تفسير سفر دانيال ١٠ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح العاشر
رؤية مجد الله
تقدم الأصحاحات (10-12) الرؤيا الرابعة والأخيرة لدانيال النبي.
ص 10: افتتاحية للرؤيا، تصف ظهور ملاك أو ربما كلمة الله نفسه لدانيال ودخوله في حوار معه.
ص 11: الرؤيا ذاتها، تقدم نبوات خاصة بالعلاقة بين بطالسة مصر والسلوقيِّين بسوريا، وتنتهي بموت أنطيوخس.
ص 12: خاتمة الرؤيا، تحدثنا عن الضيقة العظيمة ونهاية الأزمنة.
يقدم لنا دانيال النبي هذا الأصحاح كمقدمة للأصحاحين التاليين، فيه يعلن اهتمام السمائيِّين بالعالم البشري (أي 1: 7؛ 2: 1؛ زك 3: 1؛ رؤ 12: 7). كما يقدم لنا الصراع بين الملائكة وقُوى الشرّ من أجل تمتع البشرية بالخلاص أو هلاكهم. كما أن الملائكة لا تكف عن أن تعمل لحساب العتيدين أن يرثوا الخلاص (عب 1: 14)، فإن الشياطين أيضًا لا تكف عن مقاومة الحق وهلاك الناس.
في الأصحاح السابق قدم لنا رؤياه الخاصة بالسبعين أسبوعًا التي حددت موعد مجيء السيِّد المسيح لتحرير المؤمنين به كما وجهت أنظارنا إلى مجيئه الثاني أو الأخير. الآن يؤكد لنا النبي في الرؤيا التالية الأحداث الرئيسية ما بين العودة من بابل إلى مجيء السيِّد المسيح في شيء من التفصيل، وفي دقة فائقة.
- تاريخ الرؤيا [1].
- تمتعه بالرؤيا [2-9].
- خدمة ملائكية [10-14].
- خدمة إلهية [15-27].
1. تاريخ الرؤيا:
“في السنة الثالثة لكورش ملك فارس كُشف أمرٌ لدانيال الذي سُمِّي باسم بلطشاصَّر.
والأمر حق، والجهاد عظيم (طويل)، وفهم الأمر،
وله معرفة الرؤيا” [1].
في السنة الثالثة من مُلك كورش ملك فارس. بمقارنة ذلك بما جاء في (دا 1: 21) “وكان إلى السنة الأولى لكورش الملك” يُفهم أن دانيال أحيل على المعاش وترك الخدمة في الثمانين من عمره، بعد تولي كورش المُلك بسنة واحدة.
أما سبب عدم رجوعه إلى أورشليم مع زرُبابل، بل بقي في بابل، فلم يخبرنا عنه الكتاب؛ ربما بأمرٍ إلهيٍ ليتمم رسالة خاصة بخدمة شعبه يمارسها وهو في أرض السبيّ.
وُهبت له هذه الرؤيا بعد عامين من تركه العمل، قبيل نياحته. وقد تأكد أن ما يراه سيحققه الله حتمًا (رؤ 22: 6)، إذ يقول: “الأمر حق“، لا يوجد مجال للشك، بالرغم من أن الأحداث غير مُتوقعة. على أي الأحوال قرر دانيال أن الزمن المحدد طويل. يرى البعض أن الزمن طويل لأن الرؤيا الرابعة (ص 10-12) تمتد إلى قيامة الأموات وانقضاء الدهر[245].
بالنسبة للرؤيا السابقة كان دانيال مرتبكًا وغير قادرٍ على فهمها، أما هذه النبوة فيؤكد أنه قد فهمها تمامًا.
لماذا أورد هنا اسمه الذي أُعطي له في بابل “بلطشاصَّر”؟
أ. ليؤكد أنه وإن كان قد أُحيل على المعاش، ولا وجود له في القصر، لكن لم يعرفه أحد باسمه الأصلي، إنما التصق به الاسم الذي فُرض عليه، ومع عدم محبته للاسم تركه لعله يجد به فرصة لخدمة شعبه.
ب. إن كان لا يزال يحمل هذا الاسم الكلداني كل هذه الفترة، لكن قلبه لا يزال ملتصقًا بإلهه الذي يكشف له أسراره، ويهبه فهمًا وحكمة.
2. تمتعه بالرؤيا:
أ. فترة صوم وندامة:
“في تلك الأيام أنا دانيال كنت نائحًا ثلاثة أسابيع أيام،
لم آكل طعامًا شهيًا، ولم يدخل في فمي لحم ولا خمر،
ولم أُدهن حتى تمت ثلاثة أسابيع أيام” [2].
صام دانيال ثلاثة أسابيع كاملة، لم يأكل طعامًا شهيًا ولم يتطيب بدهنٍ، لأن كورش انشغل بالحرب ضد السكيثيِّين Scythians، فترك منطقة آسيا الصغرى، وقام ابنه قمبيز Campyses بمقاومة إعادة بناء الهيكل والمدينة المقدسة أورشليم. حقًا لقد عاد البعض إلى أرض الموعد، لكنهم صاروا في عارٍ وخزي، غير قادرين على إعادة الحياة الروحية في بلدهم. ولعله أيضًا سمع عن عدم مبالاة الراجعين إلى أورشليم بشأن بناء الهيكل؛ بيت الرب.
يميِّز بين الأسبوع في الرؤيا السابقة كرمزٍ لسبع سنوات وبين الأسبوع هنا إذ يدعوه “أسبوع أيام“، أي بمعناه الحرفي لا الرمزي.
في الأصحاح الأول من السفر رأيناه ممتنعًا عن أطايب الملك، مكتفيًا بأكل البقول، هل عاد ليأكل اللحم ويشرب الخمر؟ لا يعني النص هكذا، لكنه مع امتناعه عن أطايب الملك سابقًا الآن يرفض كل طعامٍ شهيّ حتى في بيته الخاص، ليقدم صومًا صارمًا من أجل شعبه.
يهاجم البعض الصوم الكنسي كأنه بلا هدف، وأنه لا حاجة إليه إلاَّ عند الضرورة كما حدث هنا بالنسبة لدانيال النبي. يُرد على ذلك أن دانيال كان رجل صلاة مع صوم منذ قدم لنا سيرته في الأصحاح الأول. حقًا كان لصومه هدفه، وأيضًا لصلاته، لكننا لم نسمع عنه أنه توقف عن الصلاة حتى متى حلت الضيقة يُصلِّي. لقد قدم لنا صلاته واعترافه في وقت الضيق، هذا لم يمنعه عن الصلاة ثلاث مرات يوميًا. هكذا بالنسبة للصوم الكنسي، فإننا في حاجة إليه بجانب الأصوام الخاصة عند حلول ضيقة معينة. إنما ما يجب التأكيد عليه هو وجود هدفٍ روحي واضح لا للأصوام الكنسية فحسب، بل ولكل عبادتنا.
مع امتناع دانيال النبي عن اللحم والخمر امتنع أيضًا عن كل طعامٍ شهي، هكذا يليق بنا في أصوامنا مع امتناعنا عن المنتجات الحيوانية أن نمتنع عن كل طعامٍ شهي حتى وإن كان نباتيًا، فلا نأكل بشهوة، حتى وإن كان خبزًا جافًا.
ارتبط صوم دانيال بالصلاة والاعتراف بخطاياه، لأن الصوم هو تهيئة للنفس للحديث مع إلهها، وليس هدفًا في ذاته. وقد ربط السيِّد بينهما بقوله: “وأما هذا الجنس فلا يخرج إلاَّ بالصلاة والصوم” (مت 17: 21).
v على أي الأحوال إذ مارس دانيال، رجل الرغبات، السيطرة على شهواته، صارت له سيطرة على مملكة الكلدانيِّين، فطرح أصنامهم، وأهلك التنِّين، وروَّض الأسود، وبشر بالتجسد، وفسَّر الأسرار الخفية (5: 9، 14) [246].
القديس باسيليوس الكبير
v وماذا عن دانيال؟ كيف نال التأمُّل في العجائب؟ ألم يحدث هذا بعد صوم عشرين يومًا؟![247]
القديس باسيليوس الكبير
“وفي اليوم الرابع والعشرين من الشهر الأول إذ كنت على جانب النهر العظيم هو دَجلة” [4].
يرى البعض أنه رأى نفسه في الرؤيا على شاطئ نهر الدجلة، ولم يكن بالفعل هكذا، ولا قاطنًا في هذه المنطقة، وإن كان البعض الآخر يرون أنه بعد ثلاثة أسابيع من الصوم كان دانيال بجوار النهر العظيم (دجلة) يتمشى على شاطئ النهر يتأمل في الله ومعاملاته، كما كان اسحق يتمشى في الحقل.
عند نهر خابور رأى حزقيال النبي رؤياه العظيمة (حز 1)، وعند مجاري نهر الأردن انفتحت السموات لترى ربنا ومخلِصنا يعتمد… هكذا إذ نجلس بجوار مياه المعمودية، ونقبل عمل روح الله فينا، وندرك بنوتنا لله ننال رؤيا جديدة في أعماقنا، ونكتشف تجلِّي ابن الله الوحيد الجنس في أعماقنا. نراه كمن على عرشه يهبنا عربون مجده السماوي إلى أن نلتقي به وجهًا لوجه فننعم بشركة أمجاده وميراثه الأبدي.
عوض العيد كان دانيال حزينًا وصائمًا، لا يأكل لحمًا ولا يشرب خمرًا، ولا يدهن بزيت كعادة الفارسيِّين. ظهرت له الرؤيا وهو في مناحة يبكي على خطايا شعبه.
منذ عامين كان قد سمح كورش للراغبين من اليهود أن يعودوا إلى أورشليم، لكن قلة قبلت ذلك. لأن كثيرين فضلوا البقاء في بابل يمارسون أعمالهم التجارية، ويهتمون بالمكاسب المادية عِوض إنفاق ما لديهم على عودتهم مع أسرهم للبدء في مشاريع جديدة بأرض الموعد. هذا ما أحزن دانيال النبي الذي بقي في السبي، ليس طمعًا في مركزٍ أو مكسبٍ، وإنما لخدمة الذين لم يرجعوا بعد. ولعل ما أحزنه أيضًا أنه سمع عن تراخي الذين عادوا إلى أورشليم في بناء هيكل الرب، مهتمين ببناء بيوتهم الخاصة حاسبين أنه لم يأتِ بعد الوقت للبناء. هذا ما أحزن قلب حجي النبي أيضًا، إذ جاءته كلمة الرب: “هل الوقت لكم أنتم أن تسكنوا في بيوتكم المغشاة، وهذا البيت خراب؟!” (حج 1: 4).
كانت هذه الرؤيا في اليوم الرابع والعشرين من الشهر الأول، أي في عيد الفطير (خر 12: 18) الذي يأتي بعد الفصح مباشرة لمدة أسبوع.
“رفعت ونظرت فإذا برجلٍ لابسٍ كتانًا وحقواه متنطِّقان بذهب أُوفاز.
وجسمه كالزبرجد، ووجهه كمنظر البرق،
وعيناه كمصباحيّ نار،
وذراعاه ورجلاه كعين النحاس المصقول،
وصوت كلامه كصوت جمهور” [5-6].
يرى البعض أن كلمة أوفاز Uphaz صفة تعني “نقيًا”، بينما يرى البعض أنها تُشير إلى منطقة معينة كما جاء في إرميا “ذهب من أوفاز” (إر 10: 9)، ويترجمها البعض “أوفير” Ophir.
يرى البعض أن اللباس الكتاني هنا يُشير إلى كهنوت السيِّد المسيح، والمنطقة الذهبية إلى العمل الرعوي للسيِّد المسيح. فقد اعتادوا في الشرق أن يلبسوا مناطق على الحقوين، لأن ثيابهم طويلة تبلغ إلى القدمين فتعوق حركتهم. فالمنطقة ترفع الثوب وتساعد الإنسان على الخدمة وسرعة الحركة.
جسمه كالزبرجد، وكما يقول القديس جيروم: [إنها إحدى الحجارة الكريمة الإثنتي عشرة التي توضع علي صدرة رئيس الكهنة[248] إن كانت الحجارة الكريمة تُشير إلى الأسباط الاثني عشر فيقف رئيس الكهنة أمام الله يشفع فيهم، ويحملهم بالحب على صدره لينعموا بالحضرة الإلهية. فإننا وقد صرنا سبطًا واحدًا، ننتسب إلى سبط يهوذا (روحيًا)، وصرنا أعضاء في جسد السيِّد المسيح. فإننا لا نجد أنفسنا على صدرية المخلِّص، بل بالحري أعضاء جسده، لنا حق الدخول إلى الأقداس السماوية مع الرأس السماوي.
كان صوته كصوتِ جمهورٍ عظيم سمعه دانيال النبي وفهمه بينما هرب من معه ولم يفهموا شيئًا من الصوت. هذا ما حدث مع شاول الطرسوسي في الطريق إلى دمشق حيث رأى وسمع، فتحدث مع يسوع المسيح الذي ظهر له في السماء، أما الذين حوله فرأوا وكأنهم لم يروا وسمعوا صوتًا ولم يفهموا شيئًا؛ لذا حُسبوا كأنهم لم يروا ولم يسمعوا (أع 9: 7؛ 22: 9).
شاهد دانيال النبي شخصًا أوصافه تطابق ما ورد عن السيِّد المسيح في رؤيا القديس يوحنا اللاهوتي (رؤ 1: 13-15). يرى البعض أنه نظر ملاكًا قديرًا، بينما يرى آخرون أنه كلمة الله قبل التجسد[249]. فإنه إذ كان نائحًا على خطايا شعبه ظهر له ذاك الذي يحمل خطايا العالم كله.
v يقول: “رفعت (عيني) ونظرت فإذا برجل لابسٍ كتانًا” [5]. في الرؤيا الأولى يقول: “أنظر، قد أُرسل الملاك جبرائيل”، أما هنا فالأمر مختلف، إذ يرى الرب ليس إنسانًا كاملاً وإنما في شكل إنسانٍ…
ارتداؤه لباسًا مختلف الألوان يُشير رمزيًا إلى تنوُّع النعم التي لدعوتنا. لقد صُنع اللباس الكهنوتي من ألوان مختلفة، لأن أممًا متنوِّعة تنتظر مجيء المسيح لكي نصير (جسدًا واحدًا) بألوان متباينة.
يقول “وحقواه متنطقتان بذهب أوفاز” [5]. كلمة “أوفاز” انتقلت عن العبرية إلى اليونانية لتعني ذهبًا نقيًا. لقد تمنطق حول حقويه بمنطقة طاهرة. كان على “الكلمة” أن يحملنا ويربطنا به كمنطقة حول جسده بحبّه الخاص، الجسد الكامل، أما نحن فأعضاء جسده المتحد معًا، ونقوم بالكلمة نفسه.
“وجسمه مثل Tharses (كالزبرجد)”. كلمة Tharses تُفسر “إثيوبيِّين”. أو “من الصعب التعرُّف عليه”. هكذا أعلن النبي مقدمًا، مؤكدًا أن الجسد سيُعلن في العالم، لكن كثيرين يجدون صعوبة في التعرُّف عليه.
“ووجهه كمنظر البرق وعيناه كمصباحيّ نار”. فإنه يليق بقوة الكلمة الناري والقضاء أن يُعلن مقدمًا عن ممارسته لنار (دينونته)، فيضيء بالعدل على الأشرار ويهلكهم.
يضيف أيضًا هذه الكلمات: “وذراعاه وقدماه مثل نحاس لامع” ليظهر الدعوة الأولى والثانية للبشر، أي للأمم. “فإن الآخرين يكونون كالأولين”؛ إذ أُقيم حكّامك كما في البداية. “وكان صوته كصوت جماهير كثيرة” (إش 1: 26، رؤ 19: 6). فإننا نحن جميعًا ننطق بأمور مُتنبأ عنها، ننطق بفمه عن الأمور التي عينها هو[250].
القديس هيبوليتس الروماني
“فرأيت أنا دانيال الرؤيا وحدي،
والرجال الذين كانوا معي لم يروا الرؤيا،
لكن وقع عليهم ارتعاد عظيم، فهربوا ليختبئوا.
فبقيت أنا وحدي ورأيت هذه الرؤيا العظيمة،
ولم تبقَ فيَّ قوة، ونضارتي تحوَّلت فيَّ إلى فساد،
ولم أضبط قوة.
وسمعت صوت كلامه،
ولما سمعت صوت كلامه،
كنت مسبَّخًا على وجهي ووجهي إلى الأرض” [7-9].
أدرك دانيال – وهو أفضل من كان في زمانه – أن كماله قد تحوَّل كما إلى فسادٍ، فلم يفتخر ببرٍ ذاتي، هذا الذي يُحسب كخرقة الطامث (إش 64: 6). إذ غلبه مجد الرب سقط النبي على الأرض كمن قد فقد وعيه وخارت قواه تمامًا، لكنه أدرك صوت الرب.
وقع خوف على الذين كانوا مع دانيال النبي وهربوا ليختبئوا؛ ربما رأوا شيئًا غريبًا، لكنهم لم يُميِّزوا الرؤيا فارتعبوا. لقد سمح لهم الله بهذا لئلاَّ يظن أحد أن ما أعلنه دانيال كان وهمًا أو تخيُّلاً. لقد اُختير دون غيره ليصير معلِّمًا يكشف عن أسرار الله ويتقبل المعرفة الإلهية لحساب الجماعة كلها، لكنه كان محتاجًا إلى من يشهد له أنه مدعو لعملٍ إلهيٍ فائقٍ.
كرر أكثر من مرة أنه رأى ليؤكد أن ما ينطق به هو حقيقة شاهدها حقًا، ويدعو الرؤيا عظيمة لكي يلفت أنظارنا فنهتم بها.
ارتعد دانيال وفقد قوته الجسمية، حتى صار كميِّتٍ فاسدٍ بلا حياة… الله لا يُريد لنا نحن أولاده هذا الضعف الشديد، لكنه يسمح لنا بذلك إن كان فيه نفعنا. لأنه أحيانًا إذ نكون في كامل صحتنا لا نبالي بالصوت الإلهي، ولا نتمتع برؤيا سماوية داخلية، لذا يسمح لنا بالضعف الجسدي إلى حين ليسحب طاقاتنا الداخلية إلى رسالة سماوية معينة. إن كانت الرؤيا قد أرعبت دانيال، لكن الصوت السماوي أعطاه طمأنينة وسلامًا، ولمسات يده ملأته قوة.
- خدمة ملائكية:
“وإذا بيدٍ لمستني،
وأقامتني مرتجفًا على ركبتيّ وعلى كفَّيّ يدي” [10].
واضح أن دانيال شاهد الرؤيا وهو منبطح على الأرض، وكان مستندًا على ركبتيه ويديه، وكان محتاجًا إلى عون سماوي ليُقيمه.
اليد التي كتبت على الحائط فأرعبت الملك بيلشاصَّر، هي التي لمست دانيال وأعطته قوة للقيام والتمتع بالفهم. يرى البعض أن اليد السماوية تُشير إلى التجسد الإلهي، حيث قدم لنا السيِّد المسيح العمل الإلهي، واهبًا إيّانا الفهم والحكمة مع الفداء والمجد.
يقول القديس جيروم: [ظهر الملاك في شكل إنسانٍ ووضع يده على النبي إذ كان مستلقيًا على الأرض. لقد حمل شكله (البشري) حتى لا يرتعب![251]].
ظهور الملائكة على شكل بشر يكشف عن تقدير السماء لنا كبشرٍ، فهم وإن لم يحملوا أجسادًا مثلنا لا يستنكفون من الظهور بشكلٍ بشريٍ. أنهم بهذا أيضًا يعلنون عن شوق السمائيِّين إلى الدخول في صداقة معنا.
“وقال ليّ: يا دانيال أيُّها الرجل المحبوب (جدًا)،
افهم الكلام الذي أُكلِّمك به،
وقم على مقامك،
لأنيَّ الآن أُرسلت إليك.
ولما تكلم معي بهذا الكلام قمت مرتعدًا” [11].
لمسته اليد وناداه صوت سماوي يحثه على القيام، ينزع عنه الخوف ويهبه فهمًا. ومع هذا إذ قام دانيال كان مرتعدًا. وكأن الله من أجل محبته لنا، يسمح أن يترك فينا شيئًا من الضعف لكي لا نستكبر. لقد كان دانيال دون سواه مؤهلاً لنعمة الرؤى في عهده، ونال عونًا إلهيًا إذ أرسل الله له رئيس الملائكة جبرائيل يلمسه بيده ويتحدث معه، ويقدم له الفهم. لكنه بقي في رعدة فيدرك مع إبراهيم أب الآباء أنه تراب ورماد.
لمست يد سمائية دانيال وأقامته، ربما كانت يد رئيس الملائكة جبرائيل الذي يُفسر الرؤى لدانيال (9: 23)، هذا الذي يدعو دانيال بالمحبوب جدًا، لتشجيعه ومساندته.
يُعلق القديس جيروم على تعبير: “المحبوب”، قائلاً: [إنه تعبير لائق، فإن كل قديس يحمل جمالاً في نفسه، وهو محبوب من الرب[252].]
وقف النبي الشيخ لكنه كان مرتعبًا. طمأنه الملاك بأن صلاته قد سُمعت وأُرسلت الإجابة.
“فقال ليّ: لا تخف يا دانيال،
لأنه من اليوم الأول الذي فيه جعلت قلبك للفهم ولإذلال نفسك قدام إلهك سُمع كلامك،
وأنا أتيت لأجل كلامك” [12].
طلب رئيس الملائكة من دانيال ألا يخف، ولم يكن ذلك في قدرة دانيال بل كان محتاجًا إلى عونٍ إلهي يهب فكره سلامًا، ويهيِّئ أعماقه لإدراك الأسرار الإلهية. بقوله: “لا تخف” لا يقدم مجرد وصيَّة سمائية، بل عطية سمائية يهبها الله نفسه لمحبِّيه. أما لماذا قُدمت هذه العطايا لدانيال دون الذين حوله، هل عند الله محاباة؟ حاشا! لقد جعل دانيال قلبه للفهم، وذلك بالصلاة والصوم والتذلُّل مع التوبة. تمتع دانيال بعطايا إلهية مجانية، لكن ليس وهو متهاون في حياته، يحيا لا بروح الترف والتدليل، بل بروح الجدية، ملتجئًا إلى الله واهب الفهم والمعرفة. وكما يقول القديس يوحنا الحبيب إننا نعرف أننا إن طلبنا شيئًا حسب مشيئته يسمع لنا (1 يو 5: 14).
لقد تذلل دانيال بالتوبة قدام الله إلهه، أي خلال العلاقة الشخصية مع الله الذي يحسبه إلهه، أي ينسبه إليه، ولهذا تأهل أن يرسل الله ملاكه إليه، لأن ملاك الرب حال حول خائفيه (مز 145: 19).
“ورئيس مملكة فارس وقف مقابلي واحدًا وعشرين يومًا،
وهوذا ميخائيل واحد من الرؤساء الأولين جاء لإعانتي،
وأنا أبقيت هناك عند ملوك فارس” [13].
يبرر الملاك سبب تأخيره 21 يومًا أو ثلاثة أسابيع، وهي الأسابيع التي كان فيها دانيال النبي صائمًا ومتذللاً أمام الله، لكن لم يعرف دانيال ذلك حتى تمَت الثلاثة أسابيع، فقد كان الملاك يعمل لصالح النبي وهو لا يدري.
كثيرًا ما نظن أن الله لا يسمع لصلواتنا أو يتباطأ في الإجابة، مع أنه مهتم بنا، ويخفي عنا عمله من أجلنا حتى نكتشفه في الوقت المناسب، حين نصير قادرين على فهم خطَّة الله وعمله لأجلنا.
“وجئت لأُفهمك ما يصيب شعبك في الأيام الأخيرة،
لأن الرؤيا إلى أيام بعد” [14].
يؤكد الملاك لدانيال أنه جاء ليعلن له أن صلواته قد اُستجيبت، وأنه يعمل لصالح الشعب، مقاومًا شر ملك فارس. عاد ليعلن له أن عناية الله ممتدة عبر سنوات طويلة؛ عليه أن ينتظر ليرى بروح النبوة الأحداث القادمة لا إلى يوم رقاده فحسب، بل وإلى مجيء السيِّد المسيح مخلص العالم.
v ليتأكد ذاك الذي يرتاب في استجابة صلاته أنه لن يُستجاب له.
غير أنه يلزمنا ألا نسأل الله بقلقٍ، وذلك كما يُعلِّمنا دانيال الطوباوي، إذ سمع الله له من أول يوم بدأ فيه يقدم الصلاة، لكنه نال ثمرة صلاته بعد 21 يومًا. هكذا ليتنا لا نفتر في غيرة صلواتنا التي نبدأها، إن تصورنا أن الاستجابة قد أبطأت، لئلا تتأجل الاستجابة التي تهبها لنا العناية الإلهية… وهذا ما كان يمكن أن يحدث في حالة النبي المذكور لو لم يُوجد مثابرًا على الدوام بثبات في صلواته خلال الـ 21 يومًا رغم أن الاستجابة صدرت من اليوم الأول[253].
الأب إسحق
أوضح رئيس الملائكة جبرائيل سرّ تأخره في الإجابة على صلاته، إذ له ثلاثة أسابيع يُقاوم “رئيس مملكة فارس” حتى جاء رئيس الملائكة ميخائيل، شفيع شعب الله ومعينًا له. ماذا يقصد برئيس مملكة فارس؟ هل يقصد الملك أم ملاك شرير مقاوم لعمل الله؟
إن ملاكًا شريرًا يوجهه الشيطان ليُجرب ملوك فارس ويؤثر عليهم ضد شعب الله، لذا وقف الملاك جبرائيل يسنده الملاك ميخائيل ليُحطم أعمال عدو الخير ضد المؤمنين، لا يقصد هنا بـ “رئيس مملكة فارس“، إنسانًا بل الشيطان الذي يجرب ملك فارس ويحركه.
يقول القديس جيروم: [في رأيي أنه الملاك المُكلف بفارس، وذلك كما جاء في التثنية: “حين قسم العلي للأمم حين فرَّق بني آدم نصب تخومًا لشعوب حسب عدد ملائكة” (تث 32: 8). توجد الرئاسات التي يتحدث عنها بولس: “لكننا نتكلم بحكمة بين الكاملين… التي لم يعلمها أحد من رؤساء (عظماء) هذا الدهر. لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد” (1 كو 2: 6-8). هكذا قدم رئيس أو ملاك فارس مقاومة، عاملاً لحساب المقاطعة الموكولة إليه حتى لا تتحرر الأمة المسبية بكاملها. لعله بالرغم من أن الله قد سمع للنبي بحنو منذ اليوم الذي فيه وضع قلبه للفهم، مع ذلك لم يُرسل إليه الملاك ليعلن له قرار الله المملوء حنوًا لأن ملاك فارس قاومه لمدة 21 يومًا، معددًا خطايا الشعب اليهودي كأساس عادل لبقائهم في السبي وكحجة لكي لا يتحررون[254]].
هل كان رئيس الملائكة جبرائيل عاجزًا عن مقاومة الشيطان الذي يبث روح العنف والكراهية في قمبيز Cambyses ضد المؤمنين؟ أو كان عاجزًا عن مقاومة الملك الشرير نفسه؟ لماذا أرسل له الملاك ميخائيل؟ لست أظن أن حديث الملاك هنا يقلِّل من شأن الملاك جبرائيل أو قدرته، إنما يكشف عن روح العمل الجماعي حتى بين السمائيِّين، وأيضًا يعلن عن اهتمام الله بشعبه، فيرسل لا رئيس ملائكة واحد بل أكثر من أجل شعبه. يقول يوناثان: “لأنه ليس للرب مانع عن أن يخلِّص بالكثير أو بالقليل” (1 صم 14: 6). ويقول آسا: “أيُّها الرب ليس فرقًا عندك أن تُساعد الكثيرين ومن ليس لهم قوة” (2 أي 14: 11).
يؤكد رئيس الملائكة جبرائيل أن دوره لم ينتهِ بعد، بل تركه الله عند ملك فارس الذي لا يزال يحمل كراهية ضد الشعب. فإن الله في عدله لم ينهِ حياة ملك فارس، ولا ألزمه بحب المؤمنين، بل ترك له حرية الإرادة يفعل كما يشاء، ولكن من أجل المؤمنين يرسل ملائكة لصد الهجمات التي تحل عليهم من الملك الشرير.
في التقليد اليهودي كما المسيحي يُنظر إلى رئيس الملائكة ميخائيل كحارسٍ لشعب الله (12: 1).
- خدمة إلهية:
“فلما تكلم معي بمثل هذا الكلام جعلت وجهي إلى الأرض وصَمَت.
وهوذا كشبه بني آدم لمس شفتيَّ،
ففتحت فمي وتكلمت وقلت للواقف أمامي:
يا سيِّدي، بالرؤيا انقلبت علي أوجاعي، فما ضبطت قوة.
فكيف يستطيع عبد سيِّدي هذا أن يتكلم مع سيِّدي هذا،
وأنا فحالاً لم تثبت فيَّ قوة ولم تبقَ فيَّ نسمة؟!” [15-17].
يُعلق القديس جيروم على هذه العبارات قائلاً: [يليق بطبيعتنا الداخلية أن توجه أنظارها إلى خارج (فترى أننا في ضعف)، وذلك قبل أن تتأهل لمعاينة رؤية الله، لكن ما أن تتحقق فعلاً رؤية الله تتحول طبيعتنا الداخلية إلى الداخل ونصير بكليتنا في تعداد من كتب عنهم في مزمور آخر: “كل مجد ابنة الملك من الداخل، في ثياب ذهبية” (مز 44: 14) [255]].
إذ غُلب دانيال بالضعف مرة أخرى سقط على الأرض. وبلطف اهتم الله به، لكن دانيال كان عاجزًا عن الحديث حتى فتح الرب شفتيه، إذ جعل ملاكه يمس شفتيه…
وإن كان دانيال قد عجز عن الدخول في حوارٍ، سنده الملاك، ليس فقط بالكلمات المشجعة، والكشف عن استجابة صلواته، وإنما بلمسه أيضًا. وكأن الله يؤكد لنا شوقه أن نلتقي مع السمائيِّين، وندخل معهم في شركة حب، لأننا نجتمع معًا لتسبيحه إلى الأبد.
ظهر له الملاك في شبه بني آدم حتى يمكن لدانيال أن يسمع له، ويتلامس معه. في حبٍ مملوءٍ اتضاعًا تظهر لنا الملائكة في شبه البشر، لا من جهة طبيعتهم، بل من جهة شكلهم. وعلى العكس في كبرياء يحاول الشيطان أن يخدعنا ليظهر في شكل ملاك نور (2 كو 11: 14).
يرى البعض أن الذي ظهر في شبه بني آدم هو كلمة الله الذي لمسنا بحبُّه الإلهي، وأعطانا قوة للدخول معه في حوارٍ مفتوحٍ.
مقدمة للنبوة الأخيرة:
“فعاد ولمسني كمنظر إنسانٍ وقوَّاني.
وقال: لا تخف أيُّها الرجل المحبوب (جدًا).
سلام لك.
تشدد، تقوَّ.
ولما كلمني تقويت وقلت: ليتكلم سيِّدي، لأنك قوَّيتني” [18-19].
يقول القديس جيروم: [لو لم يطمئنه الملاك بلمسه كابن الإنسان، فيحرر قلبه من الرعب، ما كان يمكنه أن يسمع أسرار الله. لهذا السبب يقول الآن: “ليتكلم سيِّدي، لأنك قويتني، لأنك جعلتني قادرًا أن أسمع وافهم ما تقوله”[256]].
كان دانيال محتاجًا إلى عملٍ سماويٍ مستمرٍ، إذ عاد ولمسه الملاك، ثم قواه، مؤكدًا له أنه إنسان محبوب جدًا من قبل الله والسمائيِّين، معطيًا إياه السلام، ومشددًا إياه بالوصية الإلهية: “تشدد، تقوَّ“.
نحن في حاجة إلى نموٍ روحيٍ دائمٍ، خلال لقائنا المستمر مع الله، وتمتعنا الدائم بالشركة مع السمائيِّين والقديسين. نتلامس معهم، ونتقوَّى بالعمل الجماعي الحيّ، وننصت إلى وعود الله ووصاياه التي ينطقون بها لكي نتشدد.
حياتنا في المسيح تمتع دائم وخبرة غير متوقفة؛ وليست وليدة لحظة معينة بلا نمو!
إذ تحدث معه الملاك وتقوى لم يكتفِ دانيال بذلك، بل طلب المزيد قائلاً: “ليتكلم سيِّدي لأنك قويتني“.
“فقال: هل عرفت لماذا جئت إليك؟
فالآن أرجع وأحارب رئيس فارس” [20].
v ما يعنيه هو هذا: حقًا أتيت لأعلمك الأمور التي تتسلمها كإجابة للصلاة، لكنني ها أنا أعود مرة أخرى لأصارع رئيس فارس في عينيّ الله، لأنه لا يُريد أن يحرر شعبك من السبيّ[257].
القديس جيروم
“فإذا خرجت هوذا رئيس اليونان يأتي.
ولكنيَّ أخبرك بالمرسوم في كتاب الحق.
ولا أحد يتمسك معي على هؤلاء إلاَّ ميخائيل رئيسكم” [21].
أرسل الرب الملاك (ربما جبرائيل) لدانيال حيث تحدث معه عن رئيسٍ ثانٍ، هنا يتحدث عن اليونانيِّين. كما أعلن أن الشيطان يبعث بملائكته الأشرار لإثارة الأمم للشرّ، وهو يقوم بخطة محكمة.
لقد أكد الملاك له وجود خطة إلهية سماوية يحتفظ بها الله، ويُعلنها لنا تدريجيًا. وأن الله قد عهد لميخائيل رئيس الملائكة حماية شعبه ضد قوى إبليس وملائكته الأشرار.
لقد أرسله الله إلى الملك الفارسي قمبيز، لكن رسالته لم تنتهِ بعد، فإن المقاومة مستمرة في أيام اليونان كما في أيام فارس لذا يتركه يعمل وسط الملوك المقاومين للحق من أجل حماية المؤمنين البسطاء. وكأن عناية الله لكنيسته بكل وسيلة لا تتوقف عبر الأجيال، وإرساليته لملائكته مستمرة لأن قوى الشر لا تتوقف.
من وحي دانيال 10
لتعلن ليّ مجدك وسط آلامي!
v هب ليّ يا رب مع دانيال روح الصلاة مع الصوم باتضاع.
هب ليّ ألا أطلب طعامًا شهيًا،
بل أجد في اللقاء معك سلامي وفرح قلبي!
لاعترف عن خطاياي وخطايا شعبي بدموعي،
فإن صوت دموعي يرتفع إلى عرش نعمتك!
v كثيرًا مع ظننت أنك نسيتني،
لا تبالي بصلواتي وصرخات نفسي،
اكشف عن عيني فأراك تعمل لأجلي،
تخفي عنيّ أعمالك إلى حين،
حتى لا تتوقف نفسي عن الحوار معك!
v سقطت وارتعبت،
لتلمسني بيدك أيُّها القدُّوس،
لتُسمعني صوتك الذي يملأنيَّ رجاءً.
لتقل ليّ: تشدَد وتقوّ!
كلماتك لها سلطان على أعماقي!
v أرى العالم مقاومًا للحق، ومضطهدًا لكنيستك.
وأرى جبرائيل رئيس ملائكتك يعمل معه ميخائيل العظيم!
تترك للأشرار كمال حريتهم للعمل،
وبحبك تبعث بجنودك السمائيِّين لحمايتنا!
عجيب أنت في عدلك كما في حبك.
لتعلن ليّ مجدك وسط آلامي!
سفر دانيال: 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14
تفسير سفر دانيال: مقدمة – 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12