تفسير سفر حبقوق ٢ للقس أنطونيوس فكري
الإصحاح الثاني
بعد أن طرح النبي تساؤلاته وشكواه من ظلم البابليين لشعبه، وقف في مخدعه مصلياً رافعاً قلبه لله “حتى متى تسمح يا رب لهذه الأمة القاحمة أن تفرغ شبكتها لتصطاد آخرين“
آية (1): “على مرصدي اقف وعلى الحصن انتصب وأراقب لأرى ماذا يقول لي وماذا أجيب عن شكواي.”
على مرصدي أقف وعلى الحصن = هو يترصد أي إجابة من الله على تساؤلاته. يقف على حصن الذي هو يسوع صخرتنا الذي نحتمي به حتى لا تتحول تساؤلاتنا إلى زعزعة إيمان. فلا مانع أن نتساءل ولكن بروح الصلاة وبثقة في إلهنا، وليس عن تشكيك أو تذمر. وهو على المرصد أيضاً “فلا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد أن يعلن له” أي يسوع هو المرصد الذي يعلن لنا الآب ومحبة الآب. والمرصد هو الروح القدس الذي يعلن لنا الابن (يو13:6-15). والروح القدس قد حل فينا ولكن يلزم أن ندخل لمخدعنا يومياً، منعزلين عن ضجيج العالم لنسمع صوته الهامس. والروح القدس يكشف لنا كل شئ ويعلمنا. وتشبه هذه الآية قول ناثان في مزمور73 “حينما دخلت للمقادس” (17:73). فهو ظل متسائلاً “متمرمراً أي متمرداً على أحكام الله حتى دخل للمقادس أي وقف على مرصده وحصنه في مخدعه مصلياً، حينئذ يجيب الله عليه. فنحن لن نحصل على إجابة عن تساؤلاتنا بمخاصماتنا مع الله وأعتراضنا على أحكامه، بل بالصلاة من الأعماق وطلب رحمته ماذا يقول لي.. وماذا إجيب = فالله يرد على تساؤلات النبي وتساؤلات شعبه المؤمن المصلي، وهم يجاوبون المتشككون حينما يسألونهم. عن شكواي = النبي اشتكي لله ولكن بروح الثقة وبدالة المحبة، والله يجيبه، وحين يسأل النبي من الشعب، نفس السؤال الذي اشتكى هو منه لله يكون قادراً على الإجابة.
آية (2) : “فأجابني الرب وقال اكتب الرؤيا وانقشها على الألواح لكي يركض قارئها.”
أي اكتبها بحيث تكون واضحة لكل من يقرأها، فيفهمها ويركض في طريق التوبة. فإذا قررنا التوبة فلابد أن نسرع فالزمن مقصر.
آية (3) : “لان الرؤيا بعد إلى الميعاد وفي النهاية تتكلم ولا تكذب أن توانت فانتظرها لأنها ستأتي أتيانا ولا تتأخر.”
مضمون الرؤيا أن الأبرار سيحيون والأشرار سيهلكون، وهذا سيحدث حتماً حتى وأن تأخر. لأن الرؤيا بعد إلى الميعاد = أي ستتحقق في الميعاد الذي حدده الله، فهناك ميعاد قد حدده الله لكل حدث.
الآيات (4،5) : “هوذا منتفخة غير مستقيمة نفسه فيه والبار بإيمانه يحيا. وحقا أن الخمر غادرة الرجل متكبر ولا يهدا الذي قد وسع نفسه كالهاوية وهو كالموت فلا يشبع بل يجمع إلى نفسه كل الأمم ويضم إلى نفسه جميع الشعوب.
هوذا منتفخة غير مستقيمة نفسه فيه = لقد تعجرف الكلدانيون بسبب إنتصاراتهم، وظنوا هذا راجع لقوتهم. هم أنتفخوا، وهكذا كل نفس منتفخة لا تنسب لله أي فضل في الخير الذي تنعم به، وهذه النفس تزداد شهوتها للإمتلاء من العالم، وتسلك لذلك أي مسلك. والله يحقق بهؤلاء غرضه بأن يعطيهم الفرصة ويهيئ لهم الظروف فيؤدبون أولاده، ويعود ليضربهم على كبريائهم. والبار بإيمانه يحيا = على البار أن يصبر ويحتمل ويظل على رجائه وإيمانه وثقته بمواعيد الله، وعليه أن يضع رجائه في الله فيحيا في راحة بالرغم من آلامه، واثقاً أن ما يسمح به الله فهو دائماً للخير حتى وأن لم نفهم وهذا هو الإيمان الذي يعطي حياة (رو28:8 + 1كو22:3 + يو7:13) وهذه الآية جاءت هنا لتساعد الشعب في سبيه بأنهم هم لهم المواعيد بالرغم من سبيهم، وأن سادتهم الحاليين فمصيرهم الهلاك بالرغم من قوتهم وسلطانهم الحالي. وفي (5) الرجل متكبر ولا يهدأ = هو ملك بابل، (أو هو إبليس) فكبريائه يزداد بزيادة من يلتهمهم ويستعبدهم، ولا يهدأ حتى يسقط آخرين. والكبرياء هي الخطية التي سقط بها إبليس، وبها يسقط كثيرين. وهذا الكبرياء يجعل الإنسان يظن أنه لا يشبع إلا من كل ما هو أرضي خلال الظلم والاغتصاب، لكنه بقدر ما يحصل يظل فارغاً وبلا شبع كل أيام حياته، لذلك لا يهدأ كل أيام حياته، أي يحيا بلا سلام، لا يسعده كل ما يحصل عليه. هذا الشرير ينتفخ من كبريائه ومن كل ما عنده من أملاك ويصير كالسكران متصوراً أنه أمتلك العالم لكنه كالسكران أيضاً كلما شرب من الخمر إزداد ظمأه إلى المزيد منها = وحقاً إن الخمر غادرة لذلك يقول ذهبي الفم “من يرتفع بفكره متشامخاً فوق كل البشر يوجد منحطاً دون الخليقة العاقلة“. وإن كان الشرير بالكبرياء الشيطاني يهلك فإن البار بالإيمان يحيا. هذه الآية هي قلب نبوة حبقوق. والرسول بولس اقتبسها ليشير أن الحياة هي للذي يختفي في بر المسيح وليس للذي يتبرر بأعمال الناموس. وصورة بشعة لطمع الكلدانيين نجدها هنا وسع نفسه كالهاوية وهو كالموت فلا يشبع (وهذه منطبقة تماماً على الشيطان) = فهم يهاجمون الأمم ويصطادون الشعوب ويقتلونهم ليشبعوا ولكنهم لا يشبعون. فالطماع كثير التذمر، يصير له بيته وإن كان قصراً، يصير له كسجن. الطماع يصبح كالقبر الذي يتقبل جثث الموتى كل يوم ومع ذلك يطلب المزيد (وكل من يرتمي في أحضان إبليس فهو يرتمي في أحضان الموت، وكل من يرتمي في أحضان الخطية يرتمي في أحضان الموت). ومعنى الآيتين (4،5) أن الله يشرح للنبي أن أمة الكلدانيين سيدمرها طمعها وخطاياها وكبريائها. وعلى شعب الله أن يتمسك بإيمانه وبره وثقته في الله مهما فعل الكلدانيين، وبالتأكيد ستكون له حياة بينما يهلك أعداؤه، ويوم هلاك هذا العدو يشمت به الكل.
الآيات (6-8): “فهلا ينطق هؤلاء كلهم بهجو عليه ولغز شماتة به ويقولون ويل للمكثر ما ليس له إلى متى وللمثقل نفسه رهونا. إلا يقوم بغتة مقارضوك ويستيقظ مزعزعوك فتكون غنيمة لهم. لأنك سلبت أمما كثيرة فبقية الشعوب كلها تسلبك لدماء الناس وظلم الأرض والمدينة وجميع الساكنين فيها.”
الويل الأول: هو ضد المتكبر الذي لا يشبع. ونجد هنا نبوة بسقوط الطاغية وسخرية الشعوب التي ظلمها منه، ونطقها بهجو عليه أي سخرية منه. ولغز شماته عليه = لغز PROVERB أي مثل، هم سيقولون أمثال ساخرة عليه. كانت خطيته الكبرياء، إ ذاً عقوبته ستكون الخزي والعار. للمكثر ما ليس له = أي حصل على أملاكه بالظلم. إلى متى = لا تكتفي وتظل في ظلمك للغير حتى تزيد ممتلكاتك وثرواتك. المثقل نفسه رهوناً = رهوناً تعني طيناً كثيفاً. والمعنى أن ما جمعه هؤلاء الأشرار من كنوز لا يزيد عن كونه طيناً، وكل ما يجمعه الإنسان من كنوز هذا العالم ما هو إلا تراب يثقل نفسه بمحبة العالم الأرضي وفي (7) نبوة بأن أعداء بابل سيستيقظون بغتة ويثورون ضدهم في لحظة لا يتوقعونها وتصير بابل غنيمة لهم. ونحن قد قمنا مع المسيح الذي أتى وباغت الشياطين وأعطانا سلطاناً أن نهاجمهم ونهزمهم بعد أن كنا نياماً أو موتى فأحيانا. مقارضوك = أي دائنوك. هنا يعتبر أن كل ما سلبه العدو سابقاً هو مجرد شئ وقتي أو دين، عليه أن يرده لأصحابه. وفي (8) نتيجة ظلمهم سيظلمون (عو15). ثم تأتي أربعة ويلات أخرى ضد الأشرار.
الآيات (9-11): “ويل للمكسب بيته كسبا شريرا ليجعل عشه في العلو لينجو من كف الشر. تآمرت الخزي لبيتك إبادة شعوب كثيرة وأنت مخطئ لنفسك. لان الحجر يصرخ من الحائط فيجيبه الجائز من الخشب.”
الويل الثاني: ضد المكسب بيته كسباً شريراً = الله ليس ضد أن يكسب الإنسان، لكنه ضد أن يكون المكسب بالظلم أو بالشر. وهذا الإنسان يظلم وينهب متصوراً أنه إنما يجعل عشه في العلو = أي أنه يتصور أن كنوزه تعطيه نوعاً من الأمان أو الاطمئنان من الأيام الغادرة في المستقبل = لينجو من كف الشر = وهذا ما صنعه أهل بابل قديماً حينما بنوا برج بابل ليهربوا من أي طوفان قادم. وهكذا كان شعور ملك بابل حين قال “أليست هذه هي بابل التي بنيتها بقوة إقتداري ولجلال مجدي (دا 4) “ولكن تآمرت لخزي بيتك = ففيما أنت متصور أنك تلحق الأذى بالغير لتؤمن نفسك، إذاً بك تلحق الشر بنفسك. فشرك يرتد عليك. هذا ما حدث لآخاب وإيزابل. وهنا ملك بابل حينما أباد شعوب كثيرة فهو أخطأ في حق نفسه وبيته الذي بناه بالظلم شاهد عليه. لأن الحجر يصرخ من الحائط، فيجيبه الجائز من الخشب = الجائز هي عواض الخشب التي تربط المسكن، أي أحجار بيوتكم حجراً حجر، وخشبة خشبة تنطبق بالظلم الذي بنيتموها به.
الآيات (12-14): “ويل للباني مدينة بالدماء وللمؤسس قرية بالإثم. أليس من قبل رب الجنود أن الشعوب يتعبون للنار والأمم للباطل يعيون. لان الأرض تمتلئ من معرفة مجد الرب كما تغطي المياه البحر.”
الويل الثالث: ضد الذي يبني ثروته أو مدينته بسفك الدماء. هنا تحول الظالم إلى وحش مفترس. ولقد بنى نبوخذ نصر بابل بظلم سباياه ودمائهم. وما نتيجة هذا الظلم = أليس من قبل رب الجنود أن الشعوب يتعبون للنار = لقد أكلت النار بابل وتركتها خراباً تماماً. وهذه هي نهاية الطمع في العالم. ولكن هذه الآية موجهة لكل من وضع أماله في الأرض. الأمم للباطل يعيون = فالعالم كله باطل وهو سيزول. وليس معنى هذا أن لا يعمل الإنسان، فالله خلق آدم ليعمل الجنة ويحفظها. وكان مع يوسف فكان رجلاً ناجحاً. وبولس الرسول ينبه التسالونيكيين بشدة أن يعملوا ومن لا يعمل لا يأكل (2تس6:3-12). ولكن المقصود هو عدم الإنغماس في الأرضيات كأننا سنعيش في العالم إلى الأبد، أو أن يكون كل إهتمامنا بالعمل ولا وقت لله، فالله طلب أن نعمل ستة أيام ويوم السبت راحة فيه نعيش لله. وتعنى الآية أيضاً أن لا نحصل على أموالنا بالغش والخداع والظلم. وتعنى أيضاً أن يظل الإنسان في حياته متذمراً غير قانع بما أعطاه الله. عموماً كان خراب بابل لمجد الله، فقد ظهر أن الله لا يقبل الشر. والله أعلن مجده بأحكامه ضد بابل الشريرة. ومن لا يقبل أن يمجد الله بصلاح أفعاله، يظهر الله فيه مجده حينما يؤدبه. وستعرف الأرض كلها أن الله قدوس لا يقبل الشر= لأن الأرض تمتلئ من معرفة مجد الرب. وهذا حدث بالكامل في المسيح وإمتداد ملكوته على الأرض.
الآيات (15-17): “ويل لمن يسقي صاحبه سافحاً حموك ومسكراً أيضا للنظر إلى عوراتهم. قد شبعت خزيا عوضاً عن المجد فأشرب أنت أيضاً واكشف غرلتك تدور إليك كأس يمين الرب وقياء الخزي على مجدك.لأن ظلم لبنان يغطيك واغتصاب البهائم الذي روعها لأجل دماء الناس وظلم الأرض والمدينة وجميع الساكنين فيها.”
الويل الرابع : ضد إبليس الذي يغوي الأبرياء بأن يسكروا بملذات هذا العالم فيفقدوا كرامتهم، وتكشف عوراتهم. سافحاً حُموّك = في ترجمات أخرى ” يقدم له زجاجته“. سافح = يصب أو يسكب حمو = تعنى سم أو غضب. والمعنى من يصب الخمر التي هي كالسم لأنها تجلب الغضب. هكذا نوح ولوط حينما سكروا فقدوا كرامتهم (فنوح تعرى وسخر منه إبنه ولوط زنى مع بنتيه). والمعنى أن إبليس يغرينا بملذات هذا العالم التي تسكر كالخمر، فنفقد كرامتنا ونفقد حرية مجد أولاد الله التي لنا. وهذا ينطبق أيضاً على كل من يُعلّم الآخرين الخطية. وهؤلاء سيزداد خزيهم لذلك فخير لك أن تعلق في عنقك حجر رحي من أن تعثر أحداً. فأشرب أنت أيضاً من كأس خمر غضب الله. وإكشف غرلتك = أي خطيتك وفضيحتك. وما كان لك مجد سيصير قياء = فبولس الرسول حسب العالم نفاية، وهذا ما يعتبره إبليس أو أي خاطئ مجده. وتشبيه القئ هنا مناسباً، فمن يشرب ليسكر عادة ما يتقيأ. لأن ظلم لبنان يغطيك= الإنسان هنا مشبه بلبنان. فقد خلقه الله جميلاً كلبنان، وبالخطية أفسد إبليس صورة الإنسان الجميلة هذه، وهكذا أفسد ملك بابل أورشليم الجميلة وظلم شعبها. إغتصاب البهائم= أي سلب البهائم فملك بابل سلب مواشي الشعب. ولكن الآية تشير لأن إبليس لا يمكنه أن يسلب إلا من يسلك كالبهائم أي يجري وراء شهواته. وإبليس إغتصب البشر أي سلبهم لنفسه إذ أغواهم بأن يجروا وراء شهواتهم. ففقدوا جمالهم. الذي رَوّعها = فمن لم يسلك وراء شهواته أعد له إبليس تجارب صعبة ليروعه. فالمسيح رفض عروض إبليس، فأعد له الصليب. ومن إنخذع أو خاف من التجارب والاضطهاد وترك الله هلك = لأجل دماء الناس وظلم الأرض فالله يقول الويل لإبليس بسبب هلاك نفوس البشر.
الآيات (18-20): “ماذا نفع التمثال المنحوت حتى نحته صانعه أو المسبوك ومعلم الكذب حتى أن الصانع صنعة يتكل عليها فيصنع أوثانا بكما. ويل للقائل للعود استيقظ وللحجر الأصم انتبه اهو يعلم ها هو مطلي بالذهب والفضة ولا روح البتة في داخله. أما الرب ففي هيكل قدسه فاسكتي قدامه يا كل الأرض.”
الويل الخامس: ضد من عبد الأوثان، فكيف تنفعهم أوثانهم في اليوم الأخير. وهكذا الأفكار الفلسفية الملحدة الآن لها صورة الذهب والفضة. وأيضاً التكنولوجيا التي بسببها تصور الإنسان نفسه إلهاً قادراً أن يصنع كل شئ. فعبدوا قدراتهم وأنفسهم. وفي مقابل هذه الآلهة الباطلة الفانية يرى النبي الرب في هيكل قدسه،هو حق وكل ما دونه باطل، في مجده وفي جبروته وقدرته لا يستطيع أحد، ولا كل الأرض أن تتكلم قدامه فيقول النبي للجميع إسكتي قدامه يا كل الأرض = لقد بدأ النبي محتجاً على أحكام الله والآن وصل أنه أمام حكمة الله وقدرته يستد كل فم. فقال ما معناه لتكن مشيئتك، ليتقدس إسمك وهذه هي نهاية كل صلاة صحيحة أن تستسلم النفس لإرادة الله، واثقة أن أحكامه تسمو عن أفكار البشر ولكن كلها للخير (رو33:11-36).
تفاسير أخرى لسفر حبقوق أصحاح 2
تفسير حبقوق 1 | تفسير سفر حبقوق القمص انطونيوس فكري |
تفسير حبقوق 3 |
تفسير العهد القديم |