الوحيد إلى السماء أرسل المعزي من فوق بدلاً عنه، والذي هو فينا بواسطته (بواسطة المسيح)، وهذا هو ما علمنا إياه قائلاً هكذا ” إنه خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي، ولكن أن ذهبت سوف أرسله إليكم” (يو 16: 7). لذلك حتى لو كنا أقل من أولئك الذين قد تمموا البر الذي بالناموس، وأنا أعني أقل في بر الحياة، إلا أننا نحن الذين نلنا الإيمان بالمسيح قد تزودنا بامتيازات أعظم، وينبغي أن نضع في أذهاننا أنه رغم أن المعمدان المبارك كان عظيما هكذا في الفضيلة، إلا أنه اعترف بوضوح أنه محتاج للمعمودية المقدسة، لأنه قال في موضع ما متحدثا إلى المسيح مخلصنا جميعا: ” أنا احتاج أن أعتمد منك” (مت 3: 14)، ولكنه لو كان غير محتاج للمعمودية المقدسة ما كان قد طلب أن تمنح له، لو لم يكن فيها أمر أعظم وأفضل من البر الذي بالناموس.

لذلك فالمسيح لا يجادل ضد كرامات القديسين وليس هدفه أن يقلل أو أن يصغر من قيمة أولئك الرجال القديسين الذين قد وصلوا سابقا إلى النصرة، بل كما قلت إنه بالحري يبرهن أن طريقة الحياة الإنجيلية هي أعلى من العبادة الناموسية، وأن يتوج الإيمان بكرامات فائقة، وذلك لكي ما نؤمن به جميعا. لأننا هكذا ندخل بواسطته ومعه إلى ملكوت السموات، والذي به ومعه الله الآب كل تسبيح مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.

عظة (39) قداسة المعمدان وقداسة المسيح

(لو 7: 31- 35) “ثم قال الرب: فبمن أشبه أناس هذا الجيل؟ وماذا يشبهون؟ يشبهون أولادا جالسين في السوق ينادون بعضهم بعضا ويقولون: زمرنا لكم فلم ترقصوا. نحنا لكم فلم تبكوا. لأنه جاء يوحنا المعمدان لا يأكل خبرا ولا يشرب خمرا، فتقولون: به شيطان. جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب، فتقولون: هوذا إنسان أكول وشريب خمر، محب للعشارين والخطاة. والحكمة تبررت من جميع بنيها “.

الذين لهم عقل سليم يفحصون كل شيء، ويرفضون ما هو زائف، لكنهم يقبلون ويمدحون ما هو بلا لوم. وهذا أيضا ما يطلبه منا بولس الحكيم، حيث كتب قائلاً: “كونوا حكماء، امتحنوا كل شيء، تمسكوا بالحسن، امتنعوا عن كل شبه شر” (1تس 5: 21). لذلك وكما قلت ينبغي لنا نحن أيضا أن نفحص بتدقيق، وبعين العقل المميزة كل ما يفعل، ونبحث في طبيعة الأفعال، لكي نوافق على ما هو بلا لوم بينما نرفض ما هو زائف. ولكن إذا لم نميز بين الأشياء فإننا نتعرض لخطورة إصدار حكم رديء على أشياء مستحقة للمدح جدا، وأن نحسب ما هو شرير أنه لائق للإطراء والتصفيق، وعندئذ تنطبق علينا كلمات النبي: “ويل للقائلين للشر خيرا وللخير شرا، الجاعلين الظلام نورا والنور ظلاما، الجاعلين المر حلو والحلو مرا” (إش 5: 20). هكذا كانت صفة الإسرائيليين وخاصة أولئك الذين كانوا رؤساء لهم، أي الكتبة والفريسيين الذين عنهم قال المسيح “بماذا أشبه أناس هذا الجيل؟”.

ربما كان هناك نوع من اللعب بين أولاد اليهود أو شيء من هذا النوع بمجموعة من الشباب كانت تقسم إلى قسمين، وكانوا يلعبون ويخلطون الأمور بعضها ببعض، وكانوا ينتقلون سريعا من حالة إلى أخرى مما هو مفرح إلى ما هو محزن، وكان بعضهم يلعب على آلات الموسيقى بينما البعض الآخر كانوا ينوحون. فالنائحون لم يكونوا يشاركون فرح أولئك الذين يلعبون الموسيقى ويهللون، ولا أيضا أصحاب الآلات الموسيقية كانوا يشتركون في حزن أولئك الذين يبكون، وأخيرا لاموا بعضهم بعضا لعجزهم عن التعاطف مع بعضهم البعض أي على غياب الشعور المشترك لأن فريقا منهم يقول “زمرنا لكم فلم ترقصوا” فيرد عليهم الفريق الآخر ” نحنا لكم فلم تبكوا”. لذلك فالمسيح يعلن أن الجمهور اليهودي وقادتهم كانوا في حالة من الشعور شبيهة بهذه، لأنه يقول ” جاء يوحنا المعمدان لا يأكل خبزا ولا يشرب خمرا فیقولون، به شیطان، جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فيقولون هوذا إنسان أكول وشريب خمر ومحب للعشارين والخطاة”. أيها الفريسي الغبي بأي طريقة إذا يمكن أن تربح إلى الإيمان، وأنت هكذا تلوم كل الأشياء بلا تفريق، ولا تعتبر أي شيء مستحقا للمديح؟ فالمعمدان المبارك كان سابقا للمخلص، مناديا قائلاً ” توبوا لأنه قد اقترب ملكوت الله” (مت 3: 2)، لأنه كان رجلاً يستحق أن ينال الثقة، وهو قادر على الإقناع، حتى أنهم هم أنفسهم شهدوا له أن حياته كانت نبيلة وجديرة بالإعجاب. فهو قد سكن في البراري وكان يرتدي ثيابا فقيرة وخشنة وبالكاد كان يلبي ضرورات جسده بالجراد والعسل البري. وأنتم قد خرجتم لتروه كشخص قديس، وقد وصل إلى كمال كل فضيلة، فهل تجرؤ أيها الفريسي بعد ذلك أن تتكلم رديئا عن فعل هذا الشخص وهو شخص ينبغي بالحرى أن يحسب مستحقا لكل إعجاب؟ هل تقول إن به شيطان وهو الذي كان بالأصوام يميت قانون الخطية الذي في أعضائنا الجسدية المحارب ضد ناموس ذهننا؟ (انظر رو7: 23)، وها ، هناك ما هو أعظم من حياة التعفف؟ لأنه كونه قادرا أن ينتهر بحكمة تلك اللذات التي تقود إلى الشر وأن يعيش حياة زهد وتعفف، فكيف لا يكون هذا عظيما وباهرا؟

إن المعمدان المبارك كان مكرسا كلية في تقواه نحو المسيح، ولم يكن يوجد فيه أقل اعتبار للشهوات الجسدية، أو لأمور هذا العالم، لذلك فهو إذ تخلى تماما عن ارتباكات هذا العالم الباطلة وغير النافعة فإنه عمل في أمر واحد بكل اهتمام وهو أن يتمم بلا لوم الخدمة التي أؤتمن عليها. لأنه قد أمر أن يكرز قائلاً ” أعدوا طريق الرب” (إش40: 3). أخبرني هل أنت تظن أن هذا الإنسان به شيطان، وهو إنسان ليس للشيطان سلطان عليه، وهو ليس أسيرا لأي شهوة شريرة، وهو قد قفز فوق كل شراك حب الجسد الوضيع، وهو قد أمر جموع الشياطين أن تسكت، وقاوم هجماتهم برجولة؟ فإنه في الحقيقة لم يكن ليصل لهذا المجد وتلك الفضيلة إلا بواسطة المسيح، الذي هو ممجد ومرتفع جدا فوق الشيطان، الذي يجرب القديسين ويصر بأسنانه على نجاحهم. ألا تخجل إذا من أن تشتم واحدا قد وصل إلى مثل هذا الصبر العظيم والاحتمال الكبير، وله حول رأسه أكاليل من الفضيلة الرجولية؟ هل تحرك لسانك ضده وتتجاسر بوقاحة أن تفتري عليه، بأن تقول إنه إنسان مجنون، وتافه وليس مالكا لقواه العقلية؟

ثم دعونا نرى، من هو على الناحية الأخرى، وما يبدو كأنه يتبع طريقا مختلفا عن سلوك المعمدان، فالمسيح لم يكن في البرية، بل بالحرى جعل مسكنه في المدينة بصحبة رسله القديسين، هو لم بأكل جرادا وعسلاً بريا، وثيابه لم تكن من وبر الإبل، ولم يكن له منطقة من جلد على حقويه. وطريقة حياته بالحري كانت كالطريقة المعتادة في المدن، ولم يكن فيها خشونة مثل تلك التي كان يمارسها المعمدان القديس. فهل أنت إذا تمدحه على الأقل، وهل توافق على سهولة طريقته، واختلاطه بحرية مع الآخرين، وعدم اهتمامه بالمرة من جهة طعامه؟ لا أظن، فإن ميلك إلى النقد القاسي يمتد حتى إلى المسيح. فأنت تقول أيها الفريسي “هوذا إنسان أكول، وشريب خمر، محب للعشارين والخطاة” ، فهل بسبب أنه تصادف أنك رأيت يسوع يأكل مثل الناس، فهو يبدو لك أنه شريب خمر وأكول؟ كيف يمكنك أن تثبت ذلك لأنه حينما قامت مرة مريم ومرثا باستقباله في بيت عنيا، وكانت واحدة منهما منشغلة بخدمة كثيرة، فإننا نرى المسيح يمنع المبالغة والزيادة، ويدعو إلى ما هو ضروري فقط، لأنه قال ” مرثا مرثا أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة ولكن الحاجة إلى أشياء قليلة، أو إلى واحد” (انظر لو10: 41). وهكذا كان هو دائما وفي كل مكان.

ولكن هل أنت تتهم المسيح بسبب أنه كان يمشي مع العشارين والخطاة؟ وهل هذا هو سبب استيائك؟ ولكن أي ضرر يمكن أن نتخيله أصاب المسيح من ترحيبه أن يكون مع الخطاة؟ فهو لم يكن معرضا بأن يتأثر بخطاياهم لأنه مع كان فوق كل خطية تماما. حتى أنه قال مرة ” رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء” (يو14: 30)، وفي مرة أخرى قال ” من منكم يبكتني على خطية؟” (يو8: 46). لذلك فهو لا يمكن أن يتلوث من أي ناحية بوجوده مع الخطاة.

ولكنك تقول أيها الفريسي، إن ناموس موسى أمر أننا ” لا ينبغي أن نتكلم الأشرار”. دعونا إذا ندرس موضوع الناموس، ودعونا نرى لأي سبب منع الإسرائيليين أن يتحدثوا مع الأشرار، ويختلطوا مع الخادعين. والآن فإن الحقيقة بالتأكيد هي، أن ناموس موسى أمر بهذه الأشياء، ليس لكي تتفاخر بنفسك على الآخرين، وتجعل الوصية سببا للانتفاخ، بل بالحرى بسبب أن ذهنك ضعيف وأنت منجذب إلى الحماقة، وبسبب أن قلبك يجري بإرادته وراء اللذات الشريرة فإن الناموس يحفظك من الرغبة في أن تكون مع أولئك الذين حياتهم تستحق اللوم، لئلا تصير مثلهم في ذهنك وتقتنص بغباوة في فخهم ” لأن المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة” (1كو 15: 23). لذلك فأنت قد استلمت الوصية كحارس لضعفك، فلو أنك كنت قد تأسست في الفضيلة، ولو كان عقلك ثابتا في مخافة الله لما كان الناموس يمنعك من أن تتحدث حديثا نافعاً مع أولئك الذين هم ضعفاء، وذلك لكي ما يصيروا متمثلين بتقواك ويتعلموا أن يتشبهوا بأعمالك، حتى أنهم إذ يسيرون في خطوات غيرتك، يمكن أن يتقدموا إلى ما هو أكثر فضلاً وسموا. لذلك فلا تتخيل تخيلات متكبرة، إذ أنه حتى في وصية موسى أنت متهم بالضعف.

أنت تلوم المسيح لسيره مع الخطاة والعشارين: هل أنت تفعل ذلك لئلا يتأثر بنجاستهم؟ لذلك أخبرني هل أنت تتخيل أنه يشترك أيضا في ضعفك؟ هل أنت جاهل تماما بالأسرار الخاصة به؟ وهي أن الكلمة إذ هو الله صار معنا، أي تجسد لأجلنا، وأن الآب أرسله ” لا ليدين العالم، بل ليخلص به العالم” (يو 3: 17). لأن من يدين، هو الذي يتحاشى صحبة مثل هؤلاء الذين لا زالوا في خطاياهم، أما الذي يريد أن يخلص فإنه يكون معهم ويحثهم ويؤثر عليهم ليتغيروا من مسالكهم المشينة، وأن يختاروا الطريق المؤدي إلى الحياة الأبدية بدلاً من طريق الشر. إنه لم ” يأت ليدعو أبرارا بل خطاة إلى التوبة” (لو 5: 32)، وكما قال هو نفسه ” لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب، بل المرضى “. لذلك فلماذا تلومه على محبته للإنسان هكذا وتنتقده على لطفه الإلهي؟ لماذا توبخه على كونه شفوقا بنا، وشافيا لمرضنا؟

إن كل إنسان يمدح الأطباء، ليس حينما يتحاشون الاختلاط بالمرضى، بل حينما يكونون معهم دائما، وبوسائل فهمهم الخاص يعودون بهم بالتدريج إلى الصحة التامة. وإذا كان يسوع هو طبيب النفوس والأرواح، فلماذا تلومه لتخليصه الخطاة؟ إنه لا يمكن أن يتلوث، حتى لو أكل مع الخطاة، لأن الشمس الساطعة ترسل أشعتها وتدخل إلى كل شيء تحت السماء، ويحدث إذا أن القاذورات تتعرض لتأثيرها، أما الشمس التي ترسل إشعاعها فهي لا تتلوث بالمرة رغم أنها تسطع على مواد كريهة جدا. إن ربنا يسوع المسيح هو شمس البر، ولا يستطيع إنسان شرير مهما كان أن يلوثه حتى لو كان قريبا بجواره ويأكل معه.

هذا ما نقوله فيما يخص المسيح مخلصنا جميعا. ولكن مع ذلك ربما يعترض البعض ويقول أليست أيضا كرازة الإنجيل الجديدة والمخلصة توصينا بوضوح أن نبتعد عن الاتصال بالناس غير الطاهرين؟ لأن بولس الحكيم جدا كتب أيضا للبعض ” كتبت اليكم في الرسالة أن لا تخالطوا الزناة، إن كان أحد مدعوا أخا زانيا أو سكيرا أو خاطفًا أو عابد وثن فلا تؤاكلوا مثل هذا” (1كو 5: 9 ، 11). لذلك فقد كان مناسبا للمسيح أن يكون مثالاً لنا في هذا السلوك. لقد فقدت مقياسك الذي تقيس به أيها الأخ المحبوب! وأنت ترغب أن تنافس كرامة سيدك العالية، وأنت تمسك بما يفوق طبيعتك جدا، فلاحظ ضعف ذهنك، فإن المسيح إله أما أنت فإنسان تتسلط عليك اللذات الجسدية وذهنك ينخدع بسهولة للضلال، ويصير فريسة سهلة للخطايا. ومع ذلك فإذا شعرت بثقة في قدرتك الشجاعة أن تسير في سلوك بلا لوم، وأيضا أن تعظ الآخرين، فمع ذلك ليس هناك ما يستطيع أن يمنعك من أن تشتهي أن تكون مع الأشرار ومحبي الخطية، فإن نصائح الرجال الروحانيين كثيرا ما أفادت أولئك الذين في الخطية. وبالعكس فإن كنت أنت نفسك لا تخلص بسهولة حتى حينما تحفظ نفسك بعيدا من رفقة الشر، فإنك يجب أن تكون حريصا في هذه الناحية. تذكر كاتب كتاب الأمثال الذي يقول ” المساير الحكماء يصير حكيما، ورفيق الجهال يضر” (أم 13: 20). وأيضا يقول داود المبارك ” مع الرجل الكامل تكون كاملا، ومع الطاهر تكون طاهرا ومع الأعوج تكون ملتويا” (مز 18: 25 ، 26). 

” فلكي تنجو مثل الظبي من الشباك” (انظر أم 6: 5 س)، وتهرب من الناس الأشرار، فابتعد عن أولئك الذين لا يستطيعون أن يمتنعوا عن النجاسة، وتوسل إلى المسيح أن يطهر أي شيء فاسد فيك، ويعينك في كل ضعفاتك البشرية لأن الكلمة الذي جاء من الله هو إله، رغم أنه صار جسدا، أي صار إنسانا، الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمین.

عظة (40) لقاء المرأة الخاطئة بالمسيح في بيت الفريسي

(لو 7: 36- 50) ” وسأله واحد من الفريسيين أن يأكل معه، فدخل بيت الفريسي وأتكـا. وإذا امرأة في المدينة كانت خاطئة، إذ علمت أنه متكئ في بيت الفريسي، جاءت بقارورة طيب ووقفت عند قدميه من ورائه باكية، وابتدأت تبل قدميه بالدموع، وكانت تمسحهما بشعر رأسها، وتقبل قدميه وتدهنهما بالطيب. فلما رأى الفريسي الذي دعاه ذلك، تكلم في نفسه قائلا: لو كان هذا نبيا، لعلم من هذه الامرأة التي تلمسه وما هي! إنها خاطئة. فأجـاب يسوع وقال له: ياسمعان، عندي شيء أقوله لك. فقال: قل، يامعلم. كان لمداين مديونان. على الواحد خمسة دينار وعلى الآخر خمسون. وإذ لم يكن لهما ما يوفيـان سـامحهما جميعا. فقل: أيهما يكون أكثر حبا له؟ فأجاب سمعان وقال: أظن الذي سـامـحه بـالأكثر. فقال له: بالصواب حكمت. ثم التفت إلى المرأة وقال لسمعان: أتنظر هذه المـرأة؟ إنـي دخلت بيتك، وماء لأجل رجلي لم تعط. وأما هي فقد غسلت رجلي بالدموع ومسحتهما بشعر رأسها. قبلة لم تقبلني، وأما هي فمنذ دخلت لم تكف عن تقبيل رجلي. بزيت لم تدهن رأسي، وأما هي فقد دهنت بالطيب رجلي. من أجل ذلك أقول لك: قد غفرت خطاياهـا الكثيرة، لأنها أحبت كثيرا. والذي يغفر له قليل يحب قليلاً. ثم قال لها: مغـورة لـك خطاياك. فابتدأ المتكون معه يقولون في أنفسهم: من هذا الذي يغفر خطايا أيضا؟ . فقـال للمرأة: إيمانك قد خلصك، اذهبي بسلام “.

“يا جميع الأمم صفقوا بأيديكم، اهتفوا لله بصوت الابتهاج والشكر” (مز 47: 1 س).

وما هو سبب هذا الابتهاج؟ إنه بسبب أن المخلص هنا أنشأ لنا طريقا للخلاص لم يسر فيه الذين في القديم. لأن الناموس الذي وضعه موسى الحكيم كان لتوبيخ الخطيـة لإدانة التعديات، ولكنه لم يبرر مطلقا أي أحد. لأن بولس الحكيم يكتب ويقول ” مـن خالف ناموس موسى فعلى فم شاهدين أو ثلاث شهود يموت بدون رأفة” (عب 10: 28) أما ربنا يسوع المسيح فإذ قد أبطل لعنة الناموس وجعل الوصية التي تدين بلا قوة وغير فعالة، “صار رئيس كهنتنا الرحيم” بحسب كلمات بولس المبارك (عـب 2: 17)، لأنه يبرر الخطاة بالإيمان، ويطلق المأسورين بالخطية أحـرارا. وهـذا أعلنـه لنـا بواسطة أحد الأنبياء القديسين قائلاً ” في ذلك الوقت يقول الرب، سيبحثون عن خطية إسرائيل فلن تكون هناك، وعن خطية يهوذا فلا يجدونها، لأني سأكون رحيما بأولئك الذين بقوا في الأرض يقول الرب” (بر۱: ۲۰س)، ولكن ها إن تحقيق الوعد حدث لنا في وقت تجسده، كما يتأكد لنا من معاني الأناجيل المقدسة.

فقد دعي المسيح من أحد الفريسيين، ولأن المسيح شفوق ومحب للبشر ” ويريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون” (1تي 2: 4)، وافق ومنحه ما طلب منه، وإذ دخل اتكأ على المائدة، وفي الحال دخلت امرأة مدنسة بالخطايا مثل واحد لا يفيق من الخمر والسكر، وإذ شعرت بذنوبها وتعدياتها قدمت توسلات للمسيح القادر أن يطهرها ويحررها من كل خطية وينقذها من خطاياها السابقة ” لأنه لا يذكر الخطايا والتعديات” (عب 8: 12)، وقد فعلت هذا وهي تغسل قدميه بدموعها وتدهنهما بالطيب وتمسحهما بشعر رأسها. مثل هذه المرأة التي كانت فاسقة وزانية وهي خطية يصعب إزالتها، لم تفقد طريق الخلاص، لأنها هربت لاجئة إلى الذي يعرف كيف يخلص ويستطيع أن يرفع من أعماق النجاسة.

فهي إذا لم تفشل في غرضها، ولكن الإنجيلي المبارك يخبرنا أن الفريسي الأحمق قد استاء وقال في نفسه: “لو كان هذا نبيا لعلم من هذه المرأة التي تلمسه وما هي، إنها خاطئة”. لذلك فالفريسي كان منتفخا وبلا فهم بالمرة، لأنه كان من واجبه بالأحرى أن ينظم حياته الخاصة ويزينها بكل الأعمال الفاضلة، وليس أن يحكم على الضعفاء ويدين الآخرين. ولكننا نؤكد عنه أنه إذ قد تربى على عوائد الناموس، فقد أعطى لأوامره سلطانا واسعا وأراد أن يخضع المشرع (المسيح) لوصايا موسى، لأن الناموس أوصى أن المقدس يكون بعيدا عن النجس، والله وجه اللوم لأولئك الذين كانوا رؤساء مجامع اليهود لعدم رغبتهم في تتميم ذلك، لأنه تكلم هكذا بواسطة أحد الأنبياء القديسين قائلاً: “لم يميزوا بين المقدس والنجس” (حز 22: 26). ولكن المسيح جاء من أجلنا، ليس لكي يخضع حالتنا للعنات التي بواسطة الناموس، بل ليفدي أولئك الذين تحت الخطية برحمة أعلى من الناموس، لأن الناموس قد تأسس ” بسبب التعديات” كما يعلن الكتاب (غل 3: 19)، ” لكي يستد كل فم ويصير كل العالم تحت قصاص من الله، لأنه بأعمال الناموس كل ذي جسد لا يتبرر أمامه” (رو 3: 19 ، 20)، لأنه لا يوجد هناك متقدم في الفضيلة الروحانية، حتى يكون قادرا أن يتمم كل ما أوصى به، ويكون بلا لوم، ولكن النعمة التي بالمسيح تبرر لأنها إذ تبطل حكم الناموس فهي تحررنا بواسطة الإيمان.

لذلك فإن ذلك الفريسي المتكبر الأحمق لم يحسب يسوع قد وصل حتى إلى درجة نبي، ولكن المسيح جعل دموع المرأة فرصة لكي تعلمه بو بوضوح عن السر، لأنه علم الفريسي وكل الذين كانوا مجتمعين هناك أن الكلمة إذ هو الله، جاء إلى العالم في صورتنا ” ليس ليدين العالم، بل ليخلص به العالم” (يو 3: 17). لقد جاء لكي يغفر للمديونين كثيرا وقليلاً، ولكي يظهر رحمة على الصغير والكبير، لكي لا يكون هناك أي واحد مهما كان لا يشترك في صلاحه. وكعربون ومثال واضح لنعمته، خلص تلك المرأة غير العفيفة، غير الطاهرة من خطاياها الكثيرة: ” مغفورة لك خطاياك”. إن مثل هذا الإعلان لائق بالله حقا، وهي كلمة تبين السلطان المطلق، لأنه حيث إن الناموس أدان أولئك الذين كانوا في الخطية، فمن هو الذي يستطيع أن يعلن أشياء فوق الناموس إلا ذلك الذي وضع الناموس. لذلك فإنه في الحال أطلق المرأة حرة، ثم أنه لفت انتباه ذلك الفريسي، وأولئك الذين كانوا يأكلوا معه إلى أمور عالية جدا، لأنهم تعلموا أن الكلمة هو الله، ولم يكن كواحد من الأنبياء، بل بالحري يفوق مستوى البشرية، وذلك رغم أنه صار إنسانا. وربما يقول واحد لذلك الذي دعاه: أنت أيها الفريسي متدرب في الكتب المقدسة، وأنت تعرف طبعا الأوامر التي موسی أعطاها الحكيم، وأنت قد فحصت كلمات الأنبياء القديسين، فمن هو إذا ذاك الذي يسير في طريق عكس الوصايا المقدسة ويحرر من الخطية؟ من هو هذا الذي أعلن أن الذين كسروا الوصايا قد صاروا أحرارا؟ لذلك اعلم بواسطة الحقائق نفسها أنه أعلى من الأنبياء والناموس، تذكر أن واحدا من الأنبياء القديسين بشر بهذه الأشياء منذ القديم عنه وقال: ” سوف يأتون بالرعب إلى الرب إلهنا ويخافون منك. من هو إله مثلك غافر الأثم وصافح عن الذنب لبقية ميراثه؟ لا يحفظ إلى الأبد غضبه، فإنه يسر بالرأفة” (میخا 7: 17 ، 18).

لذلك فأولئك الذين كانوا يأكلون مع الفريسي اندهشوا وتعجبوا لرؤيتهم المسيح مخلص الكل يملك مثل هذا السمو الإلهي، ويستعمل تعبيرات تعلو على حق الإنسان، لأنهم قالوا: ” من هو الذي يغفر خطايا أيضا؟”. هل تريدني أن أخبرك من هو هذا؟ إنه هو الذي في حضن الله الآب، والمولود منه بالطبيعة، والذي به كان كل شيء، هو الذي يملك سلطانا مطلقا وتسجد له كل خليقة في السماء وعلى الأرض، وهو قد أخضع نفسه لحالتنا، وصار رئيس كهنتنا، لكي ما يقدمنا إلى الله طاهرين وأنقياء إذ قد أبطل رائحة الخطية النتنة، وجعل نفسه فينا رائحة طيبة. لأنه كما يكتب بولس الحكيم جدا ” نحن رائحة المسيح الزكية الله” (2كو 2: 15). هذا هو الذي تكلم بصوت النبي حزقيال قائلاً ” وأنا أكون لكم إلها وأخلصكم من كل نجاساتكم” (حز 36: 28، 29). لذلك انظروا أن ما تحقق يتفق مع ما سبق أن وعد به بواسطة الأنبياء القديسين. اعترفوا أنه الله وهو اللطيف جدا والمحب للبشر، أمسكوا بطريق الخلاص، اهربوا من الناموس الذي يقتل، واقبلوا الإيمان الذي هو فوق الناموس، لأنه مكتوب “الحرف يقتل” أي الناموس، ولكن الروح يحيي” أي التطهير الروحي الذي في المسيح. الشيطان قد ربط سكان الأرض بقيود الخطية، والمسيح قد فك هذه الحبال. إنه جعلنا أحرارا، وأبطل طغيان الخطية، وطرد المشتكي الذي يشتكي على ضعفاتنا لكي يتم الكتاب ” أن كل أثم يسد فاه” (مز 107: 42)، لأن الله هو الذي يبرر ” فمن هو الذي یدین؟” (رو 8: 33).

وهذا صلي من أجله المرنم الإلهي لكي يتحقق، حينما خاطب المسيح مخلص الكل هكذا “لتبد الخطاة من الأرض والأشرار لا يكونون فيما بعد ” (مز 104: 35). فإنه حقا لا ينبغي أن يقول عن واحد لابس الروح إنه يلعن من هم خطاة وضعفاء، فإنه غير لائق بالقديسين أن يلعنوا أي أحد بل بالحرى هو يطلب هذا من الله. لأنه قبل مجيء المخلص كنا كلنا في الخطية، ولم يكن هناك من يعرف أنه هو الله بالحق وبالطبيعة، “لم يكن أحد يعمل صلاحا ليس ولا واحد، بل الجميع زاغوا وفسدوا معا” (رو3: 12)،

ولكن بسبب أن الابن الوحيد أخضع نفسه للإخلاء وتجسد وصار إنسانا، فقد تلاشى

الخطاة. لم يعد هناك خطاة لأن سكان الأرض قد تبرروا بالإيمان، وقد غسلوا أدناس خطيتهم بالمعمودية المقدسة، وقد صاروا شركاء الروح القدس، وخرجوا من تحت يد العدو، وبعد أن كانوا تحت سيطرة الشياطين صاروا يسكنون تحت سلطان المسيح. لذلك فإن عطايا المسيح ترفع الناس إلى رجاء طال انتظاره وإلى فرح عظيم جدا، فالمرأة التي كانت مذنبة بنجاسات كثيرة وتستحق اللوم بسبب أعمال مشينة جدا قد تبررت، لكي يكون لنا نحن أيضا ثقة أن المسيح سيرحمنا نحن أيضا بالتأكيد، حينما يرانا مسرعين إليه وساعين أن نهرب من شراك الشر. دعونا نقف أمامه، دعونا نسكب دموع التوبة، هيا بنا ندهنه بالطيب، لأن دموع الذي يتوب هي رائحة طيبة الله. اذكروا الذي قال “اصحوا أيها السكاري، وابكوا وولولوا يا جميع شاربي الخمر ” (يؤ 1: 5). لأن الشيطان يسكر القلب، ويثير العقل باللذات الشريرة، ويحدر الناس إلى نجاسات الشهوة. ولكن ما دام هناك وقت فلنستيقظ، وكما يقول بولس الحكيم جدا: “لنسلك لا بالبطر والسكر، لا بالمضاجع والعهر، بل بالحري لنعمل ما هو صالح، لأننا لسنا من ليل ولا من ظلمة، أبناء نور وأبناء نهار” (رو13: 13؛ 1تس 5: 5). ” لذلك فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور” (رو 13: 12). لا تنزعج حينما تفكر في عظم خطاياك السابقة، بل بالحرى إعلم أن نعمة الله التي تبرر الخاطئ وتفك الشرير، هي أعظم (من خطاياك).

إذا فالإيمان بالمسيح هو عربون لنا لهذه البركات العظيمة، لأنه هو الطريق الذي يقود للحياة ليصل بنا إلى المنازل التي فوق، وهو الذي يرفعنا إلى ميراث القديسين، والذي يجعلنا أعضاء ملكوت المسيح، الذي به ومعه الله الآب كل تسبيح وسلطان مـع الروح القدس إلى دهر الدهور.

زر الذهاب إلى الأعلى