تفسير سفر عزرا ١ للقمص تادرس يعقوب
الباب الأول
عودة الشعب من بابل تحت قيادة زرُبابل
عزرا 1-6
تقدم لنا الأصحاحات الستة الأولى صورة عن الأحداث ابتداء من العودة من السبي من بابل (عز ا) وتنتهي بإصلاح الهيكل (عز 6).
العودة البدائية في بدء حكم كورش حيث استولى على بابل، كانت تحت قيادة شيشبصر “رئيس يهوذا” (1: 8)، غالبًا هو نفسه زرُبابل الأمير الملكي، ومعه يشوع الكاهن. وقام داريوس الملك الفارسي فيما بعد بمساندتهما على إتمام إعادة بناء الهيكل.
ما ورد في هذه الأصحاحات كان مدعمًا بمستندات، فذُكرت أسماء الأشخاص والأماكن والتواريخ والتقدمات والمراسيم الملكية مثل مرسوم كورش، والمراسلات بين رجال الدولة في غرب نهر الفرات والأباطرة الفارسيين.
غطت هذه الأصحاحات فترة حوالي 22 سنة، من سنة 538 ق.م (مرسوم كورش) إلى تدشين الهيكل عام 516 ق.م، وإن كان الكاتب قد تجاهل الإشارة إلى جوانب كثيرة من الحياة خلال العودة والإصلاح.
اَلأَصْحَاحُ الأَوَّلُ
الجالس على العرش
يحرك العروش والقلوب
يبدأ السفر بإبراز عمل الله لأجل شعبه، أو بالكشف عن يد الله الصالحة التي تعمل المستحيلات. فينبه روح كورش ملك فارس ليطلق نداء في كل مملكته كما بالكتابة بالسماح بعودة اليهود المسبيين إلى وطنهم. كما نبه الرب الكهنة واللاويين ورؤساء الشعب من يهوذا وبنيامين ليعدوا أنفسهم للعودة، وإن كان الله لم يُلزم أحدًا بالعودة قسرًا.
تنبأ إرميا أن الرجوع من السبي البابلي يتحقق بعد 70 عامًا (إر 25: 12؛ 29: 10).
عندما فتح كورش بابل التقى به دانيال النبي وقدم له نبوات إشعياء وإرميا، فاهتز قلب الملك أن ما يحدث معه قد أُعلن لليهود منذ قرنين، وأن إله السماء دفع إليه ممالك الأرض، ودعاه مسيح الرب. هنا يقدم الملك الوثني المستعمر ما يستحيل توقعه منه:
- آمن بإله السماء (وإن كان قد حسبه أحد الآلهة).
- حث الوثني الكهنة والشعب للتحرك والعودة.
- قدم آنية بيت الرب التي استولى عليها نبوخذنصر، ولم يقم ملوك بابل طوال عشرات السنين بصبها تماثيل لآلهتهم. يا للعجب روح الله يحرك الملك الوثني ويقيم قادة قديسين ويحرك قلوب الكهنة والشعب، بل ويحرك الشعب الوثني لتقديم هبات لإقامة هيكل إله السماء في أورشليم! هذا عمل الله ضابط التاريخ في حياة الكنيسة، كما في حياة كل مؤمن يتكئ على صدره! إنه يقدم لنا ما يبدو لنا مستحيلاً!
يسجل لنا الأصحاح الأول منشور الرجوع من السبي في السنة التي فيها غلب كورش بابل. نلاحظ أمانة الله الذي سمح بالتأديب إلى حين لأجل الإصلاح.
تظهر بعض النقوش المعاصرة لهذا الحدث أن كورش سمح لأممٍ أخرى أن ترجع إلى وطنها ومعها أصنامها. وإذ لم يكن لليهود أصنام يتعبدون لها لكي يأخذوها معهم عند عودتهم، أُعطيت لهم الأواني المقدسة التي للهيكل (1: 7؛ دا 5: 2).
كان يمكن لأي إنسان أن يعود، لكن لم يفعل الكل هكذا. فقد استقر البعض في بابل وازدهرت حياتهم، بينما كانت الحياة في اليهودية قاسية. ففضلوا أن يدفعوا الآخرين للرجوع بتقديم تبرعات لبناء بين الرب، دون أن يرجعوا.
تحقيق الوعد الإلهي 1-4
جاءت فاتحة هذا السفر تطابق خاتمة سـفر أخبار الأيام الثاني (2 أي 36: 22-23). إذ لم يرد كاتب سفر أخبار الأيام الثاني أن يختم السفر بأحداث مؤلمة ومرة، وإنما أراد تأكيد أن الله لا ينسى شعبه حتى وإن طالت مدة التأديب. لقد سبق فوعد الله بأرميا النبي أن السبي لن يدوم أكثر من 70 عامًا (إر 25: 12؛ 29: 11). وجاء سفرا عزرا ونحميا يسجلان تحقيق هذا الوعد الإلهي حرفيًا وبدقة.
سبق أن وهب الله دانيال فهمًا للأحداث وتعَّرف مدة السبعين عامًا، فانسكب في صلاة بتذلل يعترف بخطاياه وخطايا شعبه التي سببت هذا السبي: “أنا دانيال فهمت من الكتب عدد السنين التي كانت عنها كلمة الرب إلى إرميا النبي لكمالة سبعين سنة على خراب أورشليم. فوجهت وجهي إلى الله السيد طالبًا بالصلاة والتضرعات بالصوم والمُسح والرماد، وصليت إلى الرب إلهي واعترفت وقلت…” (دا 9: 2-4).
وَفِي السَّنَةِ الأُولَى لِكُورَشَ مَلِكِ فَارِسَ،
عِنْدَ تَمَامِ كَلاَمِ الرَّبِّ بِفَمِ إِرْمِيَا،
نَبَّهَ الرَّبُّ رُوحَ كُورَشَ مَلِكِ فَارِسَ،
فَأَطْلَقَ نِدَاءً فِي كُلِّ مَمْلَكَتِهِ وَبِالْكِتَابَةِ أَيْضًا قَائِلاً: [1]
لا تعني السنة الأولى من ملكه في فارس (إيران)، بل السنة الأولى من ملكه على بابل؛ أي سنة 538 ق.م. لأنه لم يكن له سلطان على بابل (العراق) المدينة العظيمة، ولم يتخيل أحد إن فارس تحتل بابل، لأن نبوخذنصر اعتبر نفسه ملك الأرض كلها، وفارس كانت دُوَيلة صغيرة.
على خلاف ملوك بابل الذين كانوا يجدون مسرتهم في إذلال الشعوب المسبية، فكانوا يحملون آلهتها إلى بابل ويقيموها كأنصبة تذكارية، كنوعٍ من الإعلان عن عجزها وهزيمتها، وكافتخار لبابل غالبة الشعوب كان ملوك مادي وفارس، خاصة كورش، يحترمون الآلهة، كما يحترمون الشعوب ما دامت تدفع الجزية وتخضع لهم سياسيًا.
إذ قدم دانيال النبي النبوات لكورش، معلنًا له أن نصرته من قبل الرب، وأن ما تم سبق فتنبأ عنه الأنبياء، إلا أن عزرا يرى اليد الخفية العاملة في قلب كورش، فيقول: “نبه الرب روح كورش ملك فارس“، وكما يقول سليمان الحكيم: “قلب الملك في يد الرب، كجداول مياه حيثما شاء يميله” (أم 21: 1). الله الذي سمح لنبوخذنصر بالاستيلاء على أورشليم وهدم الهيكل وسبي الشعب لتأديب إسرائيل، هو الذي تكلم في قلب كورش ليصدر أمره بالعودة لمن يشاء، وبناء المدينة والهيكل. يقول دانيال النبي: “الذي له الحكمة والجبروت، وهو يغير الأوقات والأزمنة، ويعزل ملوكًا وينصب ملوكًا” (دا 2: 20-21). كما يقول الحكيم: “للهدم وقت، وللبناء وقت” (جا 3: 3), فقد سبق فكان وقت للهدم، والآن جاء الوقت المناسب للبناء.
بعث الملك نداءً في كل مملكة، يعلن عن رغبته في بناء بيت الرب في أورشليم، شفاهًا وكتابة. كما احتفظ بنسخة من هذا المنشور في سجلات الدولة الرسمية، هذه التي ظهرت قيمتها بعد في أيام داريوس الملك (عز 6: 1).
كورش: وُلد في عيلام سنة 590 ق.م، وملك في عيلام سنة 558، وفتح مادي سنة 549، وفارس سنة 548، ولود سنة 540، وبابل سنة 538، ولأن فارس كانت أهم أجزاء مملكته لُقب “ملك فارس“، وكان من أفضل الملوك القدماء في أخلاقه، كما في اقتداره في الحروب، وعُرف بسماحنه الدينية.
هل آمن كورش بإله إسرائيل؟
لا نعجب من أن كورش ينسب نفسه للرب إله السماء، فإن كان قد عرف أنه توجد نبوة منذ حوالي قرنين بأن يبني لله إله السماء بيتًا في أورشليم (إش 44: 28 ، 45: 1)، فلا يعني هذا أنه قبل الإيمان بالله الواحد، إنما كان يحترم جميع الديانات والآلهة. لذلك أصدر مراسيم مكتوبة لشعوب كثيرة خاضعة له كي يردوا الآلهة إلى بلادها في كرامة. وقد وجد بين حفريات هورمزد راسام Hormuzd Rassam لبابل سنة 1879- 1882 قطعة من الطين على شكل برميل، منقوش عليها مرسوم مشابه لما ورد هنا[7].
“وَبِالْكِتَابَةِ أَيْضًا”: أصدر منشورًا مكتوبًا كوثيقة قانونية تُحفظ في سجلات الحكومة.
70 سنة السبي: يرى البعض بدأ السبي في السنة الرابعة ليهواقيم ملك يهوذا أي سنة 605 ق.م، وجاء النداء بالعودة إلى أورشليم عام 538، فتكون مدة السبي حوالي 70 عامًا. ويرى البعض أن سبي يهوذا تحقق بالكامل سنة 568 ق.م حيث تهدم لهيكل وأعيد بناؤه سنة 516 ق.م، فتكون مدة السبي 70 عامًا تمامًا.
هَكَذَا قَالَ كُورَشُ مَلِكُ فَارِسَ:
جَمِيعُ مَمَالِكِ الأَرْضِ دَفَعَهَا لِي الرَّبُّ إِلَهُ السَّمَاءِ،
وَهُوَ أَوْصَانِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا فِي أُورُشَلِيمَ الَّتِي فِي يَهُوذَا [2].
يرى يوسيفوس المؤرخ اليهودي أن دانيال أطلع كورش على ما ورد في سفر إشعياء عن مجيء كورش ليبني بيت الرب ويطلق المسبيين (إش 45: 13). شعر كورش أن ما بلغه من نجاح هو من قبل الله، وليس بقدرته الشخصية، وشعر بالالتزام والمسئولية في تحقيق رسالته.
يرى إشعياء النبي في عودة الشعب من بابل خروجًا ثانياً، إذ قيل: “اخرجوا من بابل، اهربوا من أرض الكلدانيين، بصوت الترنم أخبروا نادوا بهذا، شيعوه إلى أقصى الأرض، قولوا قد فدى الرب عبده يعقوب” (إش 48: 20). كان كورش رمزًا للسيد المسيح الذي أرسله الآب ليبني كنيسة الله، بيته.
امتدت مملكة فارس في أيام كورش، فكانت تضم إثيوبيا جنوبًا، وقبرص ومصر غربًا، وتسيطر على الماديين والفارسيين والأرمن والسريان والآشوريين والعرب والكبادوك وسكان فيرجينا وليديا وفينيقية والهند وكيلكيا وشعوب أخرى كثيرة[8].
ما يجب ملاحظته أن الأسفار التي وردت بعد السبي غالبًا ما تلقب الله “إله السماء” بينما التي سبقت السبي غالبًا ما تدعوه: “رب الجنود”[9].
يرى البعض أن الله تدخل عن طريق رؤيا أو حلم لتأكيد أن ما حدَّثه عنه دانيال من نبوات إنما هو من الله إله السماء.
يشعر المؤمن أنه بالحق قد صار ملكًا صاحب سلطان، ليس لعدو الخير أن يقتحم أعماقه. وأمام هذه العطية الإلهية يلتزم أن يبني لله بيتًا في قلبه، أورشليم الداخلية، بعمل روح الله القدوس. يقول الرسول: “أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم، لأن هيكل الله مقدس الذي أنتم هو” (1 كو 3: 16-17). “أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم… الذي لكم من الله، وأنكم لستم لأنفسكم” (1 كو 6: 19).
v هيكل الله مقدس، لكن من يرتكب الزنا فهو يدنس المقدسات[10].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v في النظرة الأفلاطونية الجسد سجن، أما نظرة بولس له أنه هيكل الله، لأنه في المسيح[11].
العلامة ترتليان
v إنه ساكنٌ في السماء جالسٌ عن يمين العظمة، ولكنه أيضًا على الأرض متحدٌ بجميع القديسين اتحادًا وثيقًا وساكنٌ فيهم. هو في العلا، ولكنه أيضًا مع السفليين[12].
v والآن، إذن، يا أبنائي الأحباء، اقتنوا هذه الحرارة الثانية (الروحية) لكي يصير كل شيءٍ خفيفًا عليكم. ففي الحقيقة إنّ هذه الحرارة التي بحسب الله تطرح إلى خارج كل هوى، وتطرد من الإنسان كل ثقلٍ (أي همٍّ أو ضجر)، وتجعل اللاهوتية تُسكنه بحيث يصير هيكلاً لله، كما هو مكتوبٌ: “سأسكن فيهم وأسير بينهم” (2 كو 6: 16)[13].
القديس مقاريوس الكبير
v احترس من داخل ومن خارج لكي لا تَدِينْ أحدًا، ولا تلُوم أحدًا. لأن رجل الصلاة هو الذي يقف مصلِّيًا أمام الله، فهو يناجيه ويسبِّحه، إذ إنه يتفرَّغ لله ويمجِّده كل حين. مشدود الحقوين، يحمل مصباحه، وله في أوعيته زيتًا. إنه متشدِّدٌ بقوته، فهو قوي بالله. يحارب مقابل الشياطين ويحمل ثمرًا لله. قلبه نقيٌّ. وهو هيكلٌ لله ومسكن للروح القدس. وهو بيت مبني على الصخر. إنه طويل الأناة، وديعٌ يقظٌ[14].
القديس إسطفانوس الطيبي
v لا تجعل جسدك في القلاية بينما قلبك في مصر! لكن اجعل جسدك هيكلاً لله، ووجِّه أفكارك واقتنِ لك فكرًا ثابتًا.
رسالة أنبا بولا
v إن قال أحدٌ إنّ له محبة فلا يكن له شيء مكروه عند المسيح إطلاقًا. دعنا نهتم بتنقية قلوبنا من أوجاع الإنسان العتيق التي يُبغضها الله، لأننا نحن “هيكل الله” (2 كو 6: 16)، واللاهوت لا يسكن في هيكل ملوث بالأوجاع. فلندخل، إذن، ونتمِّم هدوءنا القليل، لأنه يكفي ما عُمِل. ولنصلِّ طالبين أن تكون حياتنا الهادئة حسب مشيئته، ممجِّدين ثالوثه القدوس الذي بلا عيب.
القديس برصنوفيوس
مَنْ مِنْكُمْ مِنْ كُلِّ شَعْبِهِ لِيَكُنْ إِلَهُهُ مَعَهُ،
وَيَصْعَدْ إِلَى أُورُشَلِيمَ الَّتِي فِي يَهُوذَا،
فَيَبْنِيَ بَيْتَ الرَّبِّ إِلَهِ إِسْرَائِيلَ.
هُوَ الإِلَهُ الَّذِي فِي أُورُشَلِيمَ. [3]
جاء أمر كورش يحترم إرادة الإنسان وحريته، فترك للمسبيين كامل الحرية للبقاء في أماكنهم أو العودة إلى وطنهم.
نحن نعلم أن أورشليم قائمة على جبال مرتفعة، فمن يرغب في الذهاب إليها يصعد، “َيَصْعَدْ إِلَى أُورُشَلِيمَ الَّتِي فِي يَهُوذَا”. وكما يقول المرتل: “أنت الذي أريتنا ضيقات كثيرة وردية، تعود فتحيينا، ومن أعماق الأرض تعود فتصعدنا” (مز 71: 20).
إن كان كورش يدعو المؤمنين أن يصعدوا إلى أورشليم، فقد جاء سفر المزامير يحمل قسمًا يُدعى “مزامير المصاعد”، يضم المزامير 120 إلى 134. وكان هذا التجميع يستخدمه الزائرون القادمون إلى أورشليم في الأعياد العظمى، حيث كان الصاعدون إلى أورشليم يعطون ظهورهم للعالم ويتمتعون بجبال أورشليم المقدسة وهيكل الرب المقدس، فتتهلل نفوسهم. إنه صعود إلى عربون السماء.
في هذا الصعود يشعر المؤمن أنه كفطيم على صدر أمه (مز 131: 2). يشعر أن سرّ راحته هو سكنى الله وسط شعبه (مز 132)، واجتماع الكهنة مع الشعب في شركة صادقة. يتغنى القادمون للرب، ويسبحونه حتى بالليالي (مز 134).
كانت هذه المزامير الخمسة عشر يطابقها درجات السلم للهيكل (7 درجات في الخارج و8 درجات في الداخل). وكأنه يليق بمن يود الدخول إلى هيكل الرب أن يصعد على هذه الدرجات.
v من كان لا يزال في أدنى الدرجات فليثبت عينيه نحو أعلى الدرجات، أي الدرجة الخامسة عشرة. من بلغ الدرجة الخامسة عشرة، فقد بلغ ردهة الهيكل. هذا هو الهيكل الذي نراه الآن في خرابٍ، لأنه أخطأ ضد الرب. ماذا يقول الرب؟ “قم، لنصعد من هنا… تأملوا إلى لحظة كيف أن الهيكل الأرضي هو رمز للهيكل السماوي[15].
القديس جيروم
هذا الصعود يصاحبه صعود روحي لا يمكن تحقيقه ما لم يرافقه صاحب المدينة والبيت: “ليكن إلهه معه“، فقد نزل إلينا إلهنا لكي بصعوده يحملنا معه إلى أورشليم العليا، ونستقر في الهيكل السماوي.
v الآن (في عيد الصعود) نحن الذين قبلاً حُسبنا غير أهلٍ للبقاء على الأرض رفعنا إلى السماوات.
نحن الذين كنا قبلاً غير مستحقين للمجد الأرضي، نصعد الآن إلى ملكوت السماوات، وندخل السماوات، ونأخذ مكاننا أمام العرش الإلهي.
هذه الطبيعة التي لنا، التي كان الشاروبيم يحرس أبواب الفردوس منها، هوذا اليوم ترتفع فوق الشاروبيم!
كيف يمكننا أن نعبر على حادث عظيم هكذا عبورًا سريعًا؟!
لأننا نحن الذين أسأنا إلى مثل هذه المراحم العظيمة، حتى صرنا غير مستحقين للأرض ذاتها، وسقطنا من كل سلطان وكرامة، بأي استحقاق نرتفع إلى كرامة علوية كهذه؟!
كيف انتهى الصراع؟!
لماذا زال غضب الله؟
فإن هذا هو بحق عجيب: إن السلام قد حلّ، لا بعمل قام به الذين أثاروا غضب الله، بل الذي غضب علينا بحق هو نفسه يدعونا إلى السلام. إذ يقول الرسول: “إذًا نسعى كسفراء عن المسيح كأن الله يعظ بنا” (2 كو 5: 20). وماذا يعني هذا؟ أنه بالرغم من أننا أسأنا إليه، فإنه هو الذي يسعى إلينا ويدعونا إلى السلام. إنه حقًا هكذا، فإذ هو الله، وهو الإله المحب يدعونا إليه…
انظروا إلى طبيعتنا كيف انحطت ثم ارتفعت. فإنه ما كان يمكن النزول أكثر مما نزل إليه الإنسان، ولا يمكن الصعود إلى أكثر مما ارتفع إليه المسيح. ويوضح بولس ذلك إذ يقول: “الذي نزل هو الذي صعد أيضًا”. وأين نزل؟! “إلى أقسام الأرض السفلى”، وصعد إلى “فوق جميع السماوات” (أف 4: 9-10).
افهموا من هذا الذي صعد؟!
إنني أتأمل في عدم استحقاق جنسنا حتى أدرك الكرامة التي نلناها خلال مراحم الرب المملوءة حنوًا. فإننا لم نكن سوى ترابًا ورمادًا… لكن اليوم ارتفعت طبيعتنا فوق كل الخليقة!
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
“يبني بيت الرب إله إسرائيل“، إذ لم يعد الشعب منقسمًا إلى مملكتين أو شعبين: إسرائيل ويهوذا، إنما انضم الشعبان معًا، أو عادت الوحدة إلى الشعب وهم تحت التأديب.
وَكُلُّ مَنْ بَقِيَ فِي أَحَدِ الأَمَاكِنِ حَيْثُ هُوَ مُتَغَرِّب،ٌ
فَلْيُنْجِدْهُ أَهْلُ مَكَانِهِ بِفِضَّةٍ وَبِذَهَبٍ وَبِأَمْتِعَةٍ وَبِبَهَائِمَ،
مَعَ التَّبَرُّعِ لِبَيْتِ الرَّبِّ الَّذِي فِي أُورُشَلِيمَ. [4]
في الخروج الأول طلب اليهود من المصريين أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابًا (خر 12: 3)، أخذها العبرانيون معهم عند تركهم مصر. أما هنا فقد أصدر ملك فارس نفسه أمرًا، طالبًا من شعبه، سواء كانوا يهودًا أو من الأمم أن يساهموا في تحقيق رغبته: بناء بيت الرب. بقوله: “فلينجده” يبرز أن هذا العطاء عمل إنساني كريم فيه نجدة للعائدين لبناء هيكل الرب.
إذ كان بعض اليهود محبوبين من أهل الأماكن الوثنية، حث كورش هؤلاء الوثنيين على مساندة اليهود بالفضة والذهب والأمتعة والبهائم مع التبرع لبيت الرب في أورشليم، وكما جاء في رؤ 12: 16 أن الأرض أعانت المرأة (الكنيسة).
كل خليقة الله صالحة، الفضة والذهب والأمتعة والحيوانات، يُمكن استخدامها فيما هو للخير، أن أحسنا استخدامها. أما إن تعلقت قلوبنا بها لا بالخالق فنسيء استخدامها وتصير عثرة لنا في طريق خلاصنا.
v لا تظن أن الفضة أو الذهب يجب أن يُلاما بسبب الجشعين، ولا الطعام والخمر بسبب النهمين والسكارى، ولا الجمال النسائي بسبب الزناة والفاسقين. وهكذا في كل الأمور الأخرى، خاصة حينما ترى طبيبًا يستخدم نارًا بطريقة صالحة بينما قاتل يستخدم خبزًا به سم لتنفيذ جريمته[16].
v إذ فقد أيوب كل غناه وبلغ إلى أقصى الفقر، احتفظ بنفسه غير مضطربة، مركزًا على الله ليظهر أن الأمور الأرضية ليست بذات قيمة في عينيه، بل كان هو أعظم منها، والله أعظم منه. فلو أن رجال أيامنا هذه لهم ذات الفكر، لما كنا مُنعنا بإصرارٍ في العهد الجديد من امتلاك هذه الأشياء لكي ما نبلغ الكمال. لأن امتلاكنا مثل هذه الأشياء دون التعلق بها لشيء جدير بالثناء أكثر من عدم امتلاكها نهائيًا[17].
v إن أردنا أن نرجع إلى بلدنا الأصلي حيث توجد سعادتنا، يلزمنا أن نستخدم هذا العالم، لا أن نتمتع به، لكي ما نرى “أمور الله غير المنظورة مُدركة بالمصنوعات” (رو 1: 20). بمعنى أننا ندرك الأبدي الروحي من خلال ما هو جسدي وقتي.[18]
القديس أغسطينوس
الرب ينبه روح الشعب 5-6
فَقَامَ رُؤُوسُ آبَاءِ يَهُوذَا وَبِنْيَامِينَ وَالْكَهَنَةُ وَاللاَّوِيُّونَ،
مَعَ كُلِّ مَنْ نَبَّهَ اللهُ رُوحَهُ،
لِيَصْعَدُوا لِيَبْنُوا بَيْتَ الرَّبِّ الَّذِي فِي أُورُشَلِيمَ. [5]
روح الله الذي أشرق بنور المعرفة على الأنبياء،: إشعياء وإرميا ودانيال ليروا العودة بروح النبوة هو نفسه الذي حرك روح كورش لإصدار الأمر بالعودة، وهو بنفسه حرك روح رؤساء آباء يهوذا وبنيامين والكهنة واللاويين وغيرهم ليصعدوا لبناء بيت الرب دون اعتبار لمقاومة الأعداء أو للمخاطر التي تقابلهم سواء في الطريق أو في أورشليم نفسها. وإن كان البعض صمم على البقاء في أماكنهم من أجل مكاسبهم المادية. لم يكن قرار العودة إلى أورشليم سهلاً، فالمدينة محروقة بالنار، وبلا أسوار، والأعداء محيطون بها، والطريق شاق، مملوء بالمخاطر وغير معروف لديهم. أكثرهم لم يروا أورشليم من قبل، والبعض رأوها وهم أطفال صغار. هذا ومن الصعب عليهم أن يتركوا مصالحهم في بابل من أراضٍٍ وأموال وعبيدٍ ومغنين ومغنيات (عز 2: 65). هؤلاء كانوا في حاجة أن ينبه الله أرواحهم لينطلقوا إلى أورشليم.
الذين تجاوبوا مع روح الله ترنموا قائلين: “إن نسيتك يا أورشليم تُنسى يميني، ليلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك. إن لم أفضل أورشليم على أعظم فرحي!” (مز 137: 5-6). هذه هي أغنية كل مؤمنٍ حقيقي يشتهي الانطلاق إلى أورشليم العليا لينعم بالوجود في الأحضان الإلهية، ويتمتع بالأمجاد السماوية.
يرى القديس جيروم في هؤلاء الصاعدين من بابل لبناء بيت الرب، الخطاة الذين يذكرون حياتهم الماضية المقدسة، ولا ينسونها، بل يطلبون أن يعملوا العمل الروحي كما بأياديهم اليمنى، ويردد لسانهم عمل الله معهم، لكي يرجعوا إلى حياتهم الأولى المقدسة[19].
وَكُلُّ الَّذِينَ حَوْلَهُمْ أَعَانُوهُمْ،
بِآنِيَةِ فِضَّةٍ وَبِذَهَبٍ وَبِأَمْتِعَةٍ وَبِبَهَائِمَ وَبِتُحَفٍ،
فَضْلاً عَنْ كُلِّ مَا تُبُرِّعَ بِهِ. [6]
حين يركز الإنسان على أورشليم العليا، يستخف بكل الزمنيات، فإذا بها تجرى وراءه وتلتصق بقدميه. وكما قيل عن الرسل أن أصحاب الحقول أو البيوت كانوا يبيعونها ويأتون بأثمان المبيعات ويضعونها عند أرجل الرسل (أع 4: 24-35).
عودة آنية بيت الرب 7-11
وَالْمَلِكُ كُورَشُ أَخْرَجَ آنِيَةَ بَيْتِ الرَّبِّ،
الَّتِي أَخْرَجَهَا نَبُوخَذْنَصَّرُ مِنْ أُورُشَلِيمَ،
وَجَعَلَهَا فِي بَيْتِ آلِهَتِهِ [7]
يمثل كورش الإنسان الجاد، يقرن كلماته بالعمل. فقرن كورش أمره بإخراج آنية بيت الرب التي سبق نبوخذنصر فسلبها (2 مل 25: 13-15). والعجيب أن تبقى هذه الآنية نحو 70 عامًا ولم يفكر أحد من الملوك بابل في صهرها واستخدامها كحلي أو صنع تماثيل لهم أو لآلهتهم.
أَخْرَجَهَا كُورَشُ مَلِكُ فَارِسَ عَنْ يَدِ مِثْرَدَاثَ الْخَازِنِ،
وَعَدَّهَا لِشِيشْبَصَّرَ رَئِيسِ يَهُوذَا. [8]
مثرداث: اسم فارسي معناه “معطى من مثرا Mithra أي إله النور أو إله الشمس”. كان خازن كورش، وكان مُستأمنًا على آنية الهيكل.
شيشبصر: يرى البعض أنه شخصية أخرى غير زربابل، لكن الرأي السائد أنه هو زربابل نفسه، اسمه البابلي شيشبصر، ومعناه “الفرح وسط المتاعب[20]” أو “إله الشمس” ويرى البعض أنه يعني “عابد النار[21]”. ويرى آخرون أنه اسم أكادي معناه “ليت سن (إله القمر) يحمي الأب”. أما اسمه العبراني “زربابل” ومعناه “المولود أو المزروع أو الغريب[22] في بابل”. وذلك مثل دانيال والثلاثة فتية، كانت لهم أسماؤهم العبرية، وأعطاهم البابليون أسماء كلدانية. زربابل هو ابن شالتيئل الابن الأكبر للملك يهوياكين الذي مات بدون ذرية، فتزوج أخوه الأصغر من امرأته، وأنجب له نسلاً حسب الشريعة (تث 25: 5-6). فيحسب الشريعة زربابل هو ابن شالتيئيل (عز 3: 2)، ويحسب الطبيعة هو ابن فدايا (أي 3: 9).
وَهَذَا عَدَدُهَا: ثَلاَثُونَ طَسْتًا مِنْ ذَهَبٍ،
وَأَلْفُ طَسْتٍ مِنْ فِضَّة،ٍ
وَتِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ سِكِّينًا [9]
حفظت آنية بيت الرب في هيكل للأوثان، وربما استخدمت هناك، لكنها كأوانٍ للكرامة تبقى عين الرب ساهرة لردها إلى بيته، فإن الرب يعلم الذين هم له (2 تي 2: 19).
وَثَلاَثُونَ قَدَحًا مِنْ ذَهَب،ٍ
وَأَقْدَاحُ فِضَّةٍ مِنَ الرُّتْبَةِ الثَّانِيَة،ِ
أَرْبَعُ مِئَةٍ وَعَشَرَةٌ وَأَلْفٌ مِنْ آنِيَةٍ أُخْرَى. [10]
ردّ الآنية الذهبية والفضية أعطى الراجعين دفعة قوية لبناء بيت الرب، فقد حملوا مقدسات ثمينة، ليس فقط من جهة قيمتها المادية، وإنما كمقدسات ثمينة خاصة ببيت الرب.
جَمِيعُ الآنِيَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ خَمْسَةُ آلاَفٍ وَأَرْبَعُ مِئَةٍ.
الْكُلُّ أَصْعَدَهُ شِيشْبَصَّر،
عِنْدَ إِصْعَادِ السَّبْيِ مِنْ بَابِلَ إِلَى أُورُشَلِيمَ [11]
واضح أننا إذا جمعنا الآنية الواردة في العددين 9 و10 لا تبلغ 5400 آنية. غالبًا ما سجل في العددين 9 و10 الآنية الكبيرة، وهنا يذكر المجموع كله من آنية كبيرة وصغيرة.
من وحي عزرا 1
لتُقم مسكنك في داخلي!
v نفسي تئن مع المسبيين في بابل.
علقت قيثارتي على شجرة الصفصاف.
كيف أسبح لك، وأنا في أرض الخطية؟
كيف أتهلل ونفسي مُستعبدة للعدو؟
أنت تعلم الذين هم لك،
ها أنا لك، لا تتركني في بابل العنيفة!
v قلبي يصرخ: ردني إلى أورشليمك.
ارفعني من المزبلة، وضمني إلى حضن أبيك!
قُدني في مواكب الإيمان المتهللة!
أصعدني إلى مقدساتك السماوية.
v تسبحك نفسي من أجل كل عطاياك!
لكن تبقى في عطش إليك وحدك!
عطاياك تشهد لحبك لي،
فلست أود أن يمتلكني العالم الذي خلقته لأجلي.
بل أنت وحدك تمتلكني يا ملك الملوك.
حررني من كل شهوة زمنية،
ولتصب كل شهواتي فيك.
أنت هو حياتي وإكليلي!
مقدمة |
تفسير سفر عزرا |
تفسير عزرا 2 |
تفسير العهد القديم |