أين هي العدالة الإلهية

1- لماذا توجد الكوارث الطبيعية من جفاف فيضانات و براكين تحطم أحيانا الملايين من الأبرياء خاصة الأطفال الصغار ؟
2- أين عدل الله من مولد طفل يرث من والديه أمراضا خطيرة أو فقر بلا ذنب بينما يولد آخر ليرث صحة و غني و إمكانيات اجتماعية و ثقافية؟
3- ما ذنب طفل يولد معوقا؟
4- أين عناية الله من أطفال يفقدون والديهم في حوادث أو أمراض؟
5- أين رعاية الله من أناس يعانون آلاما مُره بسبب مرض ما كالسرطان؟
6- لماذا لم ينزع الله الشر عن العالم ليعيش الكل في جو هادئ و صحي؟…

يظن البعض أنهم بمثل هذه الأسئلة يهدمون أركان الإيمان بالله و يحطمون كل نظرة دينية نحو عدالة الله و عنايته الإلهية. و قد تجاهلوا الحقائق التالية :

1- واقعنا الزمني و الأدبي.
2-الدور الإنساني في مشكلة الألم.
3-تقديس الحرية الإنسانية
4-الألم و نمو الشخصية.
5-آلامنا في ميزان
6- الآلام و الطبع الموروث 
7-الآلام و الأمراض العصبية
8-الآلام و الاستسلام
9- الإحساس بالضيق
10- الألم و الصليب

و سوف يتم شرح كل نقطة علي حدي

+ واقعنا الزمني وواقعنا الأدبي :

عندما ينحني الإنسان تحت مرارة الألم يضيق العالم كله في عينيه و يشعر كأن الكل قد تركه , حتى أقرب من لديه ..لا يشاركونه الآمة و لا يشعرون بمرارة نفسه , عندئذ يتطلع إلي فوق لعله يجد إلها ينصت إليه فيرفع عنه الألم …
و إذ يظن في أن الله لا يسمع فيصرخ في مرارة :
– أين هي العدالة الإلهية ؟
– لماذا يعتزل الله في سماواته و في مجده ليتركنا نئن في أرضنا بلا توقف ؟
– لماذا لا يشعر بضعفنا و يشاركنا متاعبنا ؟
– لماذا يترك الأمور تسير بلا ضابط يحكمها القدر القاسي لنعيش ألعوبة بين يدي الصدفة البحتة؟

+ سر هذه الصرخات هي :
اختلاف موازيننا عن موازين الله , و مقاييسنا عن مقاييسه . 
فالإنسان ككائن محدود في إمكانياته ممتص بالكامل في الحياة الزمنية وحدها كواقع يعيشه الإنسان و لا يتعداه ,. فيطلب أن يقتنص كل لذة وقتية …..
أما الله غير المحدود فنظرته إلي الإنسان أعظم من أن يكون مجرد كائن بين ملايين المخلوقات الأرضية ..إنما هو ابن الله يريد أن يرفع الإنسان إلي سماؤه ليحيا معه فوق الزمن يمارس الحب المتبادل بلا حدود و يختبر شركة الأمجاد السماوية المشبعة.
خلال هذه النظرة الأخروية للأبدية تصير آلامنا مهما بلغت ذروتها لحظات عابرة بل و طريق يمهد للمجد كتطلع نحو الوطن السماوي ( بالإيمان موسي لما كبر أبي أن يدعي ابن ابنة فرعون , مفضلا بالأحري أن يذل مع شعب الله عن أن يكون له تمتع وقتي بالخطيئة ) ( عب 11 : 17 ) .

كأنه خلال التطلع نحو السماويات قبل رجال الإيمان الألم بفرح ….

أما اليوم و قد سادت النظرة المادية العالم .انحجبت السماوات عن البصيرة البشرية فضاقت الأرض بهم و ضاق قلبهم و أحسوا بالمرارة و اليأس .عوض قبول الألم بروح الفرح و القوة و الغلبة .
+ عرفت إنسانا طلب منه الأطباء أن يدبر أموره خلال أسبوعين . لأن أورام السرطان قد استفحلت داخله …… عشت معه هذه الأيام القليلة في أواخر حياته و لم أر علي وجهه إلا الابتسامة الصادقة النابعة عن قلب مملوء سلاما . لم يهتز أمام سطوة المرض , و لا خشي الموت و لا اضطراب من جهة زوجته و ابنتيه الصغيرتين في الغربة …..بل كانت كلماته المتكررة
( إنني محظوظ فقد سمح الله لي بالمرض لكي استعد !!!..إنني مشتاق أن أري مسيحي !!!) ….
أرأيتم هذا المثال الرائع النابع فعلا من قلب مملوء بحياة التسليم و غير خائف لأنه واثق في إلهه و من رعايته لأطفاله من بعده ………
+ بميلاد السيد المسيح تعرض الكثير من أطفال بيت لحم للقتل و بكت أمهاتهم و لم يريدوا أن يتعزوا …. لكنه إذ يعبر الزمن سريعا نلتقي بهذا الموكب حيث يتمتع الأطفال المقتولين ببركة المجد مع المسيح القائم من الأموات .
إنها لحظات و يعبر الزمن لتصير ألآمنا رصيد مجد في حسابنا الأبدي ..
الدور الإنساني في مشكلة الألم :
كثيرا ما يلقي الإنسان باللوم علي الله لما تعانيه البشرية من الآلام . 
متجاهلا دوره في خلق الكثير من الآلام…
اذكر علي سبيل المثال :
+ يصرخ العالم في مرارة من انتشار مرض الإيدز الذي يحمل المجتمعات خسائر لا حصر لها …فمن الذي أوجد هذا المرض.؟…… أليس إصرار الإنسان علي حقه في ممارسة الشذوذ , الأمر الذي حذرنا منه لله و تحذرنا منه الطبيعة نفسها!!!!!
+ تنفق الدول البلايين من الدولارات علي الأسلحة و الأبحاث النووية و يسقط الملايين من البشر تحت الآلام هي من صنع البشر … هذه تدميرات هي من صنع البشر .
تقديس الحرية الإنسانية
يعترض البعض علي العناية الإلهية من جهة وجود الشر في العالم قائلين : ( ما ذنب الشخص المظلوم الذي يعان ظلم الشرير؟)
مثل هؤلاء يتجاهلون أعظم هبة يقدمها الله للإنسان وهي الحرية الإنسانية . 
فقد أعطانا الله الخيار في كل شئ حتى في قبولنا إياه أو مقاومتنا له شخصيا ,.
انه لا يريد أن يكون الإنسان آله يحركها لتحقيق إرادته . إنما يرد منه أن يكون إنسانا عاقلا قادرا علي اخذ قرارات من وحي أعماقه .
قد يسئ البعض للحرية فيسلكون في الشر و يستخدمون العنف مع الغير .
من اجل حب الله الفائق للإنسان يتركهم يفعلون ما يشاءون , لكنه في عدله يجازي كل واحد علي حسب أعماله في حينه . 
انه يترك الشرير في شره ..لعله يتوب و يرجع فيكافأ . أما إن تمادي في الشر فانه حتما سيذوق من الكأس التي ملاها .
أما المظلوم فيحتضنه الله ليحول الظلم لخيره . إلا أن كان قد سقط تحت الظلم لإصراره علي شر خفي .
فقد حدث قبل ذلك أن إنسان حكم عليه بالإعدام بتهمة القتل فقال ( أنا استحق الإعدام فمنذ سنوات قتلت و اختفت جريمتي فما اجنيه الآن هو ثمار شري الخفي الذي لا يعلمه سوي الله ).
الألم و نمو الشخصية :
الألم بلا شك مر و مكروه . يحطم أحيانا الإنسان تماما , أما سر التحطيم فيكمن لا في الألم بل في شخصية الإنسان الذي يود أن يعيش الحياة السهلة المدللة لا طريق الصليب الضيق .
الألم بالنسبة للإنسان الجاد (مدرسة فلسفية )فيها تنمو النفس و تصقل الشخصية ليعيش الإنسان في نمو دائم خلال خبرة التعب و الضيق .
و كما يقول رجل الآلام القديس يوحنا ذهبي الفم : ” الألم معلمنا . إننا لا نجلب الألم علي أنفسنا , إنما نحتمله بشجاعة متي تعرضنا له , لأنه دائما مصدر خيرات كثيرة, هذه الحياة هي مكان للتدريب (علي الألم ) , معركة , و بوتقة فيها تنصهر الفضيلة و تتنقي , كما أن عنف الرياح يجعل شجر البلوط قويا و أكثر صلابة , هكذا الروح النقية القديسة كروح أيوب الطوباوي لا تتزعزع تحت هجمات الآلام بل يقوي صبرها”
شتان بين شاب مدلل يختار الطريق الواسع…. و شاب تحنكه الضيقات و تصقله الآلام …
أقول بصدق أن الأول حتى في وسط ملذاته لا يشعر بطعم الحياة ,
أما الثاني ففي وسط أتعابه يمارس النضوج و يختبر الحياة ليكون عمودا يسند الكثيرين .
آلامنا في ميزان :
يتساءل البعض : لماذا يسمح الله لأطفال أبرياء يغتصبهم أشرار ؟…..
و لماذا سمح – كما جاء في التاريخ – لقادة أشرار أن يغتصبوا راهبات عذارى عنفا ؟
الاغتصاب دون شك مر للغاية علي نفس إنسان برئ يود أن يمارس إنسانيته الحرة …
ولكن الله في تكريمه للحرية الإنسانية لا يمنع الأشرار عن شرهم قسرا ….
أما بالنسبة للمغتصبين ففي عيني الله أطهارا بل و يكافئون عن مرارة نفسهم من أجل حبهم للطهارة و العفة .حقا يخسر هؤلاء المغتصبون طهارتهم الخارجية و تجرح كرامتهم الإنسانية و تتأزم نفسيتهم , لكن الله المتطلع إلي الخفيات لا يتجاهلهم .

الآلام و الطبع الموروث .

– ما هو فضل إنسان يميل بطبعه إلي الهدوء ؟….
– و ما هو ذنب آخر يميل بطبعه إلي الشدة ؟
– واحد منذ طفولته صامت و آخر محب للكلام ؟
– إنسان بطبعه لا يلاحظ أخطاء الغير بينما آخر له نظرة ثاقبة تجاه تصرف كل من حوله ؟
+ أين العدالة الإلهية في محاسبة ناس لهم طباعهم المتباينة , غالبا لست من عمل يديهم؟

مثل هذه الأسئلة تنبع عن عدم إدراكنا لمفهوم الحياة الفاضلة , فان الله في حبه للبشرية لا يريد أن يصب الجميع كما في قالب واحد , إنما يكمن جمال شعبه في التنوع و الاختلاف معا مع الانسجام و الوحدة بروح الحب .. الله الذي سمح لكل إنسان أن يكون له طبع ما يعمل فيه من خلال هذا الطبع لتصير له شخصيته المتمايزة عن غيره , بهذا يحترم كل عضو الآخرين بكونهم أعضاء مكمله له غير متنافرة معه بالرغم من اختلاف الطباع . الإنسان الهادئ يقدسه الرب ليشهد بهدوئه في الرب عن الحياة الإنجيلية الحية فيه , و الإنسان الشديد في طبعه يقوده الرب ليقيمه إنسانا حازما قادرا علي القيادة لكن في حب و اتساع قلب دون أن يجرح مشاعر إخوته.

الصامت يشهد بصمته أن تقدس , و المتكلم ينطق بالحق ….
حتى الغضب يمكن أن يكون بركة لنا أن غضبنا علي أنفسنا ضد الخطية لا الخطاة ……..
يري القديس أغسطينوس” أن حتى ما نسميه بالشهوات …..فان روح الرب قادر أن يقدس المشاعر و العواطف و الأحاسيس التي بدونها لا نقدر أن نحب الله و الناس, كل ما في طبع الإنسان أن تقدس بروح الله العامل في كنيسته يصير للبناء .و أن أسئ استخدامه حتى و لو كانت طباع جيدة فانه يتحول إلي الهدم و التحطيم . فالهدوء أن أسئ استخدامه سيحطم , أننا أحيانا نصفع بهدوئنا المصطنع و صمتنا النابع عن جفاف القلب أكثر قسوة مما نصفعه بأيدينا”
الآلام و الأمراض العصبية :
ما ذنب إنسان يثور علي آخر أو يسبه أو يضربه و هو في غير وعيه بسبب معاناته من مرض عصبي ؟
أظن أن حكم الله فاحص القلوب و عارف إمكانيات الإنسان و قدراته يختلف عن حكمنا البشري ( لأن الإنسان ينظر إلي العينين و أما الرب فينظر إلي القلب ) ( ا صم 16 : 7 )

الآلام و الاستسلام :

يري البعض أن التدين استسلام و خنوع, نقبل الألم و نرضي به فلا نندب حالنا , بهذا يفقد الإنسان حيويته و صراعه للبلوغ إلي حال أسمي ..! يليق بنا أن نميز بين الاستسلام والتسليم . الاستسلام حالة خنوع يصحبها لا مبالاة مع يأس , أما التسليم فهو قبول الألم بصدر رحب في ثقة بيد الله القوية الأبوية المترفقة التي تحول الألم إلي خير .
لذا كلما كثرت الآلام يميل المؤمن إلي مضاعفة الجهاد بإيمان حي لحساب ملكوت الله و بنيان نفسه و الآخرين حتى مضايقيه
في قوة مع خبرة يقول القديس بولس وسط آلامه “و لكن لنا هذا الكنز في أوان خزفية , ليكون فضل القوة لله لا منا, مكتئبين في كل شئ لكن غير متضايقين , متحيرين لكن غير يائسين , مضطهدين لكن غير متروكين , مطروحين لكن غير هالكين “( 2 كو 4 : 7 -10 )
من كان أقوي نبوخذ نصر الملك الذي ألقي بالثلاثة فتية في أتون النار أم الفتية أنفسهم , إذ يقول ( ها أنا ناظر أربعة رجال محلولين يتمشون وسط النار و مابهم ضرر و منظر الرابع شبيه بابن الإله ) ( دا 3 : 25 )
و كان الرابع هو مسيحنا الذي حسب نفسه مقيدا مع المقيدين لكنه حطم القيود و ظهر معهم و الكل محلولين ……
تسليمنا في يدي القدير هو تمتع بإمكانياته و قدراته و ليس استسلاما أو ضعفا !

الإحساس بالضيق :

الألم مر و قاسي , و لكن المؤمن باتحاده مع مسيحه المتألم يتسع قلبه بالحب الإلهي فيحب الله و الناس و لا يضيق قلبه بأحد. ..يتألم لكنه يجد تعزيته الداخلية في أعماقه , إذ يحمل مسيحه الذي يهبه نظرة جديدة للحياة .
لقد نفي القديس يوحنا ذهبي الفم , فماذا فعل به النفي ؟! حسبه زيارة بلاد و مدن كثيرة
حاربه العدو الشيطان فحسبه نافعا له , بدونه كيف يقدر أن يصارع و يغلب و يكلل؟!!
اقترب إليه الموت فوجد فيه نوما عميقا و رقادا و رحيلا إلي الميناء و عبورا من وطن إلي آخر , و هجرة من الأرض إلي السماء .

الألم و الصليب

لم ينتزع مسيحنا الألم من العالم و لكنه إذ جاء إلي العالم شرب كأس الألم و شاركنا في الضيق حبا فيه , فصار الألم بالنسبة لنا ليس علاقة غضب الهي أو تخلي الله عنا , إنما مشاركة حب ,
إذ تألم مسيحنا من أجل حبه للعالم يقبلنا أن نتألم معه علامة الحب و المجد و القوة …
و كما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم ( أي فرح يشملنا أن نكون شركاء المسيح و من أجله نتألم ؟!….ما أمجد الآلام … بها نتشبه بموته ….)
و في تعليقه علي كلمات القديس بولس :
( لأنه قد وهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضا أن تتألموا لأجله ) …..
يقول: (انه يعلمنا أن الآلام نعمه من اجل المسيح , هي عطية النعمة , عطية مجانية , لا تخجل من عطية النعمة هذه , فهي أعجب من قوة الإقامة من الأموات أو صنع المعجزات…)

موضوع للاب تادرس يعقوب ملطي

زر الذهاب إلى الأعلى