تفسير سفر الخروج ١٦ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح السادس عشر
تجربة الطعام
- في برية سين [1].
- تذمر الشعب [2-3].
- السلوى والمن [4-21].
- شريعة السبت [22-31].
- قسط المن [32-36].
1. في برية سين:
في سفر الخروج يقول: “ثم ارتحلوا من إيليم وأتى كل جماعة بني إسرائيل إلى برية سين” [1]، أما سفر العدد فيوضح بأكثر تفصيل قائلاً: “ثم ارتحلوا من إيليم ونزلوا على بحر سوف ونزلوا في برية سين” (عد 33: 10-11).
يرى العامة أوريجينوس إن إيليم تعني “الأكباش”، ولو أن البعض يرى أنها تعني “الأشجار”. في رأيه أن الأكباش تمثل قادة القطيع حيث الاثنا عشر تلميذًا (عين ماء) والسبعون رسولاً (نخلة)، هؤلاء قادوا بالمسيح يسوع الشعب إلى شاطئ بحر سوف (عد 33: 10)، لكنه من الجانب المملوء أمانًا، إذ عبروه مرة واحدة، وفيه هلك إبليس وجنوده. الآن “يستطيعون أن ينظروا البحر ويرون أمواجه، لكنهم لا يخافون حركاته ولا عواصفه”[222].
ارتحلت الجماعة المقدسة من بحر سوف ونزلت إلى برية سين، وهي المدينة التي أنزل الله فيها المنّ للشعب للمرة الأولى، ولعلَّ موضعها الآن دبة الرملة، وهي كومة رمال عند سفح جبل التيه. ويرى العلامة أوريجينوس أن “سين” تعني “عليقة” أو “تجربة”[223]. فكما أن أول ظهورات الله لموسى كان في العليقة، ليعلن له سرّ التجسد الإلهي، فإنه في سين قدم الله لشعبه لأول مرة المنّ – إشارة أيضًا إلى السيِّد المسيح النازل من السماء شبعًا للنفس البشرية. أما معناها “تجربة”، إنما ليذكرنا أنه حيث توجد الإعلانات يجب أن يكون لنا روح التمييز (1 كو 2: 5)، لئلا يخدعنا عدو الخير بتجاربه التي يظهر فيها أحيانًا كملاك نور (2 كو 11: 4)، لتضليل إن أمكن حتى المؤمنين.
2. تذمر الشعب:
إذ مضى شهر على خروجهم من أرض العبودية قدموا لله تذمرًا عوض تسبحة الشكر والحمد له، إذ قالوا لموسى وهرون: “ليتنا متنا بيد الرب في أرض مصر، إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزًا للشبع، فإنكما أخرجتمانا إلى هذا القفر لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع” [3].
يقول الكتاب: “رجعوا بقلوبهم إلى مصر”، حقًا لقد ذاقوا مرارة العبودية والذل واختبروا عربون أرض الموعد ومارسوا حياة الغلبة والنصرة ومع هذا كانوا في كثير من الأوقات يشتاقون إلى رائحة قدور اللحم، إلى “شهوة العين وشهوة الجسد وتعظم المعيشة”. أمام لذة الخطية الدنيئة ينسى الإنسان بركات الله ونعمه، مشتهيًا الذل عن الحرية!
لقد حذرنا كثير من الآباء من “شيطان النهم”، حتى لا تصير آلهتنا هي بطوننا، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [تذكر اليهود قدور اللحم فظهر استبداد البطن العظيم[224]]. وعندما تحدث الأب أوغريس عن حروب الشيطان خلال الأفكار الشريرة الثمانية اعتبر “الشراهة في الأكل” هو أول هذه الأفكار[225]. ويسمي القديس يوحنا كليماكوس المعدة بالسيِّد المستبد، كما يقول: [كن سيِّدًا على معدتك قبل أن تسود هي عليك. الذي يرعى شرهه ويأمل في التغلب على روح الفجور يشبه من يحاول أن يخمد النار بزيت[226]]، ويقول الأب يوحنا من كرونستادت: [تأكد تمامًا أن العدو يهاجم القلب عن طريق امتلاء البطن].
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان التذمر جزءًا من طبيعة هذا الشعب. إذ يتسلط على قلبهم ويبررونه بسبب أو بآخر، لذا يشبههم القديس يوحنا الذهبي الفم بالأطفال الصغار الذين يوجدون كل علة للتذمر والهروب من المدرسة، إذ يقول: [كانت البرية بالنسبة لهم مدرسة، وكأطفال طال بهم الوقت في المدرسة يريدون الانقطاع عنها، هكذا كان هؤلاء يرغبون في الرجوع إلى مصر باكين قائلين: لقد ضعنا، لقد متنا! [3][227]].
لم يكن الجوع هو السبب في التذمر بل كان ذلك طبعهم، فإنهم حتى بعد أن قدم لهم هذا الطعام اليومي الطازج الذي لا يتعبون فيه، لم يكفوا عن التذمر، بل عادوا يبكون قائلين: “من يطعمنا لحمًا؟ قد تذكرنا السمك الذي نأكله في مصر مجانًا والقثاء والبطيخ والكرات والبصل والثوم. والآن قد يبست أنفسنا. ليس شيء غير أن أعيننا إلى هذا المن؟! (عد 11: 4-6). وكما يقول القديس جيروم: [احتقروا طعام الملائكة وتنهدوا على لحم مصر. صام موسى أربعين يومًا وأربعين ليلة على جبل سيناء مظهرًا أن الإنسان لا يعيش على الخبز وحده بل على كلمة الله. يقول الرب إن الشعب شبع فصنع أوثانًا. كان موسى يتسلم الشريعة المكتوبة بإصبع الله بمعدته الخاوية، أما الشعب فأكل وشرب وقام ليلعب أمام العجل الذهبي، مفضلين العجل المصري عن جلالة الرب. حقًا لقد ضاع تعب أيام كثيرة كهذه خلال الشبع لساعة واحدة[228]].
3. المنّ والسلوى:
تذمر الشعب ولم يكن لدى موسى خزائن مادية لتُشبع جوعهم، لكنه إذ قبل عار المسيح حاسبًا إيّاه غنى أعظم من خزائن مصر (عب 11: 26)، لم يتركه الرب هو وشعبه معتازين إلى شيء. وكما يقولالقديس أمبروسيوس: [حسب موسى خزائن مصر خسارة بالنسبة له، مظهرًا في حياته عار صلب الرب. لم يكن غنيًا حين كان معه مال وفير (في قصر فرعون) ولا افتقر حين صار في عوز إلى طعام، اللهم إلاَّ إذا ظن أنه كان أقل سعادة حين كان في احتياج إلى الطعام اليومي ليشبع شعبه. لكنه قدم له من السماء المنّ الذي هو طعام الملائكة، علامة الخير العظيم والطوباوية… كما كان سيل من اللحم يمطر عليه ليشبع الجموع[229]].
هذا المنّ يُشير إلى السيِّد المسيح الذي قدم جسده المقدس غذاءً للنفس، إذ قال: “الحق الحق أقول لكم ليس موسى أعطاكم الخبز من السماء بل أبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء، لأن خبز الله هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم… آباؤكم أكلوا المنّ في البرية وماتوا. هذا هو الخبز النازل من السماء إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم” (يو 6).
فيما يلي مقارنة مبسطة بين المنّ القديم والمنّ الجديد:
أ. بعد العبور كان يلزم للشعب أن يأكل طعامًا جديدًا غير طعام أرض العبودية، يشبع كل واحد منهم. ونحن أيضًا إذ دخلنا عهدًا جديدًا قدم لنا السيِّد طعامًا روحيًا حقيقيًا، يقدر أن يُشبع النفس ويهبها حياة أبدية.
والعجيب إن المنّ بدأ ينزل على الشعب يوم الأحد كما هو واضح من قول الرب لموسى: “وفي اليوم السادس أنهم يهيئون ما يجيئون به فيكون ضعف ما يلتقطونه يومًا فيومًا” [5]، وكان يوم الاستعداد للسبت (الجمعة) هو سادس يوم ينزل فيه المن، فيكون قد بدأ النزول بالأحد. وبقيامة السيِّد المسيح من الأموات فجر الأحد قدم لنا جسده القائم من الأموات، سرّ قيامة لنفوسنا وأجسادنا. وصار الأحد العيد الكنسي الأسبوعي حيث نتمتع فيه بالمنّ السماوي.
ب. سقط المنّ من السماء [4]، وأخذ كل واحد قدر احتياجه حسب أكله [18]، فشبع الكل. ونزل السيِّد المسيح كلمة الله من السماء وقدم نفسه سرّ شبع للجميع. قدم نفسه لبنًا للأطفال، وطعامًا دسمًا للناضجين، لكي لا يترك نفسًا في عوز أو جوع.
ج. الذين أخذوا المنّ بغير إيمان، مخالفين الوصية، ومحتفظين به لليوم التالي صار بالنسبة لهم دودًا ونتنًا. هكذا من يتناول جسد السيِّد بغير إيمان ولا استحقاق يحمل فيه رائحة الموت عوض الحياة والعذوبة التي يذوقها المؤمنون عند تمتعهم به.
كلمة الله كالمنّ، هي سرّ حياة للتائبين المؤمنين، وسرّ هلاك للمُصرّين على عدم الإيمان.
في هذا يقول العلامة أوريجينوس: [في المنّ الآن عذوبة العسل بالنسبة للمؤمنين، وفيه دود لغير المؤمنين. إن كلمة الله (السيِّد المسيح) يفند الأفكار الشريرة وينخس ضمير الخطاة بالمناخس الحادة ويضرم نارًا في قلوب الذين يفتحون له، حتى يقولوا: “ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا وهو يفسر لنا الكتب؟!” (لو 24: 32). وعلى العكس هو نار تحرق الأشواك التي على الأرض الرديئة[230]].
من يجمع منًا ليحتفظ به دون أن يأكله، أي يسلك مخالفًا للوصية وبغير إيمان، يكون كمن يدرس الكتاب المقدس ويتعرف على الإيمان المسيحي معرفة نظرية، فيكون إيمانه ميتًا كقول معلمنا يعقوب الرسول (يع 2: 14-15، 26). وفي هذا يقول العلامة أوريجينوس: [إن أخذ غير المؤمن كلمة الله ولم يأكلها (أي يعيش بها)، بل أخفاها، يتولد فيها الدود[231]].
د. قال موسى النبي: “الرب يعطيكم في المساء لحمًا لتأكلوا، وفي الصباح خبزًا لتشبعوا” [8]. ما هو هذا المساء إلاَّ آخر الأزمنة أو ملء الزمان الذي فيه حمل كلمة الله جسدًا، مقدمًا ذاته لنأكل ونشبع! وبمجيئه في ملء الزمان، وسط الظلمة في المساء، أشرق بنوره علينا فتحول مساؤنا نهارًا، ودخلنا في صباح جديد، مقدمًا لنا خبزًا جديدًا تشبع به البشرية المؤمنة.
مرة أخرى يقول: “في المساء تعلمون أن الرب أخرجكم من مصر، وفي الصباح ترون مجد الرب” [6-7]. ما هو هذا المساء إلاَّ تلك اللحظات التي فيها أسلم السيِّد المسيح الروح في يدي الآب، حيث غطّت الظلمة وجه الأرض، فأخرجنا من عبودية إبليس وحرر الذين كانوا في الجحيم؟! وما هو هذا الصباح الذي فيه رأينا مجد الرب إلاَّ فجر الأحد الذي فيه قام من الأموات وأعطانا قوة قيامته وبهجتها؟!.
هـ. المنّ لم يعرفه الشعب [15]، والسيِّد المسيح تحيّر في حقيقته الشعب (1 كو 2: 8).
و. نزل المنّ على الخيام التي تُشير إلى أجسادنا، وجاءنا السيِّد المسيح إلى مساكننا وفي جسدنا، صار كواحد منا.
ز. نزل المنّ بعد تذمر الشعب، وجاء السيِّد المسيح بعدما قامت العداوة بيننا وبين الله، وكما يقول الرسول بولس: “ونحن أعداء صولحنا مع الله بموت ابنه” (رو 5: 10). وبنزول المنّ أعلن الله حبه ولطفه، برغم تذمر شعبه عليه. ومجيء السيِّد المسيح إلينا علامة رعاية الله ومحبته اللانهائية.
س. وصف المنّ أنه كدقيق أبيض كالثلج [14]، وصارت ثياب السيِّد المسيح القدُّوس “بيضاء كالثلج” (مز 9: 3).
ش. طعم المنّ كرقاق بعسل، والسيِّد المسيح “حلقه حلاوة وكله مشتهيات” (نش 5: 6).
ص. كان الشعب يلتقط المنّ صباحًا فصباحًا… وشركتنا مع ربنا يسوع المسيح متجددة كل يوم، ولقاؤنا معه مبكرًا جدًا “الذين يبكرون إليَّ يجدونني” (أم 8: 17).
ط. يلتقط المنّ ويطحن ويدق ويطبخ ليصير صالحًا للأكل، والسيِّد المسيح جاء متأنسًا، صُلب وتألم ومات وصار غذاًء وسرّ حياة لمن يأكله (مر 14: 13، 24).
ظ. إذ احتقر الشعب المنّ ضربهم الله ضربة عظيمة جدًا، ومن يأكل جسد الرب بدون استحقاق ينال دينونة لنفسه (1 كو 11: 27-33).
أخيرًا فإننا إذ نتحدث عن المنّ نجد فيه صورة حيَّة للشبع والاكتفاء، لكن بغير ترف زائد أو نهم. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لنا معدة واحدة فقط لكي نملأها. أما أنت يا من تريد أن تقوتها بترف زائد، فإنك تقدم لها ما تريد أن تتخلص هي منه. فكما أن الذين جمعوا (من المنّ) أكثر مما يجب، إذا بهم يجمعون دودًا ونتانة لا منًا، الذين يعيشون في ترف وطمع ونهم وسكر إنما يجمعون لأنفسهم فسادًا وليس طعامًا لذيذًا[232]].
4. شريعة السبت:
من جمع لنفسه منًا فائضًا لليوم التالي جمع دودًا ونتانة، وصار موضع سخط الله وغضب موسى النبي، لكنه إذ جاء يوم الاستعداد للسبت إلتزم الجميع بجمع ضعفين، وكان ذلك إشارة إلى الجمع والحفظ ليوم الراحة العظيم. وكما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [هذا اليوم (السابق) إنما هو الحياة الحاضرة التي فيها نعد أنفسنا للأشياء العتيدة[233]].
ماذا نعد للحياة العتيدة؟ يقول الرسول: “من يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فسادًا، ومن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية” (غلا 6: 8). ويقول العلامة أوريجينوس: [يليق بنا في اليوم السادس أن نجمع ونخزن ما يكفي لليوم التالي. إن كنت تجمع هنا أعمالاً صالحة، إن كنت تخزن هنا كنوزًا للبرّ والرحمة والتقوى، فإنها تمثل غذاءك في الدهر الآتي. ألا تسمع في الإنجيل أن الذي ربح عشرة وزنات أخذ مقابلها عشر مدن، والذي ربح خمس وزنات أخذ مقابلها خمسة مدن. هذا ما يقوله لنا الرسول بصورة أخرى “ما يزرعه الإنسان إيّاه يحصد” (غلا 6: 7)[234]]. كما يقول: [من خزَّن للسبت لم يفسد ولا أتى فيه دود بل بقى سليمًا، أما إن كُنت تُخزن للحياة الحاضرة حبًا في هذا العالم فسيتولد فيك الدود[235]].
5. قسط المنّ:
أمر موسى هرون أن يأخذ قسطًا واحدًا ويجعل فيه ملء العمر منًا ويضعه أمام الرب، يوضع فيما بعد في تابوت العهد. بقى هذا تذكارًا لعمل الله معهم، ويحمل شهادة رمزية لمجيء السيِّد المسيح المنّ الحقيقي النازل من السماء. وقد رأت الكنيسة في القسط رمزًا للقديسة مريم الحاملة للسيِّد المسيح في أحشائها.