تفسير صموئيل الثاني ٣ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثالث

أبنير ينضم إلى داود

إذ ملك داود على بيت يهوذا بقي خمس سنوات ونصفًا في ملكه لا يتحرك قط لإخضاع بقية الأسباط، إنما غالبًا ما كرَّس حياته لحياة العبادة والتقوى مع تدبير أمور هذه المملكة الصغيرة. وحينما تحرك أبنير ليقيم ايشبوشث من بيت شاول ملكًا على بقية الأسباط بقي داود أمينًا في وعده مع شاول ويوناثان فلم يهاجم ايشبوشث بالرغم من ضعف شخصيته وقدراته. أخذ ايشبوشث موقف الهجوم يثيره في ذلك أبنير رئيس جيشه الذي كان يحرك الملك كيفما يشاء وداود في هدوء لم يتحرك. وحينما اضطر للدفاع عن نفسه أرسل يوآب على مضض لا للهجوم وإنما للدفاع. لم يبق الحال طويلاً فبعد سنتين تقريبًا أو أقل قليلاً انقلب أبنير على ايشبوشث وأقام عهدًا مع داود ليسلمه كل بقية الأسباط، وداود في موضعه يمارس الصمت متأملاً عمل الله الفائق.

١. حرب بين بيت شاول وبين داود             [١-٦].

٢. أبنير يقاوم ايشبوشث                       [٧-١١].

٣. إقامة عهد بين أبنير وداود                  [١٢-٢١].

٤. يوآب يغدر بأبنير                           [٢٢-٣٠].

٥. داود يحزن على أبنير                       [٣١-٣٩].

١. حرب بين بيت شاول وبين داود:

إذ ملّك أبنير نسيب شاول ايشبوشث على إسرائيل (ما عدا سبط يهوذا) بقى داود صامتًا ينتظر يد الله ومواعيده الأمينة والصادقة، فإنه لم يسع نحو إخضاع الأسباط تحت حكمه ولا مقاومة الملك الجديد. بدأ ايشبوشث حربه بتحريض وقيادة أبنير الذي كان يصر على أن يبقى المُلك في يد شاول بالرغم من إدراكه إن الله حلف لداود أن يهبه المُلك [١٠-١١].

كانت الحرب طويلة بين بيت شاول وبيت داود المصرّ على عدم مقاومة الملك أو الإساءة إلى بيت شاول. خلال هذه الحرب التي استمرت حوالي عامين تعلم داود الصبر وانتظار تحقيق مواعيد الله بإيمان وثقة، فكان يتشدد ويتقوى بالرب بينما يضعف عدوه وينهار. قيل: “وكانت الحرب طويلة بين بيت شاول وبيت داود، وكان داود يذهب يتقوى وبيت شاول يذهب يضعف” [١]. خلال هذه الفترة كان الله يعمل وسط شعبه ليجتذبهم تدريجيًا نحو داود لا خلال القهر والإلزام بل خلال حياته المقدسة الهادئة.

ما أحوج أولاد الله إلى الدخول في المتاعب لكي يتجلى الرب فيهم، ويعلن ذاته خلال غلبتهم ونصرتهم الداخلية. مع كل ضيقة تتنقى أعماقنا، وينكشف نور الرب فينا، فنكسب الكثيرين لحساب ملكوته المفرح. يقول القديس بطرس الرسول: “إن عُيّرتم باسم المسيح فطوبى لكم، لأن روح المجد والله يحل عليكم” (١ بط ٤: ١٤). وكأنه وسط الآلام نتمتع بروح المجد ويُعلن الله الحالّ فينا. يقول القديس كبريانوس: [أراد الرب أن نفرح ونمتلئ بهجة في الضيقات (لو ٦: ٢٢-٢٣)، لأنه حيث توجد اضطهادات تُعطى أكاليل الإيمان ويتزكى جنود المسيح وتنفتح السموات[17]].

كثيرًا ما نشتهي أن نملك سريعًا لكن الله يُريدنا أن نجتاز طريق الألم والضيق لكي ننعم بمجد الرب داخلنا خلال شركتنا معه في آلامه… إننا نتعجل الأمور لكن الله يعرف كيف يقودنا بحكمته العلوية نحو المجد خلال الألم.

نعود إلى داود الذي بقى في حبرون يملك على يهوذا وحده غير منشغل بالسلطة والعظمة بل بالحياة المقدسة.

أنجب ستة أولاد:

أمنون البكر، الذي ارتكب الشر مع أخته (٢ صم ١٣) كثمرة لما فعله داود مع امرأة أوريا الحثي (٢ صم ١١، ١٢)، وقد مات في حياة داود.

كيلاب من أبيجابل، اسمه الأصلي دانيئيل (١ أي ٣: ١)، غالبا مات في أواخر حياة داود.

أبشالوم: انشق على والده فيما بعد، وكان سبب مرارة له؛ قُتل في حياة والده.

أدونيا: طلب الخلافة بعد موت أبيه بكونه أكبر أبناء الملك الأحياء (١ مل 1: 5).

يثرعام…

٢. أبنير يقاوم ايشبوشث:

كان داود يملك على القليل (سبط واحد) وايشبوشث يملك على الكثير (بقية الأسباط)، لكن داود حمل مجده في داخله خلال إيمانه بالله العامل فيه، أما ايشبوشث فارتكزت قوته على أبنير نسيبه ورئيس جيشه، لذا كان الأول يزداد مجدًا من يوم إلى يوم والثاني يزداد انهيارًا من وقت إلى آخر. كان الأول متكئًا على الله يسلك بمشورة إلهية والثاني يتكئ على ذراع بشر بمشورةٍ إنسانية.

جاهد أبنير سنوات طويلة في أيام شاول لكنه لم يقدر أن ينقذ حياة شاول أو حياة أولاده، وبقى خمس سنوات ونصفًا يحاول ضم المدن التي استولى عليها الأعداء ليعد الطريق لايشبوشث، وها هو ايشبوشث يملك على إسرائيل… لكن سرعان ما ينقلب أبنير عليه!

دخل أبنير على سُرِّية شاول فعاتبه ايشبوشث الضعيف الشخصية بعنف، ليس دفاعًا عن الحياة المقدسة وإنما لأنه حسب أنه بذلك يُريد أن ينسب المُلك إلى نفسه. لم يقبل أبنير هذا العتاب لأنه هو الذي أقامه ملكًا. في عنف وبخ الملك قائلاً له: “ألعلي رأس كلب ليهوذا؟! اليوم أصنع معروفًا مع بيت شاول أبيك مع إخوته ومع أصحابه ولم أسلمك ليد داود وتطالبني بإثم امرأة؟!. قال هذا ربما لأن ايشبوشث اتهمه بالخيانة كأنه متفق مع يهوذا سرًا على هذا التصرف. ربما رأى أبنير داود يتقوى ويتعظم في أعين الكثيرين بينما ايشبوشث يضعف، فاستغل الفرصة ليترك الملك وينحاز لداود. لقد ادرك أنه كان يقاوم مشيئة الله بمحاربته داود، إذ قال لايشبوشث: “كما حلف الرب لداود كذلك أصنع له. لنقل المملكة من بيت شاول وإقامة كرسي داود على إسرائيل وعلى يهوذا من دان إلى بئر سبع” (أي من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب). لم يقدر ايشبوشث أن يجيبه لأنه كان ضعيف الشخصية أمامه وأمام نفسه كما أمام الشعب.

كان أبنير معتدًا بذاته فقد أعاد الكثير من البلدان إلى إسرائيل في وقت خلا فيه عرش إسرائيل من ملك اللهم إلا سبط يهوذا الذي ملك عليه داود؛ أقام ايشبوشث ملكًا وأيضًا حطمه، والآن في حديثه يظن أنه قادر أن يصنع هذا مع داود أي يقيمه ملكًا وبالتالي يقدر أن يعزله… لكنه لم يدرك أنه قبلما يتحقق مسح داود ملكًا على كل الأسباط يموت أبنير. إنه يمثل الذراع البشري المتشامخ الذي يظن أنه قادر أن يقيم ملوكًا ويعزلهم، ولم يدرك أنه نسمة ضعيفة تُطلب في وقت لا يدركه!

لعل داود الملك نال خلال علاقة ايشبوشث بأبنير، خبرة عملية واقعية تسنده كل أيام ملكه عبَّر عنها في مزاميره بقوله: “لا تتكلوا على الرؤساء، ولا على ابن آدم حيث لا خلاص عنده، تخرج روحه فيعود إلى ترابه… طوبى لمن إله يعقوب معينه ورجاؤه على الرب إلهه” (مز ١٤٦: ٣-٥). “الاحتماء بالرب خير من التوكل على الرؤساء” (مز ١١٨: ٨). يقول القديس جيروم: [يتكل كثيرون على رئيس (عظيم). اليوم هو موجود، غدًا قد لا يكون موجودًا. في النهار يستعرض جيشًا أمامه، في الليل يرقد في قبره… لنا معين واحد قادر أن يخلص[18]].

٣. إقامة عهد بين أبنير وداود:

لقد صمت ايشبوشث أمام تهديدات أبنير ولم ينطق بكلمة لأنه نال المُلك من يده لا من يد الله، معتمدًا على ذراع بشر، أما أبنير فلم يكن محتاجًا إلى وقت للتفكير في الأمر، إذ يبدو أن فكرة التخلي عن ايشبوشث قد سيطرت عليه تمامًا. لهذا “أرسل أبنير من فوره رسلاً إلى داود قائلاً: لمن هي الأرض؟! يقولون اقطع عهدك معي وهوذا يدي معك لرد جميع إسرائيل إليك[١٢]. هكذا يتعهد أبنير – خلال رسله – أن يرد جميع الأسباط إلى داود عن أن يقبله في خدمته ويعفو عن كل ما فعله من عصيان.

قبل داود الملك هذا العرض مشترطًا لإقامة العهد أن تُرد إليه زوجته الأولى، ميكال ابنة شاول التي اعطاها والدها لفلطئيل بن لايش (١ صم ٢٥: ٤٤).

لماذا وضع داود هذا الشرط؟

يرى البعض أن داود طلبها ليس حبًا فيها وإنما لأسباب سياسية، وهو إبراز أنه أولاً وقبل كل شيء نسيب شاول الملك فينال أمام الأسباط نوعًا من الشرعية في تولي المُلك. رأى آخرون في هذا التصرف ردَّا لكرامة داود الذي أُغتصبت زوجته وسُلِّمت لآخر.

ربما كان هذان السببان في ذهن داود الملك لكنني أظن أنهما ليسا سببين رئيسيين، إذ وجدت أسباب أخرى جوهرية في ذهن هذا الطوباوي.

لقد أراد أولاً أن يؤكد لا لأبنير ولا لايشبوشث بل لكل الأسباط أنه ليس متلهفًا على تولي العرش كتمتع بالسلطة والكرامة الزمنية. فإنه كان يستطيع أن يقبل العرض وبعد استلامه المُلك يطلب ميكال ولا يقف أحد أمامه، فيُحسب عنيفًا ومستغلاً لسلطته. إنما أراد داود أن يُبرز أنه أمين لزوجته ميكال التي أحبها، هذه الأمانة في نظره أولى من تسلمه المُلك. إن لم يكن أمينًا مع زوجته فكيف يرعى هذا الشعب كله.

لقد أحبته ميكال وأنقذت حياته من يد أبيها (١ صم ١9: ١1 الخ)، وها هو يعلن حبه لها كزوجة ولو على حساب استلام المملكة.

القائد الناجح هو ذاك الذي يهتم بحياته الداخلية وأعماقه المخفية كما ببيته وأسرته فيكون أمينًا في حبه لمن هم تحت قيادته أو رعايته. يقول القديس بولس الرسول: “إن كان أحد لا يعرف أن يدبر بيته فكيف يعتني بكنيسة الله؟!” (١ تي ٣: ٥).

من مارس الحب في بيته ومع خاصته وأصدقائه يعرف مفهوم الرعاية خلال خبرة الحب، فيقول مع القديس يوحنا الذهبي الفم: [إني أب مملوء حنوًا[19]]، [ليس شيء أحب إليّ أكثر منكم[20]].

هكذا نُحيي في داود النبي هذه الروح العميقة التي تكشف عن قدسية حياته الداخلية وتقديره لزوجته وعدم تلهفه على نوال كرامة زمنية.

طلب أبنير من ايشبوشث أن يرد لداود ميكال زوجته بكونه الملك وأيضًا أخاها؛ ربما كان ذلك بعلم أبنير وتدبيره. لم يقدر ايشبوشث أن يقاوم بل أخذها من عند رجلها وأرسلها، وكان رجلها يسير معها ويبكي وراءها إلى بحوريم.

“بحوريم” تعني “شباب”[21]، مكانها الحالي رأس التميم، شمال شرق جبل الزيتون[22]، على الطريق من أورشليم إلى الأردن (١٦: ٥)، عندها سبَّ شمعي داود أثناء هروبه من وجه أبشالوم، وفيها اختبأ يوناثان وأخيمعص (١7: ١8).

٤. يوآب يغدر بأبنير:

كنا نتوقع من داود النبي والملك أن يتحرك فرحًا ليستغل الفرصة ليجمع الأسباط تحت سلطته، لكن ما حدث أنه وقف في حب وثقة بالله يتأمل عمل الله معه، فكان المتحرك هو أبنير، إذ بادر بالوفاء بوعده، متحدثًا مع شيوخ إسرائيل عن إقامة داود ملكًا كطلبهم السابق وتحقيقًا لمشيئة الله. تحدث أيضًا في مسامع بنيامين بلا خوف؛ سمعوا له بكونه واحدًا منهم وأكثرهم قوة وشجاعة وإخلاصًا لشاول، إذ حسبوه أنه قد يئس من ايشبوشث.

يبدو من حديث أبنير مع الشيوخ أن الأسباط سبق أن طلبوا داود ملكًا [١٧]، لكن أبنير نفسه قاومهم ليثبت كرسي شاول حتى يئس أخيرًا من ايشبوشث.

أخذ أبنير عشرين رجلاً من شيوخ الأسباط، وانطلقوا إلى داود الذي أقام لهم وليمة علامة على الاتحاد وإقامة عهد معهم.

تأثر أبنير بلقاء داود مع العشرين شيخًا لذا طلب من داود أن يسمح له بالذهاب إلى الأسباط لتدبير الأمور الخاصة بتجليسه رسميًا ملكًا (١ أي ١١: ١-٣).

عاد يوآب مع رجاله من الحرب وسمع بما تم بين داود وأبنير فثارت ثائرته، ربما لأنه كان يخشى أن يحتل أبنير مركزه. لقد انتهر داود الملك متهمًا أبنير أنه جاسوس جاء ليخدع الملك حتى يخرج ويثير الأسباط لمحاربته، أما داود فصمت ليس خوفًا من يوآب كما صمت ايشبوشث أمام أبنير، وإنما استخفافًا بفكر يوآب، وتصرفاته المتهورة في مواقف كثيرة.

أرسل يوآب إلى أبنير يريده متظاهرًا أنه يود (هو أو الملك) مباحثه في بعض الأمور، ولم يكن داود يعلم بما فعله يوآب [٢٦]. عاد أبنير من بئر السيرة إلى حبرون؛ يرى يوسيفوس المؤرخ أن المسافة بينهما تبلغ حوالي ميلين ونصف.

تظاهر يوآب أنه يود الحديث مع أبنير سرًا، وإذ مال إليه اغتاله انتقامًا لأخيه عسائيل، ولأنه خشي أن يحتل مركزه كرئيس جيش داود.

لم يكن لائقًا برجل حرب كيوآب أن يقتل إنسانًا ائتمنه على نفسه وجاءه يتفاوض معه، إنما كان يجب أن يصارحه ويبارزه إن أراد… فقد أوصى موسى الشعب. “ملعون من يقتل قريبه في الخفاء” (تث ٢٧: ٢٤).

٥. داود يحزن على أبنير:

كم كان داود شهمًا ونبيلاً عندما أعلن رسميًا وشخصيًا براءته من قتل أبنير ورفضه هذا الغدر من جانب يوآب، معلنًا للجميع أن ما صنعه يوآب لا يليق برجل إيمان ولا برجل حرب وأن تأديب الرب سيحل به [٢٩].

أعلن داود رأيه رسميًا بسيرة وراء نعش أبنير وطلبه من الشعب أن يمزقوا ثيابهم ويتنطقوا بالمسوح ويلطموا أمام جثمان أبنير، كما أعلن عن براءته من قتل أبنير بسلوكه الشخصي فقد بكى عليه وصام النهار كله. لقد تأثر به الشعب جدًا وبكوا معه. نسى داود أن أبنير عدوه الذي كان يثير الحرب بينه وبين ايشبوشث وتذكر أنه قائد عظيم كان يمكن الانتفاع منه في محاربة الوثنيين.

في مرثاته قال: “هل كموت أحمق يموت أبنير؟! يداك لم تكونا مربوطتين ورجلاك لم توضعا في سلاسل نحاس. كالسقوط أمام بني الإثم سقطت” [٣٣-٣٤]. كأنه يسأل: هل مات أبنير كأحمق إذ ائتمن نفسه لدى الغادر يوآب؟ إنه لم يمت في حرب كضعيف إذ كان قادرًا على القتال، ولم تكن يداه مربوطتين ولا رجلاه مقيدتين، لكنه بالخيانة سقط أمام بني الإثم: يوآب وأبيشاي. لم يمت أيضًا كأحمق في خيانة…

لم يعزل داود يوآب من عمله ربما لأنه لم يجد مثله كرجل حرب وربما لأنه رأى أن ما فعله يوآب كان يهدف إلى الدفاع عن مملكة داود حاسبًا أبنير جاسوسًا ومخادعًا.

 

زر الذهاب إلى الأعلى