تفسير سفر هوشع ٦ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح السادس

إن كان الله في محبته قام بتأديب الكل، ومع هذا لم يرجع إسرائيل ولا يهوذا إلى الله بل اتكأوا على ملوك العالم، فإن الله سمح بالضربات الحازمة يهب الشفاء خلال عمله الخلاصي في المسيح يسوع واهب القيامة.

 

1. قيامتنا معه 1-3

إذ يُضيق الله الخناق على أولاده الساقطين يبكرون إليه (5: 15)، قائلين: “هلم نرجع إلى الرب لأنه هو افترس فيشفينا، ضرب فيجبرنا” [ع1]. إن كان كأسد يفترس إنما ليشفينا، إن كان يضرب إنما لكي يجبر كسرنا. وكما كتب القديس يوحنا الذهبي الفم إلى أرملة شابة جُرحت بموت رجلها بيد الله الذي سمح لها بهذه التجربة، قائلًا: [الآن أقدّم لكِ هذه الرسالة لتكون الشهادة الأولى والعظمى عن عناية الله بكِ حتى لا يبتلعك الحزن، ولا تهدمك أفكارك الطبيعية، عندما تعمل هذه المضايقات فجأة على غمكِ … فقد قيل “هو افترس فيشفينا” [ع2]، “سيضربنا ويعصب جراحتنا ويشفينا”… الآن قد أخذ الله زوجكِ لنفسه فإنه يحتل مكانه بالنسبة لكِ![40]]. إن كانت يده في حزم تمسك بالمشرط لتجرح إنما في الحقيقة تكشف أعماقنا التي تحمل رائحة الموت والفساد، وتبقى يده ممتدة لكي تضمد الجراحات وتهبنا القيامة من الموت الذي نحن فيه، لهذا يقول: “يحيينا بعد يومين، في اليوم الثالث يقيمنا فنحيا معه” [ع2].

لقد سبق فقال: “يبكرون إليّ” (5: 15)، وكأنهم يقفون باكرًا أمام السيد المسيح القائم من الأموات ليجدوا في قيامته لهم من بين الأموات. حقًا إنه يليق بنا أن ندخل معه إلى قبره المقدس، ونُدفن معه “يومين” لكي يقيمنا في اليوم الثالث فنحيا أمامه حاملين سماته فينا. لا نعود نخاف القبر مادمنا أعضاء جسد السيد المسيح الذي لن يصيبه فساد ولا يقدر الموت أن يمسك به.

 هكذا رأى النبي قبل مجيء السيد المسيح بأكثر من 700 عام في قيامة السيد من الأموات سر القوة الروحيّة… “نقوم معه”، “نحيا معه”، “نعرف الرب” [ع1-2]. بقيامته ننعم بالحياة الجيدة التي صارت لنا فيه، أيّ الحياة السماوية العلوية وبهذا نتعرف على الرب. وكأننا ننعم بما ناله تلميذًا عمواس، هذان اللذان رافقهما السيد المسيح القائم من الأموات، وإذ كان يحدثهما اِلتهب قلبهما فيهما بمحبته وانفتحت بصيرتهما الداخلية وعرفاه، قائلين لبعضهما البعض: “ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا إذ كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب”؟! (لو 24: 32).

لقد قدّم لنا هوشع بروح النبوة وقت قيامته ألا وهو فجر اليوم الثالث، إذ يقول: “في اليوم الثالث يقيمنا… خروجه يقين في الفجر” [ع3]. وقد اعتادت الكنيسة منذ العصر الرسولي أن تذكر قيامته على الدوام خاصة في صلاة باكر، في الفجر وقت قيامته، وكما يقول القديس كبريانوس: [يلزمنا أن نصلي أيضًا باكرًا فنحتفل بها بقيامة الرب[41]]

 قام الرب في فجر اليوم الثالث، لكي يقيمنا في الفجر حياتنا الروحيّة؛ إذ نطلبه فينا يعلن قوة قيامته في حياتنا على الدوام.

ولعل قوله: “خروجه يقين كالفجر” يعني تأكيد خروجه ويقينيته مبددًا الظلمة. وقد جاءت الترجمة السبعينية: “نجده مستعدًا كالصباح”، وكما يقول القديس أغسطينوس أن الله دائمًا حاضر وإن كنا لا ندركه، “كان في العالم وكون العالم به ولم يعرفه العالم” (يو 1: 10)، عندما نرجع إليه يرجع إلينا (زك 1: 3)[42]. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يشير النبي إلى استعداد جوده المستمر… فإننا إذ نقترب إليه نجده منتظر تحركنا[43].]

بعد أن أعلن عن قيامة السيد في فجر اليوم الثالث كسر خلاصنا، يقدم لنا عمل الروح القدس الذي وُهب لنا متأخرًا “في ملء الزمان” بعد صعود السيد المسيح، إذ يقول: “يأتي إلينا كالمطر، كمطر متأخر يسقي الأرض”. يأتي إلينا روحه القدوس الذي يحل علينا كالمطر ليحولنا من الجفاف إلى جنة مبهجة، تحمل ثمر الروح الذي يُفرح قلب الآب، فتسمع النفس مناجاة عريسها لها: “أختي العروس جنة مغلقة” (نش 4: 12).

ويرى القديس هيبوليتس الرومانيفي هذا المطر إشارة إلى السيد المسيح نفسه، إذ يتحدث في مقال عن الثيؤفانيا المقدسة (الغطاس) عن كرامة المياه التي دخل إليها السيد المسيح وتغطى بها: [بالنسبة للماء يوجد ما هو أعظم من الكل ألا وهو حقيقة أن المسيح خالق الكل قد نزل كالمطر (هو 6: 3)، وعرف كالينبوع (يو 4: 14)، وانصب كنهر (يو 7: 38)، اعتمد في الأردن (مت 3: 13)… يا للعجب كيف يغطس في قليل من المياه ذاك الذي هو النهر غير المحدود (مز 46: 4) الذي يُفرح مدينة الله؟! الينبوع غير المنتاه، الحامل حياة لكل البشريّة، والذي بلا نهاية تغطيه مياه فقيرة ومؤقتة! الحاضر في كل موضع، وليس بغائب في موضع ما، الذي لا تدركه الملائكة ولا يمكن للبشر التطلع إليه، يأتي إلى المعمودية حسب مسرته الصالحة[44].]

فاصل

2. اصلاح إلهي داخلي 4-11

الله نفسه هو المخلص، يقوم من الأموات ليقيمنا معه، ويهبنا روحه القدوس كمطر متأخر ينزع جفافنا، واهبًا ثماره فينا، وليس من عندياتنا. لهذا يقول: “ماذا أصنع بك يا إفرايم؟! فماذا أصنع بك يا يهوذا؟! فإن إحسانكم (صلاحكم) كسحابة الصبح وكالندى الماضي باكرًا” [ع4]. لقد نسى إفرايم ويهوذا إلههما وظنا أنهما قادران على الصلاح أو الإحسان بعملهما الذاتي، فإذا بهذا الصلاح يكون كسحابة الصبح أو الندى، لا يقدر أن يقف أمام شمس التجارب.

كأن الله يقول لهما: ماذا أصنع بكما، فمن جانبي قدمت لكما قيامتي كسر لقيامتكم ووهبتكم روحي القدوس يروي قلوبكم، فلماذا تحرمون أنفسكم من عطاياي هذه متكلين على بركم الذاتي الذي كسحابة الصبح وكالندى الذي ينتهي سريعًا؟! وكما يعلن القديس يوحنا الذهبي الفم على لسان الرب: [إنه يعني هكذا: من جانبي قدمت كل شيء حقًا، لكن تأتي الشمس الحارة عليكم فتبدد السحاب والندى وتجعلها كلا شيء، لذا فإن شركم هو الذي يحرمكم من جودي الذي لا ينطق به[45].]

يكمل الرب حديثه معهم: “لذلك أقرضهم بالأنبياء، أقتلهم بأقوال فمي، والقضاة عليك كنور قد خرج” [ع5]. وفي الترجمة السبعينية: “لذلك أحصد (أحش) أنبياءكم، أقتلهم بأقوال فمي…” فقد اتكأوا على الأنبياء الكذبة الذين سّكنوا ضمائرهم بكلمات معسولة كاذبة، لذا فإن الله يؤدب هؤلاء الأشرار فيكون حكمه كقاتل لهم وكنور يفضح ظلامهم. وكما قيل: “يضرب الأرض بقضيب فمه. ويميت المنافق بنفخة شفتيه” (إش 11: 4).

إن كانت أقوال الله واهبه حياة، لكنها أيضًا قاتلة للشر والموت، فالرب بكلماته ينزع الغش الذي في القلب ويقتله، محطمًا كل ظلمة في داخلنا ليظهر قضاؤه نورًا فينا. هو الذي يحطم الشر ليبني الفضيلة، يبدد الظلمة ليشرق بنوره فينا.

لا يستطيع الإنسان أن يقدم الإصلاح القلبي الداخلي… حقًا يمكنه أن يقدم ذبائح ومحرقات وتقدمات ومظاهر تعبدية، لكن من الذي يهب الرحمة والحب ومعرفة الله والأمانة في العهد؟! لذا يقول: “إني أريد رحمة (حبًا ثابتًا) لا ذبيحة، ومعرفة الله أكثر من محرقات، ولكنهم كآدم تعدوا العهد هناك غدروا بي”[ع6-7]. إنه يريد الأعمال الداخلية والتغيير القلبي، الأمر الذي لا يقدرون عليه من ذواتهم بل هو عمل الله نفسه.

الله هو العامل فينا ليهبنا “الرحمة” أو “الحب الثابت” فينا، الذي يُفرح قلبه. وقد جاءت رسالة السيد المسيح تركز على تقديم تغيير طبيعتنا القاسية إلى شبه طبيعته المملوءة حنوًا وحبًا، فنحمل سماته فينا.

يحدثنا القديس يوحنا الذهبي الفمعن هذه الرحمة التي يطلبها الله فينا، قائلًا: [الآن ليس وقت للدينونة بل للرحمة؛ ليس لنا أن نطلب الحساب بل نُظهر الحب، ليس لنا أن نرفع الدعاوي بل نتنازل عنها، إنه ليس وقت للحكم والانتقام بل نظهر الرحمة وعمل الصلاح[46].] هذه الرحمة هي طبيعة الله نفسه كما يكتب القديس أمبروسيوس في مقاله “عن التوبة” ضد أتباع نوفاتيوس الذين يغلقون أبواب مراحم الله أمام مرتكبي بعض الخطايا، إذ يقول: [يجب أن نعرف أن الله إله رحمة، يميل إلى العفو لا القسوة. لذلك قيل: “أريد رحمة لا ذبيحة”، فكيف يقبل الله تقداتكم يا من تنكرون الرحمة، وقد قيل عن الله أنه لا يشاء موت الخاطئ مثل أن يرجع (حز 18: 32) ؟[47].]

خلال هذه الرحمة الإلهية التي نحملها فينا نتعرف على الله، معرفة مشاركتنا سماته، الأمر الذي يريده الرب فينا… “أريد … معرفة الله أكثر من محرقات”. بهذا نحمل في داخلنا أمانة نحو العهد المقام بين الله وبيننا، ولا نُحسب متعدين له وغادرين به.

ليكن إصلاحنا إلهيًا في الداخل حتى لا يُقال عنا: “ولكنهم كآدم تعدّوا العهد، هناك غدروا بي، جلعاد قرية فاعلي الإثم مدوسة بالدم” [ع8]. ليتنا لا نكون كآدم الذي تعدى العهد الإلهي وهو في الفردوس الذي أقامه الله له فحُسب كغادر بخالقه، ننعم بعطاياه ولا نجحد شخصه. ليتنا لا نكون كجلعاد قرية فاعلي الإثم المدوسة بالدم، التي هي في الغالب مدينة راموت جلعاد أحد مدن الملجأ الثلاثة في عبر الأردن، مدينة اللاويين، تضم رجالًا من السبط المقدس لكنهم صانعو شر ينجسون أنفسهم بالدم خلال الظلم والفساد. لهم مظهر التقوى والعبادة كلاويين وفي أعماقهم أشرار، ليتنا أيضًا لا نكون كزمرة الكهنة الذين يرتدون ثياب الكهنوت البهية، ويمارسون العبادة في شكلياتها الخارجية دون حياة في الداخل، بل في داخلهم لصوصية، إذ يقول: “وكما يكون لصوص الإنسان كذلك زمرة الكهنة في الطريق يقتلون نحو شكيم. إنهم قد صنعوا فاحشة” [ع9]. لا نكن مثلهم إذ صاروا لصوص نفوس، يحملون روح القتل والهلاك متسترين بثياب الكهنوت، يحملون الدمار في ميناء السلام حيث يطمئن الناس إليهم.

فاصل

فاصل

تفسير هوشع 5 تفسير سفر هوشع
القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير هوشع 7
تفسير العهد القديم

 

زر الذهاب إلى الأعلى