تفسير سفر الخروج ٣ للقس أنطونيوس فكري
الإصحاح الثالث
آية (1): “وأما موسى فكان يرعى غنم يثرون حميه كاهن مديان فساق الغنم إلى وراء البرية وجاء إلى جبل الله حوريب.”
إلى وراء البرية= إلى الأراضي المراعي خلف منطقة الرمال الواسعة. جبل حوريب غالباً هو جبل موسى حالياً بسيناء.
آية (2): “وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة فنظر وإذا العليقة تتوقد بالنار والعليقة لم تكن تحترق.”
ملاك الرب= كلمة ملاك تعنى مرسل وتشير للأقنوم الثاني الابن الذي أرسل من الآب (يو37:5). وبحسب الفكر اليهودي فكل من ينزل من السماء فهو ملاك لأنه مرسل. وما يثبت أنه الأقنوم الثاني وليس ملاكاً عادياً (آية6) “قوله أنا إله أبيك.. ” بلهيب نار= إلهنا نار آكله (عب29:12). ولقد حل الروح القدس على التلاميذ على هيئة ألسنة نار. وظهر لإبراهيم على شكل مصباح نار (تك15) وظهر للشعب على الجبل على شكل نار. وهو نار إحراق وتطهير وهو نور ومحبة نارية؟ ولهيب النار كان من وسط عليقة العليقة هي شجرة شوك ضعيفة. وهو ترمز لإسرائيل وقد أحاطت بها أشواك وآلام العبودية في مصر ولكن الله في وسطها فلا تحترق، وتشير للكنيسة التي اشتعلت فيها نار الاضطهاد ولم تفنى وكانت الأشواك رمز للآلام والاضطهاد ولكنها كانت ملتهبة بنار الروح الإلهي فلم تمت. والعليقة كانت ترمز للعذراء مريم التي حملت في بطنها الأقنوم الثاني بناسوته المتحد بلاهوته الناري ولم تحترق. لذلك فالعليقة حملت سر التجسد الإلهي. ولاحظ أن الله ظهر وسط شجرة ضعيفة وليست شجرة أرز فالله يسكن عند المتواضعين (اش15:57). وقارن مع (2كو7:4). وقال القديس أمبروسيوس “لماذا نيأس، إن الله يتحدث في البشر، هذا الذي تكلم في العليقة المملوءة أشواكاً، أنه لم يحتقر العليقة، أنه يضئ أشواكي.
آية (3): “فقال موسى أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم لماذا لا تحترق العليقة.”
أميل الآن لأنظر= إعلانات الله كثيرة لكن على كل واحد أن يميل وينظر في جلسة هادئة أو صلاة أو خلوة مع الله. هنا دخل موسى إلى مرحلة جديدة هي مرحلة اللقاء مع الله. فحياة موسى 120سنة تنقسم إلى 3مراحل [1] 40 سنة في القصر. [2] 40 سنة في البرية [3] 40 سنة بعد أن تقابل مع الله وكان هذا سر قوته وعظمته.
آية (4): “فلما رأى الرب انه مال لينظر ناداه الله من وسط العليقة وقال موسى موسى فقال هأنذا.”
الله هو الذي يدعوه. حقاً كان المتحدث ناراً آكلة لكنها لا تؤذيه بل تسنده وتلهبه كما فعل الروح القدس مع التلاميذ فأحرق ضعفاتهم وأعطاهم قوة للحياة الجديدة.
آية (5): “فقال لا تقترب إلى ههنا اخلع حذاءك من رجليك لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة.”
كانت الأحذية ومازالت تصنع من جلود الحيوانات الميتة. وخلع الحذاء يشير لخلع محبة الأمور الزمنية الميتة عنا لنلتصق بالسماويات. ولذلك فحتى الآن نخلع أحذيتنا قبل دخول الهيكل لنذكر هذه المفاهيم أن الله يريد قداستنا وهو يدعونا لكننا لا يمكن أن نعاينه إلا بالقداسة (عب14:12).
آية (6): “ثم قال أنا إله أبيك إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب فغطى موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله.”
إله أبيك= المقصود بها إله كل آبائك وهكذا فهمها أسطفانوس (أع32:7) فغطى موسى وجهه= حتى لا يموت إذ رأى الله. وهكذا يصنع السيرافيم إذ يغطون وجوههم.
آية (7): “فقال الرب أني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر وسمعت صراخهم من اجل مسخريهم أني علمت أوجاعهم.”
ما يعزينا جداً في ضيقاتنا أن الله شاعر بنا عالم بما نقاسيه.
آية (8): “فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين وأصعدهم من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة إلى أرض تفيض لبناً وعسلاً إلى مكان الكنعانيين والحثيين والاموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين.”
إلى أرض تفيض لبناً وعسلاً= أي مكان خيرات. الكل يجد فيه شبعه حتى الأطفال الذين يتغذون على اللبن والعسل إشارة إلى حياة الشبع واللذة الروحية إشارة لكلمة الله الحلوة في أفواهنا وهي لنا كلمة تعليم نتغذى بها. لذلك كان المعمدون في الكنيسة الأولى يشربون أثناء طقس المعمودية لبناً ويأكلون عسلاً، إذ صار لهم حق الدخول إلى كنعان السماوية الموعود بها. مكان الكنعانيين= لشرورهم وفجورهم.
آية (11): “فقال موسى لله من أنا حتى اذهب إلى فرعون وحتى اخرج بني إسرائيل من مصر.”
من أنا حتى اذهب= هنا وصل موسى إلى أعلى مستوى من الإعداد إذ شعر أنه لا شئ. وهو الآن بينما هو أكفأ رجال عصره الذي أعطه الله طويلاً لهذا العمل، لكنه الآن في تواضعه يشعر أنه لا شئ.
آية (12): “فقال أني أكون معك وهذه تكون لك العلامة أني أرسلتك حينما تخرج الشعب من مصر تعبدون الله على هذا الجبل.”
أني أكون معك= هذا هو سر قوة موسى وكل خدام الله (يش5:1 + أر16:1 + مت20:28) والعلامة التي أعطاها له الله أنهم يعبدون في هذا الجبل أي أن الله سيرافقهم حتى يصلوا إلى هذا الجبل ويقيمون خيمة الاجتماع ويعبدون الله هناك لمدة سنة.
الآيات (13،14): “فقال موسى لله ها أنا آتى إلى بني إسرائيل وأقول لهم إله آبائكم أرسلني إليكم فإذا قالوا لي ما اسمه فماذا أقول لهم. فقال الله لموسى اهيه الذي اهيه وقال هكذا تقول لبني إسرائيل اهيه أرسلني إليكم.”
اسم الله يهوه
طبيعة موسى الضعيفة المتأثرة بالفشل السابق حين خرج متكلاً على ذراعه البشري جعلته يتردد في قبول الدعوة. وكان لا يجب أن يعتذر موسى بعد أن سمع الله يقول له “أني أكون معك” وكان أول سؤال لموسى عن اسم الله. والله في محبته أجاب موسى عن سؤاله. أهية ويهوه الإسمان بمعنى واحد في صيغتين مختلفتين من فعل الكينونة في العبرية هو أو هيا = To BE. فأهية هو صيغة المضارع للمتكلم الفرد أكون أو أنا هو = I AM. وبذلك يكون معنى أهية الذي أهية= أكون الذي أكون. كما أن يهوه هي صيغة المضارع للغائب= HE IS= يكون.
إذاً المعنى أن الله وحده هو الإله الكائن وكل الآلهة غيره آلهة كاذبة وأنه وحده هو الكائن الواجب الوجود أي الذي لابد أن يكون وهو كائن بذاته ولم يوجده أحد ولا يعتمد في وجوده على أحد فهو ليس مخلوقاً وهو الكائن بذاته ولم يوجده أحد ولا يعتمد في وجوده على أحد فهو ليس مخلوقاً وهو الكائن دائماً الأزلي الأبدي وفيه كل الكفاية. وهو الكائن وحده الذي بجواره يكون الكل كأنه غير موجود. وكأن الله أراد أن موسى يخبرهم بهذا الاسم ليدركوا الفرق بين من هو كائن وما هو ليس بموجود. والاسم يعني أنه إذا قورنت كل الأمور الزمنية بالله تصير باطلاً أو لا شئ. والعبارة تعلن عن الله بكونه الوجود الأول والسامي غير المتغير، وهو حاضر على الدوام، ليس فيه ماضٍ انتهى ولا مستقبل منتظر، لكنه فوق الزمن (حاضر دائم) وفيه نجد لنا ملجأ من كل تغيرات الزمن. وإن كان الله هو الوجود الدائم فمن يأخذ الاتجاه المضاد لله إنما يسير نحو العدم.
واليهود خافوا من نطق اسم يهوه فسموه الرب وباليونانية كيريوس. وهناك فرق بين الاسمين الله والرب. فالله يفهم منها أنه هو رب الخليقة كلها، مثلث الأقانيم كلي القدرة والألوهية، الخالق والمسيطر على كل الخليقة وحده. وأما اسم الرب أو يهوه، فبهذا الاسم يخاطب شعبه وخاصته كمهتم بهم، كإله محب مشبع لاحتياجاتهم وكما نقول في أوشية الإنجيل “لأنك أنت هو حياتنا كلنا، خلاصنا كلنا، رجاؤنا كلنا، شفاؤنا كلنا، قيامتنا كلنا” فهو واهب النعمة والمواعيد. وفي آية (12) أكون معك هي نفسها أهية.
وأسماء يهوه التي أتت في الكتاب المقدس هي:
يهوه يرأه= الرب يرى ويرتب.
يهوه نسى= الرب رايتي
يهوه شالوم= الرب يرسل سلاماً.
يهوه صدقينو= الرب برنا.
ولكن أهيه تشمل كل هذا، فهو كل شئ لنا، أي كل ما نحتاجه نجده فيه، (هو لنا شيك على بياض) وهذا ما قاله المسيح أنا هو نور العالم، أنا هو الراعي…. من قبل إبراهيم أنا كائن وباختصار أنا هو الألف والياء= أي أنا كل شئ. ويسوع المسيح هو هو أمس واليوم وإلى الأبد فهو كائن دائماً. ويهوه ترجمت باليونانية أنا هو= إيجو إيمي. لذلك قال المسيح حين ترفعون ابن الإنسان ستعرفون أني أنا هو (إيجو إيمي) (يو28:8) أي ستعرفون أني أنا يهوه. ولذلك حين جاء يهوذا ليسلمه مع العساكر سألهم يسوع من تطلبون قالوا يسوع قال أنا هو فسقطوا على وجوههم فكان المسيح بقوله هذا يعلن لاهوته وأنه هو يهوه. ولكن إذا حاولنا أن نعرف أكثر من ذلك لن نستطيع وسنسمع “لماذا تسأل عن إسمي وهو عجيب“.
وأثار موسى بعد ذلك عدة تساؤلات واعتراضات وأعطاه الله آيات تسنده أمام الشعب وحين اعتذر بكونه ثقيل الفم واللسان أفهمه الله أنه هو الذي خلق الفم واللسان ولما رفض بعد ذلك حمى غضب الله عليه. ولنلاحظ أنه هناك فرق بين التواضع وبين رفض الخدمة. وما كان لموسى أن يعتذر بعد أن سمع أن الله معه.
آية (15): “وقال الله أيضاً لموسى هكذا تقول لبني إسرائيل يهوه إله آبائكم إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب أرسلني إليكم هذا اسمي إلى الأبد وهذا ذكري إلى دور فدور.”
إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب= عجيب هو الله الذي ينسب نفسه لخاصته الأحباء ولاحظ تكرار هذا اللقب 3 مرات في لقاء الله مع موسى (آية 6،15،16). وهذا علامة صداقة الله مع الإنسان فمع أن الله هو إله العالم كله، إله السمائيين والأرضيين، لكنه ينسب نفسه لأصدقائه من البشر، هو لا يود أن يكون سيداً بل صديقاً فنراه يكلم موسى وجهاً لوجه ويقبل ضيافة إبراهيم ويتصارع حتى الفجر مع يعقوب. وإذ نربط الاسمين معاً يهوه وإله إبراهيم.. نقول أن الله غير المدرك ولا متغير الذي هو فوق حدود الزمن يقدم ذاته للبشرية ليتعرفوا عليه كإلههم الخاص المشبع لاحتياجاتهم. فهو الصديق والعريس والأخ والمخلص والخبز والقيامة والباب والطريق والحق.
آية (16): “اذهب واجمع شيوخ إسرائيل وقل لهم الرب إله آبائكم إله إبراهيم واسحق ويعقوب ظهر لي قائلا أني قد افتقدتكم وما صنع بكم في مصر.”
افتقدتكم= زرتكم بمعنى عرفت أحوالكم وهي نفس كلمة يوسف للشعب (تك24:50).
آية (18): “فإذا سمعوا لقولك تدخل أنت وشيوخ بني إسرائيل إلى ملك مصر وتقولون له الرب إله العبرانيين التقانا فالآن نمضي سفر ثلاثة أيام في البرية ونذبح للرب إلهنا.”
ثلاثة أيام= لقد طلب فرعون أن يذبحوا في مصر ولكن موسى أصر على السفر 3 أيام؟! فالطريق الذي يخرج فيه الشعب ليقدم لله ذبيحة إنما هو السيد المسيح نفسه الذي قام في اليوم الثالث، وخلال عبادته تقبل كل عبادة وتقدمة منا للآب. والثلاثة أيام هي التي قضاها المسيح في القبر لذلك علينا أن نموت عن كل شهوة للعالم (1يو15:2،16) فمصر تشير للعالم وسفر 3 أيام من مصر يشير للموت عن ملذات العالم وخطاياه، وإن فعلنا سنختبر قوة القيامة فلن نعرف قوة القيامة ما لم نصلب الأهواء مع الشهوات. ومحاولات فرعون منع الشعب من السفر 3أيام هي محاولات إبليس إغرائنا بملذات العالم فنحبه وبالتالي لا نختبر قوة القيامة. وطبعاً كان السبب الوجيه الذي يقدمه موسى لفرعون ليسمح له بالسفر أن العبادة تقتضي ذبح حيوانات يقدسها المصريون فلا يصح الذبح أمامهم.
وخبرة الثلاثة أيام اختبرها من قبل إبراهيم حين سار 3أيام ليقدم ابنه ذبيحة وعاد بعدها وقد اختبر قوة القيامة وخلال ال3 أيام كان يقدم ابنه ذبيحة حب.
آية (19): “ولكني اعلم أن ملك مصر لا يدعكم تمضون ولا بيد قوية.”
الله يسبق ويخبر موسى بعناد فرعون حتى لا ييأس.
آية (20): “فأمد يدي واضرب مصر بكل عجائبي التي اصنع فيها وبعد ذلك يطلقكم.”
وأمد يدي = أي أظهر قوتي الإلهية.
آية (22): “بل تطلب كل امرأة من جارتها ومن نزيلة بيتها أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثياباً وتضعونها على بنيكم وبناتكم فتسلبون المصريين.”
كانت العادة أن المسافر أو المهاجر يعطيه جيرانه عطايا تساعده خلال سفره لكن الله أعطى نعمة لشعبه فأعطاهم المصريين الكثير فالله لا يريد أن يصرفهم فارغين تسلبون المصريين= تعبير مجازي يعني أنهم يأخذون منهم عطايا كثيرة يستوفون بها أجرهم عن سنين العبودية والسخرة. وهم كأنهم كانوا في حرب مع المصريين وانتصروا فيها وما أخذوه هو أسلاب المنتصر. وهكذا روحياً فمن يغلب روحياً يحمل معه غنائم كثيرة من طاقاته الداخلية ودوافعه وأحاسيسه، يصير كل ما في داخله مكرساً لله.
سفر الخروج – أصحاح 3
تفاسير أخرى لسفر الخروج أصحاح 3
تفسير خروج 2 | تفسير سفر الخروج القمص أنطونيوس فكري |
تفسير خروج 4 |
تفسير العهد القديم |