تفسير سفر حزقيال ٢٠ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح العشرون
تمردهم المستمر
إذ قدم مرثاة على الملوك ثم على إسرائيل ذاتها بكونها الكرمة التي لاقت عنايته ورعايته فاقتلعت ونقلت إلى أرض غريبة للتأديب، عرض هنا صورة سريعة لتمرد هذا الشعب المستمر عبر التاريخ بالرغم من إحسانات الله لهم غير المنقطعة.
- عتاب مع الشيوخ [1-4].
- تمردهم في مصر [5-9].
- تمردهم في البرية [10-17].
- تمرد الجيل الجديد في البرية [18-26].
- تمردهم في دخولهم كنعان [27-29].
- تمردهم في أيام حزقيال [30-32].
- تمردهم في أرض السبي [33-39].
- العودة والإصلاح [40-44].
- سيف نبوخذنصَّر المدمر [45-48].
إنه عرض تاريخي لمعاملات الله مع الإنسان، هو يقدم كل الحب ورعاية، والإنسان يقدم كل تمرد وعصيان. هذه هي طبيعة الإنسان بعد السقوط، لا يرى في الله صديقًا له بل الآمر الناهي، لهذا كثيرًا ما يعطيه القفا لا الوجه، يعجز عن تنفيذ وصاياه.
- عتاب مع الشيوخ:
في السنة السابقة جاء جماعة من الشيوخ يسألون النبي في أرض السبي عما سيحدث لمملكة يهوذا وللشعب المسبي في ذلك الحين، أما هو فوجه الحديث إلى توبة، إذ قال الرب: “حيّ أنا لا أُسأل منكم يقول السيد الرب” [3] إن كنتم قد أتيتم لتسألوني فانزعوا أولاً عنكم طبيعة التمرد التي عاشها آباؤكم وتعيشونها أنتم، حينئذ أستجيب طلباتكم.
كثيرًا ما نصرخ إلى الرب في وقت الضيق، وهو يريد أن ينقذ، ويشتهى أن يخلص، لكنه يريد أن يحقق الضيق غايته وهو توبتنا القلبية ورجوعنا من كل القلب إليه! إن كان الله يتأخر في الاستجابة ليس لإهماله إيانا وإنما علامة رعايته، إذ ينتظر صدق توبتنا لكي ننتفع من التجربة. طبيعتنا المتمردة تحتاج إلى نار الضيقة لكي نرتد إلى إلهنا ونطلبه بإخلاص.
- تمردهم في مصر:
طبيعة التمرد ليس أمرًا جديدًا في حياتهم لكنها لازمتهم منذ بدء ظهورهم كشعب أو أمة في أرض مصر. لقد دخل يعقوب وأولاده إلى مصر كعائلة، وخرج كشعب تحت قيادة أول قائد هو موسى النبي. في مصر حيث نبتت هذه الأمة وهذا الشعب كانت أصنام مصر ترعى في داخل قلبهم. لقد كشف الرب سرّ عبوديتهم في مصر، ليس قساوة قلب فرعون إنما انحراف قلب الشعب: “قلت لهم اطرحوا كل إنسان منكم أرجاس عينيه، ولا تتنجسوا بأصنام مصر، أنا الرب إلهكم، فتمردوا عليَّ” [7-8]. في الوقت الذي كان الله يتجسس لهم الأرض التي تفيض عسلاً ولبنًا “فخر كل الأراضي” [6]، رفضوا طرح أرجاس عيونهم والتخلي عن الأصنام، ومع هذا لم يسخط عليهم في أرض مصر بل أخرجهم بقوة لأجل اسمه القدوس [9]، حتى يتمجد فيهم وسط الأمم.
هكذا يهتم الله بالإنسان منذ خلقته، بل دبر خلاصنا وعبورنا من عبودية الخطيئة والدخول بنا إلى أحضانه، فردوس الحق الذي يفيض للنفس عسلاً ولبنًا، بينما يولد الإنسان وميكروب العصيان يسرى في دمه. التمرد طبيعة ورثناها عن عصيان أبوينا الأولين، لهذا يحتاج إصلاحنا إلى تغيير شامل لطبيعتنا.
- تمردهم في البرية:
ما أكثر عطايا الله في البرية! أعطاهم طعامًا طازجًا كل يوم مجانًا، فلا يحتاجون لا إلى حرث الأرض وتنقيتها، ولا إلى الزرع والحصاد، ولا إلى جمع الحصاد وتهيئة الطعام. وقدم لهم صخرة تفجر ماءًا عذبًا تتبعهم أينما ذهبوا، الأمر الذي يكلف الإنسان كثيرًا خاصة في الصحراء! لم تعوزهم ثياب جديدة أو أحذية ولا أدوية لعلاج مريض… كان يرعاهم في كل كبيرة وصغيرة، ومع هذا ففي عتابه لهم لم يذكر شيئًا من هذا بل ركز على أمرين اعتبرهما أفضل ما قدمه لهم: الوصية الإلهية وسبوته، إذ يقول: “وأعطيتهم فرائضي وعرفتهم أحكامي التي إن عملها إنسان يحيا بها، وأعطيتهم أيضًا سبوتي لتكون علامة بيني وبينهم ليعلموا أني أنا الرب مقدسهم” [12]. قدم لهم الوصية كفرائضه وأحكامه الخاصة به، والسبوت بكونها سبوته هو. بالوصية يحيا الإنسان، وبالسبوت يتقدس. هذا في رأى الله قمة ما فعله معهم في البرية.
أما الوصية فهي علامة حب الله للإنسان ورعايته، إذ لم يقبل أن يجعله كالكائنات غير العاقلة يسير حسبما تمليه عليه الطبيعة التي وهبت له من الله، بل قدم له الإرادة الحرة، ووهبه الوصية علامة هذه الحرية، له أن يقبل الحياة مع الله وله أن يرفضها. وكما يقول العلامة ترتليان: [لقد مكَّنه ككائن بشري أن يفتخر بأنه الوحيد الذي كان مستحقًا أن يتقبل وصايا من قبل الله، بكونه كائنًا قادرًا على التعقل والمعرفة، يضبط نفسه في هدوء برباطات الحرية العاقلة، خاضعًا لله الذي أخضع له كل شيء[202]].
والوصية أيضًا هي المجال الذي فيه يسلم الإنسان للرب إرادته بالطاعة فيتقبل الإرادة الإلهية عاملة فيه. إنه إذ يقبل الوصية إنما يقبل كلمة الله الذي يعمل فيه. لهذا يقول الرب: “إن ثبتم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي، وتعرفون الحق والحق يحرركم” (يو 8: 31، 33)، “الكلام الذي أكلمكم به روح وحياة” (يو 6: 63). ويقول القديس مرقس الناسك: [يختفي الله في وصاياه، فمن يطلبه يجده فيها[203]].
أما السبوت التي وهبنا الله إياها لتقديسنا، فتُشير إلى السيد المسيح نفسه الذي جاء في اليوم السابع كَسِرَّ راحتنا الحقيقية. لأن كلمة “سبت” تعني بالعبرية “راحة”، فلا راحة لنا إلا في المسيح يسوع. أنه سرّ السبت، فيه استراح الآب فينا، إذ وجده نائبًا عنا موضوع سروره، وفيه استرحنا نحن في الآب إذ نجد فيه أحضان الآب تستقبلنا. السيد المسيح هو سر سبتنا وسر تقديسنا!
يقسم القديس أغسطينوس تاريخ العالم الخلاصي إلى أيام الأسبوع هكذا:
اليوم الأول: من آدم إلى الطوفان،
اليوم الثاني: من الطوفان إلى إبراهيم،
اليوم الثالث: من إبراهيم إلى داود،
اليوم الرابع: من داود إلى السبي،
اليوم الخامس: من السبي إلى تجسد المسيح،
اليوم السادس: من التجسد إلى يوم الرب العظيم،
اليوم السابع: هو يوم الرب العظيم الذي فيه تجد البشرية راحتها في المسيح يسوع ربنا. بهذا يدخل بنا الرب إلى حياة بلا نهاية، فيه تستريح نفوسنا مع أجسادنا. “هناك نستريح ونرى، نرى ونحب، نحب ونُسبّح. هذا ما سيكون في النهاية التي بلا نهاية، فإنه أي هدف لنا نقصده لأنفسنا إلا بلوغ الملكوت الذي بلا نهاية[204]”؟!
يقول القديس أكليمنضس الاسكندرى: [إننا نتمسك بالسبت الروحي حتى مجيء المخلص، إذ استرحنا من الخطيئة[205]].
قدم الرب وصيته لهم علامة تقديره للإنسان أكثر من كل خليقة أرضية أخرى، أما هو فاحتقرها ولم يسلك فيها. وقدم له سبوته لأجل تقديسه أما هو فنجَّس سبوت الرب كثيرًا [13]. ومع هذا يقول الرب: “لكن عيني أشفقت عليهم عن إهلاكهم فلم أفنهم في البرية” [17]. هذه هي طول أناة الله نحونا وحبه لنا!
- تمرد الجيل الجديد في البرية:
عاد الله يؤكد للجيل الجديد الذي ولد في البرية ألا يسلكوا بروح آبائهم الذين خرجوا من مصر يحملون أصنامها في قلبهم، بل أن يسلكوا في فرائضه ويحفظوا أحكامه ويعملوا بها، ويقدسوا سبوته علامة العهد بينه وبينهم، ولم يكن الأبناء أقل تمردًا من آبائهم. لقد انجذبوا إلى أصنام آبائهم لا إلى الرب إلههم. ومع هذا كله فمن أجل اسمه لم يرد أن يسكب غضبه عليهم في البرية حتى لا يُحتقر أمام عيون الأمم.
ربما يعترض البعض على القول الإلهي:
“وأعطيتهم أيضًا فرائض غير صالحة وأحكامًا لا يحيون بها، ونجستهم بعطاياهم إذ أجازوا في النار كل فاتح رحم لأُبيدهم حتى يعلموا إني أنا الرب” [25-26].
إذ يُصِّر الخطاة على العصيان يقدم لهم وصاياه وأحكامه لخلاصهم [11]، لكنه لا يُلزمهم بها… فإن استمروا في إصرارهم يسلمهم إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق (رو 1: 28).
كلمة “أعطيتهم” هنا تعني “سمح لهم” أن يقبلوا الفرائض والأحكام الخاصة بالعبادات الوثنية فيمارسوا الإجازة في النار… ويهلكون.
- تمردهم في دخولهم كنعان:
إذ أطال مدة سياحتهم في البرية أربعين عامًا لكي ينسوا أصنام مصر التي حملوها معهم في قلوبهم، ودخل بهم إلى أرض جديدة، إذا بهم يتبنون العبادة الوثنية التي لهذه البلاد، فصاروا يقيمون عبادتهم على المرتفعات كأهل المنطقة. بدلاً من أن يكونوا شعب الله المقدس يمجدون الله في وسط الأمم، ساروا وراء نجاسات الأمم.
- تمردهم في أيام حزقيال:
عملية التمرد ليست عملية تاريخية لكنها واقعة حاضرة، انطلقت بظهور الشعب كأمة، ولاحقتهم في البرية حتى الجيل الجديد، والتهبت بالأكثر عندما دخلوا أرض الموعد، ولا تزال عاملة فيهم حتى في الوقت الذي كان فيه يتحدث حزقيال مع الشيوخ. يوبخهم الرب: “هل تنجستم بطريق آبائكم وزنيتم وراء أرجاسهم، وبتقديم عطاياكم وإجازة أبنائكم في النار تتنجسون بكل أصنامكم إلى اليوم؟!” [30-31]. لهذا كانت الإجابة “حيّ أنا يقول السيد الرب لا أُسْأَل منكم”. إنه لا يقبل سؤالهم ولا يستجيب طلباتهم حتى تتغير قلوبهم. إنه يؤدبهم بيد قوية وبذراع ممدودة، ويسكب سخطه عليهم ويشتتهم ويحاكمهم علانية [33-35].
- تمردهم في أرض السبي:
في هذا كله لا ينتقم بل يؤدب ليدخل بهم في عهد جديد. “وأُمِرُّكم تحت العصا وأدخلكم في رباط العهد، وأعزل منكم المتمردين والعصاة عليَّ ” [37-38] إنه يدخل بهم إلى البرية، لا برية سيناء كما فعل بآبائهم، بل إلى حالة جفاف وقحط داخل السبي وتشتيتهم بين الأمم لأجل توبتهم خلال العصا (لا 27: 32).
- العودة والإصلاح:
بعد أن قدم صورة لانحراف إسرائيل نحو الوثنية، بكونه انحرافًا قديمًا وعنيفًا ومهلكًا في نتائجه، وبالرغم من الماضي المظلم الشرير لكنه يشرق عليهم في نفس الأصحاح بمستقبل مملوء رجاءً بعودتهم من السبي وإصلاحهم كرمز إلى عودة الإنسان من سبى الخطيئة وإصلاح طبيعته الفاسدة. إنه يدخل بنا إلى “جبل قدسه”، إلى مقدساته، الجبل العالي، أي إلى كنيسة المسيح حيث تتعبد لله في المسيح يسوع، فيًشْتَمّ الله تقدماتنا رائحة سرور [41] ويرضى عنا. إنه خلاص لا عن استحقاقاتنا الذاتية، إنما من خلال النعمة المجانية إذ يقول: “لا كطرقكم الشريرة ولا كأعمالكم الفاسدة يا بيت إسرائيل يقول السيد الرب” [44].
- سيف نبوخذنصَّر المدمِّر:
إن كان قد أشرق عليهم بالرجاء في عودتهم وإصلاحهم لكنه يؤكد ضرورة التأديب أولاً بسيف نبوخذنصَّر المدمر الناري. إنه يبدأ بحريق فائق للطبيعة في منطقة الجنوب، حريق التأديب المُرّ حتى يحرق كل أشواك الخطيئة.
يبدأ بالتيمن[206]، الصحراء الجنوبية، إشارة إلى التأديب مملكة الجنوب (يهوذا وأورشليم).
أدار النبي وجهه نحو الجنوب [46-47]، أي نحو أرض إسرائيل ليرى كما من بعيد غابات لبنان… معلنًا: “هكذا قال السيد الرب: هأنذا أضرم فيك نارًا فتأكل كل شجرة خضراء فيك وكل شجرة يابسة؛ لا يُطفأ لهيبها الملتهب، وتحرق بها كل الوجوه من الجنوب إلى الشمال” [47]. هكذا يسكب الله نار دينونته عليهم ليدرك الكل قداسته وعدله.
يختم النبي الأصحاح بقوله: “آه يا سيد الرب؛ هم يقولون: أما يمثل أمثالاً؟!” [49]. هذا هو حال النفس المتراخية في بحثها عن مخلصها، فإنها تجد حديثه أمثالاً غامضة. وكما يقول القديس أمبروسيوس في تعليقه على كلمات النشيد: [في الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسي، طلبته فما وجدته” (نش 3: 1). (إنها تطلبه في الليل لأنه يتكلم بأمثال، فقد جعل الظلمة مسكنه وليلاً فليلاً يُظهر علمًا (مز 19: 3)… لكنها لا تجده بهذه الطريقة[207]…].
من وحي حزقيال 20
انزع عني تمردي!
v كلك حب يا إلهي،
أما أنا فإنسان متمرد!
من يخلصني من طبيعتي الجاحدة غيرك يا مخلصي؟!
v سألك الشيوخ في أرض السبي،
لم تجبهم، لأنك تريد توبتهم ورجوعهم إليك.
أرى في حديث نبيك معهم طبيعتي الجاحدة!
في مصر تمردوا عليك،
خرجوا بيدٍ قوية وذراع رفيعة،
لكنهم حملوا عبادة المصريين في قلوبهم!
في البرية كنت عجيبًا في رعايتك لهم،
أما هم فلم يكفوا عن التذمر.
في أرض الموعد كنت حصنًا لهم،
أما هم فعصوا وصاياك، واشتركوا في عبادة الأوثان!
أدبتهم بالسبي… وهناك عوض التوبة امتلأوا رجاسات!
تُرى ماذا تعمل معهم؟!
v لم تخلق الظروف في التذمر،
بل أنا بفساد قلبي أتعلل بكل ظرف لأعلن تمردي!
خلصني يا رب من جحودي المستمر!
ثبتني فيك فأحمل شركة الطبيعة الإلهية.
بتناولي جسدك ودمك المبذولين أحمل طبيعة الحب الباذل!