تفسير سفر حزقيال ١ للقمص تادرس يعقوب
الباب الأول
دعوة حزقيال
[ص 1- ص 3]
الأصحاح الأول
المركبة النارية
يبدأ السفر برؤية العرش الإلهي ليؤكد لشعبه أنه يشتاق أن يشتركوا مع السمائيين في التمتع بمجده، ومن جانب آخر فهو غير محتاج إلى الهيكل الذي دنسوه والتقدمات والعبادة ما لم تكن قلوبهم مقدسة له، تتهيأ لسكناه.
كان لهذا الأصحاح مهابة خاصة لدى اليهود فلم يكن يُسمح لأحد أن يقرأه ويفسره علانية، لأنه يتعامل مع أسرار عرش الله[22].
مقدمة [1-3].
- الريح والسحابة والنار [4].
- المخلوقات الحية الأربعة [5-14].
- البكرات [15-21].
- المقبب [22-25].
- العرش والجالس عليه [26-27].
- قوس قزح [28].
مقدمة:
بدأ حزقيال النبي سفره بتحديد تاريخ أول رؤيا إلهية أُعلنت له، وموضع سكناه في ذلك الوقت، والظروف المحيطة به.
يقول: “كان في سنة الثلاثين” [1]. غالبًا ما يقصد أنه عندما بلغ الثلاثين من عمره فصار كاهنًا ولكن بلا عمل كهنوتي. وربما قصد السنة الثلاثين من بدء يوشيا الملك حركة ترميم الهيكل والإصلاح الديني، كما يُحتمل أنه قصد السنة الثلاثين من حكم نبوفالاسَّر والد نبوخذ نصر ملك بابل مؤسس الإمبراطورية البابلية. كان حزقيال مقيمًا على ضفاف قناة خابور عند تل أبيب[23] أو بجوارها (3: 15).
لقد بلغ حزقيال السن القانونية لاستلام العمل الكهنوتي من دخول إلى المقدسات وتقديم ذبائح واشتراك في الليتورجيات اليومية واحتفال بالأعياد وتمتع بالتسابيح المفرحة… لكن للأسف حُرم من هذا كله بسبب السبي، فكان يجلس عند ضفاف نهر خابور يبكي حال بلده وشعبه وهيكل الرب وكأنما كان يردد المزمور القائل:
“على أنهار بابل هناك جلسنا،
فبكينا عندما تذكرنا صهيون.
على الصفصاف في وسطها علقنا قيثاراتنا،
لأنه هناك سألنا الذين سبونا أقوال التسبيح،
والذين استاقونا إلى هناك،
قالوا:
سبحوا لنا تسبيحة من تسابيح صهيون.
كيف نسبح الرب في أرض غريبة؟!
إن نسيتك يا أورشليم أَنْسَ يميني…” (مز 136/ 137).
هكذا تمررت نفس الكاهن فارتفع به الروح إلى السموات ليدخل به إلى أورشليم العليا ويتمتع بالهيكل الأبدي، فلا يرى تابوت العهد والمنارة الذهبية ومذبح البخور… الخ، إنما يرى المركبة الإلهية النارية والعرش الإلهي الناري. انفتحت السموات [1] ليرى الأسرار الإلهية بما يناسب الظروف المحيطة به، لكي تمتلئ نفسه تعزية، إذ يرى خلالها الطبيعة البشرية المتجددة بالروح القدس الناري التي وُهبت لنا بالمسيح يسوع ربنا خلال مياه المعمودية المقدسة وقد صارت مركبة نارية تحمل الله نفسه!
انفتحت السموات أمام حزقيال النبي المسبي ليدخل كما إلى عرش الله القدير، فيدرك أن شئون البشر لا تسير بطريقة عشوائية، وإنما بتدبير إلهي عجيب، فالله ضابط الكل يهتم بكل ما يمس حياة الإنسان. هذا هو سّر تعزيتنا وسط الضيق.
أني أري (السماء مفتوحة)، آخرون لا يروا.
لا يظن أحد أن السماء مفتوحة بمعنى مادي بسيط. بل نحن الجالسون هنا نرى السموات مفتوحة ومغلقة حسب درجات استحقاقنا المختلفة. الإيمان الكامل يفتح السموات والشك يغلقها[24].
القديس جيروم
جاءت هذه الرؤيا الأولى والتي ستتكرر تخدم الأمور التالية:
أولاً: تعزي نفس حزقيال المحطمة، لكي يردد القول: “عند كثرة همومي في داخلي تعزياتك تلذذ نفسي” (مز 94: 19)، “لأنه كما تكثر آلام المسيح فينا كذلك بالمسيح تكثر تعزياتنا أيضًا” (2 كو 1: 5). لهذا رأى الرسول بولس الفردوس غالبًا وهو يُرجم في لسترة، واختطف الرسول يوحنا إلى يوم الرب وهو منفي في جزيرة بطمس.
ثانيًا: جاءت الرؤيا تناسب الظروف المحيطة بالخدمة، إذ يقدم الله رؤياه وعطاياه حسب احتياجات كرمه. فحين التقى الله بموسى كأول قائد للشعب يقوم بالعبور بهم من حالة العبودية القاسية إلى البرية ليدخل بهم خلال يشوع إلى أرض الحرية، ظهر له على شكل العليقة المملوءة أشواكًا المتقدة نارًا ولا تحترق، ليعلن سر التجسد الإلهي والألم والقيامة[25]. وكأنه لا انطلاقة للكنيسة إلا من خلال العمل الخلاصي بالمسيح المتجسد المصلوب القائم من الأموات. وجاءت المعجزات التي رافقت موسى النبي تؤكد ذات الشيء[26]. أما هنا فكانت نفسية الشعب محطمة، خاصة وأن الكلدانيين كانوا يطوفون بموكب الإله بيل أو مردوخ[27] في شوارع العاصمة في عظمة وأبَّهه، بينما حُرم هذا الشعب من هيكله وانقطعت عنه تسابيح التهليل، فظهر انكسارهم كأنه انكسار لإلههم. لهذا لم يعلن الله نفسه في عليقة بسيطة متقدة بل خلال المركبة النارية المملوءة مجدًا وبهاءً، وكأن الله قد أراد أن يؤكد لنبيِّه وشعبه أن مجده يملأ السماء والأرض حتى في اللحظات التي فيها يسلم شعبه للتأديب بواسطة الأمم.
ثالثًا: تعلن هذه الرؤيا عن عطية الله للطبيعة البشرية التي تتقدس بالتجسد الإلهي. فالمركبة النارية إنما هي الكنيسة المقدسة كعرش إلهي، تمثل الكنيسة الجامعة كما تمثل نفس المؤمن الذي صار عضوًا في كنيسة الله ومركبة نارية ملتهبة تحمل الله في داخلها، بقبولها الروح القدس في سرى العماد والميرون وتسليمها حياتها بين يديه ليعمل فيها على الدوام.
رابعًا: لعل الله أراد أن يعلن لحزقيال النبي ما ينبغي أن يكون عليه خادم الرب. فإن كان الله نارًا آكلة، هكذا خدامه أيضًا ينبغي أن يكونوا لهيبًا ناريًا (مز 104: 4)، إنهم يتشبهون بالمركبة النارية، حتى يستطيعوا بالروح القدس الناري أن يعملوا لحساب الله. في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [من يقوم بدور قيادي يلزمه أن يكون أكثر بهاءً من كوكب منير، فتكون حياته بلا عيب، يتطلع إليه الكل ويقتدون به[28]].
خامسًا: قبل استعراض الرؤيا قيل: “وصارت عليه هناك يدُ الرب” [3]. هذه العبارة محببة جدًا لدى حزقيال النبي، فإن كان بسبب السبي قد حُرم من استلام العمل الكهنوتي بالوراثة، لكن يد الرب امتدت عليه لتباركه وتسلمه روح النبوة… أنه مدعو من الله مباشرة ليرى أسرار ملكوت السموات، ويدرك خطة الله مع البشرية كلها عبر الأجيال حتى انقضاء الدهر. لقد عينه الله لخدمة المقُدَّسات السماوية!
سادسًا: يرى العلامة أوريجينوس في عظته الأولى على سفر حزقيال أن حزقيال هنا يمثل السيد المسيح في لحظات عماده. لقد صار بالحق ابنا للإنسان وهو الكلمة الحقيقية. جاء إلينا نحن المسبيين، لا لنرى المركبة النارية، إنما ليقودنا بروحه القدوس خلال مياه المعمودية بقوة صليبه إلى عرشه الإلهي. يفتح أمامنا سمواته، فنجد لنا موضعًا في حضن أبيه، فيه نستقر، وفيه نستريح إلى الأبد. إنه يحول كنيسته إلى مركبة نارية بروحه الناري، فننطلق جميعًا بقلوبنا إلى عرش نعمته، نختبر عربون مجده حتى نراه وجهًا لوجه.
ولكي نفهم هذه الأمور يلزمنا أن ندخل في بعض تفاصيل الرؤيا بإيجاز، والتي شملت ستة أمور: الريح والسحابة والنار، المخلوقات الحية الأربعة، البكرات، المقبب، شبه العرش والجالس عليه، وأخيرًا قوس قزح. هذه تحمل أسرارًا خاصة بالحياة السماوية كما بالكنيسة المقدسة وأيضًا حياة المؤمن الداخلية، خاصة خادم الرب. ولما كان النبي يحاول في هذا الأصحاح أن يصف ما لا يوصف، لهذا كثيرًا ما يكرر كلمة “يشبه”، وكأن اللغة البشرية والألفاظ والرموز لم تسعفه في التعبير عما رآه.
- الريح والسحابة والنار:
“فنظرت وإذا بريح عاصفة جاءت من الشمال. سحابة عظيمة ونار متواصلة
وحولها لمعان ومن وسطها كمنظر النحاس اللامع من وسط النار” [4].
حيث يعلن مجد الرب غالبًا ما تظهر هذه الأمور الثلاثة: الريح العاصف والسحابة العظيمة والنار المتواصلة. هذه التي اجتمعت بقوة في يوم البنطقستي في علية صهيون حين حل الروح القدس على التلاميذ لإقامة كنيسة العهد الجديد، إذ “صار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة، وملأ كل البيت، حيث كانوا جالسين، وظهرت لهم ألسنة كأنها من نار واستقرت على كل واحد منهم، وامتلأ الجميع من الروح القدس” (أع 2: 2-4). ظهر الريح العاصف الذي ملأ كل البيت علامة امتلاء الكنيسة بالروح الإلهي، والنار المتواصلة خلال الألسنة النارية التي أشعلت قلوب المؤمنين بنار إلهي لا يُطفأ والسحابة العظيمة التي هي جماعة التلاميذ الذين تقدسوا فصاروا سحابة شهود للرب (عب 12: 1).
من جهة الريح العاصف نلاحظ أن كلمة “ريح ruah” في العبرية تُترجم ريحا أو روحًا أو نفسًا حسب النص[29]. ولا يقف الارتباط بين الريح والروح عند حدود اللفظ، فالريح عند اليهود لم تكن مجرد ظاهرة طبيعية، لكنها غالبًا ما كانت تحمل معنى الطاقة الإلهية المعلنة في الطبيعة[30]. ففي العهد القديم غالبًا ما ارتبطت الحضرة الإلهية بالريح العاصفة. فقد أجاب الرب أيوب من العاصفة (أي 28: 1)، وخاطب الرب موسى “في الجبل من وسط النار والسحاب والضباب وصوت عظيم (العاصف)” (تث 5: 22). وإذ وقف إيليا على الجبل “إذا بالرب عابر وريح عظيمة وشديدة قد شقت الجبال، وكسرت الصخور أمام الرب” (1 مل 19: 11). لهذا يقول ناحوم النبي: “الرب في الزوبعة وفي العاصف طريقة والسحاب غبار رجليه” (نا 1: 3). كما يقول المرتل: “يأتي إلهنا ولا يصمت، نار قدامه تأكل حوله عاصف جدًا” (مز 50: 3).
ويعلق القديس أغسطينوس على قول المرتل هكذا: [هذا بلا شك يصنع نوعًا من الفصل. إنه ذاك الفصل الذي لا يتوقعونه حين تتمزق الشباك قبل أن يأتوا بها إلى الأرض (لو 5: 6). في الفصل يحدث تمييز بين الصالحين والأشرار[31]]. وكأن الريح العاصف قد أخذ مفهومًا أخرويًا في ذهن القديس أغسطينوس. فإنه ما دمنا في هذا العالم كالسمك في الشبكة لا يُفصل الأبرار عن الأشرار، لكن إذ يؤتى بها إلى الأرض، أي إلى يوم الرب العظيم، يقوم الريح العاصف بعزل هؤلاء عن أولئك.
هذا الفصل أو التمييز الذي يلازم مجيء الرب العظيم يتم حاليًا داخليًا في القلب. ففي عيد البنطقسي إذ هب الريح العاصف وهب الكنيسة روح التمييز لا لتدين الأشرار خارجها وإنما لتحكم في داخلها روحيًا، فتعزل الخبيث المتمسك بخبثه عن النفوس البسيطة والنقية، كما يحمل كل عضو في داخله روح التمييز الذي يدين الشر أو الضعف الذي يسقط فيه، سالكًا في النور، هاربًا من الظلمة. إنه يدين نفسه ويحكم على أعماقه الداخلية وتصرفاته وسلوكه قبل أن يُحكَم عليه.
أما في سفر حزقيال فقد شعر النبي “بالريح العاصف قادمًا من الشمال” [4] وكأن الرب يؤكد أنه يُهبُّ على شعبه بروح الفصل والتمييز ليؤدبهم على شرهم ويدخل بهم من خلال السبي والألم إلى الحياة النقية. الريح العاصف أو الزوبعة قادمة من الشمال، وقد كان الشمال عند اليهود يشير إلى الضيق والغموض. حيثما تهب الريح الشمالية اللافحة تحل الأوبئة ويحدث الدمار. فبينما كان الأنبياء الكذبة يتكلمون بالناعمات (إش 30: 10)، “قائلين: سلام سلام ولا سلام” (إر 8: 11)، لكي يهدئوا مخاوف الشعب، ويكسبوا القيادات لصفهم على حساب الحق، كان الأنبياء ينطقون بالحق ولو كان جارحًا. هذا ما يؤكده حزقيال النبي أن الله نفسه قادم للتأديب كما في ريح عاصف شمالي!
وقد ربط السيد المسيح بين الروح الإلهي والريح في مفهوم لاهوتي جديد بقوله: “الريح تَهُبُّ حيث تشاء وتسمع صوتها لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب، هكذا كل من ولد من الروح” (يو 3: 8). لقد كشف أن عمل الروح القدس في الولادة الجديدة من خلال المعمودية عمل سري غير منظور لكن يُدرك عمله وفاعليته في حياة المؤمن. إنه يَهبُّ كالريح العاصف ليهز أساسات القلب القديمة ويقيم منه مقدسًا جديدًا. ويبقى الروح يهبَّ دومًا في داخلنا لا كمن يأتي من الخارج ولكنه يقيم فينا، عاملاً لنمو إنساننا الجديد، يعمل فينا ونشعر به لكننا لا ندرك أسراره. هكذا كان الروح الإلهي يعمل حتى في العهد القديم من خلال تأديب الشعب القادم من الشمال بطريقة خفية لم يكن ممكنًا للشعب أن يراها، لكنه عمل الله فيه بعد عودته إليه.
أما عن السحابة العظيمة، فمنذ القديم ارتبطت الحضرة الإلهية بالسحاب، فعند خروج الشعب إلى البرية كان الرب يسير أمامهم نهارًا في عمود السحاب ليهديهم في الطريق (خر 13: 21)، وقد رأى الرسول بولس في ذلك رمزًا لعمل الروح القدس في المعمودية (1 كو 6: 2)، حيث يعبر بنا من العبودية إلى حرية مجد أولاد الله. وفي أكثر من موضع إذ كان موسى يتحدث مع الله كان مجد الرب يظهر في السحاب (خر 16: 10، 19: 9). وعندما نصب موسى خيمة خاصة خارج المحلة يلتقي فيها مع الله، يقول الكتاب “كان عمود السحاب إذا دخل موسى الخيمة ينزل ويقف عند باب الخيمة ويتكلم الرب مع موسى، فيرى جميع الشعب عمود السحاب واقفًا عند باب الخيمة” (خر 33: 9-10). وحينما دشنت خيمة الاجتماع “غطت السحابة خيمة الاجتماع وملأ بهاء الرب المسكن” (خر 40: 34). وحينما بُني الهيكل عوض خيمة الاجتماع في يوم تدشينه “لم يستطع الكهنة أن يقفوا للخدمة بسبب السحاب، لأن مجد الرب ملأ بيت الرب” (1 مل 8: 11). وفي العهد الجديد إذ ارتفع السيد بثلاثة من التلاميذ على جبل تابور وظهر موسى وإيليا جاءت سحابة نيّرة وظللتهم (مت 17: 5). ونقرأ في سفر الرؤيا عن مجيء الرب الأخير[32]“هوذا يأتي مع السحاب وستنظره كل عين والذين طعنوه وينوح عليه جميع قبائل الأرض” (رؤ 1: 7). فإلى أي شيء يُشير السحاب؟
أ. يرى القديسون كيرلس الكبير وأغسطينوس وجيروم أن السحاب يرمز لناسوت السيد المسيح الذي ظهر لنا خلاله وقد اختفي اللاهوت عن أعيننا، أما ظهوره في اليوم الأخير مع السحاب فيعني إخفاء مجد لاهوته عن الأشرار في يوم الدينونة فلا يتمتعون به، أما الأبرار فينعمون بأمجاد الإله المتأنس وينكشف لهم بهاؤه.
ب. يرى البابا ديونسيوس السكندري أن السحاب يشير إلى جماعة الملائكة غير المحصاة التي تظهر محيطة بالرب يوم مجيئه.
ج. يرى القديس أغسطينوس أن السحاب يشير إلى جماعة الكارزين، إذ يقول: “كلمة الله الذي هو المسيح يكون في السحاب، أي في الكارزين بالحق”[33]؛ بل ويرى كل عضو من أعضاء الكنيسة يمثل سحابة، فيه يأتي السيد المسيح، إذ يقول: “يأتي الآن في أعضائه كما في السحب، أو يأتي في الكنيسة التي هي السحابة العظيمة”[34].
د. يرى القديس أمبروسيوس أن السحابة التي تظلل الكنيسة هي جماعة الأنبياء الذين يقدمون لها شخص السيد المسيح خلال نبواتهم، إذ يقول: “كان موسى ويشوع سحابتين. لاحظوا أن القديسين هم سحب”، “هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها” (إش 60: 8) إشعياء وحزقيال كسحابتين فوقًا مني؛ الأول أظهر لي قداسة الثالوث خلال الشاروبيم والسيرافيم. الأنبياء جميعهم سحب، جاء فيها المسيح. لقد جاء في النشيد في سحابة صافية ومحبوبة، متألقة بفرح العريس (نش 3: 11). لقد جاء في سحابة سريعة، متجسدًا من العذراء، إذ رآه النبي قادمًا كسحابة من الشرق (إش 19: 1). بحق دعاه سحابة سريعة (خفيفة)، إذ ليس فيه شيء من تعلقات الأرض تثقله”[35].
هـ. في الحديث عن السحابة المنيرة التي ظهرت أثناء تجلى السيد المسيح يقول العلامة أوريجينوس[36]: “أتجاسر فأقول إن مخلصنا أيضًا هو السحابة المنيرة التي تظلل الإنجيل والناموس والأنبياء، إذ نالوا فهمًا؟ الذين رأوا نوره في الإنجيل والناموس والأنبياء”[37].
أما بخصوص النار المتواصلة، فقد قيل عن الله نفسه إنه نار آكلة (عب 1: 9)، خدامه أيضًا لهيب نار (مز 104: 4). فبظهور المركبة الإلهية خلال نار متواصلة يُعلن عن الحضرة الله النار المتقدة، الذي يحرق الأشواك الخانقة للنفس وفي نفس الوقت يهبها استنارة داخلية لتضئ كالبرق فيكون لها “لمعان ومن وسطها كمنظر النحاس اللامع من وسط النار”.
تحدث القديس كيرلس الأورشليمي عن الروح القدس الناري في النفس البشرية من خلال المعمودية، قائلاً: [لماذا تتعجب؟! خذ مثلاً من الواقع وإن كان فقيرًا ودارجًا لكنه نافع للبسطاء. إن كانت النار تعبر خلال قطعة حديد فتجعلها كلها نارًا، هكذا من كان باردًا يصير ملتهبًا، وإن كان أسود يصير لامعًا. إن كانت النار التي هي مادة تخترق الحديد هكذا وتعمل فيه بلا عائق وهو أيضًا جسم (مادة)، فلماذا تتعجب من الروح القدس أنه يخترق أعماق النفس الداخلية؟![38]].
ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كما أن قوة النار حين تتسلط على عروق الذهب الخام المختلطة بتراب الأرض تتحول إلى ذهب نقي، هكذا بل وأكثر من هذا يعمل الروح القدس في المعمودية في الذين يغسلهم، إذ يحولهم إلى ما هو أنقى من الذهب عوض الطين. فحينما يحل الروح القدس كالنار في نفوسنا يحرق أولاً صورة الترابي ليعطى صورة السمائي، فتصير كعملة بهية متلألئة خارجة من أفران الصهر[39]].
ويعلق القديس أغسطينوس على كلمات المرتل: “قدامه تذهب نار” (مز 97: 3) قائلاً: [هل تخاف؟ لنتغير فلا نخف! ليخف التبن من النار، لكن ماذا تفعل النار للذهب؟![40]]. كما يعلق على العبارة: “لأنك جربتنا يا الله، محصتنا كمحص الفضة” (مز 66: 10) هكذا: [لا لتحرقنا بالنار كالهشيم بل كالفضة. فباستخدام النار لا تصيرنا رمادًا بل تغسلنا من الدنس[41]].
- الأربعة مخلوقات الحية:
سبق لنا الحديث عن هذه الكائنات السماوية وقلنا إنها طغمتا الشاروبيم (الكاروبيم) والسيرافيم، وأشرنا إلى كرامة هذه الخليقة وعملها وشكلها وما ترمز إليه بشيء من الإفاضة أثناء تفسيرنا الأصحاح الرابع من سفر الرؤيا[42] غير أننا نضيف هنا الآتي:
أ. في سفر الرؤيا رأى القديس يوحنا لكل مخلوق حيّ وجهًا فرأى في الأربعة أربعة وجوه فقط. أما حزقيال النبي فيقول إنه رأى أربعة وجوه لكل مخلوق حي، من كل جانب وجه. ولعل السبب أن الأول تطلع إلى هذه الخليقة من جانب واحد، أما الأخير فتطلع إليها من كل الجوانب، إذ أنه رأى المركبة في حالة تحرك من كل الجهات.
هذه الوجوه كما يرى القديس يوحنا الذهبي الفم تشير إلى تشفع هذه الكائنات الروحية في جنس البشر (مثل وجه إنسان) وفي حيوانات البرية (شبه وجه أسد) وحيوانات الحقل (شبه وجه ثور) وطيور السماء (شبه وجه نسر)، لأنها كائنات قريبة من الله له المجد أكثر من سائر الروحانيين السمائيين.
وإن أخذنا بتفسير القديس غريغوريوس النزينزي والعلامة أوريجينوس نرى في المركبة النارية النفس وقد تقدست بكل طاقتها لتحمل العرش الإلهي، فالأسد يشير إلى القوة الغضبية، والعجل إلى الشهوانية، والإنسان إلى النطقية (العقلية) والنسر إلى الروحية. هذا هو عمل الروح القدس في النفس، إنه يلهب طاقاتنا بناره لا ليحطمها بل ليقدسها ويجعلها متكاملة معًا، فتصير أشبه بمركبة نارية تحمل الله فيها!
وإن أخذنا بتفسير القديس فيكتوريانوس[43] وإيريناؤس نرى في هذه الوجوه إشارة إلى الأناجيل الأربعة التي تدخل بالنفس إلى الخلاص فتتمتع بالملكوت لا كأمر خارج عنها بل في داخلها، وتصير هي مَقْدسًا للرب.
وإن أخذنا بتفسير القديس إيرونيموس نرى أن سر حملنا لله النار الآكلة يكمن في تمتعنا بالخلاص الإلهي من خلال التجسد (شبه وجه إنسان) والصلب (الثور) والقيامة (الأسد) والصعود (النسر). بهذا السر، سر الإله المتجسد المصلوب القائم من الأموات والصاعد إلى السموات تنطلق النفس كمركبة نارية لتحمل بالروح القدس الحياة الإلهية في داخلها.
أخيرًا إن كانت هذه الكائنات الأربعة تمثل الكنيسة المقدسة الحاملة للحياة الإلهية في داخلها فإن هؤلاء الأربعة إنما هم الأسقفية والقسيسية والشموسية، والشعب، إنهم أركان رئيسية تعمل معًا لحساب السيد المسيح، أيّ اختلاف لركن منها يفقد الكنيسة اتزانها ويسئ إلى رسالتها. إن فقد ركن عمله أو تفاعله مع الأركان الأخرى يخسر الكل حيويته، فالكنيسة ليست مُركَّزة حول أسقف أو كاهن أو شماس أو مسئول علماني (من الشعب) لكنها حياة متكاملة ومتفاعلة معًا.
ب. يظهر كل مخلوق بأربعة أجنحة، أما في سفر الرؤيا فلكل مخلوق ستة أجنحة، ولعل الاختلاف ناجم عن ظهور ما سماه حزقيال النبي بالمقبب على رؤوس الخليقة الحية، وكأن كل مخلوق حيّ قد رفع جناحين فوق رأسه على شكل قبة ليستر عينيه من بهاء عظمة الله، فلم يظهر الجناحان المرفوعان بل الأربعة الآخرين. هكذا النفس التي تتمتع بحياة الشركة مع الله خاصة خادم الرب، تصير كأنها كاروب بستة أجنحة تستر نفسها بجناحين، وتطير نحو الله بجناحين، وتخفي عينيها بالجناحين الآخرين من بهاء عظمته! وقد لاحظ حزقيال النبي أن أجنحة الكاروبيم متصلة الواحد بأخيه [9]، فإن كان الكاروب يمثل أعلى طغمة سماوية فإن حياته المقدسة الملتهبة نارًا لا تقبل كسرّ حمل للعرش الإلهي إلا باتحادها مع حياة غيره. ولعل هذا ما دفع القديس مقاريوس الكبير إلى القول: [بإن خلاص الإنسان في حياة الآخرين، إذ لا يستطيع التمتع بالخلاص منعزلاً عن أخيه بل بكونه عضوًا معه في الجسد الواحد للرأس الواحد].
ج. أرجلها قائمة وأقدام أرجلها كقدم رجل العجل وبارقة كمنظر النحاس المصقول [7]الأرجل القائمة تمثل استقامة الإنسان الروحي، الذي له قدمان كالنحاس المصقول، تدكان الأرض وتحطمان الأشواك؛ وتبرقان ببهاء السماويات دون أن تتسخا بتراب العالم. فالمؤمن الحقيقي يسير على العالم بلا خوف، متجها نحو السماء دون ارتباك بالزمنيات.
د. “أيدي إنسان تحت أجنحتها على جوانبها الأربعة” [8]. الإنسان الروحي يعيش طائرًا في السمويات كما بأجنحة الروح، يداه مستعدتان دائمًا للعمل لحساب ملكوت الله، لخدمة كل بشر! له الأجنحة كما الأيدي! ولعل وجود الأبدي تحت الأجنحة يعنى أن السمائيين يتعبدون لله ويخدمون البشر، لهم روح العبادة والخدمة معًا!
هـ. “أجنحتها متصلة الواحد بأخيه” [9] أي يتعبد الكل معًا بروح الحب والانسجام والوحدة.
و. أيضا تطلع النبي إلى هذه المخلوقات الحية فرأى وجوهها من كل جانب وكأنها بلا ظهر، تستطيع أن تتحرك في كل الاتجاهات دون أن تستدير [9] وكأنها بلا ظهر، إذ يليق بالحامل للعرش الإلهي وقد دخل إلى كمال المجد ألا يكون له ظهر، بل يكون كله وجوهًا، وكله عيونًا دائم التطلع إلى الله بلا عائق. لذلك عندما أخطأ الشعب لله عاتبهم قائلاً: “حوّلوا نحوي القفا لا الوجه” (إر 2: 27). التعبير الذي استخدمه أكثر من مرة على لسان إرميا النبي (7: 24، 18: 17، 32: 33)، وكأن حزقيال النبي جاء يكمل كلمات النبي إرميا بأسلوب آخر، فعوض أن يوبخهم على تقديم القفا لا الوجه يثير فيهم الاقتداء بهذه الخليقة السماوية فلا يكون لهم قفا مطلقًا بل تكون حياتهم في الرب كلها وجوهًا ولقاءات معه!
يصف النبي تحركها، قائلاً: “إلى حيث تكون الروح لتسير تسير” [12]. فالروح القدس هو الذي يقود الموكب الإلهي، يقود السمائيين والأرضيين المقدسين في الحق. يكرر كلمة “تسير” ليؤكد ضرورة التزامنا بالسير حسب خطة الروح القدس وتحت قيادته بلا انحراف يمينًا أو يسارًا.
ز. رأى النبي المخلوقات الحية دائمة الحركة بطريقة متناسقة، وهي كجمر نار متقد كمنظر مصابيح من النار ويخرج منها أشبه بالبرق [13]. إنها صورة حية لعمل الله فينا الذي يجعلنا دائمي الحركة نحوه، ُيلهبنا فيجعلنا نارًا متقدة، وينيرنا فنصير كالبرق مملوئين به بهاءً. إننا نتحرك بالروح الناري القدوس!
ج. صوت حركتها مرعب كصوت مياه كثيرة، كصوت جيش.
هذا هو عمل الله في حياتنا، يجعل من النفس جيشًا قويًا لا يغلبه الشيطان وكل قواته. لهذا يقول القديس كيرلس الأورشليمي لطالبي العماد: [يأتي كل واحد منكم ويقدم نفسه أمام الله في حضرة جيوش الملائكة غير المحصاة، فيضع الروح القدس علامة على نفوسكم. بهذا تُسجل أنفسكم في جيش الملك العظيم[44]]. ويقول الأب ثيؤدور الميصصي: [الآن قد اُخترت لملكوت السموات، ويمكن التعرف عليك. إن فحصك أحد يجدك جنديًا عند ملك السماء[45]].
ط. وفي الأصحاح العاشر دعي حزقيال النبي المخلوق الحيّ كاروبًا. والعجيب أن الكاروب ارتبط بخلاصنا ارتباطًا وثيقًا، ظهر في أول أسفار الكتاب المقدس ممسكًا سيفًا ملتهبًا نارًا يحرس طريق الفردوس حتى لا يدخل الإنسان إلى شجرة الحياة. إذ لا تقدر طبيعة الإنسان الساقطة أن تقترب من سر الحياة؛ كما ظهر في آخر أسفار الكتاب المقدس مع الأربعة وعشرين قسيسًا السمائيين يشتركون في تسبحة الحمل التي هي تسبحة خلاصنا (رؤ 5: 9)، إذ صار للإنسان حق الدخول إلى السماء عينها وقد تمجدت طبيعته في المسيح يسوع الحمل الحقيقي. أما بين بدء الكتاب ونهايته فيظهر أيضًا كاروبان على تابوت العهد في خيمة الاجتماع والهيكل علامة الحضرة الإلهية، وكان الله يتحدث مع موسى من خلالهما. أما وجود كاروبين فوق تابوت العهد حيث يمثل عرش الله، فيشير إلى أن الله الساكن وسط شعبه يتحدث معهم ويعاملهم خلال الرحمة والحب. أيضًا وجود اثنين يشير إلى دور السمائيين من نحونا: الصلاة لأجلنا والعمل كخدام للعتيدين أن يرثوا الخلاص (عب 1: 14). ورسم شكل الكاروب على ستائر الخيمة والحجاب (خر 27-25) يقترب من شكل الإنسان مجنحًا ليعلن عن اقتراب الطبيعة البشرية إلى الحضرة الإلهية.
لقد عرف الإنسان الكاروب، فصار ليس غريبًا عن البشرية، لهذا عرفته الأمم ولاسيما الكلدانيون، وإن كانوا قد أضفوا عليه أشكالا من عندياتهم كما فعل سائر الأمم في كل الحقائق الإيمانية التي تسلموها شفاهًا بالتقليد وصبغوها بفكرهم المنحرف.
إذن حين نرى الكاروب إنما نتذكر طبيعتنا البشرية التي تمتعت بالخلاص من خلال اتحادها مع الله في المسيح يسوع ربنا بواسطة روحه القدوس. أما وجوهه الأربعة فتشير إلى تقديس طبيعتنا الجديدة من كل جوانبها: العقلية (إنسان) والروحية (النسر) والعمل (الثور) والسلطان (الأسد).
ى. تبع القديس إكليمنضس السكندري فيلون اليهودي قائلاً: [إن كلمة “كاروب” تعنى “معرفة”، وكأنه من خلال المعرفة الروحية تصير حياتنا مركبة تحمل الله داخلها]. هذا ما قبله أيضًا القديس جيرومالذي رأى في الكاروب رمزًا لمخزن المعرفة التي تعمل في طبيعتنا لترفعها وتنطلق بها بين القوات السماوية. تعمل في طبيعتنا المتسلطة على الشهوات كأسد، وتحلق في الأمور العلوية كنسر وتعمل مجاهدة كالثور وبتعقل كإنسان. هذه المعرفة نغترفها من الأناجيل الأربعة، إذ يقول نفس القديس: [متى ومرقس ولوقا ويوحنا هم فريق الرب الرباعي، الكاروبيم الحقيقيون، أو مخزن المعرفة؛ فإن جسدهم مملوء عيونًا ومتلألئ كالبرق…، أقدامهم مستقيمة ومرتفعة، ظهرهم مجنح، مستعدون للطيران في كل الاتجاهات، كل واحد منهم يمسك بالآخر يتشابك الواحد مع غيره، كالبكرات وسط البكرات يتدحرجن على طول الخط، يتحركن حسب نسمات الروح القدس[46]].
ك. “المخلوقات الحية راكضة وراجعة مثل البرق” [14]. ربما يشير بذلك إلى خدمة السمائيين الذين يُرسلون إلينا لكنهم سرعان ما يركضون ليرجعوا إلى حيث العرش الإلهي يتمتعون برؤية الله. والمؤمن الحقيقي الذي يلتهب قلبه بالاشتياق نحو مخلصه، بين الحين والآخر يركض قلبه وفكره وتركض كل أحاسيسه لترجع كالبرق تتمتع بالتأمل في مخلصها. إنها تصرخ مع الرسول: “لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح، ذاك أفضل جدًا” (في 1: 23).
- البكرات:
“فنظرت المخلوقات الحية، وإذا بكرة واحدة على الأرض بجانب المخلوقات الحية بأوجهها الأربعة، منظر البكرات وصنعتها كمنظر الزبرجد. وللأربع شكل واحد ومنظرها كأنها بكرة وسط بكرة. لما سارت سارت على جوانبها الأربعة، لم تدر عند سيرها. أما أُطرِها (حوافها أو إطارها) فعالية ومخيفة، وأطرها ملآنة عيونًا حواليها للأربع. فإذا سارت المخلوقات الحية سارت البكرات بجانبها، وإذا ارتفعت المخلوقات الحية عن الأرض ارتفعت البكرات. إلى حيث تكون الروح لتسير إلى حيث الروح لتسير والبكرات ترتفع معها، لأن روح الحيوانات كانت في البكرات” [15-20].
أ. ما هي هذه البكرات التي على الأرض، التي تحمل في داخلها روح المخلوقات الحية، والتي تتحرك بانسجام معها، وفي نفس الوقت مرتفعة، ومخيفة ومملوءة أعينًا، منظرها كشبه حجر الزبرجد، البكرة في وسط البكرة؟ يجيب القديس جيروم: [البكرتان هما العهدان الجديد والقديم، فان القديم يتحرك في الجديد، والجديد يتحرك في القديم[47]]. ويدلل على ذلك بما جاء في الأصحاح العاشر: “أما هذه البكرات فنودي إليها في سمعى جلجل Gelgel” (10: 13 الترجمة السبعينية)؛ فإن كلمة جلجل غير كلمة جلجال Gilgal التي تعنى متدحرج (تث 11: 30) أو دائرة، فإن الأولى تتكون من كلمتين “جل جل” تعنيان “إعلان”[48]. وكأن الصوت الذي سمعه حزقيال النبي خارجًا من البكرات هو “إعلان العهد الجديد وإعلان العهد القديم”. فقد التحم العهدان معًا بقصد إعلان سر الخلاص البشرية بواسطة المسيح يسوع مركز الإنجيل. وفي هذا يقول القديس أمبروسيوس: [رأى النبي بكرة تجري وسط بكرة. هذه الرؤيا بالتأكيد لا تشير إلى أمر جسدي بل إلى نعمة العهدين. فالبكرة التي وسط البكرة هي الحياة تحت الناموس والحياة خلال النعمة. مادام داخل الكنيسة فإن النعمة احتوت الناموس[49]]. ويقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [العهدان مترابطان معًا ومتضافران كل منهما مع الآخر[50]؛ العهد القديم يكشف أسرار العهد الجديد ويوضحها خلال الرموز والنبوات، والعهد الجديد يكشف أسرار العهد القديم التي كانت مختفية وراء الظلال].
لقد رأى البكرات على الأرض لكن إطارها عال ومخيف، وكأن كلمة الله التي قدمت في العهدين نزلت إلينا خلال لغتنا البشرية لكي نتفهمها ونعيشها ونحن هنا على الأرض، وفي نفس الوقت هي مرتفعة ومخيفة ترفع النفس إلى السمويات، وتدخل إلى الأسرار المملوءة هيبة ورعدة. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لا يمكن لمن أنعم عليه بفاعلية كلمة الله أن يبقى هكذا في هذا الانحطاط الحاضر، بل بالأحرى يطلب له جناحين ينطلق بهما إلى الأماكن العلوية، مكتشفًا نور الصالحات غير المحدودة[51]].
ب. ترتبط البكرات بالأرض، فالمركبة النارية ترتبط بنا نحن البشر، لكي تحملنا من تراب هذا العالم إلى الحياة النارية السماوية.
إنها مركبة الله الذي قيل عنه إن طريقه في القدس وطريقه في البحر (مز 77: 13، 19)، إله السماء والأرض معًا؛ كل المسكونة تمجده.
ج. ارتباط البكرات بالأرض يؤكد أن الله هو ضابط التاريخ وصانعه، هو العامل في كل العصور… تبقى عجلة محبته ورعايته لبنى البشر تدور بلا توقف… حتى ولو لم يفهم الإنسان أسرارها وحكمتها!
د. أما منظرها فشبه منظر الزبرجد، وهو نوع من الحجارة الكريمة الشديدة الصلابة ذات اللون الأخضر الفاتح، وهو الحجر العاشر على صدرية رئيس الكهنة (خر 28: 20) التي بها يدخل مقدسات الله. وكأن الله يهب للنفس صلابة وقوة لمجابهة كل حروب الشيطان، اللون الاخضر الفاتح يشير إلى ما تقدمه في حياة الإنسان من ثمار إذ تجعل قلبه فردوسًا مفرحًا، أما وجوده على صدر رئيس الكهنة إنما يكشف عن عمل الكلمة فينا إذ تجعل أسماءنا منقوشة على صدر السيد المسيح أسقف نفوسنا الذي هو في حضن أبيه يشفع فينا، بالدم ليدخل بنا إلى حضن أبيه. أخيرًا فإن هذا الحجر هو أحد الحجارة التي تزين أساسات أسوار أورشليم الجديدة (رؤ 21: 20)… وكأن كلمة الله هي سر زينة العروس التي تتمتع بالدخول إلى حجال العريس إلى الأبد!
إذن كلمة الله هي الحجر الكريم الكثير الثمن الذي ينبغى أن يقتنية الكاهن والراهب والشعب كسرّ غلبة ونصرة واتحاد مع السيد المسيح ودخول إلى الحياة السماوية. لهذا حينما كتب الأب أغناطيوس بريانشانينوف كتابه “حلبة الاستشهاد” مقدمًا منهجًا للحياة الرهبانية عن آباء الكنيسة، بدأه بتوجيه أنظارالرهبان إلى الكتاب المقدس والوصايا الإنجيلية، قائلاً: [دعا الرهبان القدامى القديسون الحياة الرهبانية بالحياة حسب وصايا الإنجيل]، فُيعّرِف القديس يوحنا الدرجي الراهب هكذا: الراهب هو ذاك الذي تقوده وصايا الله وكلمة الله في كل وقت وفي كل موضع وفي كل أمر. كان الرهبان الخاضعون للقديس باخوميوس الكبير يلتزمون بتعلُّم الإنجيل عن ظهر قلب لكي تكون شريعة الإله المتأنس أشبه بكتاب مفتوح على الدوام في الذاكرة تراها عينا النفس دائمًا، مطبوعة على النفس لكي يتمموها بطريقة سهلة وبلا فشل. يقول الطوباوى الشيخ سيرافيم من صاروف: [يلزمنا أن ندرب أنفسنا لكي يكون الذهن سابحًا في شريعة الرب التي ترشد حياتنا وتحكمها[52]].
هـ. “أطُرها ملآنة عيونًا حواليها للأربع” [18]. الإنسان الروحي يحمل روح التمييز والحكمة، مملوء عيونًا…
هذه الأطر عالية ومخيفة [18]، يتسم الإنسان الروحي بالسمو الروحي فيُحسب في عينى السماء عاليًا ومكرمًا… إنه عالٍ لا يقدر عدو الخير أن يقتنصه، ومخيف لأن روح الله الذي فيه أعظم من كل طاقات شيطانية.
- المقبب:
“وعلى رؤوس المخلوقات الحية شبه مقبب كمنظر البلور الهائل منتشرًا على رؤوسها من فوق” [22].
لقد رأى على رؤوس هذه الخليقة الحية السماوية شبه جلد السماء (مقبب) على شكل قبة. هكذا حينما يتقدم المؤمن بكل طاقاته الجسدية والفكرية والنفسية والروحية كآلات برّ مقدسة للرب، تتحول حياته إلى شبه قبة سماوية تظلل قلبه الداخلي.
في هذا يقول القديس يوحنا سابا: [هوذا السماء داخلك إن كنت طاهرًا والملائكة فيها تنظرهم مشرقين]، [مملكة طاهر النفس داخل قلبه، والشمس التي تشرق فيها هي نور الثالوث القدوس، وهواء نسيمها هو الروح القدس المعزي، والسكان معه هم طبائع الأطهار الروحانية، وحياتهم وفرحهم وبهجتهم هو المسيح ضياء الآب[53]].
أما كون المقبب له منظر كالبلور الهائل المنتشر، ذلك لأن طبيعة البلور يعكس المنظر الذي أمامه في داخله كأنه مرآة، هكذا ينعكس في داخل المؤمن منظر الرب المحمول فوق المقبب. بمعنى أن النفس وقد صارت سماء للرب ومقدسًا له إنما صارت كالبلور الذي يحمل صورته ويعكس سماته فيها. هذا المنظر يذكرنا بما رآه القديس يوحنا: “وقدام العرش بحر زجاج شبه البلور” (رؤ 4: 6) ويرى الأسقف فيكتوريانوس أن هذا البحر إنما يشير إلى المعمودية، فكل من يرغب في الالتقاء بالجالس على العرش يلزمه أن يخوض هذا البحر فتخترق نعمة الله نفسه وتتهيأ للملكوت. أما كونه شبه البلور، فلأنه يليق بالمعمدين أن يكونوا ثابتين وأقوياء.
إذ تنعكس إشاعات الجالس على العرش، شمس البر، على البحر البلوري تظهر ألوان الطيف واضحة على المخلوقات الحية، أي تظهر مواهب الله وعطاياه المتعددة والمتنوعة في حياة المؤمنين.
- العرش والجالس عليه:
“وفوق المقبب الذي على رؤوسها شبه عرش كمنظر حجر العقيق الأزرق وعلى شبه العرش
كمنظر إنسان عليه من فوق. ورأيت مثل منظر النحاس اللامع كمنظر نار داخله من حوله
من منظر حقويه إلى فوق، ومن منظر حقوية إلى تحت رأيت مثل نار ولها لمعان من حولها”
[26-27].
إذ تحولت حياة المؤمن إلى قبة سماوية، انعكست عليها الألوان المختلفة خلال شبه البلور، فيظهر عليها عرش الله وفي داخلها، يظهر كلمة الله المتجسد ملكًا متربعًا على القلب. إنه كمنظر إنسان وفي نفس الوقت كمنظر النحاس اللامع، من حقوية إلى أعلى متقد نارًا، ومن حقوية إلى أسفل مملوء لمعانًا. هكذا يظهر الرب لنا بالنار المتقدة التي تحرق كل شر فينا، وبالبهاء الذي يسكبه على أعماقنا الداخلية فتنفتح بصيرتنا الداخلية وتمتلئ مجدًا. إنه يقترب إلينا لأجل مصالحتنا، فيحرق فينا أعمال الإنسان القديم ويملأنا بهاء بالإنسان الجديد!
رأى القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات سر التجسد الإلهي معلنًا من خلال هذه الرؤيا فقال: [إن هذه المركبة الحاملة لله هي القديسة مريم العذراء التي ظللها الروح القدس
فصارت ممجدة ومملوءة بالفضائل[54]].
- قوس قزح:
حيث يظهر العرش الإلهي نرى قوس قزح حوله (رؤ 4: 3)، ذلك لأن مجد الله ليس جبروتًا وعظمة فحسب إنما هو أيضًا حب بلا حدود. قوس قزح علامة الحب التي قدمها الله حين أقام عهدًا مع نوح بعد الطوفان (تك 9) ويبقى الله كمحب للبشرية يقدم لنا كل حب خلال عهده معنا. هذا القوس له ألوان كثيرة تعلن عن إحسانات الله وعطاياه المتعددة لنا. وهو كقوس يشير إلى القوس الذي كان مستخدمًا في الحروب، وكأن الله يدافع عنا بقوسه لكن بدون سهم لأنه غير محب لسفك الدماء، به نغلب الخطيئة وندوس على الشيطان.
يرى العلامة أوريجينوس[55] أن وجود الوجوه الأربعة معًا (الأسد والنسر والبقر والإنسان) إشارة إلى عودة المخلوقات الحية المقدسة إلى طبيعتها الأولى المستأنسة، فإن كان في العصر المسياني قد سكن الذئب مع الخروف، وربض النمر مع الجدى وصار الأسد يأكل تبنًا كالبقر (إش 11: 6)، فإنه يتحقق هذا التناغم الكامل في مجيء المسيح الأخير حيث يُصير الكل واحدًا فيه، ينعمون بالوحدة والسلام معًا فيه، حيث نوجد في السماء عينهما مع كل الخليقة السماوية.
أخيرًا نود أن نذكر ما قاله الأب نوفانيوس Novation من رجال القرن الثالث عن هذه الرؤيا، إذ رأى في المركبة النارية رمزًا لرعاية الله وعنايته، هذا الذي يتنازل من أجل الإنسان[56]، ففي رأيه المركبة هي العالم وما يضمه من كواكب بحركاتها المنتظمة. وقال إن الله يحكم العالم مستخدمًا الملائكة الذين رُمز إليهم بالمخلوقات الحية. أما البكرات فهي حركة الفصول والأيام، والأقدام تشير إلى حركة الزمن. العيون التي للبكرات هي عناية الله التي لا يخفي عنها شيء. والنار تشير إلى القوة الحيوية التي تنعش العالم، أو الحرارة التي بدونها يقف العالم في سكون. أما الحقوان اللذان يضبطان المخلوق الحي فهما الناموس الطبيعي[57].
من وحي حزقيال 1
أرني سمواتك!
v مشتاق أن أرى سمواتك!
أعلنت مركبتك السماوية لحزقيال نبيك،
وفتحت بابًا في السماء ليوحنا تلميذك،
وأنا أشتاق أن أرى سمواتك!
أريد أن أعرف: أين أستقر، يا حبيب نفسي؟!
v وسط المرارة في أرض السبي كشفت لنبيك مركبتك،
فأدرك أنك صانع التاريخ وضابطه!
اكشف لي عن أسرارك، فأطمئن أني محمول على ذراعيك!
v رآك حزقيال وسط الريح والسحابة والنار،
ليهب روحك القدوس على نفسي فأتنسم ريحًا سماويًا،
لترفعني كما على السحابة فلا تقتنصني الحية،
وليلهب روحك القدوس قلبي بنار حبك!
v مركبتك عجيبة للغاية، مركبة شاروبيمية،
لها أوجه مثل وجه الإنسان والأسد والثور والنسر.
احسبني مركبة وعرشًا تتربع في داخلي!
قدِّس كل ما في:
مشاعر قلبي كإنسان الله،
قوة نفسي كأسد فلا أخاف،
عطاياي وتقدماتي كثور ذبيحة محرقة لك،
فكري وتأملاتي فأطير كالنسر في السمويات!
v هب لي مع الشاروبيم ستة أجنحة:
هب لي اتضاعًا ورجاءً كجناحين أستر بهما رجلَّي كما من الخطية!
هب لي بصيرة ومحبة كجناحين، فأنظر بهاء مجدك!
هب لي اعلاناتك ونعمتك كجناحين أطير بهما إلى أحضانك!
v هب لي مع المخلوقات الحية عيونًا من الداخل والخارج!
هب لي حكمة سماوية لأحيا على الأرض وفي السمويات!
أرى سمواتك فأشتاق إلى الرحيل إليك!
أرى نور وجهك فأستنير بك وأصير نورًا!
v هب لي عيونًا من كل جانب، فأصير كلي وجهًا،
ولا يكون لي قفا قط،
في كل اتجاه أتحرك فلا أعطيك القفا بل الوجه.
v ما أعجب هاتين البكرتين في مركبتك السماوية،
يحركهما الروح بلا توقف!
ما أعجب العهدين: القديم والجديد،
بروحك القدوس أتمتع بأسرارهما فأتحرك نحو السماء دومًا!
أطرهما مرتفعة من الأرض إلى السماء…
لترفعني كلمتك في العهدين لكي لا أبقى بعد في التراب!
v ما أجملك أيها الجالس على العرش،
ما أعجب قوس قزح حولك!
أرني ذاتك… أريد أن أتمتع بك!
هب لي إيمانًا ثابتًا في وعودك الثمينة وعهدك الأبدي.