تفسير سفر هوشع ٥ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الخامس

إن كان إسرائيل قد فسد بكهنته رافضي المعرفة الإلهية، فإن يهوذا بالرغم من كل ما لديه من امتيازات إذ هو السبط الملوكي القائم في أورشليم والمتعبد في الهيكل لكنه انحرف أيضًا كإسرائيل فدخل الله معه في خصومة أيضًا يحاججه ويعاتبه ويكشف له جراحاته مؤدبًا إياه.

 

1. الله يؤدب بغير محاباة 1-5

يؤكد الله عدم محاباته لفئة على حساب أخرى أو لإنسان على حساب آخر، إنما إذ أخطأ الجميع يؤدب الكل، قائلًا: “فأنا تأديب لجميعهم” [ع2]. إنه يؤدب إسرائيل لأنه ابتدأ بالشر وأقام لنفسه هيكلًا غير هيكل الرب الذي في أورشليم وانحرف إلى الوثنية، وفي نفس الوقت يؤدب أيضًا يهوذا بالرغم مما حمله من امتيازات إذ عاصمته أورشليم، وفي داخلها هيكل الرب، وهو سبط ملوكي لكنه إذ أخطأ ولو متأخرًا يعاقب: “فيتعثر إسرائيل وإفرايم في إثمهما، ويتعثر يهوذا أيضًا معهما” [ع5].

إن كان في الأصحاح السابق قد أُعلنت محاكمة على وجه الخصوص مع الكهنة، إذ هلك شعب الله بسبب عدم المعرفة الأمر الذي هو من صميم مسئولية الكهنة، لكن هذا لا يعفي الشعب، إذ يقول: “اسمعوا هذا أيها الكهنة وانصتوا يا بيت إسرائيل” [ع1]، ويضم معهم أصحاب الكرامات “واصغوا يا بيت الملك لأن عليكم القضاء” [ع1].

إنه يدين الجميع، لأنه فاحص الكل وليس شيء مخفيًا عنه: “أنا أعرف إفرايم وإسرائيل ليس مخفيًا عني” [ع3]، وقد ذكر إفرايم أولًا إما بمعنى مملكة إسرائيل أو لأن إفرايم كان رئيس العصاة وبسببه تدنست بقية الأسباط العشرة، لذلك ذكره أولًا إذ هو مستحق للتأديب أكثر من غيره.

 

ماذا يعرف الله عنهم؟

أولًا: “إذ صرتم فخًا في مصفاة وشبكة مبسوطة على تابور” [ع1]، لعله هنا يوجه الحديث إلى القيادات التي كان يجب أن تسند الضعفاء كي لا يسقطوا فإذا بها تصير فخاخًا وشباكًا ينصبها العدو لاِقتناص كل نفس لحساب الشر. عوض أن يرشدوا للتوبة يغرونهم للسقوط ويجتذبونهم بكل حيلة للعبادة الوثنية. يظن البعض أنه كان من عادتهم إقامة جواسيس في الطرق، سيما على جبليّ: “مصفاة وتابور” في أيام الأعياد لكي يراقبوا الذاهبين إلى أورشليم فيخبروا عنه لمحاكمته.

لم يعرف هل المصفاة هنا يقصد تلك التي في جلعاد (قض 11: 21)، ويقال أنها موضع الرجمة التي أقامها يعقوب وقوم لابان شهادة على العهد الذي أقيم بينهم (تك 31: 49)، وهناك اجتمع بنو إسرائيل لمحارب العمونيين (قض 10: 17)، واِلتقى يفتاح بابنته (قض 11: 34)، وربما كان موضعها تل رميت، أو أنها مصفاة التي في بنيامين حيث تم فيها انتخاب شاول ملكًا (1صم 10: 17، 21)، وحصّنها آسا (1 مل 15: 22) وهناك قتل جدليا (2 مل 25: 23، 25) ويقال أنها قرية صموئيل النبي. على أيّ الأحوال كانت المصفاة وجبل تابور في ذلك الحين مركزين هامين للعبادة الوثنية، فصارا رمزين للخراب الذي حلّ بسبب العبادة الوثنية.

ثانيًا: إصرارهم على ارتكاب الخطية بلا توبة، لأنها تنبع عن أعماقهم، وبسبب عدم معرفتهم للرب. “أفعالهم لا تدعهم يرجعون إلى إلههم، لأن روح الزنى في باطنهم (في وسطهم) وهم لا يعرفون الرب” [ع4]. إنهم معاندون، مصرون على الارتداد عن الله في جهل.

ثالثًا: تشامخهم أو كبرياء قلبهم يجعلهم يحتقرون كلمات الرب على لسان الأنبياء، إذ يقول: “وقد أذلت عظمة إسرائيل في وجهه” [ع5]. “حقًا إن قبل الكسر كبرياء وقبل السقوط تشامخ الروح؛ تواضع الروح مع الودعاء خير من قسم الغنيمة مع الكبرياء” (أم 16: 18-19)، وقد أعلن الرب كراهيته لكبرياء الإنسان “قد أقسم السيد الرب بنفسه يقول الرب إله الجنود: إني أكره عظمة يعقوب وأبغض قصوره فأُسلم المدينة وملأها” (عا 6: 8)، كما يقول: “هكذا أفسد كبرياء يهوذا، وكبرياء أورشليم العظيمة، هذا الشعب الذي يأبى أن يسمع كلامي، الذي يسلك في عناد قلبه” (إر 13: 9-10).

فاصل

 2. تنحى الله عنهم 6-7

في كبرياء قلوبهم وجهلهم ظنوا أنهم قادرون على استرضاء الله بالتقدمات المادية والذبائح دون تغيير قلوبهم لهذا يقول: “يذهبون بغنمهم وبقرهم ليطلبوا الرب ولا يجدونه، قد تنحى عنهم” [ع6]. سر تخَلِّيه عنهم أنهم يتقدمون إليه لكن ليس بقلبهم لذا لا يجدونه، إذ هو لا يُوجد إلاّ بالقلب ولا يُرى إلاّ به: “طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” (مت 5: 8).

إن كان قد تنحى عنهم فلأنهم غدروا به، كسروا العهد المقام بينه وبينهم، وعوض اتحادهم به لينجبوا ثمر الروح الذي يبهج قلب الله، اتحدوا بالشر وأنجبوا أولادًا أجنبيين، أيّ ثمارًا غريبة عن الله… “لقد غدروا بالرب لأنهم ولدوا أولادًا أجنبيين” [ع7].

يختم قوله هكذا: “الآن يأكلهم شهر مع أنصبتهم” [ع7]. ربما قصد أنهم في العيد الشهري (الهلال) عوض أن يفرحوا ويبتهجوا بالرب فيشبعون من الثمر الروحي كما يفرح الرب بهم، إذا بهم يمارسون طقس العيد لكنهم فيه يفقدون كل شيء حتى ممتلكاتهم (أنصبتهم)؛ وربما قصد بأنصبتهم التي يخسرونها الموائد الدنسة التي يقيمونها احتفالًا بالبعل، فقد صارت نصيبهم عوض أن يكون الله نفسه وملكوته هو نصيبهم، هذا النصيب الذي اختاروه يفقدونه لأنه زائل.

فاصل

3. إعلان حالة تأديب عامة 8-12

يطالب الله بضرب الأبواق في كل من مملكتيّ إسرائيل ويهوذا، هذه التي تستخدم في الحروب؛ وكأن الله أراد أن يعلن لهم عما تفعله الخطية بهم، إذ تُظهر إله محب البشر كعدو لهم يحاربهم. على أيّ الأحوال طالب بضرب الأبواق في جبعة بالقرن في الرامة، كما طالبهم أن يصرخوا في بيت آون.

“جبعة” تعني (تل)، والقرن يشير إلى القوة، أما الرامة فتعني (مرتفع)، وكأن الله يطالب بضرب الأبواق على التل في مكان مرتفع جدًا حيث يظنون أنهم أقوياء ليدركوا أنهم في حالة حرب… لقد قبلوا العبادة الوثنية فدخلوا مع الله في عداوة، وها هو يسمح لهم بالتأديب خلال غارات الأعداء عابدي البعل، يهاجمونهم ويسلبونهم كل شيء يأسرونهم.  لقد أحبوا البعل وولائمه وملذاته، فليقبلوا العبودية لأصحاب البعل وعابدي الغرباء!

يُقال أن جبعة قريبة جدًا من الرامة، الأولى في تخوم مملكة يهوذا، والثانية في إسرائيل، كأن الخراب يحل بالمملكتين لأنهما قد فسدتا. أما “بيت آون” أو (بيت الباطل)… فلا حاجة لضرب البوق فيها لأنها انحدرت تمامًا وسقطت بلا رجاء، لا يُسمع فيها سوى صرخات الهزيمة حيث استولى العدو عليها.

يُكمل حديثه: “وراءك يا بنيامين” [ع8]، وفي بعض الترجمات “ارتعب يا بنيامين”، فلأن العدو قد استولى على جبل أفرايم واقترب جدًا من حدود بنيامين، فلا حاجة لضرب البوق في بنيامين إنما يكفي التطلع إلى الوراء لترتعب النفوس، ولتتب راجعة إلى الرب حتى لا يحل بهم ما حل بإفرايم.

يُكمل حديثه: “في أسباط إسرائيلأعلمت اليقين، صارت رؤساء يهوذا كناقلي التخوم فأسكب عليهم سخطي كالماء” [ع9-10]. لقد أعلن الله في مملكة إسرائيل اليقين، أيّ التأديب المؤكد الذي لا بُد أن يحل بهم، وليس كما ظنوا مجرد تهديدات بلا عمل. أما رؤساء يهوذا فيُكسب الله عليهم ومملكة البعل. لقد فقدوا روح التمييز “الذي يميز بين المصريين (رمزيًا)، فإنه ليس شيء يحزن قلب الله مثل أن يفقد القادة الروحيون روح التمييز، الروح الذي يليق بكل مؤمن أن يحمله في داخله.

ولعل نقل التخم يعني أيضًا الاغتصاب أوالطمع، لذا جاءت الوصية: “لا تنقل تخم صاحبك الذي نصبه الأولون في نصيبك الذي تناله في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لكي تمتلكها” (تث 19: 14)، فلا يتعدى سبط حدود أرضه بل يلتزم بالحدود التي وهبه الله إياها.

“إفرايم مظلوم (تحت ضغط) مسحوق القضاء لأنه ارتضى أن يمضي وراء الوصية، فأنا لإفرايم كالعث ولبيت يهوذا كالسوس” [ع11-12].

سقط إفرايم تحت الضغط حتى انسحق تمامًا فلم تعد فيه نسمة حياة، فقد أيضًا قوته وامتيازاته وحقوقه لأنه قبل أن يمضي وراء وصية يربعام، ومن بعده الملوك الذين ألزموا رعيتهم على عبادة البعل الباطلة. لذا جاءت كلمة: “الوصية” في الترجمة السبعينية “الباطل”، أيّ ارتضى إفرايم أن يمضي وراء الباطل عوض وصية الله التي هي الحق. هذا السلوك يفقدهم التمتع ببركات الله في حياتهم، بل يصير الله بالنسبة لهم كالعث الذي يفسد الثوب فينفضِح عريهم وخزيهم، ويكون الله ليهوذا أيضًا كالسوس الذي يحطم الخشب أو عوارض البيت فينهار البيت ويبقى يهوذا بلا مأوى.

فاصل

4. عدم رجوعهم إلى لله 3-15

كشفت هذه التأديبات العامة عن مرض إسرائيل وجراحات يهوذا، وكان يليق بهما أن يعوا إلى الله بالتوبة، لكن إسرائيل التجأ إلى آشور ليسنده [ع13]، فإذا بآشور ورجاله “معزون متعبون” (أي 16: 2)، وأطباء بطالون (أي 13: 4)، وعوض مساندتهم ضايقوهم (2 أي 28: 16، 18). وإذ لو ينتفع إسرائيل من التأديب دخل تحت تأديب أقسى وأمرّ، فلا نرى الله بالنسبة له كالعث أو السوس وإنما كالأسد وشبل الأسد. وفي هذا كله يترجى الله عودته: “فإني أنا افترس وأمضي وآخذ ولا منقذ، أذهب وأرجع إلى مكاني حتى يجاوزوا ويطلبوا وجهي، في ضيقهم يبكرون إليّ”[ع14-15].

ماذا يعني بقوله: “ارجع إلى مكاني”؟ ربما أراد أن يوضح أنه في لحظات التأديب أو معاقبة الأشرار يكون كمن “يخرج من مكانه” (إش 26: 21)، إذ يظهر كمن هو قاسي، أما رجوعه إلى مكانه فيعني شوقه نحو إعلان محبته لهم وترافقه بهم.

أخيرًا فإن الضيق يجعل النفس تبكر إلى الله، لهذا ينصحنا الرسول: “أعلى أحد بينكم مشقات؟! فليصل” (يع 5: 13). وكما يقول الأب يوحنا من كرونستادت: [غالبًا ما نقترب إلى الله في وقت الضيق حيث لا يقدر أحد أن يخلصنا منه سوى الله، فنرجع إليه بكل قلوبنا… بينما في أوقات اليسر والفيض نترك الله، خاصة عندما يتعطش الإنسان إلى الغنى والمجد والتمايز على غيره، فإذ ينال هذه الأمور يفقد إيمانه من قلبه وينسى الله ديّانه الذي يجازيه، ينسى خلود نفسه والتزامه بحب الله من كل قلبه وحب قريبه كنفسه [39].]

فاصل

سفر هوشع – أصحاح 5

تفاسير اخرى لسفر هوشع أصحاح 5 

فاصل

تفسير هوشع 4 تفسير سفر هوشع
القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير هوشع 6
تفسير العهد القديم

 

زر الذهاب إلى الأعلى