تفسير سفر التكوين ٤٦ للقمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح السادس والأربعون
نزول يعقوب إلى مصر
يبدو أن يعقوب قد تشكك في أمر نزوله إلى مصر بالرغم من الظروف القاسية المحيطة به ومن لهيب قلبه نحو أبنه يوسف، لذلك كلمه الله في رؤيا وطمأنه من جهة نزوله إلى مصر.
١. أمر الله بالنزول ١–٧
اشتاق يعقوب أن ينزل إلى مصر ليلتقي بابنه يوسف، وإذ كان متخوفًا ارتحل إلى بئر سبع وهناك قدم ذبائح للرب إله أبيه إسحق [١]. هناك كلمه الله في رؤى الليل، وقال: “يعقوب يعقوب… أنا الله إله أبيك، لا تخف من النزول إلى مصر، لأني أجعلك أمة عظيمة هناك. أنا أنزل معك، وأنا أصعد معك أيضًا ويضع يوسف يده على عينيك” [٢–٣].
كانت هذه المرة الأخيرة التي فيها ظهر الله ليعقوب، هذا الذي لم يظهر بعد لأحد في مصر حتى ظهر لموسى في العلية (خر ٣) لأجل خروج إسرائيل من مصر. ظهر الله ليعقوب قبيل نزوله مصر، وظهر لموسى لخروج إسرائيل من مصر، وكأن الله كان مهتمًا بنزوله كما بصعوده…. فماذا يعني نزوله إلى مصر؟
يرى العلامة أوريجانوس أن النزول إلى مصر هنا يشير إلى نزول المؤمن كما إلى معركة روحية، خلالها ينمو وينتصر ويخرج بالرب غالبًا لينعم بأورشليم السماوية، إذ يقول: [يليق بنا أن نتأمل بهدوء ما قاله الرب في الرؤيا لإسرائيل هذا، وكيف قواه وشجعه بإرساله إلى مصر كمن يذهب إلى الحرب. لقد قال له: “لا تخف من النزول إلى مصر“. بهذا يكون كمن يتقابل مع “الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر” (أف ٦: ١٢)، والت تصوّر مصر، فيقول له: لا تخشاهم ولا تضطرب. إن أردت أن تعرف لماذا لا تخاف اسمع وعدي لك: “لأني أجعلك أمة عظيمة هناك، أنا أنزل معك إلى مصر وأنا أصعدك أيضًا” [٣]. يليق بنا ألاّ نخاف النزول إلى مصر، ولا نخشى التصدي لصراع هذا العالم ولا للمعارك مع إبليس العدو الذي نزل الرب ليحاربه. اسمعوا الرسول بولس يقول: “أنا تعبت أكثر منهم جميعهم، ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معي” (١ كو ١٥: ١٠). في أورشليم حدث تذمر ضده واحتمل بولس صراعًا عجيبًا بسبب الكلمة الكرازة بالرب ، فظهر له الرب وتكلم معه بكلمات تشبه تلك التي وجهها لإسرائيل الآن: “ثق يا بولس لأنك كما شهدت بما لي في أورشليم هكذا ينبغي أن تشهد في رومية أيضًا” (أع ٢٣: ١١)[440]].
يكمل العلامة أوريجانوس تعليقه على نزول يعقوب إلى مصر ومعه الرب ووعد الله له أنه يصعد من هناك بقوله: [أظن أن النص يخفي فيه سرًا أعمق من الحرف الظاهر، فإنه تجتذبني العبارة “لأني أجعلك أمة عظيمة، أنا أنزل معك إلى مصر وأنا أصعدك أيضًا“. من هو بالحقيقة ذاك الذي صار أمة عظيمة في مصر الآخر يُذكر فيصعد؟ نظن أن النص يخص يعقوب، لكن الحقيقة غير هذا، فإن يعقوب لم يصعد من مصر إذ هو مات، ومن الحماقة أن نقول بأن الرب أصعد يعقوب عندما أصعد جسده، فإن الرب ليس إله أموات لكنه إله أحياء (مت ٢٢: ٣٢). فلا يليق أن نحسب صعوده بصعود ميت، إنما ما يقوله هنا يخص أحياء لهم صحة جيدة. لنسأل إذن أليس هذا صورة لنزول الله إلى هذا العالم ونموه في الأمة العظيمة أي في الكنيسة التي تضم الأمم وصعوده إلى الآب بعد موت كل شيء خاصة الإنسان الأول الذي نزل إلى مصر وسط المعارك عندما طرد من بهجة الجنة محتملاً عذاب هذه الحياة وآلامها… فإن الله لم يترك الذين في هذه المعركة بل هو معهم على الدوام؟!… أما قوله: “وأنا أصعدك أيضًا” فكما أظن أنه يعني بأنه في أواخر الدهور إذ نزل ابن الله الوحيد إلى الجحيم (أف ٤: ٩) لخلاص العالم يصعد الإنسان الأول. لنفهم بالحقيقة أن الحديث هنا يخص ما قيل للص: “اليوم تكون معي في الفردوس” (لو ٢٣: ٤٣). هذا القول لا يخصه وحده بل يخص كل القديسين الذين من أجلهم نزل ابن الله. بهذا يتحقق في يعقوب القول: “وأنا أصعدك أيضًا“. إذن ليت كل واحد منا ينزل إلى مصر (رمزيًا) وسط المعارك بنفس الطريقة متخذًا ذات الطريق، فيتأهل ألاَّ يتبعد الله عنه بل يصير أمة عظيمة. هذه الأمة العظيمة هي جماعة الفضائل وكثرة البر التي يقول عنها الكتاب أن القديسين ينمون فيها ويتزايدون. بهذا يتحقق القول: “وأنا أصعدك أيضًا“. لأنه في النهاية يكون كمال الشيء وإتمام للفضائل لذا يقول قديس: “يا إلهي لا تقبضني في نصف أيامي” (مز ١٠٢: ٢٤)… “أنا أصعدك أيضًا” تعني قول الله له: لأنك جاهدت الجهاد الحسن وحفظت الإيمان وأنهيت رحلتك فإني أصعدك من هذا العالم للسعادة الأبدية، إلى كمال الحياة الأبدية، لتنال “إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل لجميع الذين يحبونه” (٢ تي ٤: ٨)[441]].
في اختصار نقول إنه إن كان آدم الأول قد نزل إلى العالم كما إلى مصر في معركة طرفها الآخر إبليس، فإن الله قد نزل إليه ليكون معه، يسحق رأس الحية تحت قدميه، واهبًا إياه الغلبة والنصرة، ليصعد معه رافعًا إياه من الجحيم إلى فردوسه السماوي. بنزول الله إلينا خلال التجسد أقام منا أمة عظيمة، محولاً مذودنا الداخلي إلى ملكوته الذي يضم الله معه ملائكته وقديسيه! هذه هي الأمة التي تفرح السماء كقول الرب: “هكذا أقول لكم يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب” (لو ١٥: ١٠). تفرح ملائكة الله إذ ترى الله نفسه نزل إلى قلبه كما إلى المذود ليصعد به لملكوته.
أما وعد الله له “ويضع يوسف يده على عينيك” [٤] فيشير إلى العادة التي كانت سائدة أن يغمض أعز الأقرباء عيني المتوفي. وللعلامة أوريجانوس تعليق جميل على هذه العبارة، إذ يقول: [يوسف الحقيقي، ربنا ومخلصنا، يضع يديه الجسديتين على عيني الأعمى فيهبه البصر الذي فقده، وهو يمد يديه الروحيتين على عيني الناموس الذي أعمى فكر الكتبة والفريسيين الروحي لكي يهبهم البصيرة، فيفتح الله لهم الكتب ويكون لهم رؤيا روحية وفكرًا روحيًا للناموس… ليضع الرب يديه على أعيننا نحن لكي لا نتطلع إلى الأمور المنظورة بل الأمور المستقبلة. ليرفع عنا برقع القلب حتى نتأمل في الرب بالروح[442]].
إذ نال يعقوب هذه المواعيد في بئر سبع بعد تقديم الذبائح لإله أبيه إسحق [١] أرتحل من بئر سبع وحمل بنو إسرائيل أباهم وأولادهم ونساءهم في العجلات ومعهم كل مواشيهم ومقتنياتهم وانطلقوا إلى مصر.
لم يكن ممكنًا أن ينال يعقوب هذه المواعيد إلاَّ في بئر سبع، أي في مياه المعمودية حيث يهبنا الروح القدس الميلاد الجديد فنصير أعضاء جسد المسيح، فنتهيأ بهذا لنزول الله معنا إلى مصر وصعوده بنا منها، أما الذبائح التي قدمها فتكشف عن سرّ كل عطية إلهية وهي ذبيحة المسيح على الصليب.
أخيرًا فقد أنطلق بنو إسرائيل يحملون أباهم وأولادهم ونساءهم، ومعهم مواشيهم ومقتنياتهم… فإن كنا ننطلق بالمسيح يسوع ربنا إلى الجهاد الروحي إنما ننطلق بالنفس كما بالجسد وبكل المواهب والطاقات لتعمل كلها لحساب مملكة الله في أرض الغربة.
٢. النفوس التي رحلت معه ٨–٢٧
ذكر لنا السفر قوائم بأسماء أبناء يعقوب وأحفاده؛ بلغت هذه النفوس ٦٦ نفسًا. وقد ذكر عدد هذه الأنفس في الكتاب المقدس أكثر من مرة ليؤكد كيف نموا وازدادوا جدًا.
في سفر الأعمال ذكر القديس أسطفانوس عددهم ٧٥ نفسًا (أع ٧: ١٤) ربما لأن القديس أسطفانوس أضاف إلى هذا العدد أحفاد يوسف الخمسة من أفرايم ومنسى.
٣. لقاء إسرائيل مع يوسف٢٨–٣٤
أرسل يعقوب أبنه يهوذا إلى يوسف لكي يدلهم على الطريق إلى جاسان، ويدبر لهم أمر نزولهم فيها… فإن كان يعقوب يمثل الكنيسة، فهي لا تستطيع أن تسير بدون يهوذا، أي بدون السيد المسيح الخارج من سبط يهوذا. إنه يقودنا في أرض غربتنا، في الطريق بل هو بعينه الطريق.
التقى يوسف بأبيه، فوقع إسرائيل على عنق ابنه وقبله، وبكى على عنقه من شدة التأثر، وقد بقي على عنقه فترة لا يستطيع أن يتركه، وأخيرًا قال له: “أموت الآن بعدما رأيت وجهك أنك حيّ“ [٣٠]. كما قلنا أن يعقوب كممثل للكنيسة إذ التقت بيوسفها القائم من الأموات انسحقت أمامه حبًا واشتهت الانطلاق معه.
أعلم يوسف أباه وإخوته أنه يصعد ليخبر فرعون بحضورهم، وأوصاهم أن يخبروا فرعون بعملهم كرعاة غنم حتى يسكنوا في جاسان (٤٥: ١٠)، أما علة اختياره للموقع فهي:
أولاً: أن يكونوا في شمال شرق مصر، في أقرب موقع نحو كنعان… وكأنه أراد لهم حتى في غربتهم طوال أكثر من ثلاثمائة عام أن يكون قلبهم متهيئًا للرحيل إلى أورشليم.
ثانيًا: لكي لا يتعرضوا لازدراء المصريين بهم، إذ كانوا يحسبون رعاية الغنم رجاسة، فباعتزالهم في جاسان لا يحتكون بهم.
ثالثًا: باعتزالهم في جاسان لا يتأثرون بالعبادات الوثنية والعادات الشريرة قدر المستطاع.
سفر التكوين – أصحاح 46
تفاسير أخرى لسفر التكوين أصحاح 46
تفسير تكوين 45 | تفسير سفر التكوين القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير تكوين 47 |
تفسير العهد القديم |