تفسير سفر حزقيال ٣٢ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثاني والثلاثون

مرثاة على فرعون مصر

ختم نبواته عن فرعون مصر بمرثاة مُرّة على فرعون مصر، وأخرى على جمهوره الذي صار قتلى بالسيف بين الغلف، إنهار رجاله الجبابرة مع الأمم التي اتكأت عليه:

  1. مرثاة على فرعون مصر         [1-10].
  2. مرثاة على جمهور فرعون       [11-16].
  3. مرثاة على فرعون مع الأمم      [17-32].

مرثاة على فرعون مصر:

بدأت المرثاة الأخيرة بفرعون ثم جمهوره ثم بالأمم المتشبهين به أو المتكلين عليه. جاءت هذه المرثاة بعد حوالي شهرين من وصول أخبار احتلال أورشليم إلى حزقيال النبي ورجال السبي.

بدأت المرثاة هكذا: قال له: “أشبهت شبل (أسد) الأمم وأنت نظير تمساح في البحار” [2]. ظن في نفسه أسدًا يحمي الأمم من ملك بابل ولم يدرك أنه مجرد تمساح حبيس نهره، لا يقدر أن يخرج من أرض مصر لينقذ أورشليم أو غيرها من يديْ بابل. لقد ظن أنه قادر على الإنقاذ فأثار ملك يهوذا، وعندما حوصرت أورشليم لم يقدر أن يخلصها، صار كمن يعكر الماء برجليه فلا يستريح ولا يترك غيره في راحة. هذا هو “التمساح الكبير الرابض في وسط أنهاره” (29: 3).

في الأصحاح 29 كان التمساح الكبير يفتخر بنفسه قائلاً: “نهري لي وأنا عملته لنفسي” (29: 3، 9). هذه الروح المتعجرفة لم تُحطم التمساح وحده بل حطمت السمك المتعلق بحراشيفه. تدفق بأنهار كبريائه على أنهار الآخرين فعكرها برجليه [2]. لهذا صارت دينونته قاسية ومُرّة، جلبت على غيره أيضًا الموت. فقد بسط الرب شبكته ليصطاد هذا التمساح مع الأسماك، (الشعوب) الكثيرة المتمثلة به أو المتعلقة بحراشيفه (32: 3، 29: 4).

أما تأديبات الرب فهي:

أ. يكرر ذات العقوبة الواردة في الأصحاح 29. إنه يخرجه من نهره، موضوع افتخاره وعجرفته، ويطرحه على الأرض اليابسة ليموت مع السمك المتعلق به، ويصير فريسة

لطيور السماء وحيوانات البرية.

ب. إذ يعتز هذا التمساح الكبير بنيله وما يجلبه من فيضان يعطى خصوبة للأرض ويغنيه بالخيرات، لهذا عوض فيضان الماء يفيض الله بدم التمساح على الأرض حتى يبلغ إلى الجبال وتمتلئ منه الوديان [6]. يُحوّل الكبرياء الماء دمًا، فينسكب دم المتكبر يحمل رائحة موت يشمئز منها الكل: الجبال العالية كما الوديان المنخفضة. عوض كلمات الافتخار التي تجتذب الكثيرين ليحتموا فيه، تفوح رائحة الموت فينفر الكل منه.

ج. إذ يخرج دمه منه يصير هذا التمساح الكبير جيفة نتنة ملقاة على الجبال وفي الأودية. بعد أن كان يظن في نفسه سندًا للآخرين إذا به يصير ثقل نتانة يُريد الكل أن يتخلص منه. إنه يصيره هو ومن حوله “أسرى”[269] في أراضى لا يعرفونها [9].

د. لا تقف دينونته عند هلاكه هو. وهلاك الشعوب المتعلقة به، وتحويل مياه النهر إلى دم مميت، وصيرورته ثقلاً تريد الجبال والأودية التخلص من جيفته النتنة، وإنما تبلغ فاعلية كبريائه إلى الشمس والقمر والكواكب الأخرى، إذ قيل: “وعند إطفائي إياك أحجب السموات وأظلم نجومها وأغشي الشمس بسحاب والقمر لا يضئ ضوءه. وأظلم فوقك كل أنوار السماء المنيرة وأجعل الظلمة على أرضك يقول السيد الرب” [7-8].

 إنها صورة مُرّة لعلامات النهاية كما أعلنها السيد المسيح نفسه (مت 24: 29)، ولعلامات المسيح الكذاب (رؤ 8: 12). كأن دينونة الإنسان المتكبر إنما هي عربون الدينونة الكبرى، وظل لعصر المسيح الدجال!

ما هذه السموات التي يحجب نورها إلا فقدان الإنسان كل فكر سماوي وعدم تذوقه للحياة الأبدية؟! ما هذه النجوم التي تظلم إلا الطاقات الروحية الداخلية وحواس الجسد؟! عوض أن تكون سر استنارة داخلية بالروح القدس تصبح سر ظلمة النفس وهلاكها. يغشى الشمس بسحاب، إذ لا تعود النفس ترى مسيحها – شمس البر- مضيئًا فيها؛ ولا يضيء القمر إذ لا يكون للحياة الكنسية بعبادتها وكرازتها أثرًا عليه، أما الأرض التي تغشاها الظلمة فهي جسد الإنسان، عوض أن يكون هيكلاً مقدسًا مستنيرًا بالرب يصير موضع ظلمة.

 في اختصار تحطم الكبرياء الإنسان تمامًا، تفقده المسيح شمس البر، والكنيسة القمر المضىء، وتحطم طاقاته الداخلية وتفسد قلبه وجسده، وتظلم كل أفكاره! تصير السماء والأرض بالنسبة له مظلمتين، الشمس والقمر كأن لا وجود لهما؛ والنجوم تتساقط في داخله.

هـ. أمام هذا الخراب الشامل للنفس والجسد كما للفكر والقلب تسري حالة من الرعب والرعدة في الشعوب الكثيرة بملوكهم، إذ قيل: “وأحيّر منك شعوبًا كثيرين ملوكهم يقشعرون عليك اقشعرارًا عندما أخطِر بسيفي قدام وجوههم فيرجفون كل لحظة كل واحد على نفسه يوم سقوطك[10]. هلاك المتكبر يرعب قلوب الخطاة إذ يشعرون أن دينونتهم قد اقتربت.

  1. مرثاة على جمهور فرعون:

لا يقف التأديب عند فرعون، وإنما يلحق بجمهوره فيسقطون بسيوف جبابرة ملك بابل. يهتز كبرياء فرعون وجمهوره وحيواناته.

 إن كان فرعون يمثل النفس المتكبرة فإن جمهوره يمثل طاقات النفس التي تعمل لبنيانها أو هدمها، أما حيواناته فتشير إلى الجسد بحواسه وطاقاته. يشمل الهلاك الإنسان بكل إمكانياته الخاصة بالنفس والجسد معًا.

أما المياه الكثيرة التي تنضب إنما هي نعم الله وعطاياه المجانية التي يسحبها الله من النفس المتعجرفة.

  1. مرثاة على فرعون مع الأمم:

في نهاية النبوة ضد فرعون وجمهوره ضم إليه في المرثاة عليه “بنات الأمم العظيمة” [18] معلنا أن يولولوا عليهن مع جمهور فرعون، لأن الجميع انحدروا إلى الأرض السفلى مع الهابطين في الجب. لعله قصد بأولئك البنات الأمم التي ارتبطت بفرعون وجيشه وسلطانه كما ترتبط النساء برجالهن يطلبن حمايتهن…

إنها نهاية جمهور الأمم أن ينحدروا إلى الجب السفلي، إلى الهاوية، كقتلى مطروحين مع الغلف. وقد تكرر هذا التعبير في هذا القسم كثيرًا [19، 25، 27، 29، 30، 31]. كانوا كجبابرة لهم رعبهم وخشيتهم في أرض الأحياء، فهبطوا بدنسهم (الغلف) قتلى مطروحين في الهاوية.

 لقد قُدم لفرعون وجمهوره أمثلة حية لدول عظيمة كانت كجابرة في أرض الأحياء وانتهت مطروحة كغلف مقتولين بالسيف، نازلين إلى الهاوية، مثل آشور [22] وعيلام [24] وماشك وتوبال [26]، وآدوم [29] وجميع الصيدونيين [30].

سبق لنا الحديث عن هذه البلاد أو الممالك فيما عدا عيلام، التي تنتسب إلى عيلام بن سام (تك 10: 22). ففي أيام إبراهيم كان كدر لعومر ملك عيلام قائد ملوك الشرق الذين غزوا الأردن (تك 14: 1-11). أما حدود هذه المملكة فهي وراء نهر دجلة شرق مملكة بابل وجنوب آشور وميديا وشمال خليج العجم، وغرب فارس. عاصمتها شوشان (شوش) لذلك سمى العيلاميون بالشوشانيين. في القرن الثامن ق.م انتصر ملوك آشور على عيلام واتخذوا من رجالها جنودًا مرتزقة في جيشهم اشتركوا في الهجوم على القدس (إش 22: 6). ضمها المديون (الفرس) إلى إمبراطوريتهم وحولوها إلى ولاية لهم، ولاعتبارهم بمكانتها جعلوا شوشن عاصمة لهم (دا 8: 2). وقد كان العيلاميون من جملة الشعوب التي حُملت إلى السامرة لسكناها بعد سبي يهوذا، ولما عاد اليهود من السبي كان بقايا هؤلاء المهاجرين من الذين قاوموا فكرة بناء الهيكل من جديد (عز 4: 9). حوالي عام 200 ق.م استعاد العيلاميون قوتهم وتسلط بعض ملوكهم على مدن في بابل. حاليُا عيلام جزء من إيران، تسمى مقاطعة خورستان.

 


 

من وحي حزقيال 32

اجعلني شبلاً لا تمساحًا!

v   ارتدى فرعون جلد شبل ليحمي أممًا،

فإذا به تمساح يأكل الأمم كسمك حوله!

v   بروح متعجرفة أدعى أنه صنع نيل مصر بيديه،

ولم يدر أنه بكبريائه قد عكر ماء النيل برجليه،

إنه لم يسترح ولا ترك الأمم حوله تستريح!

v   بسببه حجبت السموات أنوارها، وصارت الأرض في ظلمة!

فسدت نفسه (السماء)، وأيضا جسده (الأرض)!

v   اجعلني يا رب شبلاً،

ابنًا لك أيها الأسد الخارج من وسط يهوذا!

هب لي اتضاعًا فلا أعكر ماء النعمة في قلبي!

اشرق بنورك في داخلي يا شمس البر،

فتُضيء نفسي كسماء جديدة!

ويتقدس جسدي كأرض جديدة!

 

زر الذهاب إلى الأعلى